فصل: تفسير الآيات (204- 210):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (204- 210):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
{وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا} الآية.
الكلبي والسّدي ومقاتل وعطاء: قالوا نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني أبي زهرة وإسمه أبي، وسمي بالأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة عن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد تولوا الجحفة وقال لهم: يا بني زهرة إن محمّداً ابن أخيكم، فإن يكن صادقاً فلن تغلبوه وكنتم أسعد الناس بصدقه، وإن يك كاذباً فإنكم أحق من كف عنه لقرابتكم وكفتكم إياه أوباش العرب.
قالوا: نِعْمَ الرأي رأيت فَسِر لما شئت فنتبعك. فقال: إذا نودي الناس في الرحيل فإني أخنس بكم فاتبعوني، ففعل وفعلوا وسمي لذلك الأخنس، وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يواله ويظهر الإسلام ويخبره بإنه يحّبه ويحلف بالله عزّ وجلّ على ذلك، وكان منافقاً فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه وَيُقبِل عليه ولا يعلم إنه يضمر خلاف ما يظهر ثمّ إنه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيّتهم ليلاً وأهلك مواشيهم واحرق زرعهم وكان حسن العلانية سيء السريرة.
قال السّدي: مرَّ بزرع للمسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر.
مقاتل: خرج إلى الطائف مقتضياً حلاله على غريم فأحرق له.... أرضاً وعقر له.... أتاناً فأنزل الله فيه هذه الآيات.
ابن عبّاس والضحاك: نزلت هذه الآيات إلى قوله والله رؤوف بالعباد في سرية الرجيع وذلك أن كفّار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة، إنّا أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك، وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكير وعبدالله بن طارق ابن شهاب البادي وزيد ابن الدثنة وأمّر عليهم عاصم بن ثابت بن الاقلح الأنصاري فساروا يريدون مكّة فنزلوا بطن الرجيع بين مكّة والمدينة ومعهم تمر عجرة فأكلوا فمرت عجوزة وأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكّة وقالت: قد سلك الطريق أهل يثرب من أصحاب محمّد، فركب سبعون رجلاً ومعهم الرماح حتّى أحاطوا بهم فحاربوهم فقتلوا مرثداً وخالداً وعبدالله بن طارق ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم فقتل منهم رجلاً من عظماء المشركين ثمّ قال اللّهمّ إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخر اللّيل، ثمّ أحاط به المشركون فقتلوه، فلّما قتلوه أرادوا جزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن عهيد وكانت قد نذرت حين أصاب إبنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن فيه قحفه الخمر، فأرسل الله رجلاً من الدّبر وهي الزنابير فحمت عاصماً ولم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر فلما حالت بينهم وبينه قال: دعوه حتّى يمسي تذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء ومطرت مطراً (كالعزالي) فبعث الله الوادي فاحتمل عاصماً فذهب به (......) وحملته.... خمسين من المشركين إلى النّار قال: وكان عاصم قد أعطى لله عهداً أن لا يمس مشركاً ولا يمسه مشرك أبداً (تنجساً) منه وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه الخبر إن الدَّبر منعته، عجباً لحفظ الله العبد المؤمن كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع من حياته، فأسر المشركون خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فذهبوا بهما إلى مكّة فأما حبيب فابتاعه بنو الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناه ليقتلوه بأيديهم وكان حبيب هو الذي قتل الحرث بن عامر بأحد فبينما خبيب عند بنات الحرث إذا استعار من إحداهن موسى يستحل بها للقتل فما راع المرأة ولها صبي يدرج الاباء بحبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى في يده فصاحت المرأة فقال حبيب: أتحنثين أن أقتله، إن الغدر ليس من شأننا، فقالت المرأة: ما رأيت أسيراً قط خيراً من حبيب لقد رأيته وما بمكّة من تمرة وإن في يده لقطفاً من عنب يأكله إن كان إلاّ رزقاً رزقه الله حبيباً، ثمّ إنّهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه وأرادوا أن يصلبوه فقال: ذروني أصلي ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت سنة لمن قتل صبراً أن يُصلّي ركعتين، ثمّ قال: لولا أن يقولوا جزع حبيب لزدت وأنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ** على أي شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك في أوصال شلو ممزع

أي مقطع.
