فصل: سورة الرحمن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة الرحمن:

مكية، وهي ألف وستمائة وستة وثلاثون حرفاً، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وثمان وسبعون آية.
أخبرنا الأستاذ أبو الحسين الخبازي قال: حدّثت عن أحمد بن الحسن المقري قال: حدّثنا محمد بن يحيى الكيساني قال: حدّثنا هشام البربري قال: حدّثنا علي بن حمزة الكسائي قال: حدّثنا موسى بن جعفر عن أبيه جعفر عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن علي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لكلّ شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرَّحْمن جلّ ذكره».
وأخبرني أبو الحسين أحمد بن إبراهيم العبدي سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد الحبري قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل الكوفي قال: حدّثنا أحمد بن عبدالله قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الرَّحْمن رحم الله ضعفه، وأدّى شكر ما أنعم اللّه عليه».
روى هشام بن عروة عن أبيه قال: أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود، وذلك أن أصحاب رسول الله اجتمعوا فقالوا: ما سمعت قريش القرآن يجهر به، فمن رجل يسمعهم؟
فقال ابن مسعود: أنا، فقالوا: إنّا نخشى عليك منهم، وإنّما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فقال: دعوني فإنّ الله سيمنعني، ثم قام عند المقام فقال: بسم الله الرَّحْمن الرحيم، الرَّحْمن علم القرآن، رافعاً بها صوته، وقريش في أنديتها فتأمّلوا وقالوا: ما يقول ابن أُم عبد؟ ثم قاموا إليه فجعلوا يضربونه وهو يقرأ حتى يبلغ منها ما شاء، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثّروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 13):

{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}
{الرحمن * عَلَّمَ القرآن} نزلت حين قالوا: وما الرَّحْمن؟، وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا: إنّما يعلّمه بشر.
{خَلَقَ الإنسان} قال ابن عباس وقتادة: يعني آدم عليه السلام.
{عَلَّمَهُ البيان} أسماء كل شيء، وقيل: علّمه اللغات كلّها، وكان آدم عليه السلام يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية، وقال آخرون: أراد جميع الناس؛ لأن الانسان اسم الجنس ثم اختلفوا في معنى البيان، فروي عن قتادة أنّه قال: علّمه بيان الحلال والحرام، وبيّن له الخير والشر، وما يأتي وما يذر؛ ليحتج بذلك عليه.
وقال أبو العالية ومرّة الهمذاني وابن زيد: يعني الكلام. الحسن: النطق والتمييز. محمد ابن كعب: ما يقول وما يقال له. السدي: علّم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به. يمان: الكتابة والخط بالقلم. نظيره {الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ}. ابن كيسان: خلق الانسان يعني محمداً صلى الله عليه وسلم علمه البيان يعني بيان ما كان وما يكون؛ لأنه كان يبيّن عن الأولين والآخرين وعن يوم الدين.
{عَلَّمَ بالقلم} [العلق: 4] أي بحساب ومنازل لا تعدّونها، قاله ابن عباس وقتادة وأبو ملك.
