فصل: تفسير الآيات (226- 229):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (226- 229):

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} قتادة: كان الإيلاء طلاق أهل الجاهلية. سعيد بن المسيّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يريد المرأة ولا يحبّ أن يتزوجها غيره يحلف ألاّ يقربها أبداً، وكان يتركها كذلك لا أيّماً ولا ذات بعل، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله الأجل الذي يعلم به عند الرجل في المرأة وهي أربعة أشهر، فأنزل الله تعالى {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} وفي حرف عبد الله للذين آلوا من نسائهم على أنها الماضي، وقرأ ابن عباس: للذين يقسمون من نسائهم. الإيلاء: الحلف، يقال: آلى يولي، إيلاء، قالت الخنساء:
فآليت آسى على هالك ** أو أسأل نائحة مالها

والاسم منه الألية، قال الشاعر:
عليّ ألية وصيام ** أمسك طارها ألاّ يكفّ

وفيه أربع لغات، أليّة وألوة وللوة وآلوة ومعنى الآية {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكره اكتفى بدلالة الكلام عليه، والتربّص: التريث والتوقف، وزعم بعضهم أنّه من المقلوب، قالوا: التربّص: التصبّر، فمثلا أن يحلف الرجل أن لا يقرب امرأته فيقول لها: والله لا أجامعك أو لا يجتمع فراشي بفراشك، ونحو ذلك من ألفاظ الجماع، وكل حين يحلفها الرجل على امرأته فيصير ممتنعاً من جماعها أكثر من أربعة أشهر إلاّ بشيء يكون في بدنه وماله فهو إيلاء، وما كان دون أربعة أشهر فليس بإيلاء.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: الإيلاء يمين في الغضب فإذا حلف في حال الرضا فليس بإيلاء، وعامة الفقهاء يجرونه على العمد، ويلزمون الإيلاء في كل يمين منع من جماعها في حال الرضا والغضب، فإذا آلى تُبان فإنْ هو جامع قبل مضي أربعة أشهر كفّر عن يمينه ولا شيء عليه، والنكل ثابت هو إنْ هو لم يجامع حتى تنقضي أربعة أشهر، فاختلف الفقهاء فيه، فقال بعضهم: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفِ بانت منه بتطليقة وهي أملك بنفسها، وهذا قول عبد الله بن مسعود ومحمد بن ثابت وقتادة ومقاتل بن حبّان والكلبي وأبي حنيفة، يدلّ عليه قول ابن عباس: عزيمة الطلاق إمضاء أربعة أشهر.
وقال بعضهم: إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع فإن عفّت المرأة ولم تطلب حقّها من الجماع فلا شيء على الرجل ولا يقع به طلاق وهما على نكاح ما لو قامت على ذلك، وإن طلبت حقها وقف الحاكم زوجها، فإما أن يفي وإما أن يطلّق، فإنْ أبى الفيئة والطلاق جميعاً طلق عليه الحاكم، وقيل: يحبسه أبداً حتى يطلّق، وجملة هذا القول الذي ذكروا من الوقف قول عمر وعثمان وعليّ وأبي الدرداء وابن عمر وعائشة وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد، ومذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث.
وقال يونس الصواف: أتيت سعيد بن المسيّب فقال: من أين؟ قلت: من الكوفة، قال: وإنّهم يقولون في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فلا شيء عليه ولا أربع سنين حتى لو يفيء أن يطلّق وألغى الجماع فإن كان عاجزاً عن الجماع بمرض أو عنّة أو نحوها فاء بلسانه وأُشهد.
وقال: كان إبراهيم النخعي يقول: ألغي باللسان على كل حال، فإذا فاء فعليه الكفارة ليمينه في قول الفقهاء، إلاّ الحسن وإبراهيم وقتادة فإنهم أسقطوا الكفارة عن المولى إذا فاء لقوله: {فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وقال إبراهيم: هذا في إسقاط الحق به لا في الكفارة.
{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} أي حققوا وصدّقوا ونووا، وقرأ ابن عباس: وإن عزموا السراح، وهو الطلاق أيضاً.
{فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} لقولهم {عَلِيمٌ} بنيّاتهم، وفيه دليل على أنّها لا تطلّق بعد مضي الأربعة الأشهر ما لم يطلقها زوجها أو السلطان لأنه شرط فيه العزم، ولأن السماع يقتضي (...) والقول هو الذي يسمع، والسماع راجع إلى الطلاق والله أعلم.
{والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} الآية، قال مقاتل بن حيان والكلبي: كان الرجل أول الإسلام إذا طلّق امرأته ثلاثاً وهي حبلى فهو أحق برجعتها ما لم تضع ولدها إلى أن نسخ الله ذلك بقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} الآية، وطلّق إسماعيل بن عبد الله الغفاري امرأته قتيلة وهي حبلى.
وقال مقاتل: هو مالك بن الأشدق رجل من أهل الطائف، قالوا جميعاً: ولم يشعر الرجل بذلك ولم تخبره بذلك، فلمّا علم بحبلها راجعها وردّها إلى بيته، فولدت وماتت ومات ولدها، وفيها أنزل الله تعالى هذه الآية {وَالْمُطَلَّقَاتُ} أي المخلّيات من حبال أزواجهن وهو من قولهم: أطلقت الشيء من يدي وطلقته إذا خلّيته، إلاّ أنهم لكثرة استعمالهم اللفظين فرّقوا بينهما ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات وبذلك أنزل القرآن {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] والاسم منه الطلاق، ويقال: طلق الرجل المرأة وطلّقت وطلقت معاً، وأصله من قولهم: انطلق الرجل إذا مضى غير ممنوع، ويقال للشوط الذي يجريه الفرس وغيره من غير أن يمنع طلق.
{يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن بأنفسهن ولا يتزوجن ثلاثة قروء، جمع قُرء، مثل قرع وجمعه القليل قروء والجمع الكثير أقرُاء وقرؤ، واختلف الفقهاء في القروء، فقال قوم: هي الحيض، وهو قول علي وعمر وابن مسعود وأبي موسى الأشعري ومجاهد ومقاتل بن حيّان، ومذهب سفيان وأبي حنيفة وأهل الكوفة، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» والصلاة إنما تترك في حال الحيض، يقول الراجز أنشده تغلب عن ابن الأعرابي:
له قروء كقروء الحائض

