فصل: تفسير الآيات (211- 215):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (211- 215):

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
{سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} أي سل يا محمد يهود أهل المدينة {كَمْ آتَيْنَاهُم} أعطيناهم، آباءهم وأسلافهم {مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} علامة واضحة مثل العصا في اليد البيضاء وفلق البحر وغيرها.
{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} يغيّر كتاب الله {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} الآية، قال بعضهم: نزلت هذه الآية في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعّمون بما ينقل لهم في الدنيا من المال ونسوا يوم المعاد {وَيَسْخَرُونَ} من المؤمنين الذين يعزفون عن الدنيا، ويقبلون على الطاعة والعبادة، ويقولون: لو كان محمد نبيّاً لاتبعه أشرافنا وإنما تبعه الفقراء مثل أبي عمارة وصهيب وعمار وجابر بن عبد الله وأبي عبيدة بن الجراح وبلال وخباّب وأمثالهم، وهذا معنى رواية الكلبي عن ابن عباس.
وقال مقاتل: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه، وكانوا يتنعمون في الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
وقال عطاء: نزلت في رؤساء اليهود ووفدهم من بني قريضة والنضير والقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريضة والنضير بغير قتال أسهل شيء وأيسره. فقال: أين الذين كفروا في الحياة الدنيا، في قول مجاهد، وحملَ (زيّن) بفتح الزاي والياء على معنى زينها الله وإنّما ذكّر الفعل بمعنيين أحدهما أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي لأنّ معنى الحياة والبقاء والعيش واحد، والآخر أنه فصل بين اسم المؤنث والفعل فأعمل المذكر، كقول الشاعر:
إن امرأً غرّه منكن واحدة ** بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} لفقرهم.
عن علي بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استذلّ مؤمناً أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلة ذات يده شهّره الله يوم القيامة ثم فضحه، ومن بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله على تل من نار حتى يخرج مما قال فيه، وإن المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من مَلَك مقرب، وليس شيء أحبّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة، وإن الرجل المؤمن ليُعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده».
وعن إبراهيم بن أدهم قال: حدّثنا عباد بن كثير بن قيس، قال: جاء رجل عليه بزّة له فقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل عليه لممار له فقعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال: ألقى بثيابه فضمّها إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكلُّ هذا تقززاً من أخيك المسلم، أكنت تخشى أن يصيبه من غناك أو يصيبك من فقره شيء»فقال للنبي: معذرة إلى الله وإلى رسوله، إن النفس لأمّارة وشيطان يكيدني، أشهد يا رسول الله أن نصف مالى له، فقال الرجل: ما أريد ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلِمَ؟»قال: لا يفسد قلبي كما أفسد قلبه.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا تحقرنّ أحداً من المسلمين فإنّ صغير المسلمين عند الله كبيراً. وقال يحيى بن معاذ: بئس القوم قوم إن استغنى بينهم المؤمن حسدوه، وإذا افتقر بينهم استذلّوه {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أرفع رجل تراه في المسجد». فنظرت فإذا رجل جالس وعليه حلّة فقلت: هذا. فقال: «يا أبا ذر ارفع بصرك إلى أوضع رجل تراه في المسجد» فنظرت فإذا رجل ضعيف عليه أخلاق فقلت: هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لهذا عند الله يوم القيامة أفضل من قراب الأرض من هذا».
{والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال ابن عباس: يعني كثيراً بغير فوت ولا (هنداز) لأن كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل.
وقال الضحاك: يعني من غير تبعة، يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه ولا يعاقبه في الآخرة.
وقيل إنّ هذا راجع إلى الله ثم هو يحتمل على هذا القول معنيين: أحدهما أنه لا يُفترض عليه، ولا يُحاسب فيما يرزق، ولا يقال له: لما أعطيت هذا، وحرمت هذا؟ ولم أعطيت هذا أكثر مما أعطيت ذاك؟ لأنه لا شريك له بما عنده، ولا قسيم ينازعه.
والمعنى الآخر أنه لا يخاف نفاذ خزائنه فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها إذا كان الحساب من المعطي، إنما يكون ليعمّ أقدر العطاء لئلا يتجاوز في عطائه إلى ما يجحف به فهو لا يحتاج إلى الحساب؛ لأنه عالم غني لا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون.
{كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية، قال الحسن وعطاء: كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح عليهما السلام أُمة واحدة على ملّة واحدة وهي الكفر، كانوا كفاراً كلّهم أمثال البهائم فبعث الله نوحاً وإبراهيم وغيرهما من النبيين.
قتادة وعكرمة: كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح أُمة واحدة، وكان بين آدم ونوح عشرة قرون كلّهم على شريعة واحدة من الحق والهدى، ثم اختلفوا في زمن نوح عليه السلام؛ فبعث الله إليهم نوحاً وكان أول نبي بُعث ثم بَعث بعده النبيين.
