فصل: تفسير الآيات (6- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (6- 15):

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ} قرأته العامّة بالتنوين وقرأ الحسن {بعاد إرم} على الإضافة وقرأت العامّة: {اِرم} بكسر الألف، وقرأ مجاهد بفتحه، قال المؤرّخ: من قرأ بفتح الألف شبههم بالآرام، وهي الأعلام واحدها اِرم.
واختلف العلماء في معنى قوله: {إِرَمَ} فأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا موسى الباقرحي قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشير عن محمد بن إسحاق عمّن يخبره أنّ سعيد بن المسيّب كان يقول: اِرم ذات العماد دمشق.
وأخبرني بن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن مروان، قال: حدّثنا علي بن حرب الطائي قال: حدّثنا أبو الأشهب هود عن عوف الإعرابي عن خالد الربعي {إِرَمَ ذَاتِ العماد} قال: دمشق، وبه قال عكرمة وأبو سعيد المقبري.
وقال القرظي: هي الإسكندرية، وقال مجاهد: هي اِرمة ومعناها القديمة. قتادة: هم قبيلة من عاد، وقال أبو إسحاق: هو جدّ عاد، وهو عاد بن عوص بن اِرم بن سام بن نوح.
وقال مقاتل: اِرم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا موضع مهرة، وكان عاد أباهم فنسبهم إليه، وهو اِرم بن عاد بن شمر بن سام بن نوح.
وأخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو الطيّب المروزي قال: حدّثنا محمّد بن علي قال: أخبرنا فضل بن خالد قال: حدّثنا عبيد بن سليمان عن الضحّاك بن مزاحم أنّه كان يقرأ {إِرَمَ ذَاتِ العماد} بفتح الألف والراء، والإرم الهلاك فقال: اِرم بنو فلان أي هلكوا، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
وروي عن الضحّاك أنّه قرأ {إِرَمَ ذَاتِ العماد} أي أهلكهم وجعلهم رميماً، والصواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم يجرّ.
قوله: {ذَاتِ العماد} قال قوم: يعني ذات الطول والقوّة والشدّة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حنش قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال: حدّثنا أبو حاتم قال: حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال: حدّثني معاوية بن صالح عمّن حدّثه عن المقدام عن النبيّ صلّى الله عليه «أنّه ذكر» اِرم ذات العماد فقال: «كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على كاهله فيلقيها على أي حي أراد فيهلكهم».
وقال الكلبي: كان طول الرجل منهم أربع مائة ذراع، وقال ابن عبّاس: يعني طولهم مثل العماد، ويقول العرب للرجل الطويل: معمّدا، وقال مقاتل: كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً، وقال آخرون: إنّما قيل لهم: ذات العماد؛ لأنّهم كانوا أهل عمد سيارة ينتجعون الغيث وينتقلون إلى الكلأ، حيث كان ثمّ يرجعون إلى منازلهم ولا يقيمون في موضع.
قال الكلبي: اِرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة، كان يقال: عاد اِرم وثمود اِرم، فأهلك الله سبحانه عاداً، ثمّ ثمود وبقي أهل السواد وأهل الجزيرة، وكان أهل عمد وخيام وماشية في الربيع، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم فكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كانت بوادي القرى، وهي التي يقول الله سبحانه: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد}.
وقيل: سمّوا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيّد عمده ورفع بناءه، والعماد والعُمد والعَمد جمع عمود، وهو:
ما أخبرنا أبو القاسم المفسّر قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار الأصبهاني قال: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهاني قال: حدّثنا عبد الله بن صالح المصري قال: حدّثني ابن لهيعة وأخبرنا أبو القاسم قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرايفي قال: أخبرنا عثمان بن سعيد الدارجي قال: أخبرنا عبد الله بن صالح قال: حدّثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنّه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحاري عدن إذا هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كبيرة وأعلام طوال، فلمّا دنى منها ظنّ أنّ فيها أحداً يسأله عن إبله فلم ير خارجاً ولا داخلاً فنزل عن دابته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن، فلمّا دخل في الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما، والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلمّا رأى ذلك دُهش وأعجبه ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحدٌ مثلها، وإذا قصور كل قصر معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف:
اعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد ** أنا شداد بن عاد صاحب الحصن المشيد

وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد ** دار أهل الأرض لي من خوف وعيدي ووعيد

وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد ** وبفضل الملك والعدّة فيه والعديد

فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود ** فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرشيد

وعصيناه ونادى هل من محيد ** فأتتنا صيحة تهوي من الأُفق البعيد

فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد... {وَثَمُودَ} أي وثمود {الذين جَابُواْ} قطّعوا وخرقوا {الصخر} الحجر واحدتها صخرة {بالواد} يعني بوادي القرى، فنحتوا منها بيوتاً كما قال الله سبحانه: {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ} [الحجر: 82].
قال أهل السير: أوّل من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود، فبنوا من الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف كلّها من الحجارة، وأثبت أبو جعفر وأبو حاتم وورش الياء في الوادي وصلاً، وأثبتها في الوصل والوقف ابن كثير برواية البزي والعواش ويعقوب على الأصل، وحذفها الآخرون في الحالتين؛ لأنّها رأس آية.
{وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد} اختلفوا فيه فقال بعضهم: أراد ذا الجنود والجموع الذين يقوّون أمره ويسدّدون مملكته، وسمّي الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتّدونها في أسفارهم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس.
وقال قتادة: سمّي ذا الأوتاد؛ لأنّه كانت له مظال وملاعب وأوتاد يُضرب له فتلعب له تحتها، وقال محمد بن كعب: يعني ذا البناء المحكم، وقال سعيد بن جبير: كان له منارات يعذّب الناس عليها، وقال مجاهد وغيره: كان يعذّب الناس بالأوتاد، وكان إذا غضب على أحد مدّهُ على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحاق بن بشير عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ فرعون لمّا قيل له: ذو الأوتاد أنّه كان امرأة وهي امرأة خازنه خربيل بن نوحابيل وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة، وكان لقي من لقى من أصحاب يوسف، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت: تعس من كفر بالله، فقالت بنت فرعون: وهل لكِ من إله غير أبي؟ فقالت: إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له. فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال: ما يبكيك؟ قالت: الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له. فأرسل إليها فسألها عن ذلك، فقالت: صدقت. فقال لها ويحك: اكفري بإلهك وأقري أني إلهك، قالت: لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها: اكفري بالله وإلاّ عذبتك بهذا العذاب شهرين، قالت: والله لو عذّبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله تعالى.
قال: وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها، وقال لها: اكفري بالله وإلاّ ذبحت ابنتك الصغرى على فيك، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجداً شديداً فقالت: لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرتُ بالله تعالى.
قال: فأتى بابنتها فلمّا أن قُدّمت منها واضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً، فقالت: يا أُمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لكِ بيتاً في الجنّة، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته، قال: فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه الجنّة.
قال: وبعث في طلب زوجها خربيل فلم يقدروا عليه، فقيل لفرعون: إنّه قد رُئي في موضع كذا وكذا في جبال كذا وكذا، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلّي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلّون، فلمّا رأيا ذلك انصرفا، وقال خربيل: اللّهم إنّك تعلم أنّي كتمتُ إيماني مائة سنة، ولم يظهر عليّ أحدٌ فأيّما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله، وأيّما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجّل عقوبته في الدُّنيا، واجعل مصيره في العاقبة إلى النار، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ، فقال له فرعون: وهل كان معكَ غيرك؟ قال: نعم.
قال: ومَنْ كان معك؟ قال: فلان. فدعى به. فقال: حقٌّ ما يقول هذا؟ قال: لا، ما رأيت ممّا قال شيئاً. فأعطاه فرعون وأجزل، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه.
قال: وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت: وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها فقالت: يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها، فقال: فلعلّ بك الجنون الذي كان بها.
قالت: ما بي من جنون، وإن إلهي وإلهها وإلهكَ وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت: أعوذ بالله من ذلك، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له، فقال أبوها: يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق؟ قالت: أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّاً، فقولا له: يتوّجني تاجاً يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله، فقال لهم فرعون: أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها، وفتح الله سبحانه لها باباً إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت: {رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] يعني من جماع فرعون {وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [التحريم: 11] يعني من فرعون وشيعته، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة.
وقيل: الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود:
في ظل ملك ثابت الأوتاد... {الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} قال قتادة: يعني لوناً من العذاب صبّه عليهم، وقال السّدي: كلّ يوم لون آخر من العذاب، وقيل: وجع العذاب، وقال أهل المعاني: هذا على الاستعارة؛ لأنّ السوط عندهم غاية العذاب، فجرى ذلك لكلّ عذاب. قال الشاعر:
ألم ترَ أنّ الله أظهر دينه ** وصبّ على الكفّار سوط عذاب

{إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} قال ابن عبّاس: سبحانه يرى ويسمع، وقال مقاتل: ترصد الناس على الصراط، فجعل رصداً من الملائكة معهم الكلاليب والمحاجن والحسك، وقال الضحّاك: بمرصد لأهل الظلم والمعصية، وقيل: معناه مرجع الخلق ومصيرهم إلى حكمه وأمره، وقال الحسن وعكرمة: ترصد أعمال بني آدم، وعن مقاتل أيضاً: ممرّ الناس عليه.
عطاء ابن أبي رياح: لا يفوته أحد. يمان: لا محيص عنه. السدي: أرصد النار على طرقهم حتّى تهلكهم، والمرصاد والمرصد الطريق وجمع المرصاد مراصيد وجمع المرصد مراصد.
وروى مقسم عن ابن عبّاس قال: إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلاّ الله، فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني، فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّه جاز إلى الثالث، فيُسئل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع، فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تامّاً جاز إلى الخامس، فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّاً جاز إلى السادس، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلاّ يقال انظروا، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله، فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة.

