فصل: تفسير الآيات (194- 197):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (194- 197):

{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} نزلت في عمرة بالقضاء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكّة عام الحديبية على أن ينصرف عامَه ذلك ويرجع العام القابل على أن يخلوا له مكّة ثلاثة أيام فيدخلها هو وأصحابه ويعمرون ويطوفون بالبيت ويفعلون ما أحبوا، على أن لا يدخلوها إلاّ بسلاح الراكب في عمرة ولا يخرجوا بأحد معهم من أهل مكّة، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك العام ورجع العام القابل في ذي القعدة ودخلوا مكّة واعتمروا وطافوا ونحروا وقاموا ثلاثة أيام فأنزل الله {الشهر الحرام} ذو القعدة الذي دخلتم فيه مكّة واعتمرتم وقضيتم مناسككم وطوافكم في سنة سبع {بالشهر الحرام} ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت ومنعتم من مرادكم في سنة ست.
والشهر مرفوع بالابتداء وخبره في قوله: {الشهر الحرام} {والحرمات} جمع الحرمة كالظلمات جمع الظلمة والحجرات جمع الحجرة والحرمة ما يجب حفظه وترك إنتهاكه وإنّما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام {قِصَاصٌ} والقصاص المساواة والمماثلة: وهو أن يفعل بالفاعل كما فعل {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} قاتلوه {بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} فسمي الجزاء باسم الابتداء على مقابلة الشرط {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين * وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} الآية، إعلم إن التهلكة: مصدر بمعنى الاهلاك وهو تفعله من الهلاك.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد الخازرنجي يقول: لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلاّ هذا.
وقال بعضهم: التهلكة كل شيء تصير عاقبته إلى الهلاك.
ومعنى قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} لا تأخذوا في ذلك.
ويقال: لكل من بدأ بعمل: قد القى يديه فيه.
قال لبيد يذكر الشمس:
حتّى إذا ألقت يداً في كافر ** وأجّن عورات الثغور ظلامها

أي بدأت في المغيب.
قال المبرد: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} أراد أنفسكم فعبَّر بالبعض عن الكلّ كقوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] والباء في قوله بأيدكم زائدة كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] قال الشاعر:
ولقد ملأت على نصيب جلده ** مّساءة إن الصديق يعاتب

يريد ملأت جلده مساءة.
قالوا: والعرب لا تقول للإنسان ألقى بيده إلاّ في الشر.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم: هذا في البخل وترك النفقة، يقول: وانفقوا في سبيل الله ولا تمسكوا الإنفاق في سبيل الله فان الامساك عند الانفاق في سبيل الله هو الهلاك وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة والضحاك وابن كيسان.
قال ابن عبّاس: في هذه الآية: إنفق في سبيل الله وإن لم تكن لك إلاَّ سهم أو مشقص ولا يقولن أحدكم إني لا أجد شيئاً.
وقال السّدي: فبما أنفق في سبيل الله ولو بمثقالاً. {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} لا تقل ليس عندي شيء.
مجاهد: لا نمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة.
الحسن: إنّهم كانوا يسافرون ويغزون ولا ينفقون من أموالهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز إلى الحج، وقيل: إلى العمرة عام الحديبية، وكان إذا أراد سفر نادى مناديه بذلك فيعلمهم فيعدّو أهبّة السفر، فلمّا أمرهم بالتجهيز قام إليه ناس من اعراب حاضري المدينة فقالوا: يا رسول الله بماذا نتجهز فوالله لا من زاد ولا مال نتجهز به ولا يطعمنا أحد، فأنزل الله تعالى هذه الآية».
وقال سعيد بن المسيب ومقاتل بن حيان: لما أمر الله بالأنفاق قال رجال: أمرنا بالنفقة في سبيل الله فإن أنفقنا أموالنا بقينا فقراء ذوي مسكنة، فقال الله {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} يعني انفقوا ولا تخشوا العيلة فإني رازقكم ومخلف عليكم.
الخليل بن عبد الله عن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي أُمامة الباهلي وعبدالله بن عمرو وجابر وعمران بن حصين كلهم يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّه قال: «من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثمّ تلا هذه الآية {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ}.
وروى النضر بن عزيز عن عكرمة {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} قال: لا تتيمموا الخبيث منه: تُنفقون.
قال زيد بن أسلم: إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة فإما أن يقطع بهم، وإما كانوا عيالاً فأمرهم الله بالانفاق على أنفسهم في سبيل الله، وإذا لم يكن عندك ما ينفق فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوّة فتلقي بيديك إلى التهلكة، والتهلكة: أن يهلك من الجوع أو من العطش ثمّ قال لمن بيده ويبخل {وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين}.