ثمّ قال: اللهم أحصهم عدداً وخذهم بدداً فصلبوه حياً، فقال: اللهم إنك تعلم إنه ليس أحد حولي يبلغ رسولك سلامي فأبلغه لأُمي، قال: ثمّ جاء به رجل من المشركين يقال له أبو سروعة ومعه رمح فوضعه بين ثديي حبيب فقال له حبيب: إتق الله فما زاده إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه.
فذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} الآية.
يعني سلامان وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف الجحمي ثمّ بعثه مع مولى له يسمى قسطاس إلى التنعيم ليقتله فإجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال أبو سفيان لزيد حين قدم ليُقتَل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمّداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمّداً الآن بمكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي.
فقال: أبو سفيان: «ما رأيت من النّاس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمّد محمّداً، ثمّ قتله قسطاس، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه: أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته فله الجنة؟ قال الزبير بن العوام: أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتّى أتيا التنعيم ليلاً فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام نشاوى فأنزلاه فإذا هو رطب ينثني لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته تخضب دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك فحمله الزبير على فرسه وسارَ فانتبه الكفار وقد فقدوا حبيباً فأخبر بذلك قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير حبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض.
فقال الزبير: ما جرّأكم علينا يا معشر قريش ثمّ رفع العمامة عن رأسه فقال: أنا الزبير بن العوام وأُمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم إنصرفتم، فإنصرفوا إلى مكّة، وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عنده فقال: يا محمّد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك فقال رجال من المنافقين في أصحاب حيبب ياويَح لهؤلاء لمقتولين الذين هلكوا لأنهم قعدوا في بيوتهم ولاهم أدوّا رسالة صاحبهم، فأنزل الله في الزبير والمقداد بن الأسود وحبيب وأصحابه المؤمنين وفيمن طعن عليهم من المنافقين {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ} يامحمّد {قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا}»
.
أي تستحسنه ويعظم في قلبك ومنه العجب لإنه تعظم في النفس.
فقال في الخبر الإستحسان والمحبة: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهية: عجبت من كذا، وأصل العجب مالم يكن مثله قاله المفضل.
{وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} يعني قول المنافق والله إني بك لمؤمن ولك محب.
وقرأ ابن محيصن: ويشهد الله بفتح الياء والهاء ورفع الهاء من قوله أي يظهر أمراً ويقول قولاً ويعلم الله خلاف ذلك منه وفي مصحف أُبي ويستشهد الله وهي حجة لقراءة العامة.
{وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أي شديد الخصومة.
يقال منه لددت يا هذا وأنت تلد لدّاً ولداد، وإذا أردت إنه غلب خصمه قلت لِدّه يلدة لداً.
ويقال: رجل الدّ وإمرأة لدّاء ورجال ونساء لدّ.
قال الله تعالى {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} [مريم: 97].
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
قال الشاعر:
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً ** وخصيماً ألدّ ذا مغلاق

وقال الراجز:
تلدّ أقران الرجال اللدّ

وقال الزجاج: إشتقاقه من لديدي العنق وهما صفحتاه وتأويله إنه في أي وجه أخذ من يمين أو شمال في أبواب الخصومة غلب في ذلك.
والخصام: مصدر خاصمته خصاماً ومخاصمة قاله أبو عبيدة وقال الزجاج: هو جمع خصم يقال: خصم وخصام وخصوم مثل بحر وبحار وبحور، وحقيقة الخصومة التعمق في البحث عن الشيء والمضايقه فيه ولذلك قيل لزوايا الأوعية خصوم.
قال السدي: ألدّ الخصام أعوج الخصام.
مجاهد: الأخير المستقيم على خصومة.
