فصل: تفسير الآيات (230- 232):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (230- 232):

{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
{فَإِنْ طَلَّقَهَا} يعني ثلاثاً {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} يعني من بعد التطليقة الثالثة، وبعد رفع على الغاية {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} أي غير المطلِّق فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعاً.
نزلت هذه الآية في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرطي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرطي، وكان ابن عمها فطلّقها ثلاثاً، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسّني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ «فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». قال: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة فطفق خالد ينادي: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تهجر به عند رسول الله، والعسيلة اسم للجماع، وأصلها من العسل شبّه للّذة التي ينالها الإنسان في تلك الحال بالعسل يقال منه: عسلها يعسلها عسلا إذا جامعها.
فلبثت ما شاء الله أن تلبث ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي كان قد مسّني، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبت بقولك الأول فلن نصدّقك في الآخر» فلبثت حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر، فقالت: يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأول، فإن زوجي الآخر قد مسّني وطلّقني، فقال أبو بكر: قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته، وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلمّا قُبض أبو بكر أتت عمر رضي الله عنه وقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال عمر: لئن رجعت إليه لأرجمنّك، فإن الله تعالى قد أنزل {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}
{فَإِن طَلَّقَهَا} زوجها الثاني أو مات عنها بعد ما جامعها {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} يعني على المرأة المطلّقة وعلى الزوج الأول {أَن يَتَرَاجَعَآ} بنكاح جديد، فذكر النكاح بلفظ التراجع {إِن ظَنَّآ} عَلِما، وقيل: رجوا، قالوا: ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأنّ أحداً لا يعلم ما هو كائن إلاّ الله عزّ وجلّ {أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} يعني ما بيّن الله من حق أحدهما على الآخر، ومحلّ {أن} في قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} نصب بنزع حرف الجر أي في أن يتراجعا، وفي قوله: {أَن يُقِيمَا} نصب بوقوع الظن عليه.
وقال مجاهد: ومعناه إن علما أنّ نكاحهما على غير دلسة، وأراد بالدلسة التحليل، هذا مذهب سفيان والأوزاعي ومالك وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق، قالوا في الرجل يطلّق امرأته ثلاثاً فتزّوج زوجاً غيره ليحلّها لزوجها الأول: إن النكاح فاسد، وكان الشافعي يقول: إذا تزوّجها ليحلّها فالنكاح ثابت إذا لم يشترط ذلك في عقد النكاح مثل أن يقول: أنكحك حتى أصيبك فتحلّي لزوجك الأول، فإذا اشترط هذا فالنكاح باطل، وما كان من شرط قبل عقد النكاح فلا يفسد النكاح.
وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال: إنّ رجلا طلّق امرأته ثلاثاً، فانطلق أخ له من غير مراجعة فتزوجها ليحلّها للأول فقال: لا، إلاّ بنكاح رغبة، كنّا نعدّ هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال عليه السلام: «لعن الله المحلّل والمحلَّل له».
عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلّكم على التيس المستعار؟».
قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هو المحلِّل والمحلَّل له».
قبيصة بن جابر الأسدي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب وهو على المنبر: والله لا أوتى بمحلّل ولا بمحلَّل له إلاّ رجمتهما.
{وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا} روى المفضل وأبان عن عاصم بالنون {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} نزلت في رجل من الأنصار يُدعى ثابت بن يسار، طُلِّقت امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلاّ يومين أو ثلاثة وكادت تبين منه، راجعها ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتى مضيت لها تسعة أشهر مضارة لها بذلك، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً، وكان إذا أراد الرجل أن يُضارّ امرأته طلقها ثم تركها حتى تحيض الحيضة الثالثة، ثم راجعها ثم طلّقها فتطويله عليها هو الضرار، فأنزل الله تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي أمرهنّ في أن تبين بانقضاء العدة، ولم يرد إذا انقضت عدتهنّ لأنها إذا انقضت عدّتها لم يكن للزوج إمساكها، فالبلوغ ها هنا بلوغ مقاربة، وقوله بعد هذا {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} بلوغ انقضاء وانتهاء، والبلوغ يتناول المعنيين جميعاً، يقال: بلغ المدينة إذا صار إلى حدّها وإذا دخلها.
{فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي راجعوهنّ {بِمَعْرُوفٍ} قال محمد بن جرير: بمعروف أي بإشهاد على الرجعة وعقد لها دون الرجعة بالوطء {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ، وكنّ أملك لأنفسهنّ.
{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} مضارّة وأنتم لا حاجة بكم إليهنّ {لِّتَعْتَدُواْ} عليهن بتطويل العدّة {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} الاعتداء {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ضرّها بمخالفة أمر الله عزّ وجلّ.
مرّة الطيب، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون من ضارّ مسلماً أو ماكره».
{وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} الحسن عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنّما طلّقت وأنا لاعب فيرجع فيها ويعتق، فيقول مثل ذلك ويرجع فيه وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} يقول: حدود الله وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من طلق أو حرّر وأنكح وزعم أنّه لاعب فهو جدّ»، وفي الخبر: «خَمسٌ جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، والنذر».
وعن أبي موسى، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأشعريين قال: يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل طمثها.
وقال الكلبي {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} يعني قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} بالإيمان {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب} يعني القرآن {والحكمة} يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام.
{يَعِظُكُمْ بِهِ واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} الآية، نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني، كانت تحت أبي البدّاح عاصم بن عدي بن عجلان، فطلّقها تطليقة واحدة ثم تركها حتى انقضت عدّتها ثم جاء يخطبها وأراد مراجعتها وكان رجل صدق، وكانت المرأة تحبّ مراجعته، فمنعها أخوها معقل وقال لها: لئن راجعتهِ لا أكلمك أبداً، وقال لزوجها: أفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي فطلّقتها، ثم لم تراجعها حتى إذا انقضت عدّتها جئت تخطبها، والله لا أنكحك بها أبداً، وحمى أنفاً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا رسول الله معقلا وتلاها عليه، فقال: فإني أؤمن بالله واليوم الآخر، فأنكحها إيّاه وكفّر يمينه على قول أكثر المفسّرين.
وقال السدّي: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، وكانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة واحدة وانقضت عدّتها ثم أراد رجعتها، فأتى جابر فقال: طلّقت ابنة عمي ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فانقضت عدّتهن قال الزجّاج: الأجل آخر المدة وعاقبة الأُمور، قال لبيد:
فاخرها بالبرّ لله الأجل