وقال الكلبي والواقدي: أهل سفينة نوح كانوا مؤمنين كلّهم ثم اختلفوا بعد وفاة نوح.
{فَبَعَثَ الله النبيين} وروي عن ابن عباس قال: كان الناس على عهد إبراهيم أُمة واحدة، كفاراً كلّهم، وولد إبراهيم في جاهلية فبعث الله إليهم إبراهيم وغيره من النبيين.
روى الربيع عن أبي العالية عن أبي قال: كان الناس حين عُرضوا على آدم وأُخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أُمةً واحدة مسلمين كلّهم، ولم يكونوا أُمة واحدة قط غير ذلك اليوم، ثم اختلفوا بعد آدم فبعث الله الرسل وأنزل الكتب، وكذلك في قراءة أُبيّ وعبد الله بن إسحاق: فاختلفوا فبعث الله النبيين.
وقال محمد بن يسار ومجاهد: كان الناس أُمة واحدة يعني آدم وحده، سُمّي الواحد بهذا لأنه يحمل النسل وأبو البشر، ثم خلق الله حوّاء ونشر منهما الناس فانتشروا وكثروا وكانوا مسلمين كلّهم إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا حينئذ فبعث الله حينئذ.
قال الثعلبي: ورأيت فى بعض التفاسير: كان الناس أُمة واحدة في (الجنة) لا أمرٌ عليهم ولا نهي فبعث الله النبيين وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبياً.
{مُبَشِّرِينَ} بالثواب من آمن وأطاع {وَمُنذِرِينَ} محذّرين بالعذاب من كفر وعصى.
موسى بن عبيد عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلّوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني».
{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي الكتب فأنزل معهم الكتاب {بالحق} بالعدل والصدق {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} قراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف وهو في القرآن في أربعة مواضع: ههنا وفي آل عمران وفي النور موضعان.
وقرأها كلّها أبو جعفر القارئ وعاصم الجحدري بضم الياء وفتح الكاف لأنّ الكتاب الحكم على الحقيقة إنّما يُحكم به، ولقراءة العامة وجهان: أحدهما على سعة الكلام كقوله: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29]، والآخر أن معناه: ليحكم كلّ نبيّ بكتابه، وإذا حكم بالكتاب فكأنما حكم الكتاب {فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ} أي في الكتاب {إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أعطوه وهم اليهود والنصارى {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} يعني أحكام التوراة والإنجيل.
قال الفرّاء: لاختلافهم معنيان: أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض كقوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} [النساء: 150] الآية (...) وتكفير ببعض، والآخر تحريفهم وتبديلهم كتاب الله تعالى كقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46].
وقيل: هذه الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه {اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم {بَغْياً} ظلماً وحسداً {بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ} كقوله: {هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43] وقوله: يعودون لما قالوا {مِنَ الحق بِإِذْنِهِ} بعلمه وإرادته فيهم.
وقال ابن زيد في هذه الآية: اختلفوا في الصلاة؛ فمنهم من يصلّي إلى المشرق، ومنهم من يصلّي إلى المغرب، ومنهم من يصلّي إلى بيت المقدس؛ فهدانا الله للكعبة، واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض يوم، ومنهم من يصوم بعض ليلة، فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في يوم الجمعة، أخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له، واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً، فهدانا الله للحق من ذاك، واختلفوا في عيسى فجعلته اليهود ابناً، وجعلته النصارى ربًّا، فهدانا الله منه للحق {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} الآية، قال قتادة والسدّي: نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والمشقّة (والحر والبرد) وضيق العيش، وأنواع الأذى كما قال: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] وقيل: أنها نزلت في حرب اُحد ونظيرها في آل عمران.
وقال: إنّ عبد الله بن أُبي وأصحابه قالو لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى متى تقتلون أنفسكم ولا تملكون أموالكم، ولو كان محمد نبيّاً لما سلّط عليه الأسر والقتل، فقالوا: لا جرم أنّ من قُتل منّا دخل الجنّة، فقالوا: إلى متى تمنون أنفسكم الباطل (وقد استمعتم) إلى هذه الآية.
وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة اشتدّ الضرّ عليهم لأنّهم خرجوا بلا مال فتكون أرضهم وأموالهم في أيدي المشركين؛ فآثروا رضا الله عزّ وجلّ ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأظهر اليهود والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأسرَّ قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييباً لقلوبهم {أَمْ حَسِبْتُمْ} وهو ابتداء بأم من غير استفهام، فالألف والميم صلة معناه: أحسبتم، قاله الفرّاء.
وقال الزّجاج: معناه: بل حسبتم، كقول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ** وصورتها أم أنت في العين أملح

