فصل: سورة البينة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.سورة البينة:

مدنيّة، وهي ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفاً وأربع وتسعون كلمة وثماني آيات.
أخبرنا السلمي والخبازي قالا: أخبرنا محمد بن محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن موسى بن النعمان قال: حدّثنا فهد بن سليمان قال: حدّثنا إسحاق بن بشير قال: حدّثنا مالك بن أنس عن محمد بن سعيد عن سعيد بن المسيّب عن أبي الهاد قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها» فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ قال رسول اللّه عليه السلام: «لا يقرأها منافق أبداً ولا رجل في قلبه شكّ في الله عزّ وجل، والله إن الملائكة المقرّبين ليقرءونها منذ خلق اللّه السماوات والأرض لا يفترون من قراءتها، وما من عبد يقرأها بليل إلاّ بعث اللّه سبحانه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه، ويدعون اللّه له بالمغفرة والرحمة، فإنْ قرأها نهاراً أُعطيّ عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل».
فقال رجل من قيس عيلان: زدنا من هذا الحديث فداك أبي وأُمّي يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «تعلّموا {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}، وتعلّموا {ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ}، وتعلّموا {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ}، وتعلّموا {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}، وإنّكم لو تعلمون ما فيهن لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ وتقرّبتم إلى اللّه سبحانه بهنّ فإن اللّه يغفر بهنّ كل ذنب إلاّ الشرك باللّه».
واعلموا أنّ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} تجادل عن صاحبها وتستغفر له من الذنوب.
وأخبرني الخبازي قال: حدّثنا ظفران قال: حدّثنا بن أبي داود قال: حدّثنا محمد بن عاصم قال: حدّثنا شبابة بن سوار قال: حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر عن أُبيّ قال: قال رسول اللّه عليه السلام: «من قرأ سورة {لَمْ يَكُنْ} كان يوم القيامة مع خير البرية مسافراً أو مقيماً».
وأخبرني الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن علي قال: حدّثنا أبو يعلى الموصلي قال: حدّثنا محمد بن المثنى قال: حدّثنا عبد ربّه قال: حدّثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال: قال رسول اللّه عليه السلام لأُبيّ بن كعب: «إن اللّه عزّ وجلّ أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا}» قال: وسمّاني؟ قال: «نعم». فبكى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 8):

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} وهم اليهود والنصارى، والمشركون وهم عبدة الأوثان، {مُنفَكِّينَ} منتهين عن كفرهم وشركهم، وقال أهل اللغة: زائلين، يقول: العرب: ما انفكّ فلان يفعل كذا، أي ما زال، وأصل الفكّ الفتح، ومنه فكّ الكتاب، وفكّ الخلخال، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر، قال طرفة:
وآليت لا ينفك كشحي بطانة ** لعضب رقيق الشفرتين منهد

{حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} الحجّة الواضحة وهي محمد عليه السلام أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم، وهداهم إلى الإيمان، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد عليه السلام حتى بعث، فلمّا بعث تفرّقوا فيه.
ثم فسّر البيّنة فقال: {رَسُولٌ مِّنَ الله}. فأبدل النكرة من المعرفة كقوله: {ذُو العرش المجيد * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 15-16].
{يَتْلُواْ} يقرأ {صُحُفاً} كتباً {مُّطَهَّرَةً} من الباطل {فِيهَا كُتُبٌ} من اللّه {قَيِّمَةٌ} مستقيمة عادلة {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} في أمر محمد عليه السلام فكذّبوه {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة} البيان في كتبهم أنه نبيٌّ مرسل.
قال العلماء: من أول السورة إلى قوله: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين، {وَمَا تَفَرَّقَ} حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها.
قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله: {مُنفَكِّينَ} أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك، ومعنى الآية: لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلاّ بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب.
وقرأ الأعمش {والمشركون} رفعاً، وفي مصحف عبد اللّه {لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين} وفي حرف أُبيّ {ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من اللّه} بالنصب على القطع والحال.
{وَمَآ أمروا} يعني هؤلاء الكفار {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ} يعني إلاّ أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين التوحيد والطاعة {حُنَفَآءَ} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام.
وقال ابن عباس: حجاجاً، وقال قتادة: الحنيفية هي الختان وتحريم الأُمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات، وإقامة المناسك.
وقال سعيد بن حمزة: لا تسمي العرب حنيفاً إلاّ من حجّ واختتن {وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ} الذي ذكرت {دِينُ القيمة} المستقيّمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة، وقيل: الهاء فيه للمبالغة.
سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول: سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول: إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها، والدين مضاف إليها على معنى: وذلك دين الكتب القيّمة فيما يدعو إليه ويأمر به، نظيرها قوله سبحانه: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ}
[البقرة: 213].
وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه: {وَذَلِكَ دِينُ القيمة} فقال: القيّمة جمع القيّم، والقيّم والقائم واحد ومجاز الآية: وذلك دين القائمين لك بالتوحيد.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية} الخليقة، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم: برأ اللّه الخلق يبرأهم برءاً، قال اللّه سبحانه: {مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22]، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة، ولها وجهان:
أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضاً منه.
والآخر أن يكون فعيلة من البراء وهو التراب، تقول العرب: بفيك البراء فمجازه: المخلوقون من التراب.
{إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}.
قال الصادق رضي الله عنه: «بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق، ورضوا عنه بما منَّ عليهم بمتابعتهم لرسوله، وقبولهم ما جاءهم به، أي أن بيان رضا الخلق عن اللّه رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه».
محمد بن الفضيل: الرَّوح والراحة في الرضا واليقين، والرضا باب اللّه الأعظم ومستراح العابدين. محمد بن حقيق: الرضا ينقسم قسمين: رضاً به ورضاً عنه، فالرضا به ربّاً ومدبّراً، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر.
وقيل: الرضا رفع الاختيار. ذي النون: الرضا: سرور القلب لمرِّ القضاء. حارث: الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم. أبو عمرو الدمشقي: الرضا نهاية الصبر. أبو بكر بن طاهر: الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلاّ فرح وسرور. الواسطي: هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلاّ ما يسخِط مولاك. ابن عطاء: هو النظر إلى قديم إحسان اللّه للعبد فيترك السخط عليه.
سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول: سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الحميد يقول: سمعت السهمي يقول: إذا كنت لا ترضى عن اللّه فكيف تسأله الرضا عنك؟.

.سورة الزلزلة:

مكّيّة، وهي مائة وتسعة وأربعون حرفاً، وخمس وثلاثون كلمة، وثماني آيات.
أخبرنا يعقوب بن أحمد بن السهمي العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا محمد بن عبد اللّه العثماني قال: حدّثنا أبا القاسم الطائي قال: حدّثني أبي قال: حدّثني علي بن موسى الرضا قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي جعفر بن محمد قال: حدّثني أبي محمد بن علي قال: حدّثني أبي علي بن الحسين قال: حدّثني أبي الحسين بن علي قال: حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {إِذَا زُلْزِلَتْ} أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه».
وأخبرني محمد بن القاسم قال: حدّثني أبو بكر محمد بن عبد اللّه قال: حدّثنا الحسن بن سفيان قال: حدّثنا علي بن حجر قال: حدّثنا يزيد بن هارون قال: حدّثنا اليمان بن المغيرة عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه عليه السلام: «{إِذَا زُلْزِلَتْ} تعدل نصف القرآن، و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن و{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن».
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 6):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)}
{إِذَا زُلْزِلَتِ} حُرّكت الأرض حركة شديدة لقيام الساعة {زِلْزَالَهَا} تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الباقرجي قال: حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن ياسين البغدادي قال: حدّثنا جميل بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال: سمعت عاصم الجحدري يقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضاً كالوسواس والقلقال والجرجار، وقيل: الكسر المصدر والفتح الاسم.
{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها {وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا} وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فيقول الإنسان: ما لها.
قال المفسّرون: تُخْبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة: جدّ عليَّ وصام وصلّى واجتهد وأطاع ربّه، فيفرح المؤمن بذلك، وتقول للكافر: شرك عليَّ وزنى وسرق وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم اللّه سبحانه به حتى يودُّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح.
حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاءً قال: أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال: حدّثنا عبد اللّه بن حمّاد الآملي قال: حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال: حدّثنا رشد بن سعد قال: حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها» قال: وتلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}» حتى بلغ «{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}» قال: «أتدرون ما أخبارها؟ إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عُمِلَ على ظهرها».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال: حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد اللّه الأنباري قال: حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال: حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي عليه السلام ذكر هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فقال: «تدري ما أخبارها؟» قال: اللّه ورسوله أعلم.
قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأَمة بما عمل على ظهرها من شيء، تقول: عمل على ظهري كذا وكذا، أو حملتُ على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا، فهذه أخبارها».
وفي حرف ابن مسعود يومئذ تنبيُ أخبارها.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا المطرفي قال: حدّثنا بشر بن مطر قال: حدّثنا سفيان عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه وكان أبوه يتيماً في حجر أبي سعيد الخدري قال: قال لي يعني أبا سعيد: يا بُنيَّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له».
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا ابن الحسين قال: حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال: رأيت أبا أُميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة، ثم تقدم فجعل يصلي هاهنا وهاهنا، فلمّا فرغ قلت: يا أبا أُميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع؟ قال قرأت هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فاردت أن تشهد لي يوم القيامة.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي أمرها بالكلام واذن لها فيه، قال العجاج يصف الأرض:
أوحى لها القرار فاستقرّت ** وشدّها بالراسيات الثُبَّت