يريد عاقبة الأُمور.
{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فلا تمنعوهنّ، والعَضْل: المنع من التزوّج، وأنشد الأخفش:
ونحن عضلنا بالرماح لسانا ** وما فيكم عن حرمة له عاضل

وأنشد:
وأن قصائدي لك فاصطنعني ** كرائم قد عضلن عن النكاح

وأصل العضل الضيق والشدّة، يقال: عضلت المرأة والشاة إذا تشبث ولدهما في بطنهما فضاق عليه الخروج، وعضلت الدجاجة إذا تشبّث البيض فيها، وعضل الفضاء بالجُلَّس إذا ضاق عليهم لكثرتهم، ويقال: ذا عضال إذا ضاق علاجه فلا يطاق، ويقال: عضل الأمر إذا اشتدّ وضاق.
قال عمر رضي الله عنه: أعضل أهل الكوفة لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير، وقال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي ** يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا

ولكنّه النائي إذا كنت آمناً ** وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

قال طاووس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلاّ ابن عباس، وكل مشكل عند العرب معضل ومنه قول الشافعي:
إذا المعضلات بعدن عني ** كشفت حقائقها بالنظر

{أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الأوّل بنكاح جديد {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} بعقد حلال ومهر جائز، ونظم الآية: فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا بينهم، وفي هذه الآية دليل قول من قال: لا نكاح إلاّ بولي لأنه تعالى خاطب الأولياء في التزويج، ولو كان للمرأة إنكاح نفسها لم يكن هناك عضل ولا لنهي الله الأولياء عن العضل معنى، يدلّ عليه ما روى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلاّ بولي».
{ذلك} أي ذلك الذي ذكرت من النهي {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} وإنما قال ذلك موحداً والخطاب للأولياء؛ لأنّ الأصل في مخاطبة الجمع ذلكم ثم كثر ذلك حتى توهّموا أنّ الكاف من نفس الحرف، وليس بكاف الخطاب، فقالوا ذلك، وإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة منصوبة في الآيتين والجمع والمذكر والمؤنث.
وقيل: ها هنا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فلذلك وحَّده ثم رجع إلى خطاب المؤمنين، فقال عزّ من قائل {ذلكم أزكى} خيرٌ وأفضل {لَكُمْ وَأَطْهَرُ} لقلوبكم من الريبة وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حبّ لم يؤمن بأن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما، ولم يؤمن من أوليائهما إن سبق إلى قلوبهم منهما لعلّهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون.
{والله يَعْلَمُ} من خبر كل واحد منهما لصاحبه {وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (233- 234):