أي بل وأنت، وكل شيء في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وتأويله، ومعنى الآية أظننتم والرسول أن تدخلوا الجنة. {وَلَمَّا يَأْتِكُم} يعني ولم يأتكم وحاصله كقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 3] وقال النابغة:
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ** لمّا تزل برحالنا وكأَنْ قَدِ

أي لم تزل {مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} مَضَوا {مِن قَبْلِكُم} من النبيين والمؤمنين وسُنّتهم.
ثم ذكر ما أصابهم فقال: {مَّسَّتْهُمُ البأسآء} يعني الفقر والضرّ والشدّة والبلاء {والضرآء} المرض والزمانة {وَزُلْزِلُواْ} حُرّكوا بأنواع البلايا والرزايا وخُوِّفوا {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} ما تلك البلايا حتى استبطأوا الرزق، قال الله: {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} واختلف القرّاء في قوله تعالى: {يَقُولَ الرسول} فقرأ مجاهد بفتح وضمّة.
الأعرج: يقول رفعاً، وقرأها الآخرون نصباً، فمن نصب فعلى ظاهر الكلام لأن حتى تنصب الفعل المستقبل، ومَنْ رفع لأنّ معناه حتى قال الرسول، وإذا كان الفعل الذي يلي حتى في معنى الماضي ولفظه لفظ المستقبل، فلك فيه دون الرفع والنصب، فالرفع لأنّ حتى لا بعمل الماضي، والنصب بإضمار أنّ الخفيفة عند البصريين، وبالصرف عند الكوفيين، [مثل قولك:] سرنا حتى ندخل مكة بالرفع أي حتى دخلناها، فاذا كان بمعنى المستقبل فالنصب لا غير.
وقال وهب بن منبه: يوجد فيما بين مكة والطائف سبعون نبيًّا ميتين كان سبب موتهم الجوع والعمل، وقال وهب أيضاً: قرأت في كتاب رجل من الحواريينٍ إذا سُلك بك سبيل البلاء فقرَّ عيناً، فإنه سُلك بك سبيل الأنبياء والصالحين. وإذا سُلك بك سبيل الرخاء فابكِ على نفسك لأنّه حاد بك عن سبيلهم.
شعبة عن عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّ الناس أشدّ بلاء فقال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل من الناس، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلب الدين اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقّة فهي على حسب ذلك، ولا يبرح البلاء عن العبد حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيّة».
وعن عبد الرحمن بن ذهل قال: كان وزير عيسى عليه الصلاة والسلام ركب يوماً فأخذه السبع فأكله فقال عيسى: يا ربّ وزيري في دينك، وعوني على بني إسرائيل، وخليفتي من سلّطت عليه كلبك فأكله، قال: نعم كانت له عندي منزلة رفيعة، لم أجد عمله بلغها فأبتليته بذلك لأبلغه تلك المنزلة.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} الآية، نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخاً كبيراً ذا مال، فقال: يا رسول الله بماذا أتصدق وعلى من أتصدق؟
فأنزل الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} وفي قوله (ذا) وجهان من الأعراب: أحدهما أن يكون ماذا بمعنى أيّ شيء وهو (متعلق) بقوله ينفقون وتقديره: يسألونك أي شيء ينفقون، والآخر أن يكون رفعاً ب (ما) والمعنى: يسألونك ما الذي ينفقون؟
{قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} أي مال {فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} عالم به بتعاليم الدين، هذا قبل أن فرض الزكاة فنسخت الزكاة هذه الآية.

