فصل: تفسير الآيات (14- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (14- 24):

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)}
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا} أي قريبة منهم ظلال أشجارها، وفي نصب الدانية أوجه: أحدها العطف بها على قوله متكئين، والثاني على موضع قوله: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} ويرون دانية، والثالثة على المدح، وأتت دانية لأن الظلال جمع وفي قراءة عبد الله ودانياً عليهم ليقدم الفعل، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الإستئناف.
{وَذُلِّلَتْ} سخّرت وقرّبت {قُطُوفُهَا} ثمارها {تَذْلِيلاً} يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حامد بن محمد قال: حدّثنا موسى بن إسحاق قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائماً لم يؤذه ومن أكل جالساً لم يؤذه ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه فذلك قوله سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}.
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.
أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال: حدّثنا سفيان وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن حمدويه قال: حدّثنا محمود ابن آدم قال: حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه: {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ} قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة.
وقال الكلبي والثمالي: إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها. {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص، وقال الربيع والقرطبي: على قدر الكفّ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم.
وأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا أبو حامد المستملي قال: أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال: أخبرنا هشام قال: أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: سمعته قرأها قدروها بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان. قال: وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص.
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً} سوق ومطرب من غير لدع، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم:
كأن جنيا من الزنجبيل خالط ** فاها وأريا مشورا

وقيل: هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل.
قال قتادة: شربها المقرّبون صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة.
{عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} قال قتادة: سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا، وقال مجاهد: حديدة الجرية. يمان: طيبة الطعم والمذاق، تقول العرب: هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل، أبو العالية ومقاتل بن حيان: سميت سلسبيلا؛ لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك، ومعنى {تسمى} توصف؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} وهو أن أدناهم يعني أهل الجنة منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: هو استئذان الملائكة عليهم، وقيل: {وَمُلْكاً} لا زوال له. قال أبو بكر الورّاق: ملكاً لا يتعقبه هلك، وقال محمد بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أراد شيئاً كان.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ} قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب {عَالِيَهُمْ} بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم، واختاره أبو عبيد إعتباراً بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما {عاليتهم}، وتفسير ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف، وقيل: هو كقوله: {لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3] وقد مضى، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف، وقيل: معناه عالياً لهم ثيابها كقوله: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] ونحوها.
{خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خضر بالخفض على نعت السندس والاستبرق بالرفع على نعت الثياب، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر.
{وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم: يعني أنه لا يصير نجساً ولكنه يصير رشحاً في أيديهم كريح المسك، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم، فإذا أكل ما شاء سُقي شراباً طهوراً فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحاً يخرج من جلده أطيب ريحاً من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته، وقيل: يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة.
وقال جعفر: يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان.
وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة.
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا عبد الله محمّد بن علي الشاشي يقول: سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} قال: طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال: إنّ لله شراباً ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت طيّب الحمّال يقول: صلّيت خلف سهل بن عبد الله العتمة فقرأ قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ شيئاً، فلمّا فرغ من صلاته قيل له: إتشرب أم تقرأ؟ قال: والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته.
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبد الله بن عمار الموصلي قال: حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال:جاء رجل من الحبشة إلى النبي عليه السلام عليه السلام يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سل واستفهم».
فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصوَر والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟ قال: «نعم» ثمّ قال النبي عليه السلام: «والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام»، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلاّ الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة».
قال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ قال: «إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله، قال: فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلاّ أن يتطوّل الله تعالى برحمته» قال: ثمّ نزلت {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} إلى قوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} الآيات.
قال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة.
قال النبي عليه السلام: «نعم» فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه. فقال ابن عمر: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليّه في حفرته بيده.
{إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً * إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً} قال ابن عبّاس: متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال: {نزلنا}.
{فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} يعني وكفوراً. الألف صلة، وقال الفرّاء: أو معنى [....] كقول الشاعر:
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا ** وجد عجول أضلها ربعُ