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
{والوالدات} المطلقات اللاتي لهنّ أولاد من أزواجهنّ المطلقين ولدنهم قبل الطلاق أو بعده {يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} يعني أنهنّ أحق برضاعهنّ من غيرهنّ، أمر استحباب لا أمر إيجاب من أنه رضاعهن عليهنّ لأنه سبحانه وتعالى قال في سورة الطلاق {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] إلى {لَهُ أخرى} [الطلاق: 6].
ثم بيّن حدّ الرضاع فقال: {حَوْلَيْنِ} أي سنتين، وأصله من قولهم: حالَ الشيء إذا انتقل وتغيّر {كَامِلَيْنِ} على التأكيد كقوله تلك عشرة كاملة، وقال أهل المعاني: إنما قال: {كَامِلَيْنِ} لأنّ العرب تقول: أقام فلان مقام كذا حولين أوشهرين وإنما أقام حولا وبعض آخر، ويقولون: اليوم يومان مذ لم أره، وإنما يعنون يوماً وبعض آخر، ومنه قوله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ومعلوم أنه يتعجل أو يتأخر في يوم ونصف، ومثلها كثير، فبيّن الله أنهما حولان كاملان أربعة وعشرين شهراً من يوم ولد إلى أن يُفطم.
واختلف العلماء في هذا الحدّ أهو حدّ لكل مولود أو حدّ لبعض دون بعض؟ فروى عكرمة عن ابن عباس: إذا وضعت لستة أشهر فإنها ترضعه حولين كاملين، أربعة وعشرين شهراً، وإذا وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثة وعشرين شهراً، وإذا وضعته لتسعة أشهر أرضعته إحدى وعشرين شهراً، كل ذلك تمام ثلاثين شهراً، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15].
وقال قوم: هو حدّ لكل مولود في وقت وأن لا ينقص من حولين ولا يزيد إلاّ أن يشاء الزيادة؛ فإن أراد الأب يفطمه قبل الحولين ولم ترضَ الأُم فليس له ذلك، وإذا قالت الأُم: أنا أفطمه قبل الحولين، وقال الأب: لا، فليس لها أن تفطمه حتى يتفقا جميعاً على الرضا، فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه وإن اختلفا لم يفطماه قبل الحولين، وذلك قوله: {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} ويشاور هذا قول ابن جريج والثوري ورواية الوالبي عن ابن عباس.
وقال آخرون: المراد بهذه الآية الدلالة على الرضاع ما كان في الحولين، فإنّ ما بعد الحولين من الرضاع يحرم، وهو قول علي وعبد الله وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري، وفي الحديث: «لا رضاع بعد الحولين»، وإنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم.
وقال قتادة والربيع: فرض الله عزّوجل على الوالدات أن يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} أي هذا منتهى الرضاع، وليس فيما دون ذلك وقت محدود، وإنما هو على مقدار صلاح الصبي وما يعيش به، وقرأ أبو رجاء {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} بكسر الراء، قال الخليل والفرّاء: هما لغتان، مثل الوِكالة والوَكالة والدِّلالة.
وقرأ مجاهد وابن محجن {لمن أراد أن يتم الرضعة} وهي فعلة كالمرّة الواحدة، وقرأ عكرمة وحميد وعون العقيلي {لمن أراد أن تتم الرضاعة} بتاء مفتوحة ورفع الرضاعة على أن الفعل لها، وقرأ ابن عباس {يكمل الرضاعة}.
{وَعلَى المولود لَهُ} يعني الأب {رِزْقُهُنَّ} طعامهنّ وقوتهنّ {وَكِسْوَتُهُنَّ} لباسهنّ، وقرأ طلحة عن مصرف {وَكُسْوَتُهُنَّ} بضم الكاف، وهما لغتان مثل أُسوه وإسوة ورشوه ورشوة {بالمعروف} علم الله تفاوت أحوال خلقه في الغنى والفقر، فقال: {بالمعروف} أي على قدر الميسرة جعل الرضاعة على الأم والنفقة على الأب {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} والتكليف الإلزام، قال الشاعر:
تكلّفني معيشة آل فهر ** ومن لي بالصلائق والصناب

والوسْع ما يسع الإنسان فيطيقه ولا يضيق عليه، وهو اسم كالجهد والوجد، وقيل: الوسع يعني الطاقة، ورُفع (النفس) باسم الفعل المجهول لأنّه وضع موضع الفاعل، وانتصب (الوسع) بخبر الفعل المجهول، لأنّه أُقيم مقام المفعول، نظيرها في سورة الطلاق.
{لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قرأ ابن محجن وابن كثير وشبل وأبو عمرو وسلام ويعقوب وقتيبة برفع الراء مشددة وأجازه أبو حاتم على الخبر مسبوقاً على قوله: {لاَ يُكَلِّفُ الله} [الطلاق: 7] وأصله فلا يضارر فأُدغمت الراء في الراء، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكناني وخلف {لاَ تُضَآرَّ} مشددة منصوبة الراء، واختاره أبو عبيد على النهي وأصله لا تضارر فأدغمت وحرّكت إلى أخفّ الحركات وهو النصب، ويدلّ عليه قراءة عمر: لا تضارر على إظهار التضعيف، وقرأ الحسن: لا تضارّ براء مدغمة مكسورة لأنها لمّا أُدغمت سُكّنت، وبجزمه تحرّك إلى الكسر، وروى أبان عن عاصم: لا تُضارر مظهرة مكسورة على أنّ الفعل لها، وقرأ أبو جعفر لا تضار بجزم الراء وتخفيفه على الحذف طلباً للخفّة.
ومعنى الآية {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه وألفها الصبي {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} ولا تلقيه هي إلى أبيه بعد ما عرفها تضارّه بذلك.
وقيل: معناه {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيكرهها على الرضاعة إذا قبل من غيرها، وكرهت هي إرضاعه؛ لأنّ ذلك ليس بواجب عليها {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} فيحمل على أن يعطي الأم إذا لم يرضع الولد إلاّ منها أكثر ممّا يحب لها عليه، فهذان القولان على مذهب الفعل المجهول على معنى أنه يفعل ذلك بها وبوالده والمولود له مفعولان، وأصل الكلمة يضارّ بفتح الراء الأُولى، ويحتمل أن يكون الفعل لهما، وأن يكون تضارّ على مذهب ما قد سُمّي فاعله، والمعنى: لا يضارّ والده فتأبى أن ترضع ولدها لتشقّ على أبيه ولا مولود له، ولا يضارّ الأب أم الصبي فيمنعها من إرضاعه وينزعه منها، وعلى هذا المذهب أصله لا يضارر بكسر الراء الأُولى، وعلى هذه الأقوال يرجع الضرار إلى الوالدين بضرّ كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد.
ويجوز أن يكون الضرار راجعاً إلى الصبي أي لا يضارّ كل واحد منهما الصبي، فلا ترضعه الأم حتى يموت، أولا ينفق عليها الأب أو ينزعه من أُمه حتى يضرّ بالصبي وبكون الياء زائدة معناه: لا تضارّ الأم ولدها ولا أب ولده، وكل هذه الأقاويل مروية عن المفسّرين.
{وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} اختلف أهل الفتاوى فيه أي وارث هو؟ ووارث من هو؟ فقال قوم: هو وارث الصبي، معناه: وعلى وارث الصبي الذي لو مات الصبي وله خال ورثه، مثل الذي كان على أبيه في حياته.
ثم اختلفوا أي وارث هو من ورثته؟ فقال بعضهم: هو عصبته كائناً من كان من الرجال دون النساء، مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العم ونحوهم، وهو قول عمر رضي الله عنه والزهري والحسن ومجاهد وعطاء ومذهب سفيان، قال: إذا لم يبلغ نصيب الصبي ما ينفق عليه أجرت العصبة الذين يرثونه أن يسترضعوه.
قال ابن سيرين: أتى عبد الله بن عتبة في رضاع صبي يتيم ومنعه وليه؛ فجعل رضاعه في ماله، وقال لوارثه: لو لم يكن له مال لجعلنا رضاعه في مالك، ألاترى أنّ الله عزّ وجلّ يقول: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}؟ قال الضحاك: إنْ مات أبُ الصبي وللصبي المال أخذ رضاعه من المال، وإنْ لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجرت عليه أُمّه.
وقال بعضهم: هو ويرث الصبي كائناً من كان من الرجال والنساء، وهو قول قتادة والحسن بن صالح وابن أبي ليلى ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور قالوا: يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه، عصبةً كانوا أو غيرهم.
وقال بعضهم: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود؛ فمن لم يكن بمحرم مثل ابن العم والمولى وما أشبههما فليسوا ممن عناهم الله بقوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} وإن كانوا من جملة العصبة لا يجبرون على النفقة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، قال: لا يجبر على نفقة الصبي إلاّ ذو رحمه المحرم، وقال آخرون {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} يعني الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنّ عليه أجر رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبر أمّه على رضاعه، ولا يجبر على نفقة الصبي إلاّ الوالدان، وهو قول مالك والشافعي. وقيل: هو الباقي من والديّ المولود بعد وفاة الآخر منهما عليه مثل ذلك، يعني: مثل ما كان على الأب من أجر الرضاع والنفقة والكسوة، قاله أكثر العلماء، وقال الشعبي والزهري: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} يعني أن لا يضارّ.
{فَإِنْ أَرَادَا} يعني الوالدان {فِصَالاً} فطاماً قبل الحولين وأصل الفصل القطع {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} جميعاً به واتفاقاً عليه {وَتَشَاوُرٍ} وهو استخراج الرأي، وأصله من شرت الدابة وشوّرتها إذا استخرجت ما عندها من الغدد ويقال لعلم ذلك: المشوار.
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ} أيها الآباء {أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} مراضع غير أمهاتهم إذا أَبين مراضاتهم أن يرضعنه، أو لعلّة بهنّ أو انقطاع لبنهنّ، أو أردن النكاح، أو خفتم الضيعة على أولادكم {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم} إلى أُمهاتهم أجرهن بقدر ما أرضعن، وقيل: سلّمتم أجور المراضع إليهن.
وقيل: إذا سلّمتم الاسترضاع عن تراض واتفاق دون الضرار وذلك قوله تعالى: {مَّآ آتَيْتُم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي يُقبضون ويموتون، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً، وقرأ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بفتح الياء أي يتوفون أعمارهم وأرزاقهم وتوفى واستوفى بمعنى واحد {وَيَذَرُونَ} ويتركون {أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} فإن قيل: فأين الخبر عن قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قيل: هو متروك فإنه لم يقصد الخبر عنهم، وذلك جائز في الاسم يذكر ويكون تمام خبره في اسم آخر، أن يقول الأول ويخبر عن الثاني فيكون معناه {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كقول الشاعر:
بني أسد أنّ ابن قيس وقتله ** بغير دم دار المذلّة حلّت