الحسن: هو كاذب القول. قتادة: هو شديد القسوة في معصية الله جدل بالباطل عالم باللسان جاهل بالعمل متكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة.
{وَإِذَا تولى} أدبر وأعرض عنك.
الحسن: تولى عن قوله الذي أعطاه.
ابن جريح: غضب. الضحاك: ملك الأمر وصار والياً {سعى فِي الأرض} أي عمل فيها يقال: فلان يسعى لعياله أي يعمل فيما يعود عليهم نفقه.
ومنه قول الأعشى:
وسعى لكندة سعي غير مواكل ** قيس فضر عدوها وبنى لها

وقيل سار ومشى.
{لِيُفْسِدَ فِيِهَا}.
قال ابن جريح: قطع الرحم وسفك دماء المسلمين، والنساء إسم لجميع المعاصي.
{وَيُهْلِكَ الحرث والنسل}.
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: ويهلك برفع الكاف على الابتداء.
وقرأت العامّة: بالنصب، ويصدّقها قراءة أُبي: وليهلك.
قال المفسّرون: الحرث ما تحرثون من النبات، والنسل نسل كل دابة والنّاس منهم.
النضر بن عدي عن مجاهد في قوله: {وَإِذَا تولى سعى} الآية قال: إذا ولى خاف فعمل بالعدوان والعالم فأمسك الله المطر وأهلك الحرث والنسل.
{والله لاَ يُحِبُّ الفساد}.
عن سعيد بن المسيب قال: قطع الدرهم من الفساد في الأرض.
قتادة عن عطاء: «إن رجلاً يقال له العلاء بن منبه أحرم في جبّة فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن ينزعها».
قال قتادة: فقلت لعطاء: إنّا كنا نسمع أن شقّها فقال عطاء: إن الله لا يحب الفساد.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} خف الله، تكبّر {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} أي حملته العزّة وحمية الجاهليّة على الفعل بالإثمّ والعزة والقوّة والمنعة، ويقال: معناه أخذته العزة بالإثمّ الذي في قلبه كما قام الهاء مقام اللام كقول عنترة يشبهّه بالرب:
وكأن رباً أو كحيلاً معقداً ** حش الوقود به جوانب قمقم

أي خلق الأمالة خشية جهنم أي كفاه عذاب جهنم.
{وَلَبِئْسَ المهاد} الفراش.
قال عبد الله بن مسعود: إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال للعبد: اتق الله فيقول: عليك بنفسك. {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي} يبيع {نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} أي يطلب رضا الله.
والكسائي: يميل مرضاة الله كل القرآن.
{والله رَؤُوفٌ بالعباد}.
قال ابن عبّاس والضحاك: نزلت هذه الآية في الزبير والمقداد بن الأسود حين شريا أنفسهما لإنزال حبيب من خشبته التي صُلب عليها، وقد مضت القصّة.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في صهيب بن سنان المخزومي مولى عبد الله بن جدعان التيمي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فضربوهم فقال لهم صهيب: إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت، أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني، ففعلوا ذلك، وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله ثمّ خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في رجال.
قال له ابو بكر: ربح بيعك أبا يحيى فقال صهيب: وبيعك فلا تخسر بأذاك.
فقال: أنزل الله تعالى فيك كذا، وقرأ عليه هذه الآية.
قال سعيد بن المسيب وعطاء: أقبل صهيب مهاجراً نحو النبيّ صلى الله عليه وسلم فأتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته وهو ما في كنانته ثمّ قال: يا معاشر قريش لقد علمتم إني من أرماكم رجلاً، والله لا أصنع سهماً مما في كنانتي إلاّ في قلب رجل، وأيم الله لا يصلون إليّ حتّى أرمي كل سهم في كنانتي، ثمّ اضرب بسيفي ما بقي في يدي، ثمّ إفعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وضيعتي بمكة وخليتم سبيلي.
قالوا: نعم. ففعل ذلك، فأنزل الله هذه الآية.