وقال محمّد بن كعب القرظي: كان القوم يكونّون في سبيل الله فيتزود الرجل فيكون أفضل زاداً من الآخر فينفق النّاس من زاده حتّى لا يبقى منه شيء يحب أن يواسي صاحبه، فأنزل لله تعالى هذه الآية.
وقال بعضهم: هذه الآية نزلت في ترك الجهاد.
زيد بن أبي حبيب عن أسلم بن عمران قال: غزونا القسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، قال: فوقفنا صفين لم أر قط أعرض ولا أطول منها والروم ملصقون ظهورهم بحائط المدينة قال: فحمل رجل منّا على صف الروم حتّى خرقه ثمّ خرج إلينا مقبلاً فصاح الناس وقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة.
وقال أبو أيوب الأنصاري: إنكم لتأولون هذه الآية على هذا التأويل ان حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة أو بلى من نفسه، نحن أعلم بهذه الآية، إنها نزلت فينا معشر الأنصار، إنّا لما أعز الله دينه ونصر رسوله قلنا بيننا معاشر الانصار سرّاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قد تركنا أهلنا وأموالنا حتّى فشى الإسلام ونصر الله عزّ وجلّ نبيه، وقد وضعت الحرب أوزارها فلو رجعنا إلى أهلنا وأولادنا وأقمنا فيها فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى فينا {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة}.
والتهلكة: الاقامة في الأهل والمال وترك الجهاد.
قال أبو عمران: فما زال أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتّى دفن بالقسطنطينية.
وروى أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال: التهلكة عذاب الله عزّ وجلّ يقول: لا تتركوا الجهاد فتعذبوا دليله قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] عن يزيد بن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكف عمّن قال لا إله إلاّ الله لا تكفره بذنب ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله عزّ وجلّ إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور ولا عدل، والإيمان بالاقدار».
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».
وقال أبو هريرة وأبو سفيان: هو الرجل يستقبل بين الصفين فيحمل على القوم وحده.
وقال محمّد بن سيرين وعبيد السلماني: الإلقاء في التهلكة هو القنوط من رحمة الله.
قال أبو قلابة: هو الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليست توبة فييأس من رحمة الله وينهمك في المعاصي فنهاهم الله عن ذلك.
قال يمان بن رئاب والمفضل بن سلمة الرجل ألقى بيديه إذا إستسلم للهلاك ويئس من النجاة.
عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبيه في هذه الآية {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} قيل له: أهو الرجل يحمل على الكتيبة وهم ألف بالسيف؟
قال: لا ولكنه الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه ويقول لا توبة لي.
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال: جاء حبيب بن الحرث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني رجل معراض الذنوب. قال: «فتب إلى الله يا حبيب»، قال: يا رسول الله إني أتوب ثمّ أعود. قال: «فكلمّا اذنبت فتب» قال: إذا يا رسول الله تكثر ذنوبي. قال: «عفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحرث».
فقال فضيل بن عياض: في هذه الآية {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} بأساءة الظن بالله واحسنوا الظن بالله {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} الظن به.
وعن محمّد بن إبراهيم الكاتب قال: دخلنا على أبي نؤاس الحسن بن هاني نعوده في مرضه الذي مات فيه ومعنا صالح بن علي الهاشمي فقال له صالح: تب إلى الله يا أبا عليّ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وبينك وبين الله هناة، فقال: أسندوني، أياي تخوف بالله، فقد حدثني حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّما جعلت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أتراني لا أكون منهم».
وحدثنا حماد عن ثابت عن أنس ان النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج رجلان من النّار فيعرضان على الله عزّ وجلّ ثمّ يؤمر بهما إلى النّار فيلتفت أحدهما فيقول: أي ربّ ما كان هذا رجائي، قال الله وما كان رجاءك؟ قال: كان رجائي إذا أخرجتني منها لا تعيدني إليها، فيرحمه الله عزّ وجلّ فيدخله الجنّة».
{وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ}.
قرأ ابن أبي إسحاق: {الحج} بكسر الحاء في جميع القرآن وهي لغة تميم وقيس بن غيلان.
وذكر عن طلحة بن مصرف: بالكسر هاهنا، وفي سورة آل عمران، وبالفتح في سائر القرآن.
وقرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم، برواية حفص: بالكسر في آل عمران وبالفتح في سائر القرآن.
وقرأ الباقون: بالفتح كل القرآن وهي لغة أهل الحجاز. قال الكسائي: هما لغتان ليس بينهما في المعنى شيء مثل رَطل ورِطل (......) بنصب وكسر.
وقال أبو معاذ: {الحج} بالفتح مصدر والحج بالكسر الإسم مثل قسم وقِسم وشرب وشِرب وسَقي وسقِي وفي مصحف عبدالله {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} بالبيت.
وقرأ علقمة وإبراهيم: واتيموا الحج والعمرة.
واختلف المفسرون في اتمامهما.