.تفسير الآيات (216- 218):

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} فُرض عليكم القتال، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم، وقال ابن جريج قلت لعطاء: قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ؟ وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال: الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة.
روى ابن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من أصل الإيمان: الكفّ عمّن قال: لا إله إلاّ الله ما لم يره بذنب، ولا يخرجه من الاسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أُمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار».
أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط من الباقين.
عن أحمد بن أنمار: وردّ السلام وتشميت العاطس وهو القول الصحيح المشهور الذى عليه الجمهور.
وقال الزهري والأوزاعي: كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو حرّ، إن استُعين به أعان وإنِ استنفر نفر وإنِ استغني عنه قعد، فإنما يرجح عليه عطاء الواجب المال وإلاّ فلا، من شاء غزا ومن شاء لم يغزُ، ويدلّ على صحة هذا القول قول الله تعالى {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95]، ولو كان القاعدون مضيعين فرضاً لكان لهم السوأى لا الحسنى والله أعلم. {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} شاقّ عليكم، واتفق القرّاء على ضم الكاف ههنا إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي، فإنه قرأها {وَهُوَ كُرْهٌ} بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد، مثل الغَسل والغُسل، والضَّعف والضُّعف، والرَّهب والرُّهب، وقال أكثر أهل اللغة: الكُره بالضم المشقة وبالفتح الاجهاد. بعضهم: الكره بالفتح المصدر، وبالضم الاسم.
وقال أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما يدخل فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقّة وعلى الروح من الخطر لأنهم أظهروا الكراهة أو كرهوا أمر الله عزّ وجلّ.
قال عكرمة: نسختها هذه الآية {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يعني أنهم كرهوه ثم أحبّوه {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قال الله عزّ وجلّ: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن في الغزو أحد الحُسنيين إمّا الظفر والغنيمة، وإمّا الشهادة والجنة {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني القعود عن الغزو {وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} لما فيه من الذل والصغر وحرمان الغنيمة والأجر {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
قال ابن عباس: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا بن عباس ارضَ عن الله بما قدّر وإنْ كان خلاف هواك إنه مثبّت في كتاب الله».
قلت: يا رسول الله أين وقد قرأت القرآن، قال: «مكانين» {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}.
عاصم بن علي المسعودي قال: قال الحسن: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربَّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير:
ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمراً ترتضيه ** خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه

وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز:
لا تكره المكروه عند نزوله ** إن الحوادث لم تزل متباينه

كم نعمة لا تستقل بشكرها ** لله في درج الحوادث كامنه

عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال: بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولاً وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول (امتثل) فركب بلا روح خوفاً فمرّ به رجل وهو يقول:
كم مرّة حفّت بك المكاره ** خارَ لك الله وأنت كاره