يعني أنّ عداوته تهيج في أوقات معلومة كما أن المرأة تحيض بأوقات معلومة، فمَنْ قال بهذا القول قال: لا تحلّ المرأة للأزواج ولا تخرج من عدّتها ما لم تنقضِ الحيضة الثالثة، يدل عليه ما روى الزهري عن ابن المسيّب أن علياً قال في الرجل يطلق امرأته واحدة أو ثنتين: لا يحل لزوجها الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلّ لها الصلاة.
وقال آخرون: هي الأطهار وهو قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة ومذهب مالك والشافعي وأهل المدينة، واحتجوا بقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] «وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمّا طلّق ابن عمر امرأة وهي حائض لعمر: مُرْه فلْيراجعها، فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك»، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله عزّ وجلّ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ العدّة الأطهار من الحيض وقرأ {فَطَلِّقُوهُنَّ} لتتم عدتهنّ، وهو أن يطلقها طاهراً لأنها حينئذ تستقبل عدّتها، ولو طلقت أيضاً لم تكن مستقبلة عدّتها إلاّ بعد الحيض، ويدلّ على تلك القروء والأطهار قول الشاعر وهو الأعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ** تشد لأقصاها عزيم غزائكا

مورثة مالاً وفي الحي رفعة ** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والقُرء في هذا البيت الطهر، لأنّه خرج إلى الغزو ولم يغش نساءه فأضاع اقراءهنّ أي أطهارهن، ومن قال بهذا القول قال: إذا حاضت المرأة الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلّت للزواج، يدلّ عليه ما روى الزهري عن عروة وعمرة عن عائشة، قالت: «إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلّت للأزواج، قالت عمرة: وكانت عائشة تقول: القرء: الطهر ليس الحيض».
ابن شهاب قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحداً من فقهائنا إلاّ وهو يقول هذا، يريد قول عائشة الأقراء الأطهار، وإنما وقع هذا الاختلاف لأن القُرء في اللغة من الأضداد يصلح للمعنيين جميعاً، يقول أقرأت المرأة إذا حاضت وأقرأت إذا طهرت، فهي تقرى، واختلفوا في أصلها، فقال أبو عمر وأبو عبيدة هو وقت مجيء الشيء وذهابه، يقال: رجع فلان لقُرئه وقاريه أي لوقته الذي يرجع فيه، وهذا قاري الرياح أي وقت هبوبها.
قال مالك بن الحرث الهذلي:
كرهت العقر عقر بني شليل ** إذا هبّت لقارئها الرياح