فقال بعضم: معنى ذلك واتموا الحج والعمرة بمناسكهما وحدودهما وسنتهما وهو قول ابن عباس وعلقمة وإبرهيم ومجاهد.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: من أحرم بحج أو عمرة ليس له أن يحل حتّى يتمها، وتمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة فطاف بالبيت وقد حل من إحرامه كلّه بتمام العمرة، إذا طاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حلّ، وفرائض الحج أربعة: الإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الافاضة، والطواف والسعي بين الصفا والمروة، وأعمال العمرة كلها أربعة: فرض الاحرام، والطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، وأقله ثلاث شعرات.
روى سعيد بن جبير وطاوس: تمام الحج والعمرة أن يحرم بهما مفردين......
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة فقال جاء رجل إلى علي فقال: أرأيت قول الله عزّ وجلّ {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} قال: إن تحرم من دويرة أهلك.
قال قتادة (إتمام العمرة) أن يعتمر في غير أشهر الحج، وما كان في أشهر الحج ثمّ أقام حتّى يحج فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجد، أو الصيام، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلها حتّى لا يلزم عامله دم بسبب قران ولا متعة.
ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله: «عمرة في رمضان تعدل حجّة».
وقال الضحاك: أيامها أن يكون النفقة حلالاً (وينتهي) عما نهى الله عنه.
وقال سفيان: تمامها أن يخرج من (بلده) لهما لا يريد غيرهما ولا يخرج لتجارة ولا لحاجة حتّى إذا كنت قريباً من مكّة قلت: لو حججت أو إعتمرت، وذلك يجزي ولكن التمام أن يخرج له ولا يخرج لغيره.
وروى جعفر بن سليمان البيعي عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله: «يأتي على الناس زمان يحج أغنياء الناس للنزهة، وسائلهم للتجارة وقرّاؤهم للرياء والسمعة وفقرائهم للمسألة».
وفي هذا المعنى كان يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الوفَّاد كثير والحجاج قليل.
حكم الآية:
اختلف الفقهاء في العمرة، فقال قوم: هي سنّة حسنة وليست بفريضة واجبة وهو مذهب أحمد ومالك بن أنس وأبي ثور وقول الشافعي في القديم وهو اختيار جرير بن محمّد الطبري، وإحتجوا بقراءة الشعبي {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة} لله رفعاً.
وبما روى محمّد بن المنكدر عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّه سأل عن العمرة أواجبة هي أم لا؟ وأن تعتمروا خيرٌ لكم؟ وفي مهاجر الحج فريضة والعمرة تطوع قالوا أيضاً لما ذكر الله فرض الحج لم يذكر معه العمرة، وقال عزّ من قائل {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97].
وقال الآخرون: ان العمرة فريضة وهي الحج الأصغر، وهو قول علي وابن عبّاس وزيد ابن ثابت وعلي بن الحسين وعطاء وقتادة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقول الشافعي في الجديد والأصح من مذهبه واختيار أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وإحتجوا في ذلك بقراءة العامة والعمرة، نصباً على معنى وأتموا فرض الحج والعمرة.
وبما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».
وروى عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قال: والله إن العمرة لفريضة الحج، في كتاب الله {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} وقال ابن عمر: ليس من خلق الله أحد إلاّ وعليه حجة وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما قال الله تعالى.
فمن زاد بعد ذلك فهو خير وتطوع.
وقال مسروق: أمرنا في كتاب الله بأربعة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحجّ والعمرة فنزّلت العمرة من الحجّ منزلة الزكاة من الصلاة، ثمّ تلا هذه الآية {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ}.
وقال عبدالملك بن سليمان: سأل رجل سعيد بن جبير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ان العمرة فريضة هي أم تطوع؟ فقال: فريضة، قال: فإن الشعبي يقول هي تطوع، قال: كذّب الشعبي، ثمّ قرأ {واتموا الحج والعمرة لله}، فمن قال: إن العمرة ليست بفرض يأول الآية على معنى: أتموها إذا دخلتم فيها ولم يرد إبتدأ الدخول فيه فرضاً عليه، وذلك كالمتطوع بالحج لا خلاف فيه إذا أحرم أنَّ عليه المضي فيه وإتمامه، فإن لم يكن فرضاً عليه إبتدأ الدخول فيه وكذلك العمرة.