فلمّا دخل على المتوكل ولاّه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان.
قال الثعلبي: أنشدني الحسن بن محمد قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدني محمد بن الفرحان:
كم فرحة مطوية لك بين أثناء النوائب ** ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب

قال: وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي:
ربّما خُيّر الفتى وهو للخير كاره ** ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} الآية، قال المفسّرون: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش وهو ابن عمّة النبي صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهراً من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد الله بن جحش كتاباً وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امضِ لما أمرتك، ولا تُكرهنّ أحداً من أصحابك على السير معك، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فاذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر، فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعاً وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال: إنه قد نهاني أن استكره أحداً منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: نجوان أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقيتهم حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف، فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأديماً وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل ابن عبد الله المخزوميان، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خافوهم، فقال عبد الله بن جحش: إنّ القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقاً أمِنُوا، وقالوا: قوم عُمّار، فحلقوا رأس عكاشة ثم أشرف عليهم وقالوا: قوم عُمّار لا بأس عليكم فأمنّوهم.
وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب، فتشاور القوم بينهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين واستأسرا الحكم وعثمان فكانا أول أسيرين في الاسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهراً يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ فيه الحرائر، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه، وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا: واقد: وقدت الحرب وعمروا: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب.
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ودفعتُ العير والأسيرين فأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً، فعظم ذلك على أصحاب السريّة وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الاسلام، وقسّم الباقي بين أصحاب السريّة، فكان أول غنيمة في الاسلام، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال: بل نوقفهم حتى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما، فلمّا قدما فداهم»
.
وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقُتل يوم بئر معونة شهيداً، وأمّا عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة ومات فيها كافراً، وأمّا نوفل فضَرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعاً، وقتله الله وحجب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية» فهذا سبب نزول قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} يعني توخياً، سُمّي بذلك لتحريم القتال فيه لعظم حرمته، وكذلك كان يسمّى في الجاهلية، تنزع الأسنّة وتفصل الالّ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة والنصال عند دخول رجب انطواءً على ترك القتال فيه، وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه، كما قيل: ليل نائم، وسرٌّ كاتم.
يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضاً حتى ينقضي».
{قِتَالٌ فِيهِ} خفضه على تكرير {عن}، تقديره: وهل قتال فيه وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود والربيع بن أنس {قُلْ} يامحمد {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} عظيم ثم كلام ثم قتال {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} منع عن سبيل الله على الابتداء وخبره أكبر، وذلك حين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت {وَكُفْرٌ بِهِ} أي بالله {والمسجد الحرام} أي وبالمسجد {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي أهل المسجد {مِنْهُ أَكْبَرُ} وأعظم وزراً وعقوبة {عِندَ الله والفتنة} أي الشرك أكبر من القتل، يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيرّوهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكّة ومنعهم عن البيت.
ثم قال: {وَلاَ يَزَالُونَ} يعني مشركي قريش وهو فعل لا مفعول له مثل عسى {يُقَاتِلُونَكُمْ} يا معشر المؤمنين {حتى يَرُدُّوكُمْ} يصدّوكم ويصرفوكم {عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ} جزم بالنسق ولو كان جواباً لكان (...) {وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ} بطلت {أَعْمَالُهُمْ} حسناتهم {فِي الدنيا والآخرة} وأصل الحبط من الحباط (وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط) وهو أن تنتفخ بطنه فيموت، ثم سمّي الهلال حبطاً، وقرأ الحسن حَبطت بفتح الباء في جميع القرآن يحبط بكسر الباء {وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فقال أصحاب السريّة: يا رسول الله هل نؤثم على رجبنا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزواً؟ فأنزل الله تعالى {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ} فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم {وَجَاهَدُواْ} المشركين في نصرة الدين {فِي سَبِيلِ الله} في طاعة الله، فجعلها جهاداً {أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.