أو وجد شيخ أضّل ناقته ** يوم توافى الحجيج فاندفعوا

أراد: ولا وجد شيخ.
قال قتادة: الآثم: الكفور، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فُرضت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال: لئن رأيتُ محمداً يصلي لوطأت على عنقه. فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مقاتل: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر.
{أَوْ كَفُوراً} يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله سبحانه {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ} أنها تعني عتبة {أَوْ كَفُوراً} تعني ولا كفوراً وهو الوليد بن المغيرة.

.تفسير الآيات (25- 31):

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}
{واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ} تعني صلاتي العشاء {وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} يعني التطوّع {إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ} أمامهم وقدّامهم كقوله: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} [الكهف: 79] وقوله سبحانه: {وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ} [المؤمنون: 100].
{يَوْماً ثَقِيلاً} وهو يوم القيامة، {نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ}. قوّينا وحكمنا. {أَسْرَهُمْ} قال مجاهد وقتادة ومقاتل: خلقهم، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال: رجل حسن الاسّر أي الخلق، وفرس شديد الأسّر، وقال أبو هريرة والربيع: مفاصلهم، وقال الحسن: أوّصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} قال: الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال: ما أحسن ما أسَر قتبه أي شدّه، ومنه قولهم: خُذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا: هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه. قال لبيد:
ساهم الوجه شديد اسّره ** مغبط الحارك محبوك الكفل

وقال الأخطل:
من كلّ مجتنب شديد أسره ** سلس القياد تخاله مختالا

{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هذه} السورة {تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي وسيلة بالطاعة. {وَمَا تَشَآءُونَ}. بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام، غيرهم بالتاء. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلاّ ما شاء الله، {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً * يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين}، وقرأ أبان بن عثمان والظالمون. {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}.

.سورة المرسلات:

مكّية، وهي ثمان مائة وستة عشر حرفاً، ومائة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسون آية.
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا محمد بن زيد العدل قال: حدّثنا أبو يحيى البزاز قال: حدّثنا منصور قال: حدّثنا محمد بن عمران قال: حدّثنا أبي عن مجالد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين».
وروى الأسود بن يزيد عن عبدالله بن مسعود: قرأت {والمرسلات عرفاً} على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ونحن نسير.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 32):