ومثله روي ابن وهب عن زيد قال: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قول الله {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} قال: ليس من الخلق أحد ينبغي له إذا شرع في أمر إلاّ أن يتمه وإذا خرج فيها لم ينبغي له أن يحل يوماً ثمّ يرجع كما لو صام يوماً لم ينبغي له أن يفطر في نصف النهار، ودليل هذا التأويل قوله: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] لم يرد به الابتداء وإنّما أراد به اتمام ما مضى من العهد والعقد، ومن أوجب العمرة تأول الاتمام على معنى الابتداء والالزام أي أقيموها وافعلوها يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي فعلهن وقام بهن، وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} أيّ ثمّ ابتدئوا الصيام وأتموه لأنه ذكره عقيب الأكل والشرب والصبح، وهذا هو الأصح والأوضح لأنه جمع بين الاثنين، وحمل الآية على عمومها فمعناه إبتدئوا العمرة فإذا دخلتم فيها فأتموها، فيكون جامع بين وجهي الاتمام، ولأن من أوجهها أكثر، والأخبار في إيجاب الحجّ والعمرة مقترنتين أظهر وأشهر.
عن أبي رزين العقيلي إنّه قال: «يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحجّ والعمرة ولا الطعن، قال: حجَّ عن أبيك واعتمر».
وقال أبو المشفق: «لقيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة فدنوت منه حتّى اختلفت عنق راحلتي وعنق راحلته فقلت: يا رسول الله انبئني بعمل ينجيني من عذاب الله ويدخلني الجنّة؟ قال: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً وأقم الصلاة المكتوبة وأدّ الزكاة المفروضة وحجّ وإعتمر وصمّ رمضان وانظرما تحب من النّاس ان يأتوه إليك فافعله بهم وما تكره من الناس إن يأتوه إليك فذرهم منه».
عاصم عن شفيق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تابعوا بين الحجّ والعمرة فإنّهم لينفيان الفقر والفاقة والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجّ المبرور ثواب دون الجنّة».
في إفراد الحج:
عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج».
ابراهيم عن الاسود عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرى إلاّ الحج.
حماد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين هلال ذي الحجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أن يهل بالحج فليهل ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة، والأفراد ان يحرم بالحج من الميقات ويفرغ منه ثمّ يحرم بالعمرة من مكّة» وهو إختيار الشافعي وأصحابه.
في القِران:
عبد العزيز بن صهيب وحميد الطويل ويحيى بن إسحاق كلهم عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لبيك عمرةً وحجاً لبيك عمرةً وحجاً» حميد بن هلال قال: سمعت مطرفاً يقول: قال لي عمران بن الحصين: «جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجة وعمرة» ثمّ توفي قبل أن ينهي عنهما وقبل أن ينزل القرآن بتحريمه. وعن أبي وائل قال: قال قيس بن معبد: كنت أعرابياً نصرانياً فأسلمت فكنت حريصاً على الجهاد فوجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأتيت رجلاً من عشيرتي يقال له، هريم بن عبد الله فسألته فقال: إجمعها ثمّ إذبح ما استيسر من الهدي، فأهللت بهما، ثمّ أتيت العذيب يلقيني سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما، فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيرة، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين إني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ فأتيت هريم بن عبد الله، فقال: إجمعهما ثمّ إذبح ما إستيسر من الهدي، وأهللت بهما، فلما أتيت العذيب لقيني سليمان بن ربيعة وزيد فقال أحدهما للآخر: ما هذا بأفقه من بعيرة فقال عمر: هديت سنّة نبيك صلى الله عليه وسلم.
علي بن الحسن عن عثمان بن الحكم ان عثمان نهى عن المتعة وأن يجمع الحج والعمرة.
فقال علي: لبيك بحج وعمرة معاً، وقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟
فقال علي: لم أكن لأدع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس.
والقرآن لم يحرم الحج والعمرة معاً من الميقات، وهو إختيار أبي حنيفة وأصحابه.
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} واختلف العلماء في معنى الاحصار الذي جعل الله على من ابتلى به في حجته وعمرته ما استيسر من الهدي.
وقال قوم: هو كل مانع أو حابس مَنَع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله تعالى عليه في احرامه ووصوله إلى البيت الحرام أي شيء كان من مرض أو جرح أو كسر أو خوف أو عدو أو لدغ أو ذهاب نفقة أو ضلال راحلته أو غيرها من الاعذار، فإنه يقيم مكانه على إحرامه ويبعث بهديه أو من الهدي فإذا نحر الهدي حل من إحرامه، هذا قول إبراهيم النخعي والحسن ومجاهد وعطاء وقتادة وعروة بن الزبير ومقاتل والكلبي ومذهب أهل العراق، وإحتجوا في أن الاحصار في كلام العرب هو صنع العلة من المرض وأشباهه غير القهر والغلبة، فأما منع العدو بالحبس والقهر من سلطان قاهر فإن ذلك حصر لا إحصار، كذا قال: الكسائي وأبو عبيدة والفراء قالوا: ما كان من مرض وذهاب نفقه قيل فيه حصر فهو محصر، وما كان من خشية عدو أو سجن قيل فيه حصر فهو محصور، يدلّ عليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء: 8] أي محبساً، قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو إحصاراً قياساً على المرض، إذ كان في حكمه فلا دلالة ظاهرة.