وقال قتادة: ما هم بأهل الحرور المراق من دين الله تعالى، ولكن هم المهاجرون والأنصار.
وقال الحسن: أتدرون فيمن نزلت هذه الآية، في أن مسلماً لقى كافراً فقال له: قل لا إله إلاّ الله وإذا قلتها عصمت مالك ودمك إلا بحقها فأبى أن يقولها، قال المسلم: والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل حتّى قُتل.
وقال المغيرة: بعث عمر جيشاً فحاصروا حصناً فتقدم رجل من بجيلة فقاتل وحده حتّى قتل، فقال النّاس ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ ذلك عمر فقال: كذبوا اليس الله يقول: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية.
وقال بعضهم: نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال ابن عبّاس: أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثمّ. قال: هذا وأنا أشري نفسي وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل أخذته العزّة بالإثمّ ثمّ قال: هذا وأنا أشري نفسي لمقاتلته فأقتتل الرجلان لذلك، وكان علي رضي الله عنه إذا قرأ هذه الآية يقول: اقتتلا ورب الكعبة.
وقال الخليل: سمع عمر بن الخطاب إنسأناً يقرأ هذه الآية {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ} الآية.
فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل.
حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي إمامة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر».
عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله».
وقال الثعلبي: ورأيت في الكتب «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة خَلف علي بن أبي طالب بمكة لقضاء ديونه ورد الودايع التي كانت عنده فأمره ليلة خرج إلى الغار وقد أحاط المشركون بالدار أن ينام على فراشه صلى الله عليه وسلم وقال له: إتشح ببردي الحضرمي الأخضر، ونم على فراشي، فإنّه لا يخلص إليك منهم مكروه إنشاء الله، ففعل ذلك عليٌ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل وميكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالبقاء والحياة؟ فإختار كلاهما الحياة فأوحى الله تعالى إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب عليه السلام آخيت بينه وبين محمّد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه نفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس علي وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب، فنادى الله عزّ وجلّ الملائكة وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى المدينة في شأن علي عليه السلام {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله}».
قال ابن عبّاس: نزلت في علي بن أبي طالب حين هرب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المشركين إلى الغار مع أبي بكرالصديق ونام عليَّ على فراش النبيّ صلى الله عليه وسلم.
{ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام النضري وأصحابه وذلك إنهم عظموا السبت وكرهوا لحم الابل وألبانها بعدما أسلموا وقالوا: يا رسول الله إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنقم بها في صلاتنا بالليل فأنزل الله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} أي في الإسلام قاله قتادة والضحاك والسدي وابن زيد، يدلّ عليه قول الكندي:
دعوت عشيرتي للسلم ** لما رأيتهم تولوا مدبرينا

أي دعوتهم إلى الإسلام لما إرتدوا، قال ذلك حين إرتدة كندة مع الأشعت بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال طاووس: في الدين.
مجاهد: في أحكام أهل الإسلام وأعمالهم كافة أي جميعها.
ربيع: في الطاعة.
سفيان الثوري: في أنواع البر كلها، وكلها متقاربة في المعنى وأصله من الاستسلام والانقياد ولذلك قيل للصلح سلم وقال زهير:
وقد ملتما إن ندرك السلم واسعاً ** بمال ومعروف من الأمر نسلم

قال حذيفة بن اليمان: في هذه الآية الإسلام ثمانية أسهم: الصلاة سهم، والزكاة سهم، والصوم سهم، والحج سهم، والعمرة سهم، والجهاد سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له.
واختلف القراء في السلم.
فقرأ الأعمش وابن عبّاس: بكسر السين هاهنا وفي الأنفال وسورة محمّد صلى الله عليه وسلم.
وقرأها أهل الحجاز والكسائي: كلها بالفتح وهو اختيار أبي عبيد. لما روى عبد الرحمن ابن ابزي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأها كلها بالفتح.
وقرأ حمزة وخلف في الانفال بالفتح وسائرها بالكسر.