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)}
{والمرسلات عُرْفاً} يعني الرياح بعضها بعضاً كعرف الفرس، وقيل كثيراً. يقول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه فأكثروا، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة، ورواية أبي العبيد عن ابن مسعود، والعوفي عن ابن عباس، وقال أبو صالح ومقاتل: يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف اسم واحد من أمر الله ونهيه، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود.
{فالعاصفات عَصْفاً} يعني الرياح الشديدات الهبوب.
{والناشرات نَشْراً} يعني الرياح اللينة وقال أبو صالح هي المطرق. قال الحسن: هي الرياح يرسلها الله نشراً بين يدي رحمته اقسم الله بالرياح ثلاث مرات، مقاتل: هم الملائكة ينشرون الكتب.
{فالفارقات فَرْقاً} قال ابن عباس وأبو صالح ومجاهد والضحاك: يعني الملائكة التي تفرّق بين الحقّ والباطل، وقال قتادة والحسن وابن كيسان: يعني آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام، وقيل: يعني السحابات الماطرة تشبيهاً بالناقة الفارق، وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ونوق فراق.
{فالملقيات ذِكْراً} يعني الملائكة التي تنزل بالوحي نظيره قوله سبحانه: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4]. {عُذْراً أَوْ نُذْراً} يعني الأعذار والإنذار واختلف القرّاء فيهما فخففهما الأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد قال: لأنهما في موضع مصدرين أنما هو الأعذار والإنذار وليس بجمع فيثقّلا، وثقلهما الحسن، وهي رواية الأعشى والجعفي عن أبي بكر عن عاصم، والوليد عن أهل الشام، وروح عن يعقوب الياقوت بتثقيل النذر وتخفيف العذر وهما لغتان، وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة {عُذْراً أَوْ نُذْراً} بالواو العاطفة ولم يجعلا ألف بينهما.
{إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} محي نورها، {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} شقت {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} قلعت من أماكنها، {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} جمعت لميقات يوم معلوم، واختلف القراء فيه فقرأ ابو عمرو {وُقِّتَتْ} بالواو وتشديد القاف وعلى الأصل، وقرأ أبو جعفر بالواو والتخفيف، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: اقتت بالألف وتخفيف القاف، وقرأ الآخرون بالألف والتشديد وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم وكّدت واكّرت وورّخت الكتاب وأرّخته وودّشت من القوم وأرّشت ووشاح وأشاح وأكاف ووكاف ووسادة وأسادة، وقال النخعي: رعدت.
{لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أي وقتت من الأجل وقيل: أخّرت {لِيَوْمِ الفصل} {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} {أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} من الأمم المكذّبين في قديم الدهر {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين} السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب، وقرأ الأعرج نتبعهم بالجزم وقرأ ابن مسعود سنتبعهم.
{كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين} {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} {إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ} وهو وقت الولادة {فَقَدَرْنَا} قرأ عليّ والحسن والسلمي وطلحة وقتادة وأبو إسحاق وأهل المدينة وأيوب بالتشديد من التقدير وهي اختيار الكسائي، وقرأ الباقون بالتخفيف من القُدرة واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {فَنِعْمَ القادرون} ويجوز أن يكون التشديد والتخفيف بمعنى واحد كقوله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ} [الواقعة: 60] فهي بالتخفيف والتشديد، {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً} وعاء {أَحْيَآءً وَأَمْواتاً} تجمعهم أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها وقال بنان الصفّار: خرجنا في جبانة مع الشعبي فنظر إلى الجبانة فقال: هذه الأموات، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كفات الأحياء. وأصل الكفت: الجمع والضمّ، وكانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى، ومثلّه قول النبي عليه السلام «خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب واطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنَّ للشيطان انتشاراً وخطفة» يعني بالليل، ويقال للأرض: كافتة.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} عذباً {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة: {انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ} يعني دخان جهنم إذا ارتفع أشعب، وقيل: أنها عنق يخرج من النار فينشعب ثلاث شعب فأمّا النور فيقف على رؤوس المؤمنين والدخان يقف على رؤس المنافقين واللهب الصافي يقف على رؤس الكافرين، وقال مقاتل: هو السرادق والظل من يحموم.
{لاَّ ظَلِيلٍ} لا كنين {وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب} إنّها يعني جهنم {تَرْمِي بِشَرَرٍ}، وهي ما تطاير من النار إذا التهبت واحدتها شررة {كالقصر} وقرأ عيسى بشرار وهي لغة تميم وأحدها شرارة.
{كالقصر} وقرأه العامّة بسكون الصاد، وقال ابن مسعود: يعني الحصون والمدائن وهو واحد القصر وهي رواية الوالي عن ابن عباس قال: كالقصر العظيم، وقال القرظي: إنّ على جهنم سوراً فما خرج من وراء السور مما يرجع إليه في عظم القصر ولون النار.
وروى سعيد عن عبدالرحمن بن عابس قال: سألت ابن عباس عن قوله سبحانه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر} قال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخره للشتاء فكنّا نسمّيها القصر، وقال مجاهد: هي حزم الشجر، وقال سعيد ابن جبير والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل تمرة وتمر وجمر وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس: كالقصر بفتح الصاد أراد أعناق النخل، والقصرة العنق وجمعها قصر وقصرات، وقرأ سعيد بن جبير كالقصر بكسر القاف وفتح الصاد قال أبو حاتم: ولعله لغة ونظيرها في الكلام حاجة وحوج، كأنه ردّ الكناية إلى اللفظ.