وقال الآخرون: بالأُخرى أن يمنع عدو أو قاهر من بني آدم من الوصول إلى البيت، وأمّا المرض وسائر الاعذار فغير داخل في هذه الآية.
هذا قول ابن عمر وابن عبّاس وعبد الله بن الزبير وسعد بن المسيب وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب ومذهب الشافعي وأهل المدينة فاحتجوا بأن نزول هذه الآية في قصة الحديبية وذلك إحصار عدو، يدلّ عليه قوله في سياق الآية {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ولا يكون إلامِن الخوف وفي الحديث: «لا حصر إلاّ من حبس عدو».
وقال ثعلب: تقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور، وأحصره العدو إذا منعه من السير فهو محصر، وذكر يونس عن أبي عمرو قال: إذا منعته من كل وجه فقد أحصرته.
قال الشافعي: فإذا أحصر بعدوّ كافر أو مسلم أو سلطان يحبسه في سجن نحر هدياً لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم وحلّ من إحرامه ولا شيء إلاّ أن يكون واجباً فيقضي فإذا لم يجد هدياً يشتريه أو كان فقيراً ففيه قولان أحدهما: لا حلّ إلاّ لهدي.
والآخر: حلّ إذا لم يقدر عليه وأتى به إذا قدر عليه.
وقال بعض الفقهاء: إذا لم يعتبر اجزاؤه وعليه طعام أو صيام وكلما وجب على المحرم في ماله من بدنه وجزاء وهدي وصدقة فلا يجزي إلاّ في الحرم لمساكين أهلها إلاّ في موضعين أحدهما: دم المحصر في العدو فإنه ينحر حيث حبس ويحل.
والآخر: من ساق هدياً لغرض فعطب في طريقه فذبحه وخلى بينه وبين المساكين لم يجز له ولا لرؤسائه أن يأكلوا منه شيئاً وإن كانوا مساكين.
وإن كان ما ساقه لغرض مثل أن يكون قارناً أو متمتعاً جاز له أن يأكل ويطعم غيره، فهذا معنى الاحصار وحكمه، فأما المرض وما أشبهه فان له أن يتداوى فيما لابد منه ويفدى ثمّ يجعلها عمرة ويحج عام قابل ويهدي، وقوله تعالى: {فَمَا استيسر} أي عليه ما تيسر، محلّه رفع، وإن شئت جعلت بها في محل النصب أي قاهر، واما استيسر من الهدي مثل جدية السرج وجمعها جدي قاله أبو عمرو.
قال: لا أعلم في الكلام ثالثهما.
وقرأ الأعرج: {الهدي} بكسر الدال وتشديد الياء في جميع القرآن على معنى المفعول.
وروى عصمة عن عاصم: بتشديد الهدي في محل الرفع والجر وتخفيفه في حال النصب نحو قوله: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] {وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} [المائدة: 2] وهما جميعاً ما يهدي إلى بيوت الله سمي بذلك لانه تقرب إلى الله بمنزلة الهدية يهديها الانسان إلى غيره متقرباً بما بعث إليه.
واختلفوا في تأويل قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي}. فقال علي وابن عبّاس: شاة.
وقال ابن عمر: فما استيسر من الهدي: الابل والبقر ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة سن دون سن وأنكر أن يكون الشاة من الهدي، وأقوى الأقوال بالصواب قول من قال إنه شاة، لأنه أقرب إلى التيسر، ولأن الله سمي الشاة هدياً في قوله: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] وفي الظبي شاة. {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}، واختلفوا في المحل الذي يحل المحصر بلوغ هديه إليه فقال بعضهم: هو ذبحه أو نحره بالموضع الذي يحصر فيه سواء كان في الحل أو الحرم ومعنى محلّه: حين يحل ذبحه وأكله والانتفاع به كقوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به عليه بريرة قال: «قربوه فقد بلغ محله» يعني فقد بلغ محل طيبه وحلاله بالهدية الينا بعد إن كانت صدقة على بريرة: وهذا على قول من جعل الاحصار إحصار العدو.
يدلّ عليه فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حتّى صدوا عن البيت ونحروا هديهم بها والحديبية ليست من الحرم.
روى الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال: لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب القضية بينه وبين مشركي قريش عام الحديبية فقال لأصحابه: «قوموا فانحروا واحلقوا» قال: فوالله ما قام منهم أحد حتّى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد منهم قام فدخل على أم سلمة فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أخرج ثمّ لا تكلم أحداً منهم بكلمة حتّى تنحر بدنتك وتدعو حلاقك فتحلق فخرج فلم يتكلم حتّى فعل ذلك، فلما رأوا ذلك قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتّى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً.
وقال بعضهم: محل هدي المحصر لا يحل له غيره فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر وإن كان معتمراً يوم مبلغ هديه الحرم.