قال ابن زيد وابن كيسان: يعني بهما بحسب الأوقات والأعمار والآجال، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف نحسب شيئاً، لو كان الدهر كلّه ليلاً كيف نحسب؟ أو كلّه نهاراً كيف نحسب؟ وقال الضحاك: يجريان بعدد. مجاهد: كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا. السدي: بأجل كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا.
نظيره {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2]. يمان: يجريان بأهل الدنيا وقضائها وفنائها.
والحسبان قد يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً مثل الغفران والكفران والرجحان والنقصان، وقد تكون جمع الحساب كالشهبان والرهبان والقضبان والركبان.
وارتفاع الشمس والقمر باضمار فعل مجازه الشمس والقمر يجريان بحسبان، وقيل: مبتدأ وخبره فيما بعده.
ونظم الآية الرَّحْمن علم القرآن وقدر الشمس والقمر، وقيل: هو مردود على البيان، أي علّمه البيان، إن الشمس والقمر بحسبان.
ويقال: سعة الشمس ستة آلاف فرسخ وأربعمائة فرسخ في مثلها، وسعة القمر ألف فرسخ في ألف فرسخ.
مكتوب في وجه الشمس: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره، وفي بطنها مكتوب: لا إله إلاّ الله، رضاه كلام، وغضبه كلام، ورحمته كلام، وعذابه كلام، وفي وجه القمر مكتوب: لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، خلق الله القمر، وخلق الظلمات والنور، وفي بطنه مكتوب: لا إله إلاّ الله خلق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما من يشاء من خلقه، فطوبى لمن أجرى الله الخير على يديه، والويل لمن أجرى الله الشر على يديه.
{والنجم والشجر يَسْجُدَانِ}. قيل: هو ما ليس له ساق من الأشجار، وينبسط على وجه الأرض، وقال السدّي: هو جمع النبات سمّي نجماً لطلوعه من الأرض، وسجودها سجود ظلها، وقال مجاهد وقتادة: هو الكوكب، وسجوده طلوعه.
{والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} قال مجاهد: العدل، وقال الحسن والضحاك وقتادة: هو الذي يوزن به ليوصل به الإنصاف والانتصاف، وقال الحسين بن الفضل: هو القرآن، وأصل الوزن التقدير.
{أَلاَّ تَطْغَوْاْ} يعني لئلاّ تميلوا وتظلموا وتجاوزوا الحق {فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} بالعدل، وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالقسط، وقال ابن عيينة: الإقامة باليد والقسط بالقلب {وَلاَ تُخْسِرُواْ} ولا تنقصوا {الميزان} ولا تطففوا في الكيل والوزن.
قال قتادة في هذه الآية: اعدل يا بن آدم كما تحب أنْ يعدل عليك، وأوفِ كما تحب أن يوفى لك، فإن العدل صلاح الناس.
وقراءة العامة {تُخْسِرُواْ} بضم التاء وكسر السين، وقرأ بلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين وهما لغتان.
{والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} للخلق، وقال الحسن: للجن والإنس، وقال ابن عباس والشعبي: لكل ذي روح.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ} يعني ألوان الفواكه، وقال ابن كيسان: يعني ما يفكههم به من النعم التي لا تحصى، وكل النعم يُتفكه بها {والنخل ذَاتُ الأكمام} أوعية التمر، واحدها: كم، وكل ما يسترنا فهو كم وكمة، ومنه كمّ القميص، ويقال: للقلنسوة: كمّة، قال الشاعر:
فقلت لهم كيلوا بكمّة بعضكم ** دراهمكم إني كذاك أكيل