أي أمرها بالقرار.
وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد: أوحى إليها. ومجاز الآية: يوحي اللّه إليها.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} عن موقفِ الحساب، أشتاتاً: متفرقين فآخذٌ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار {لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} قيل: في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً} وقراءة العامّة ليُروا بضم الياء، وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (7- 8):

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} أي يُرى ثوابه {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً ولا شراً في الدنيا إلاّ أراه اللّه إياه، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته، وأما الكافر فتردُ حسناته ويعذبه بسيّئاته.
وقال محمد بن كعب في هذه الآية: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند اللّه خير، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند اللّه شر.
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني أبو الخطاب الجنائي قال: حدّثنا الهيثم بن الربيع قال: حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قُلابة عن أنس قال: كان أبو بكر يأكل مع النبي عليه السلام فنزلت هذه الآية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فرفع أبو بكر- رضي اللّه عنه- يده وقال: يا رسول اللّه أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ، ويدّخر اللّه لك مثاقيل ذر الخير حتى تُوفّاه يوم القيامة».
له عن محمد بن جرير قال: حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا بن وهب قال: حدّثني حُيي بن عبد اللّه عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال: نزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قاعد فبكى حين أُنزلت، فقال له رسول اللّه عليه السلام: «ما يبكيك يا أبا بكر؟» قال: أبكتني هذه السورة، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: «واللّه لو أنكم لا تُخطِئُونَ ولا تُذْنِبونَ ويغفر اللّه لكم لخلق اللّه أُمّةً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم».
وقراءة العامّة يره بفتح الياء في الحرفين، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم اليائين لقوله: {لِّيُرَوْاْ}.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الدهر: 8] كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول: ما هذا بشيء إنّما نُؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول اللّه سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ} [الدهر: 8] فما أحب لنا هذا فردهُ غفران، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول: ليس عليَّ من هذا شيء إنّما وعد اللّه سبحانه النار على الكبائر، وليس في هذا إثم، فأنزل اللّه سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنّه يوشك أن يكثر، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
سُئل ثعلبة عن الذرّة قال: إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها. وقال يزيد بن مروان: زعموا أن الذرّة ليس لها وزن، ومعنى المثقال الوزن، وهو مفعال من الثقل، وقال ابن مسعود: أحكم آية في القرآن {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وكان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يسمّيها «الجامعة الفاذة»، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد: ويحك تقبل اللّه منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل.
وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كُثر.
وروى المطّلب بن عبد الله عن عائشة أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول اللّه عليه السلام: «{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}» فقال الأعرابي: يا رسول اللّه مثقال ذرّة؟ قال له: «نعم»، فقال الأعرابي: يا رسول اللّه مثقال ذرّة؟ قال له «نعم»، فقال الأعرابي: واسوأتاه منّا إذاً، ثم قام وهو يقولها فقال رسول اللّه عليه السلام: «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان».
وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: حدّثنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال: سمعت الحسن يقول: قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي عليه السلام فلمّا سمع {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} قال: حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا.
وقال الربيع بن صبيح: مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة، فلمّا بلغ آخرها قال: حسبي قد أتممت الموعظة فقال الحسن: لقد فقه الرجل.
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال: أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال: أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط:
إنّ من يعتدي ويكسب إثماً ** وزن مثقال ذرّة سيراه

ويجازى بفعله الشر شرّاً ** وبفعل الجميل أيضاً جزاه

هكذا قوله تبارك ربّي ** في إذا زلزلت جلّ ثناه