روى إبراهيم الجعفي عن عبد الرحمن بن زيد قال: خرجنا مهلين بعمرة وفينا الأسود بن يزيد حتّى نزلنا ذات السقوف فلُدِغ صاحب لنا فشق ذلك عليه ولم يدر كيف يصنع، فخرج بعضنا إلى الطريق يتشوّف فإذا بركب فيهم عبد الله بن مسعود فسألوه عن ذلك فقال: ليبعث بهدي إلى مكّة، واجعلوا بينكم وبينه إمارة فإذا ذبح الهدي فليحل وعليه قضاء عمرته.
{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} معنى الآية ولا تحلقوا رؤسكم حال الاحرام إلاّ أن يضطر الرجل حلقه إما لمرض يحتاج إلى مداواته.
{أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} من هوام وصداع فحلق أو فدي {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} نزلت هذه الآية في كعب بن حجر قال: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر فيها القمل والصئبان وهو يتناثر على وجهي وانا اقبح فدبر اليَّ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيؤذيك هوام رأسك؟» قلت: نعم يارسول الله.
قال: «فاحلق رأسك» فأنزل الله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} ثلاثة أيام.
{أَوْ صَدَقَةٍ} على ست مساكين لكل مسكين نصف صاع {أَوْ نُسُكٍ} أو ذبيحة واحدها نسكة.
وقرأ الحسن: أو نسك تخفيفاً وهي لغة تميم.
قال العلماء: أعلاها بدنه وأوسطها بقرة وأدناها شاة وهو مخير بين هذه الثلاثة إن شاء فعل.
وقال أنس وعكرمة: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} عشرة أيام {أَوْ صَدَقَةٍ} على عشرة مساكين لكل مسكين مدٌ من بر أو مدٌ من تمر أو نسك وهي الشاة والقول الأول هو الصحيح وهو المشهور وهذه (الفريضة) أن يأتي بها أجمعوا على أنه يصوم حيث شاء من البلاد.
واما النسك والطعام، فقال بعضهم: يجب أن تكون مكّة.
وقال بعضهم: أي موضع شاء وهو الصواب لأنه أُبهم في الآية ولم يخصّ مكاناً دون مكان.
{فَإِذَآ أَمِنتُمْ} من خوفكم وبرأتم من مرضكم.
{فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} اختلفوا في هذه المتعة.
فقال بعضهم: معناه فمن أحصر حتّى عام الحجّ ثمّ قدّم مكّة فخرج من إحرامه بعمل عمرة واستمتع بإحلاله ذلك، فيكمل العمرة إلى السنة المستقبلة ثمّ يحج ويهدي فيكون جميعاً بذلك الاحلال من الذي حلّ إلى إحرامه الثاني من القابل. وهذا قول عبدالله بن الزبير.
وقال بعضهم: معناه {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} وقد حللتم من إحرامكم بعد الاحصار ولم يقولوا عمرة يخرجون بها من إحرامكم لحجتكم ولئن حللتم حين أخبرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج حللتم فاستمتعتم باحلالكم إلى حجكم فعليكم ما استيسر من الهدي، وهذا قول علقمة وإبراهيم وسعيد بن جبير.
وكذلك روى عبدالله بن سلمة عن علي رضي الله عنه {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} الآية فإن أخرّ العمرة حتّى يجمعها مع الحجّ فعليه الهدي.
وقال السّدي: معناه فمن فسخ حجة بعمرة فجعله عمرة واستمتع بعمرته إلى حجة فعليه ما استيسر من الهدي.
وقال ابن عبّاس وعطاء وجماعة: هو الرجل يقدم معتمراً من أفق من الآفاق في أشهر الحج فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكّة حتّى حان وقت الحج فيحج من عامّة ذلك فيكون مستمتعاً بالاحلال إلى إحرامه بالحج فمعنى التمتع الاحلال بالعمرة فيقيم حلالاً فيفعل ما يفعل الحلال ثمّ يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات ومعنى التمتع التلذذ وأصله من التزود، والمتاع الزاد ثمّ جعل كلّ تلذذ تمتعاً.
قال الفقهاء: فالتمتع الذي يجب عليه الهدي هو أن يجتمع فيه أربع شرائط وهي: أن يحرم في أشهر الحجّ، ويحل من العمرة في أشهر الحج، وان يحرم بالحج من عامه ذلك من مكّة ولا يرجع إلى الميقات، وزاد بعض أصحابنا: أن يكون من غير الحرم، فمن يحرم بشيء من هذه الشرائط سقط عنه الدم ولا يكون متمتعاً.
{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أهلكم.
قال المفسرون: يصوم يوماً قبل التروية ويوم عرفة ولا تجاوز بآخرهنّ يوم عرفة.
وقال طاوس ومجاهد: إذا صامهنَّ في أشهر الحج أجزينّ.
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ذكر الكمال على التأكيد.