.تفسير الآيات (16- 30):

{وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}
{فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه} امتحنه {رَبُّهُ} بالنعمة والوسعة. {فَأَكْرَمَهُ} بالمال {وَنَعَّمَهُ} بما وسّع عليه من الأفضال {فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ} فيفرح بذلك ويُسر ويحمد عليه ويشكر، و{إِذَا مَا ابتلاه} بالفقر {فَقَدَرَ} وضيّق وقتّر {عَلَيْهِ رِزْقَهُ} {فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} أذلّني بالفقر، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح ورزقه من العافية والصحّة. قال قتادة: ما أسرع كفر ابن آدم.
وقراءة العامّة {فَقَدَرَ} بتخفيف الدال، وقرأ أبو جعفر وابن عامر بالتشديد، وهما لغتان وكان أبو عمرو يقول: قدرَ بمعنى قتّر وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه ولو فعل ذاك ما قال: {ربي أَهَانَنِ}، ثمّ ردّ عليه فقال: {كَلاَّ} لم أبتلِهِ بالغنى لكرامته عليّ ولم ابتلِهِ بالفقر؛ لهوانه عليّ وأنّ الفقر والغنى من تقديري وقضائي. فلا أُكرم من أكرمته بالغنى وكثرة الدنيا، ولا أُهين من أهنته بالفقر وقلّة الدنيا، ولكني إنّما أكرم من أكرمته بطاعتي، وأُهين من أهنته بمعصيتي، وقال الفراء: معنى كلا لم ينبغِ له أن يكون هذا ولكن ينبغي أن يحمده على الأمرين على الغنى والفقر.
ثم قال: {بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم} يعني أهنت من أهنت من أجل أنّه لا يُكرم اليتيم.
واختلف القرّاء في هذه الآية فقرأ أهل البصرة يكرمون وما بعده كلّه بالياء، وقرأها الآخرون بالتاء {وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين} قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة {تَحَآضُّونَ} بالألف وفتح التاء، وروى الشذري عن الكسائي {تُحاضون} بضم التاء، غيرهم {تحضّون} بغير الألف. {وَتَأْكُلُونَ التراث} الميراث {أَكْلاً لَّمّاً} شديداً، قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب غيره. بكر بن عبد الله: اللّمّ الاعتداء في الميراث يأكل ميراثه وميراث غيره. ابن زيد: الأكل اللمّ الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال أم حرام، ويأكل الذي له والذي لغيره، وذلك أنّهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان، وقرأ {يَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] الآية قال أبو عبيدة يقال: لممّتُ ما على الخوان إذا أتيت على ما عليه وأكلته كلّه أجمع. {وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً} كثيراً يقال جمّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع. {كَلاَّ} ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثمّ أخبر ممن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عزّ من قائل: {إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً} مرّة بعد مرّة فيكسر كلّ شيء على ظهرها.
{وَجَآءَ رَبُّكَ} قال الحسن: أمره وقضاؤه، وقال أهل الإشارة: ظهر قدرة ربّك وقد استوت الأُمور وأنّ الحقّ لا يوصف يتحوّل من مكان إلى مكان وأنّى له التجوّل والتنقّل ولا مكان له ولا أوان ولا تجري عليه وقت وزمان؛ لأنّ في حرمان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز، والحقّ ينزّه أن تحوي صفاته الطبائع أو تحيط به الصدور.
{والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجه قال: حدّثنا يعقوب بن يوسف القروي قال: حدّثنا القاسم بن الحكم قال: حدّثنا عبيد الله بن الوليد قال: حدّثنا عطية عن أبي سعيد قال: لمّا نزلت هذه الآية {وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ رضي الله عنه فقالوا: يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وسلم فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه ثمّ قال: يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟ قال: «جاء جبريل عليه السلام فأقرأني هذه الآية: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً * وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}» قلت: فكيف يجاء بها؟
قال: «يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول: ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ، فلا يبقى أحد إلاّ قال: نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول: أُمّتي أُمّتي، فيقول الله سبحانه إلى الملائكة: ألا ترون الناس يقولون: ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول: أُمّتي أُمّتي؟».
وقال عبد الله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية: تقاد جهنّم بسبعين ألف زمان كلّ زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيّظ وزفير حتّى تنصب على يسار العرش.
{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى * يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} في حياتي {لِحَيَاتِي} في الآخرة {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} قرأ العامّة بكسر الذال والثاء على معنى لا يعذّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ.
قال الفراء وقيل: إنّه رجل مسمّى بعينه وهو أُميّة بن خلف الجمحي: يعني لا يعذّب كعذاب هذا الكافر أحد ولا يوثق كوثاقه أحد، واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة لما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: أخبرنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا هيثم وعناد بن عباد عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن أقرأه النبيّ صلّى الله عليه {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} يعني بنصب الذال والثاء.
ويروى أنّ أبا عمرو رجع في آخر عمره إلى قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى الآية لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق، وهو الإشارة في السلاسل والأغلال.