قال الضحاك: ذات الأكمام أي ذات الغلف. الحسن: أكمامها: ليفها. قتادة: رقابها. ابن زيد: الطلع قبل أن يتفتق.
{والحب ذُو العصف} قال مجاهد: هو ورق الزرع، قال ابن السكّيت: يقول العرب لورق الزرع: العصف والعصيفة والجِل بكسر الجيم، قال علمقة بن عبدة:
تسقي مذانب قد مالت عصيفتها ** حدورها من أتيّ الماء مطموم

العصف: ورق الزرع الأخضر إذا قطع رؤوسه ويبس. نظيره {كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: 5].
{والريحان} قال مجاهد: هو الرزق، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: كل ريحان في القرآن فهو رزق.
قال مقاتل بن حيان: الريحان: الرزق بلغة حمْيَر. قال الشاعر:
سلام الإله وريحانه ** ورحمته وسماء درر

سعيد بن جبير عن ابن عباس: الريحان: الريع. الضحّاك: هو الطعام. قال: فالعصف هو التين والريحان ثمرته. الحسن وابن زيد: هو ريحانكم هذا الذي يشم. الوالبي عن ابن عباس: هو خضرة الزرع. سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق.
وقراءة العامة {والحبُ ذو العصف والريحان} كلّها مرفوعاً بالرد على الفاكهة، ونَصبها كلّها ابن عامر على معنى خلق هذا الانسان وخلق هذه الاشياء، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصم {والريحان} بالجر عطفاً على العصف.
{فَبِأَيِّ آلاء} نِعَم {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أيها الثقلان.
يدل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمد قال: حدّثنا أحمد بن جعفر بن مسلم الحنبلي قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبدالخالق قال: حدّثنا عبدالوهاب الوراق قال: حدّثنا أبو إبراهيم الترجماني قال: حدّثنا هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: حدّثنا وهب ابن محمد عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرَّحْمن حتى ختمها.
ثم قال: «ما لي أراكم سكوتاً؟ للجن أحسن منكم ردّاً، ما قرأت عليهم هذه الآية مرة {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلاّ قالوا: ولا بشيء من نعمك ربّنا نكذب».
وقيل: خاطب بلفظ التثنية على عادة العرب، وقد مضت هذه المسألة في قوله سبحانه: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24].
وأما الحكمة من تكرارها فقال القتيبي: إن الله سبحانه وتعالى عدّد في هذه السورة نعماه، وذكّر خلقه آلاءه. ثم أتبع ذكر كلّ كلمة وضعها، ونعمة ذكرها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقرّرهم بها، وهو كقولك لرجل: أحسنت إليه وتابعت بالأيادي، وهو في كل ذلك ينكرك ويكفرك: ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر؟ ألم تكن عرياناً فكسوتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم أحملك وأنت راحل؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟، أفتنكر هذا؟ ألم تكن صرورة فحججت بك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرار سايغ في كلام العرب، حسن في مثل هذا الموضع. قال الشاعر:
المم سلومه المم المم

وقال الآخر:
كم نعمة كانت لكم ** كم كم وكم

وقال آخر:
فكادت فرارة تصلى بنا ** فاولى فرارة أولى فراراً

وقال آخر:
لا تقطعن الصديق ماطرفت ** عيناك من قول كاشح أشر

ولا تملّنّ من زيارته ** زره وزره وزر وزر وزر

وقال الحسين بن الفضل: التكرار لطرد الغفلة وتأكيد الحجة.

.تفسير الآيات (14- 30):