أي لوقتها، ويقال: أقرأت النجوم إذا طلعت، وأقرأت إذا أفلت.
قال كثير:
إذا ما الثريا وقد أقرأت ** أحسُّ السما كان منها أُفولا

فالقرء للوجهين، لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت، وقيل: هو من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، قال عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل إذماء بكر ** هجان اللون لم تقرأ جنينا

أي لم تحمل، ولم تضم في رحمها، وإنما تقول العرب: ما قرأت الناقة بلا قرط أي لا تضمّ رحمها على ولد، ومنه قولهم: قرأت القرآن أي نطقت به مجموعاً، هذا اختيار الزجّاج.
قال: ومنه قريت الماء في المقراة، ترك همزها والأصل فيه الهمز، فالقرء احتباس الدم واجتماعه وهو يكون في حال الطهر والحيض جميعاً، إلاّ أن الترجيح للطهر لأنّه يجمع الدم ويحبسه، والحيض يرخّيه ويرسله والله أعلم.
حكم الآية:
اعلم أن لفظها خبر ومعناها أمر، كقوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} وأمثاله، والعدّة على ضربين: عدّة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها، فعدّة المطلقة على ثلاثة أضرب: عدة الحائض ثلاثة قروء، وعدّة الحامل أن تضع حملها، وعدّة الصغيرة التي لم تحض والكبيرة التي آيست ثلاثة أشهر، وعدّة المتوفى عنها زوجها ضربان: إن كانت حاملا فعدّتها أن تضع حملها وإلاّ فعدّتها أربعة أشهر وعشرة، وعدّة الإماء فيما له نصف ومن الأقراء قُرآن لأنها لا نصف ولا عدّة على متن لم يدخل بها إذا توفي عنها زوجها، فعدّتها أربعة أشهر وعشراً.
{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} قال عكرمة وإبراهيم: يعني الحيض، وهو أن تعتدّ المرأة فيريد الرجل أن يراجعها فتقول: إنّي قد حضت الثالثة. ابن عباس وقتادة ومقاتل: يعني الحمل في الولد، فمعنى الآية لا يحلّ لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحمل ليبطلن حق الزوج في الرجعة والولد، فإنّ المرأة أمينة على فرجها.
{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر وَبُعُولَتُهُنَّ} أزواجهنّ، وهو جمع بعل، كالفحولة والذكورة والحزولة والخيوطة، ويقال: تبعّلت المرأة إذا تزوجت، ومنه قيل للجماع بعال، وإنما سمي الزوج بعلا لقيامه بأُمور زوجته، وأصل البعل السيّد والمالك، قال الله تعالى {أَتَدْعُونَ بَعْلاً} [الصافات: 125] وقرأ مسلم بن محارب {وَبُعُولَتُهُنَّ} بإسكان التاء لكثرة الحركات، والاتباع أفصح وأحسن وأوفق وأولى.
{أَحَقُّ} أولى {بِرَدِّهِنَّ} أي برجعتهن {فِي ذَلِكَ} أي في حال العدّة {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً} لا إضراراً، وذلك إن الرجل إذا أراد الإضرار بامرأته طلّقها واحدة وتركها حتى إذا قرب انقضاء عدّتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلّقها أُخرى وتركها كما فعل في الأولى، ثم راجعها فتركها مدّة ثم طلقها {وَلَهُنَّ} أي وللنساء على أزواجهنّ {مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} من الحق.
يُروى أن امرأة معاذ قالت: «يا رسول الله ما حق الزوجة على زوجها؟ قال: أن لا يضرب وجهها، وأن لا يقبحها، وأن يطعمها مما يأكل، ويلبسها مما يلبس ولا يهجرها».
المبارك بن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان لايملكنّ لأنفسهن شيئاً» «إنما اتخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله».
وعن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيار الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم، وخير النساء من أمتي خيرهنّ لأزواجهنّ، يرفع لكل امرأة منهنّ كل يوم وليلة أجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله صابرين محتسبين، ولفضل إحداهنّ على الحور العين كفضل محمّد على أدنى رجل منكم، وخير النساء من أمتي من تأتي مسيرة زوجها في كل شيء يهواه ما خلا معصية الله عزّ وجلّ، وخير الرجال من أُمتي من يلطف بأهله لطف الوالدة بولدها، ُكتب لكل رجل منهم في كل يوم وليلة أجر مائة شهيد قتلوا في سبيل الله محتسبين صابرين».
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:يا رسول الله فكيف يكون للمرأة أجر ألف شهيد وللرجل مائة شهيد؟ «قال: أوما علمت أن المرأة أعظم أجراً من الرجل، وأفضل ثواباً، وأنّ الله عزّ وجلّ لَيرفع الرجل في الجنة درجات فوق درجاته برضا زوجته عنه في الدنيا ودعائها له؟ أوما علمت أنّ أعظم وزر بعد الشرك بالله المرأة إذا غشت زوجها؟ ألا فاتقوا الله في الضعيفين، فإنّ الله سائلكم عنهما: اليتيم والمرأة، فمن أحسن إليهما فقد بلغ إلى الله ورضوانه، ومن أساء إليهما فقد استوجب من الله سخطه، حق الزوج على المرأة كحقّي عليكم، فمن ضيّع حقّي فقد ضيّع حق الله، ومن ضيّع حق الله فقد باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير».