أخبرنا ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا شعبة عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن سمع النبيّ صلّى الله عليه يقرأ {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} يعني يفعل به. {ياأيتها النفس المطمئنة} إلى ما وعد الله المصدّقة بما قال.
مجاهد: المنيبة المخبتة التي قد أيقّنت أنّ الله سبحانه ربّنا، وضربت لأمره جأشاً.
المسيّيب: سمعت الكلبي وأبا روق يقولان: هي التي يبيّض الله وجهها ويعطيها كتابها بيمينها فعند ذلك تطمئن. الحسن: المؤمنة الموقنة. عطية: الراضية بقضاء الله. حيّان عن الكلبي: الآمنة من عذاب الله تعالى.
أخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا خلاّد بن أسلم قال: أخبرنا النضر عن هارون القارئ قال: حدّثني هلال عن أبي شيخ الهنائي قال: في قراءة أبي يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنة.
وأخبرني أبو محمّد الحسين بن أحمد الشعبي قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمد بن إسحاق السراج قال: حدّثنا سوار بن عبد الله قال: حدّثنا المعمر بن سليمان عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي نجاح عن مجاهد {ياأيتها النفس المطمئنة} قال: الراضية بقضاء الله التي قد علمت أنّ ما أصابها لم يكن ليخطئها وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وقال ابن كيسان: المخلصة. ابن عطاء: هي العارفة بالله سبحانه التي لا تصبر عنه طرفة عين، وقيل: المطمئنة بذكر الله. بيانه: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} [الرعد: 28]، وقيل: هي المتوكّلة على الله تعالى الواثقة بما ضمن لها من الرزق.
{ارجعي إلى رَبِّكِ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية، ووقت هذه المقالة فقال قوم: يقال ذلك لها عند الموت: ارجعي إلى ربّك وهو الله عزّوجلّ.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال: حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال: حدّثنا العطاردي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه: {ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} قال: هذا عند خروجها من الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل: {فادخلي فِي عِبَادِي * وادخلي جَنَّتِي}.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا أحمد بن خالد قال: حدّثنا روح بن عبادة قال: حدّثنا زهير بن محمد قال: حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السيلماني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها: اخرجي أيّتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط، والملائكة على أرجاء السماء.
فيقولون: قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة، فلا يمرّ بباب إلاّ فتح له ولا ملك إلاّ صلّى عليه، حتّى يؤتي به الرحمن، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون: ربّنا هذا عبدك فلان توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً فيقول: مروه فليسجد، وتسجد النسمة، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول: اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه وسبعون ذراعاً طوله وينبت له فيه الريحان. إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره، ويكون مثله كمثل العروس، ينام فلا يوقظه إلاّ أحبّ أهله إليه، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن، فيقال: أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا المسوحي قال: حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال: حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال: قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم {ياأيتها النفس المطمئنة} قال أبو بكر: ما أحسن هذا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أمّا أنّ الملك سيقولها لك عند الموت».
حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال: أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال: حدّثنا الحسن بن عرفة قال: أخبرني مروان بن شجاع الجزري، وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال: حدّثنا أحمد بن منبع قال: حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه، فدخل نعشه ثمّ لم يُر خارجاً منه فلمّا دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها: {ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فادخلي فِي عِبَادِي * وادخلي جَنَّتِي} وقال آخرون: انّما يقال ذلك لها عند البعث: ارجعي إلى ربّك، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيّوب قال: أخبرنا علي بن عبد العزيز قال: حدّثنا القاسم بن سلام قال: حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فأدخلي في عبدي على التوحيد.
وقال الحسن: معناه ارجعي إلى ثواب ربّك وكرامته.
ابن كيسان: ارجعي إلى ربّك أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين.
وقال بعض أهل الإشارة {ياأيتها النفس المطمئنة} إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة. {رَاضِيَةً} عن الله بما أعدّ لها {مَّرْضِيَّةً} رضي عنها ربّها. {فادخلي فِي عِبَادِي} قال بعضهم: يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة. {وادخلي} برحمتك في عبادك الصالحين يعني مع أنبيائنا في الجنّة، وقال الأخفش: أي في حزبي، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله أعلم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا موسى بن محمد قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية {ياأيتها النفس المطمئنة} قال: نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحُد، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة، وسكون وكرامة.
وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللّهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين.