فصل: تفسير الآيات (5- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (5- 12):

{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ} داعيات، وقيل: مُصليات.
{تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} يُسحَن معه حيث ما ساح، وقيل: صائمات.
وقال زيد بن أسلم وأبنهُ ويمان: مهاجرات.
{ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} والآية واردة في الإخبار، عن القدرة لا عن الكون في الوقت؛ لأنهُ تعالى قال: {إِن طَلَّقَكُنَّ} وقد علِمَ أنّهُ لا يطلقهنّ، وهذا قوله: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد صلى الله عليه وسلم {ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} يعني: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر وعلّموهم وأدنوهم تقوهم بذلك ناراً {وَقُودُهَا الناس والحجارة عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ} فظاظ {شِدَادٌ} أقوياء لم يخلق اللّه فيهم الرّحمة، وهم الزبانية التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النّار.
{لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} {ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة.
وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمِّهِ على المصدر، وهي قراءة الحسن.
قال المبرّد: أراد توبة ذات نصح، واختلف المفسِّرون في معنى التوبة النّصوح.
وقال عُمَر وأُبي ومعاذ: التوبة النصوح أنْ يتوب ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعهُ معاذ.
وقال الحسن: هي أنْ يكون العبد نادماً على ما مضى، مجمعاً على أنْ لا يعود فيه.
الكلبي: أن يستغفر باللسان، ويندمُ بالقلب، ويمسك بالبدن.
قال قتادة: هي الصادقة الناصحة.
سعيد بن جبير: هي توبة مقبولة، ولا تقبل مالم يكن فيها ثلاث: خوف أن لا تُقبل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات.
سعيد بن المسيّب: توبة تنصحون بها أنفسكم.
القرظي: تجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والأقلاع بالأبدان، وإظهار ترك العود بالجَنان، ومهاجرة سيّئ الخلاّن.
سفيان الثوري: علامة التوبة النّصوح أربع: القلّة، والعلة، والذلة، والغربة.
فضيل بن عياض: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، ولا يزال كأنّهُ ينظرُ إليه.
أَبُو بكر محمد بن موسى الواسطي: هي توبة لا لعقد عوض؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهيّة نفسه، ثم تاب طلباً لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله. أَبُو بكر الورّاق: هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثلاثة الذين خلِّفوا.
أَبُو بكر الرقاق المصري: ردّ المظالم واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. رويم الرّاعي: هو أن تكون للّه وجهاً بلا قفاً كما كنت لهُ عند المعصية قفاً بلا.
رابعة: توّبة لابيات منها.
ذو النون: علامتها ثلاث: قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام.
سقيق: هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندّامة، لينجو من آفاتها بالسّلامة.
سري السقطي: لا تصح التوبة النصوح إلاّ بنصحة النفس من المؤمنين؛ لأن مَن صحت توبته أحب أن يكون النّاس مثله.
الجنيد: هي أَن ينسى الذنب فلا يذكره أبداً؛ لأن من صحت توبته صار محبّاً للّه، ومن أَحب اللّه نسي ما دون اللّه.
سهل: هي توبة أهل السُنّة والجماعة لأنّ المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلّى اللّه عليه وسلم: «حجب اللّه على كل صاحب بدعة أن يتوب».
أَبُو الأَديان: هي أَن يكون لصاحبها دمع سفوح، وقلب عن المعاصي جموع، فاذا كان ذلك فإنّ توبته نصوح، وأمارات التوبة منه تلوح.
فتح الموصلي: علامتها ثلاث: مخالفة الهوى، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظماء.
{عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} على الصراط.
{يَقُولُونَ} إذا طفئ نور المنافقين.
{رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} ثمّ ضرب مثلا للصالحات، والصالحات من النساء فقال عزّ من قائل: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأت نُوحٍ} واسمها واعلة وامرأة لوط واسمها واهلة. وقال مقاتل: والعدو والهة.
{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} في الدين، وما بغت امرأة النّبي قط.
قال ابن عبّاس: ليس بخيانة الزّنا وهما امرأتا نوح ولوط عليهما السلام وإنّما خيانتهما أنّهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تخبر النّاس أنّه مجنون وتُطلع على سرّه، فاذا آمنَ بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به. وأمّا امرأة لوط فكانت تدلّ قومه على أضيافه.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا} مع توبتهما {مِنَ الله شَيْئاً وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} يخوّف عائشة وحفصة رضي اللّه عنهما.
{وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ} وهي آسية بنت مزاحم.
قال المفسرون: لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلمّا تبيّن إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأَربعة أَوتاد وأَلقاها في الشمس وأَمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها، فلمّا أتوها بالصخرة {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} وأبصرت بيتها في الجنّة من دُرّة، وانتزع اللّه روحها، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون.
وقال الحسن وإبن كيسان: رفع اللّه امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب.
أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن حمدون، أخبرنا علي بن عبدان، حدّثنا أَبُو الأزهر، حدّثنا أسباط عن سُليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال: كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس، وإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة.
{وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي دينه.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد، حدّثنا علي بن حرث، حدّثنا أَبُو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن إبن عبّاس في قول اللّه تعالى {وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} الكافرين، قطع اللّه بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية الغير لا تضرّه إذا كان مطيعاً.
{وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} أي في درعها، لذلك ذكر الكناية.
{وَصَدَّقَتْ} قراءة العامّة بالتشديد، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف.
{بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} قراءة العامّة بالجمع.
وقرأ الحسن وعيسى والجحدري: الكلمة على الواحد يعنون عيسى عليه السلام {وَكُتُبِهِ} قرأ أَبُو عمر ويعقوب: وكتبه، على الجمع، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال: لأنّها أَعم.
وقرأ الباقون: و{وكتابه}، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد.
{وَكَانَتْ مِنَ القانتين} المطيعين، مجازه: من القوم العابدين، ولذلك لم يقل قانتات، نظيره {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43].
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا أحمد بن محمّد بن اسحاق السني ومحمد بن المظفّر قالا: حدّثنا علي بن أحمد بن سليمان، حدّثنا موسى بن سابق، حدّثنا إبن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل: أنّ النبّي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال: «أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل اللّه في الكره خيراً كثيراً، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منّي السلام». قالت: يا رسول اللّه من هنّ؟ قال: «مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أُخت موسى». شكَّ الراوي، فقالت: بالرفاه والبنين.
أخبرنا الحسن بن محمد، حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة، حدّثنا عبيد اللّه أحمد بن منصور الكسائي، حدّثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني، حدّثنا أَبُو أُسامة عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع: آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون، ومريم أبنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