كقول الأعشى:
ثلاث بالغداة فذاك حسبي ** وست حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ربي ** وشرب المرء فوق الري داء

وقال الفرزدق:
ثلاث واثتان وهن خمس ** وسادسة تميل إلى سهامي

وقال بعضهم: كاملة بالهدي، وقيل بالثواب، وقيل كاملة بشروطها وحدودها، وقيل: لفظه خبر وحكمه أمر، أي: فأكلوها ولا تنقوصها.
{ذلك} التمتع {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} أي كمن لم يكن من أهل الحرم.
عكرمة: هو ما دون المواقيت إلى مكّة.
وقال ابن جريج: حاضري المسجد الحرام أهل عرفة والرجيع يضحيان ويهديان.
{واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} قال الفراء: تقديرها وقسط الحج أشهر معلومات، فهذا كما يقال: البرد شهران والحرّ شهران، أيّ وفيهما شهران، وسمعت الكسائي يقول: إنما الصيد شهران والطيلسان شهران وقت الصيد ووقت ليس الطيلسان.
وقال الزجاج: معناه أشهر الحجّ أشهر معلومات وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة.
قال ابن عبّاس: جعلهن الله للحجّ، وسائر الشهور للعمرة فلا يصلح لأحد أن يحرم بالحج إلاّ في أشهر الحج وأما العمرة فإنه يحرم بها في كلّ شهر. فآخر هذه الاشهر يوم عرفة وقد جاء في بعض الأخبار في تفسير أشهر الحج وعشر من ذي الحُجّة وفي بعضها تسع من ذي الحُجّة فمن قال تسع فإنّما عبّر به عن الأيام لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الحجّ عرفة فمن وقف بعرفة في يوم عرفة من ليل أو نهار فقدتم حجّه. ومن قال عشرة عبّر به عن الليالي فمن لم يدركه إلى طلوع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحجّ والشهور إنّما يؤرخ بالليالي».
وحكى الفراء: إن العرب تقول صمنا عشراً يذهبون بها إلى الليالي والصوم لا يكون إلاّ بالنهار فلا تضاد في هذه الأخبار وإنّما قال أشهر وهي شهران وبعض الثالث، لأنها وقت والعرب تسمي الوقت بقليله وكثيره فيقولون: أتيتك يوم الخميس، وإنّما أتاه في ساعة منه، ويقولون: اليوم يومان منذ لم أره، وإنّما هو يوم وبعض اخر ويقولون: زرتك العام.
وقال بعض أصحابنا: الاثنان فما فوقهما جماعة لأن الجمع ضم شيء إلى شيء، قلنا: جاز ان يسمي الاثنان بانفرادهما جماعة وجاز ان يسمي الاثنان وبعض الثالث جماعة، وقد سمى الله الاثنين جمعاً في قوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ولم يقل قلباكما.
وقال عروة بن الزبير وغيره: أراد بالأشهر شوالاً وذا القعدة وذا الحجة كاملاً لأنه يبقى على الحاج أمور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الرمي والحلق والنحر والبيتوتة بمنى، فكأنها في حكم الحجّ.
حكم الآية:
فمن أحرم بالحجّ قبل أشهر الحج لم يجزه ذلك عن حجه ويكون ذلك عمرة، كمن دخل في صلاة قبل وقتها فتكون نافلة، وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد ومذهب الاوزاعي والشافعي.
وقال مالك والثوري وأبو حنيفة ومحمّد: يكره له ذلك وإن فعل أجزأه، ودليل الشافعي وأصحابه قوله: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} فخصّ هذه الأشهر بفرض الحج فيها فلو كان الاحرام بالحج في غير هذه الاشهر منعقداً جائزاً لما كان بهذا التخصيص فائدة مثل الصلوات علقها بمواقيت لم يجز تقديمها عليها.
{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي فمن أوجب على نفسه فيهن الحجّ والإحرام والتلبية {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: الرفث الفسوق بالرفع والتنوين، وجدال بالنصب.
كقول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ** وما قاموا به لهم مقيم

وقرأ أبو رجاء العطاردي، فلا رفث ولا فسوق نصباً ولا جدال برفع بالتنوين.
كقول الأخفش:
هذا وجدكم الصّغار بعينه ** لا أم لي إن كان ذاك ولا أب

وقرأ أبو جعفر: كلها بالرفع والتنوين. وقرأ الباقون: كلها بالنصب من غير تنوين.
والعرب تقول في البرّية هذان الوجهان ومن رفع بعضاً ونصب بعضاً كان جامعاً للوجهين.
وقرأ الأعمش: فلا رفوث على الجميع.
واختلف أهل التأويل في تفسير الرفث.
فقال ابن مسعود وابن عبّاس وابن عمر والحسن وعمرو بن دينار وقتادة وإبراهيم والربيع والزهري والسّدي وعطاء بن أبي رباح وعكرمة والضحاك: الرفث الجُماع.