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}
{خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار * وَخَلَقَ الجآن} وهو أب الجن، وقال الضحاك: هو إبليس، وقال أبو عبيدة: الجان واحد الجن {مِن مَّارِجٍ} لهب صاف وخالص لا دخان فيه. قال ابن عباس: هو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت. عكرمة: هو أحسنها. مجاهد: هو ما اختلط بعضه ببعض من اللهب الاحمر والاصفر والاخضر الذي يعلو النار إذا أُوقدت، وهو من قولهم: مرج القوم إذا اختطلوا، ومرجت عهودهم وأماناتهم. {مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * رَبُّ المشرقين} مشرق الصيف والشتاء {وَرَبُّ المغربين} مغرب الصيف والشتاء.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {مَرَجَ} أرسل {البحرين} العذب والملح وخلاّهما وخلقهما {يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حاجز وحائل من قدرة الله وحكمته {لاَّ يَبْغِيَان} لا يختلطان ولا يتغيران ولا يبغي أحدهما على صاحبه، وقال قتادة: لا يبغيان على الناس بالغرق، وقال الحسن: {مرج البحرين} يعني بحر الروم وبحر الهند واسم الحاجز بينهما، وعن قتادة أيضاً: يعني بحر فارس والروم، {بينهما برزخ} وهو الجزائر، وقال مجاهد والضحاك: يعني بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان كل عام.
{يَخْرُجُ} قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ويعقوب بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. الباقون على الضدّ.
{مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ} أي من البحرين، قال أهل المعاني: إنّما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب، ولكن هذا جائز في كلام العرب ان يذكر شيئاً ثم يخصّ أحدهما بفعل دون الآخر، كقول الله سبحانه: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} [الأنعام: 130] والرسل من الإنس دون الجن، قاله الكلبي. قال: وجعل القمر فيهن نوراً وإنما هو في واحدة منهما، وقال بعضهم يخرج من ماء السماء وماء البحر اللؤلؤ وهو أعظم من الدر، واحدتها لؤلؤة. {وَالمَرْجَانُ} وهو صغارها، وقال مرّة: المرجان جيّد اللؤلؤ، وروى السدّي عن أبي مالك أن المرجان الخرز الأحمر، وقال عطاء الخراساني هو البسذ، يدل عليه قول ابن مسعود: المرجان حجر، والذي حكينا من أن المراد بالبحرين القطر والبحر، وأن الكناية في قوله: منهما راجعة إليهما وهو قول الضحاك، ورواية عطية عن ابن عباس وليث عن مجاهد.
وتصديقهم ما أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ قال: أخبرنا الهيثم بن خلف قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدّثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قرأ {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} قال: إذا مطرت السماء فتحت الأصداف أفواهها، فحيث وقعت قطرة كانت لؤلؤة.
ولقد ذكر لي أن نواة كانت في جوف صدف، فأصابت بعض النواة ولم يصب بعضها فكانت حيث القطرة من النواة لؤلؤة وسائرها نواة.
وأخبرنا الحسين قال: حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبدالله قال: قرأ أبي على أبي محمد بن الحسن بن علويه القطان من كتابه وأنا اسمع، قال: حدّثنا بعض أصحابنا قال: حدّثني رجل من أهل مصر يقال له: طسم قال: حدّثنا أبو حذيفة عن أبيه عن سفيان الثوري في قول الله سبحانه: {مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ} قال: فاطمة وعلي {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} قال: الحسن والحسين.
وروي هذا القول أيضاً عن سعيد بن جبير، وقال: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} محمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقال أهل الإشارة {مَرَجَ البحرين} أحدهما معرفة القلب والثاني معصية النفس، بينهما برزخ الرحمة والعصمة.
{لاَّ يَبْغِيَانِ} لا تؤثر معصية النفس في معرفة القلب، وقال ابن عطاء: بين العبد وبين الرب بحران: أحدهما بحر النجاة، وهو القرآن من تعلق به نجا، والثاني بحر الهلاك وهو الدنيا من تمسك بها وركن إليها هلك، وقيل: بحرا الدنيا والعقبى، بينهما برزخ وهو القبر قال الله سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100].
{لاَّ يَبْغِيَانِ} لا يحل أحدهما بالآخر، وقيل: بحرا العقل والهوى {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} لطف الله تعالى. {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} التوفيق والعصمة، وقيل: بحر الحياة وبحر الوفاة، بينهما برزخ وهو الأجل، وقيل: بحر الحجة والشبهة، بينهما برزخ وهو النظر والاستدلال {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} الحق والصواب.
{فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * وَلَهُ الجوار} السفن الكبار {المنشئات} كسر حمزة سينها، وهي رواية المفضل عن عاصم تعني المقبلات المبتديات اللاتي أنشأن بجريهن وسيرهن، وقرأ الآخرون بفتحه أي المخلوقات المرفوعات المسخّرات {فِي البحر كالأعلام * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} كقول الناس: ما عليها أكرم من فلان يعنون الأرض، وما بين لابتيها أفضل منه يريدون جُزئَي المدينة {فَانٍ} هالك، قال ابن عباس: لمّا أُنزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض فأنزل الله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك.
{ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال} قراءة العامة بالواو، وقرأ عبد الله ذي الجلال بالياء نعت الربّ.