.سورة الملك:

مكية، وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة حرفاً.
حدّثنا أَبُو محمد المخلدي أخبرنا أَبُو العباس السراج، حدّثنا العباس بن عبد اللّه الترمذي، حدّثنا حفص بن عمر، حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «وددتُ أنّ {تبارك الذي بيده المُلك} في قلب كل مؤمن».
أخبرني أَبُو الحسن الفارسي، حدّثنا أَبُو عبد اللّه محمد بن يزيد، حدّثنا أَبُو يحيى البزار، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا أَبُو داود، حدّثنا عمران عن قتادة عن عباس الحسبي عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ سورة من كتاب اللّه ما هي إلاّ ثلاثون آية شفعت لرجُل وأخرجته يوم القيامة من النّار وأدخلته الجنّة وهي سورة تبارك».
أخبرنا أَبُو الحسن بن أبي إسحاق المزكي، وأَبُو الحسن بن أبي الفضل العدل قالا: حدّثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصّفار، حدّثنا سعدان بن نصر، حدّثنا معّمر بن سليمان عن الخليل بن مرّة عن عاصم بن أبي النّجود رواه عن زرّ بن حُبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل قد كان يقوم بسورة المُلك، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لك عليّ سبيل كان يقرأ بي سورة المُلْك، ثم قال: هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب.
بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 9):