فألغى ابن قيس وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذلّ، وأنشد:
لعلّي أن مالت بي الريح ميلة ** على ابن أبي ذبان أن يتندما

فقال: لعلّي ثم قال: يتندما لأن المعنى فيه عدا قول الفرّاء.
وقال الزجّاج: معناه: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} أزواجهم يتربصن بأنفسهنّ.
وقال الأخفش: خبره في قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} أي يتربصن بعدهم.
وقال قطرب: معناه ينبغي لهنّ أن يتربصن أي ينتظرن ويحتبسن بأنفسهن، معتدّات على أزواجهن، تاركات الطيب والزينة والأزواج والنقلة عن المسكن الذي كنّ يسكنّه في حياة أزواجهنّ أربعة أشهر وعشراً إلاّ أن يكنّ حوامل فيتربصن إلى أن يضعن حملهن، فإذا ولدنَ انقضت عدّتهنّ.
روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تفتي للمتوفى عنها زوجها حتى تنقضي عدّتها أن لا تلبس مصبوغاً، وتلبس البياض ولا تلبس السواد، ولا تتزيّن ولا تلبس حليّاً ولا تكتحل بالأثمد ولا بكحل فيه طيب وإنْ وجعت عينها، ولكنها تتحلّى بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الأثمد مما ليس فيه طيب.
وروى نافع عن زينب بنت أم سلمة أنّ امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «إن ابنتي توفي زوجها وقد اشتكت عينها حتى خفت على عينها وهي تريد الكحل، فقال عليه الصلاة والسلام: قد كانت احداكنّ تلبس أطمار ثيابها وتجلس في أخسّ بيوتها وتمكث حولا في بيتها، فإذا كان الحول خرجت فمن كملت رمته ببعرة أفلا أربعة أشهر وعشراً».
وروى نافع عن صفية بنت عبد الرحمن عن حفصة بنت عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج، فإنها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً».
وقال سعيد بن المسيّب: الحكمة في هذه المدّة أن فيها ينفخ الروح في الولد، وإنّما قال وعشراً بلفظ المؤنث لأنه أراد الليالي لأن العرب إذا أتممت العدد من الليالي والأيام غلّبت عليه الليالي فيقولون: صمنا عشراً، والصوم لا يكون إلاّ بالنهار، قال الشاعر:
وطافت ثلاثاً بين يوم وليلة ** وكان النكير أن يضيف ويجار

أي يخاف فاضح، ويدلّ عليه قراءة ابن عباس: أربعة أشهر وعشر ليال، وقال المبرّد: إنّما أنّث العشر لأنّه أراد به المدد.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني انقضاء العدّة {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يخاطب الأولياء {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} من البر في أن يتولّوه لهنّ {بالمعروف والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.