{بالمعروف وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في الفضل.
قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقيل: بالعقل، وقيل: بالميراث، وقيل: بالدرجة، قال قتادة: بالجهاد. عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر بن عبد الله، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه إذ أقبلت امرأة حتى قامت على رأسه، ثم قالت: السلام عليك يا رسول الله، أنا وافدة النساء إليك، ليست من امرأة سمعت بمخرجي إليك إلا أعجبها ذلك، يا رسول الله: إن الله ربّ الرجال وربّ النساء، وآدم أب الرجال وأب النساء، وحواء أم الرجال وأم النساء، فالرجال إذا خرجوا في سبيل الله وقتلوا فأحياء عند ربهم يرزقون، وإذا خرجوا فلهم من الأمر ما قد علمت، ونحن نحبس عليهم ونخدمهم فهل لنا من الأجر شيء؟ قال: «نعم، اقرأي النساء السلام وقولي لهنّ: إنّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعلهُ».
ثابت عن أنس، قال: جئن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله، فما لنا عمل بعدك به عمل في سبيل الله.
بكر بن عبد الله المزني عن عمران بن الحصين قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل على النساء جهاد؟ قال: «نعم، جهادهن الغيرة، يجاهدن أنفسهن فإنْ صبرن فهنّ مجاهدات، وإن صبرن فهنّ مرابطات ولهنّ أجران اثنان».
وقيل: بالطلاق والرجعة، وقيل: بالشهادة، وقيل: بقوة العبادة، وقال سفيان وزيد بن أسلم: بالإمارة. وقال القتيبي: معناه: وللرجال عليهنّ درجة أي فضيلة للحق.
{والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ * الطلاق مَرَّتَانِ} روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن امرأة أتتها فشكت أنّ زوجها يطلقها ويسترجعها ليضارّها بذلك، وكان الرجل في الجاهلية إذا طلّق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك، فإنْ طلّقها ألف مرة لم يكن للطلاق عندهم حدّ، فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {الطلاق مَرَّتَانِ} فجعل حدّ الطلاق ثلاثاً وللطلاق الثالث قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم {الطلاق مَرَّتَانِ} فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
وقال المفسّرون: معنى الآية الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرّتان {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي عليه إمساك بمعروف أي يراجعها في التطليقة الثالثة {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} بعدها ولا يضارّها فإنْ طلقها واحدة أو ثنتين فهو أملك برجعتها ما دامت في العدّة، فإذا انقضت العدّة فهي أحق بنفسها، وجاز أن يراجعها عن تراض منهما بنكاح جديد، فإن طلّقها الثالثة بانت منه وكانت أحق بنفسها منه، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره.
{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} في حال الاستبدال والطلاق {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} أعطيتموهنّ من المهور وغيرها، ثم استثنى الخلع فقال: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} نزلت هذه الآية في جميلة بنت عبد الله بن أبي أوفى تزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه بغضاً شديداً، وكان يحبّها حبّاً شديداً، وكان بينهما كلام فأتت أباها فشكت إليه زوجها وقالت: إنه يسيء إليّ ويضربني، فقال لها: ارجعي إلى زوجك فوالله إنّي لأكره للمرأة أن لا تزال رافعة يدها تشكو زوجها، فرجعت إليه الثانية وبها أثر الضرب، فشكت إليه فقال لها: ارجعي إلى زوجك، فلمّا رأت أنّ أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكت إليه زوجها وأرته آثاراً بها من الضرب وقالت: يا رسول الله لا أنا ولا هو، قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت بن قيس فقال: «يا ثابت مالك ولأهلك؟» قال: والذي بعثك بالحق ما على ظهر الأرض أحبّ إليّ منها غيرك، قال لها: «ما تقولين؟» فكرهت أن تكذب رسول الله حين سألها، فقالت: صدق يا رسول الله، ولكنّي خشيت أن يهلكني فأخرجني منه يا رسول الله، فقال: إني قد أعطيتها حديقة لي فقل لها فلتردّها عليّ وأنا أُخلّي سبيلها، قال لها: «ما تقولين تردّين إليه حديقته وتملكين أمرك؟» قالت: نعم، وأنا لا أريده، قال: لا، حديقته فقط.
ثم قالت: يا رسول الله ما كنت أحدّثك اليوم حديثاً ينزل عليك خلافه غداً هو من أكرم الناس حبّه لزوجته ولكنّي أبغضه، فلا هو ولا أنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلّ سبيلها».
ففعل، وكان أوّل خلع في الإسلام، فأنزل الله عزّ وجلّ {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ} يعلما، وتصديقه قراءة أُبي: إلاّ أن يظنّا، وقال محجن:
فلا تدفننّي بالفلاة فإنّني ** أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها

أي أعلم، وقرأ أبو جعفر وحمزة ويعقوب: {يخافا} بضمّ الياء أي يعلم ذلك منهما اعتباراً بقراءة ابن مسعود: إلاّ أن يخافوا، واختاره أبو عبيد لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} قال: فجعل الخوف لغيرهما ولم يقل فإن يخافا ألاّ يقيما حدود الله وهو أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها فتعصي الله في أمر زوجها، ويخاف الزوج إذا لم تطعه امرأته أن يعتدي عليها، فنهى الله تعالى الرجل أن يأخذ من امرأة شيئاً بغير رضاها إلاّ أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها فتقول: والله لا أبرّ لك قسماً ولا أطيع لك أمراً ولا أطأ لك مضجعاً، ونحو ذلك، فإذا فعلت ذلك به حلّ له العقوبة منها إذا دعته إلى ذلك، ويكره أن يأخذ منها أكثر ممّا أعطاها، ولكنه في الحكم جائز.
يبيّن ذلك ما روى الحكم بن عيينة أنّ امرأة نشزت على زوجها في إمارة عمر بن الخطاب، فوعظها عمر رضي الله عنه وأمرها بطاعة زوجها فأبت وقالت: لئن رددتني إليه والله لأقتلنّ نفسي، فأمر بها فحُبست في اصطبل الدواب في بيت الزمل ثلاث ليال، ثم دعاها فقال: كيف رأيت مكانك؟ فقالت: ما بتّ ليالي أقرّ لعيني منها، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلاّ هذه الليالي، فقال: هذا وأبيكم النشوز، ثم قال لزوجها: اخلعها ولو من قرطيها، اخلعها بما دون عقاص رأسها فلا خير لك فيها، فذلك قوله عزّ وجلّ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} المرأة نفسها منه.
قال الفراء: أراد به الزوج دون المرأة فذكرهما جميعاً لأقرانهما كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 60] وإنما الناسي فتى موسى دون موسى عليه السلام وقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج من المالح دون العذب، وقال الشاعر:
فإن تزجراني يابن عفّان أنزجر ** وإن تدعاني أحم عرضاً ممنّعا

وقال قوم معناه: فلا جناح عليهما جميعاً، لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك والمعصية، ولا فيما افتدت به وأعطبت من المال، لأنها ممنوعة من اتلاف المال بغير حق، ولا على الرجل فيما أخذ منها من المال إذا أعطته طائعة بمرادها، وللفقهاء في الخلع قولان:
أحدهما: إنه فسخ بلا طلاق، وهو قول ابن عباس، وقول الشافعي في القديم بالعراق، ثم رجع عنه بمصر.
والقول الثاني: إنّ الخلع تطليقة بائنة إلاّ أن ينوي أكثر منها، وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه، والقول الجديد من قول الشافعي.
{تِلْكَ حُدُودُ الله} هذه أوامر الله ونواهيه {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} فلا تجاوزوها {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}.