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)}
{تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {الذي خَلَقَ الموت والحياة} قدّم الموت على الحياة لأنّهُ إلى القهر أقرب، كما قدّم البنات على البنين في قوله: {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور} [الشورى: 49].
قال قتادة: أذلّ اللّه إبن آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء. وقيل: قدّمه لأنّهُ أقدم، وذلك أنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموات كالنطفة والتراب ونحوها، ثم اعترصت عليها الحياة.
قال ابن عباس: خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء ولا يجد ريحه شيء إلاّ مات، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء عليهم السلام يركبونها، خطوها مد البصر، وهي فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء، ولا تطأ شيئاً ولا يجد ريحها شيء إلاّ حيّ، وهي التي أخذ السامري من أثرها؛ فألقاها على العجل فحيى.
{لِيَبْلُوَكُمْ} فيما بين الحياة إلى الموت، {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أخبرنا الحسن بن محمد بن فنجويه، حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن برزة، حدّثنا الحرث بن أُسامة، حدّثنا داود بن المحر، حدّثنا عبد الواحد بن زياد العبدي عن كليب بن وائل عن إبن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه تلا {تبارك الذي بيده الملك} حتى بلغ إلى قوله: {أيكم أحسن عملا}. ثم قال: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه، وأسرعكم في طاعة اللّه».
وبإسناده عن داود بن المحر، حدّثنا ميسر عن محمد بن زيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال: قلت: يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه تعالى {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ما عُني به؟ قال: «يقول أيّكم أحسن عقلا».
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أتمّكم عقلا وأشدّكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً».
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، حدّثنا أَبُو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن أحمد، حدّثنا أَبُو بكر بن أبي الدّنيا القرشي، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سقيق عن إبراهيم عن الأشعث عن فضيل بن عَياض {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال: أخلصه وأصوبه، قلت: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إنّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتّى يكون خالصاً صواباً، والخالص: إذا كان للّه، والصّواب: إذا كان على السُنّة.
وقال الحسن: يعني أيّكم أزهد في الدنيا زهداً، وأترك لها تركاً.
وقال سهل: أيّكم أحسن توكّلا على اللّه.
قال الفرّاء: لم يرفع البلوى على أي؛ لأنّ فيما بين أي والبلوى إضماراً وهو كما يقول في الكلام: بلوتكم لأنظر أيّكم أطوع، ومثله: {سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] أي سلهم وانظر أيّهم. فأيّ رفع على الابتداء وأحسن خبره.
{وَهُوَ العزيز الغفور * الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} طبقا على طبق، بعضها فوق بعض، يقال: أطبقت الشيء إذا وضعت بعضه فوق بعض.
قال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذمّ رجلا فقال: شرّه طباق، وخيره غير باق.
قال سيبويه: ونصب طباقاً لأنّه مفعول ثان.
{مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي: من تفوّت بغير ألف، وهي اختيار أبي عبيد وقراءة عبد اللّه وأصحابه.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد الورّاق، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد اللّه بن هاشم، حدّثنا يحيى بن سعيد القّطان عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه أنّه كان يقرأ: من تفوّت.
قال الأعمش: فذُكرتْ لأبي رزين فقال: لقد سمعتها من عبد اللّه فيما قبلتها وأخذتها، وقرأ تفاوت، وهي قراءة الباقين واختيار أبي حاتم وهما لغتان مثل التّعهد التّعاهد، والتحمّل والتحامل، والتطّهر والتطاهر. ومعناه: ماترى في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض وتباين، بل هي مستوية مستقيمة، وأصله من الفوت، وهي أَنْ يفوت بعضها بعضاً لقلّة استوائها، يدلّ عليه قول إبن عبّاس: من تفرق.
{فارجع} فَردّ {البصر} قال الفراء: إنّما قال فارجع وليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع على ذلك الفعل؛ لأَنّ مجاز الكلام: أُنظر ثمّ ارجع البصر.
{هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} فتوق وشقوق وخروق.
الضحّاك: اختلاف وشطور، عطية: عيب، إبن كيسان: تباعد، القرظي: قروح، أَبُو عبيدة: صدوع قال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه ** هواك فليم فالتأم الفطورُ

وقال آخر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ** ولا سُكر ولم يبلغ سرور

وقال آخر:
بنى لكمُ بلا عمد سماءً ** وزيّنها فما فيها فطور

{ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ} رُدَّ البصر وكرّر النظر {كَرَّتَيْنِ} مرتين، {يَنْقَلِبْ} ينصرفْ ويرجع {إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً} خاشعاً، ذليلا، مبعداً {وَهُوَ حَسِيرٌ} يعني كليل، منقطع لم يُدرك ماطلب قال الشاعر:
نظرتُ إليها بالمحصب من منى ** فعاد إليّ الطرفُ وهو حسير

أخبرنا إبن فنجويه، حدّثنا موسى بن محمد، حدّثنا الحسن بن علويه، حدّثنا إسماعيل بن عيسى، حدّثنا المسيب، حدّثنا إبراهيم البكري عن صالح بن جبار عن عبد اللّه بن يزيد عن أبيه، قال المسيب: وحدّثنا أَبُو جعفر عن الرّبيع عن كعب قالا: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء، والثالثة حديد، والرابعة صفر وقال نحاس والخامسة فضة، والسادسة ذهب والسّابعة ياقوتة حمراء، وبين السّماء السّابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور، واسم صاحب الحجب (فنطاطروس). {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} أي الكواكب، واحدها مصباح وهو السراج.
{وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً} مرمىً {لِّلشَّيَاطِينِ} إذا اخترقوا السّمع، {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} في الآخرة {عَذَابَ السعير} ما جعلنا لهم في الدنيا من الشهب، و{وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} أيضاً {عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير} {إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} صوتاً كصوت الحمار {وَهِيَ تَفُورُ} تزفر وتغلي بهم كما يغلي القدر.
وقال مجاهد: تفور بهم كما يفوّر الحبّ القليل في الماء الكثير.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} يتفرق بعضها من بعض على أهلها غيظاً وانتقاماً للّه تعالى {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} قومٌ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رسول في الدنيا {قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا} للرُسُل {مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ}.