وقال طاووس وأبو العالية: الرفث التعريض بالنساء بالجُماع ويذكره بين (......).
عطاء: الرفث قول الرجل للمرأة في حال الإحرام إذا حللت أصبتك.
قال أبو حصين بن قيس: أصعدت ابن عبّاس في الحاج وكنت له خليلاً فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عبّاس بذنب بعيره فجعل يلويه وهو يرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا همياً ** ان تصدق الطير ننك لميسنا

فقلت له: أترفث وأنت محرم؟
فقال: إنّما الرفث ما قيل عند النساء.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس: الرفث غشيان النساء، القُبَل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحشاء من الكلام هو كذلك.
وقال بعضهم: الرفث الفحش وقول القبيح.
وأما الفسوق: فقال ابن عبّاس وطاووس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع والزهري والقرظي: الفسوق معاصي الله كلها.
الضحاك: هو التنابز بالألقاب، دليله قول: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق} [الحجرات: 11].
ابن زيد: هو (............) بالأصنام، مُنع ذلك بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حين حجّ فعلّم أُمته المناسك. دليله قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [المائدة: 3] [النحل: 115].
إبراهيم ومجاهد وعطاء: هو السباب. يدلّ عليه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
ابن عمر: هو مانهى الله عنه المحرم في حال الإحرام من قبيل الصيد وتقليم الاظفار وحلق الشعر وما أشبهه.
وأما الجدال: فقال ابن مسعود وابن عبّاس وعمرو بن محمّد وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وعطاء بن يسار ومعاذ بن أبي رباح وقتادة: الجدال ان تماري صاحبك وتخاصمه حتّى تقضيه.
ابن عمر: هو السبابة والمنازعة.
القرظي: كانت قريش إذا إجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجّنا أتم من حجكم، فقال هؤلاء: حجّنا أتم من حجكم.
القاسم بن محمّد: هو أن يقول بعضهم الحج اليوم، ويقول بعضهم الحجّ غداً.
ابن زيد: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلّهم يدّعى إنه موقف إبراهيم عليه السلام، فقطعه الله حين علم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكه.
قال مقاتل: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه وليجعلها عمرة».
فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم انا أهلنا بالحجّ، فذلك جدالهم.
مجاهد: معناه: ولا شك في الحجّ إنه في ذي الحجّة فأبطل النسيء واستقام الحج كما هو اليوم.
قال أهل المعاني: لفظه نفي ومعناه نهي أيّ لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، لقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أيّ لا ترتابوا فيه.
عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمه».
وعن وهيب بن الورد قال: كنت أطوف أنا وسفيان الثوري فانقلب سفيان وبقيت في الطواف فدخلت الحجر فصليت عند الميزاب فبينما أنا ساجد إذ سمعت كلاماً بين استار البيت والحجارة وهو يقول واشكوا إلى الله ثمّ إليك ما يفعل، ولا الطوافون من حولي من تفكههم في الحديث ولغطهم وشوقهم.
قال وهيب: فأولت أن البيت يشكوا إلى جبرئيل.
{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} فيجازكم به.
{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.
قال المفسّرون: كان ناس من أهل اليمن يحجون بغير زاد ويقولون: نحن متوكّلون، ويقولون: نحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا (...) بدء بما ظلموا الناس وغصبوهم الله، فأمرهم الله أن يتزودوا ولا يظلموا وأن لا يكونوا وبالاً على الناس فقال: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} ويكفون به وجوههم.
قال المفسرون: الكعك والزيت والسويق والتمر ونحوها.
وروى نافع عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموها واستبقوا زاد الآخرة، فأنزل الله {وَتَزَوَّدُواْ} نهاهم عن ذلك وأمر بالتحفظ للزاد، والزود لمن لم يتزود فأمرهم بالتقوى بكف الظلم قال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى}.
قال أهل الاشارة: ذكرهم الله سفر الآخرة وحثهم على التزود بالدارين فإن التقوى زاد الآخرة.
قال الشاعر:
الموت بحر طامح موجه ** تذهب فيه حيلة المسابح

قال آخر:
لا يصحب الانسان في قبره ** إلا التقى والعمل الصالح

قال الاعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على ألاّ تكون كمثله ** وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

قال مالك بن دينار: مات بعض قراء البصرة فمزحنا في جنازة وانصرفنا، فصعد سعدون المجنون وتلا في المقبرة ونادى المتصوفين فأنشأ يقول:
لا يا عسكر الاحياء هذا عسكر الموتى ** أجابوا الدعوة الصغرى وهم منتظرو الكبرى

يحنون على الزاد وما الزاد سوى القرى ** يقولون لكم جهزوا فهذا غاية الدنيا

قال الله عزّ وجلّ {واتقون ياأولي الألباب} ذوي العقول.