أخبرني الحسين احمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن منصور الكناني قال: حدّثنا الحرث بن عبد الله قال: أخبرنا عبد الرَّحْمن بن عثمان الوقاصي، قال: حدّثنا محمد بن كعب القرظي قال: قال عبد الله بن سلام: بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن سلام إنّ الله عز وجل يقول: {ذُو الجلال والإكرام} فأمّا الإكرام فقد عرفت فما الجلال؟ فقال: بأبي أنت إنّا نجد في الكتب أنّها الجنة المحيطة بالعرش.
قال: فكم بينهما وبين الجنات التي يسكن الله عباده؟ قال: مدى سبعمائة سنة، قال: فنزل جبرئيل بتصديقه.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا بن ماهان قال: حدّثنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا سعيد الجزيري عمّن سمع اللجلاج يقول: سمعت معاذ بن جبل وكان له أخاً وصديقاً قال: سمعته يقول:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يصلّي وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال صلى الله عليه وسلم: «قد استجيب لك».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي الخصيب المصيصي قال: حدّثنا هلال بن العلاء قال: حدّثنا أبو الجرار قال: حدّثنا عمار بن زريق عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلِظوا بـ يا ذا الجلال والإكرام».
واخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن صقلاب قال: حدّثنا ابن أبي الخصيب. قال: حدّثنا محمد بن يونس عن بسر بن عمر قال: حدّثنا وهيب بن خالد عن ابن عجلان عن سعيد المنقري قال: الحح رجل فقعد ينادي: يا ذا الجلال والإكرام. فنودي: إني قد سمعت فما حاجتك؟ {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} من ملك وإنس وجنّ وغيرهم لا غنى لأحد منهم منه قال ابن عباس: وأهل السماوات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونه الرزق والمغفرة.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال مقاتل: أُنزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً، فأنزل الله سبحانه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.
أخبرني أبو القاسم عبد الرَّحْمن بن محمد إبراهيم الحوضي قال: أخبرنا أبو أحمد عبد الله ابن عدي الحافظ قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن طويط أبو القاسم البزاز قال: حدّثنا إبراهيم ابن محمد بن يوسف الفريابي قال: حدّثنا عمر بن بكر قال: حدّثنا حارث بن عبيدة بن رياح الغسّاني عن أبيه عن عبدة بن أبي رياح عن مثبت بن عبد الله الأزدي عن أبيه عن عبد الله بن منيب قال: تلا علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} فقلنا: يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: «يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين».
وحدّثنا أبو بكر محمد بن احمد بن عبدوس إملاءً قال: أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد ابن يحيى البزاز، قال: حدّثنا يحيى بن الربيع المكي قال: حدّثنا سفيان بن عيينة قال: حدّثنا أبو حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن ممّاخلق الله سبحانه وتعالى لوحاً من درّة بيضاء، دفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، ينظر الله سبحانه فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، فذلك قوله سبحانه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.
وقال مجاهد وعبيدة بن عمير: من شأنه أن يجيب داعياً ويعطي سائلا ويفكّ غائباً ويشفي سقيماً ويغفر ذنباً ويتوب على قوم، وقال سفيان بن عيينة: الدهر كله عند الله سبحانه يومان: أحدهما مدة أيام الدنيا والآخر يوم القيامة، والشأن الذي هو فيه اليوم الذي هو مدة الدنيا، الاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأن يوم القيامة الجزاء والحساب والثواب والعقاب، وقال الحسين بن الفضل هو سوق المقادير إلى المواقيت.
ويقال: شأنه سبحانه أنّهُ يخرج في كل يوم وليلة ثلاثة عساكر: عسكراً من أصلاب الآباء إلى الأرحام، وعسكراً من الأرحام إلى الدنيا، وعسكراً من الدنيا إلى القبور، ثم يرحلون جميعاً إلى الله سبحانه، وقال الربيع بن أنس: يخلق خلقاً ويميت آخرين ويرزقهم ويكلؤهم. سويد بن جبلة الفراري: يعتق رقاباً ويقحم عقاباً ويعطي رغاباً، وقال بعضهم: هو الجمع والتفريق. أبو سليمان الداراني: هو إيصاله المنافع إليك، ودفعه المضار عنك. فلم نغفل عن طاعة من لا يغفل عنا؟ وقال أيضاً: في هذه الآية كل يوم له إلى العبيد برّ جديد.
ويحكى أن بعض الأمراء سأل وزيره عن معنى هذه الآية فلم يعرفه واستمهله إلى الغد، فرجع الوزير إلى داره كئيباً، فقال له غلام أسود من غلمانه: يا مولاي ما أصابك؟ فزجره. فقال: يا مولاي، أخبرني، فلعلّ الله سبحانه يسهّل لك الفرج على يديّ، فأخبره بذلك فقال له: عد إلى الأمير وقل له: إن لي غلاماً أسود إن أذنت له فسّر لك هذه الآية، ففعل ذلك ودعا الأمير الغلام وسأله عن ذلك فقال: أيها الأمير شأن الله هو انه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، ويخرج الميت من الحي يخرج الحي من الميت، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافىً، ويعافي مبتلىً، ويعز ذليلا، ويذل عزيزاً، ويفقر غنياً ويغني فقيراً. فقال الأمير: أحسنت يا غلام، قد فرّجت عني. ثم أمر الوزير بخلع ثياب الوزارة وكساها الغلام، فقال: يا مولاي، هذا شأن الله عز وجل.
{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}.