وقرأ الباقون: هاهنا بالكسر والباقي بالفتح وهو اختيار أبي حاتم، وهما لغتان.
عاصم الأحول عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الإسلام كمثل الشجرة الثابتة الإيمان بالله، أصلها الصلوات الخمس جذوعها، وصيام شهر رمضان لحاءها، والحج والعمرة جناها، والوضوء وغسل الجنابة شربها، وبر الوالدين وصلة الرحم غصونها، والكف عمّا حرم الله ورقها، والأعمال الصالحة ثمرها، وذكر الله تعالى عروقها».
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كما لا تحسن الشجرة ولا تصلح إلاّ بالورق الأخضر، كذلك الإسلام لا يصلح إلاّ بالكف عن محارم الله تعالى والأعمال الصالحة».
{كَآفَّةً} جميعاً وهي مأخوذة من كففت الشيء إذا منعته وضممت بعضه إلى بعض، ومنه قيل لحاشية القميص كفة، لأنها تمنعه من أن ينتشر وكل مستطيل فحرفه كفة بالضم وكل مستدير فحرفه كفة بالكسر، نحو كفة الميزان، ومنه قيل للراحة مع الأصابع كفة لأنه يكفّ بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف أي كفَّ بصره من النظر فمعنى الكافة هو ان ينتهي إليه ويكفه من أن يجاوزه.
{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي أثاره ونزعاته فيما بيّن لكم من تحريم السبت ولحم الجمل وغيره {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
الشعبي عن جابر بن عبد الله: إن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّا نسمع أحاديث من يهود قد أخذت بقلوبنا أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي».
{فَإِن زَلَلْتُمْ}. قال ابن حيان: أخطأتم. السدي: ضللتم. يمان: ملتم.
قال ابن عبّاس: يعني الشرك.
قتادة: أنزل الله هذه الآية وقد علم إنه سيزل زالون عن النّاس، فتقدّم في ذلك وأوعد فيه فيكون لله حجة على خلقه.
وقرأ أبو السماك العذري: زللتم بكسر اللام وهما لغتان وأصل الحرف من الزلق.
{مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} يعني الإيمان والقرآن والأمر والنهي {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} في نعمته {حَكِيمٌ} في أمره {هَلْ يَنظُرُونَ} أي هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة والمتبعون خطوات الشيطان؟ يقال نظرته وإنتظرته بمعنى واحد.
قال الشاعر:
فبينا نحن ننظره أتانا ** معلّق شكوة وزناد راع

أي ننتظره ونتوقعه فإذا كان النظر مقروناً بذكر الوجه فلا يكون إلاّ بمعنى الرؤية.
{إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} جمع ظلة وقرأ قتادة: في ظلال ولها وجهان أحدهما: جمع ظلة فقال: ظلة وظلال مثل جلة وجلال، وظل ظلال كثر حلة وحلل، والثاني: جمع ظل من الغمام وهو السحاب الأبيض الرقيق سمي بذلك لأنه نعم أي يستتر.
عكرمة عن إبن عبّاس في قوله: {يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} قال: يأتي الله في ظلله من الغمام قد قطعت طاقات، ورفعه بعضهم سلمة بن وهرام أن عكرمة أخبره أن ابن عبّاس أخبره عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الغمام طاقات يأتي الله عزّ وجلّ فيها محفوفة بالملائكة» وذلك قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام}.
قال الحسن: في سترة من الغمام، فلا ينظر اليهم أهل الأرض، الضحاك: في ضلع من السحاب.
مجاهد: هو غير من السحاب ولم يكن إلاّ لبني اسرائيل في تيههم.
مقاتل: كهيئة الظبابة أبيض، وذلك قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25].
{والملائكة}.
قرأ ابن جعفر بالخفض: عطفاً على الغمام وتقديره مع الملائكة، تقول العرب: أقبل الأمير في العسكر أي مع العسكر.
وقرأها الباقون: بالرفع على معنى إلاّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، يدلّ عليه قراءة أبي حاتم وعبد الله {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة}.
{فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام}.
أبو العالية والربيع: تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام ويأتي الله تعالى فيما يشاء.
قرأ معاذ: في ظلل مع الغمام وقضاء الأمر (بالمد) أراد المصدر ذكر البيان عن مغني الإتيان.
واختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: {في} بمعنى الباء، وتعاقب حروف الصفات شائع مشهور في كلام العرب، تقدير الآية: إلاّ أن يأتيهم الله بظلل من الغمام وبالملائكة أو مع الملائكة، وبهذا التأويل زال الإشكال وسهل الأمر وأجرى الباقون للآية فهي ظاهرة.
ثم اختلفوا في تأويلها ففسّره قوم على الإتيان الذي هو الإنتقال من مكان إلى مكان وأدخلوا فيه بلا كيف يدل عليه ظواهر أخبار وردت لم يعرفوا تأويلها وهذا غير مرضيّ من القول لأنه إثبات المكان لله سبحانه، وإذا كان متمكناً وجب أن يكون محدوداً متناهياً ومحتاجاً وفقيراً، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وقال بعض المحقّقين الموفّقين أظنّه علي بن أبي طالب عليه السلام: من زعم أن الله تعالى من شيء أو في شيء أو على شيء فقد ألحد، لأنه لو كان من شيء لكان محدثاً، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان على شيء لكان محمولاً.
وسكت قومٌ عن الخوض في معنى الإتيان فقالوا: نؤمن بظاهره ونقف عن تفسيره؛ لأنّا قد نُهينا أن نقول في كتاب الله تعالى ما لا نعلم ولم ينبّهنا الله تعالى ولا رسوله على حقيقة معناه.
قال يحيى: هذه من (المكتوم) الذي لا يُفسّر، وكان مالك والأوزاعي ومحمد وإسحاق وجماعة من المشايخ يقولون فيه وفي أمثاله أمرّوها كما جاءت بلا كيف.
وزعم قوم أن في الآية إضماراً أو اختصاراً تقديرها: إلاّ أن يأتيهم أمر الله وهو الحساب والعذاب، دلّ عليه قوله: {وَقُضِيَ الأمر} الآية وجب العذاب وفُرغ من الحساب، قالوا هذا كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] ويقول العرب: قطع الوالي اللّص يعني يده وإنما فعل ذلك آخر أنه بأمره.
ويقال: خطبتان مأتينا بنو أمية أي حكمهم.
وعلى هذا يحمل قوله: {ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] لأن الله تعالى قال ذلك، وهذا معنى قول الحسن البصري.
وقالت طائفة من أهل الحقائق: إن الله يُحدث فعلاً يسميه إتياناً كما سمعت فهلاّ سمّاه نزولاً وأفعاله بلا آلة ولا علّة.
قال الثعلبي: قلت: ويحتمل أن يكون معنى الإتيان ههنا راجعاً إلى الجزاء؛ فسمّى الجزاء إتياناً كما سمّى التخويف والتعذيب في قصّة نمرود إتياناً فقال عزّ من قائل: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} [النحل: 26].
وقال في قصّة بني النضير: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2] {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى} [الأنبياء: 47]: وإنّما احتمل الإتيان هذه المعاني لأنّ أصل الإتيان عند أهل اللسان هو القصد إلى المشي في الآية فهل ينظرون إلاّ أن يظهر الله خلاف أفعاله مع خلق من خلقه فيقصد إلى مجازاتهم ويقضي في لعنهم ما هو قاض ومجازيهم على فعل ويمضي فيهم ما أراد، يدلّ عليه ما روى صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة فإنّ الله عزّ وجلّ في ظلال من الغمام والملائكة فيتكلم بكلام طلق ذلق فيقول: انصتوا فطالما أنصتّ لكم منذ خلقتكم أرى أعمالكم وأسمع أقوالكم وإنّما من عصابتكم بقي أهليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك لا يلومنَّ إلاّ نفسه».