فصل: تفسير الآية رقم (260):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} الآية إن قيل: ما السبب في مسألة إبراهيم ربّه عزّ وجلّ أن يُريه كيف يُحيى الموتى، وما وجه ذلك، وهل كان إبراهيم شاكّاً في إحيائه الموتى حتّى قال: ولكن ليطئمن قلبي؟
فالجواب عنه من وجوه: قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج: كان سبب ذلك السؤال أنّ إبراهيم أتى على دابة ميّتة، قال ابن جريج: كانت جيفة حمار بساحل البحر، قال عطاء: بحيرة الطبريّة، قالوا: فرآها وقد توزّعتها دواب البر والبحر، وكان إذا مدّ البحر جاءت الحيتان ودواب البحر فأكلت منها فما وقع منها يصير في الماء، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير تراباً، فإذا ذهبت السباع جاءت الطيور فأكلن منها فما سقط قطعته الريح في الهواء، فلما رأى ذلك إبراهيم عليه السلام تعجّب منها وقال: يارب قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع وحواصل الطيور وأجواف دواب البر فأرني كيف تُحييها لأعاين ذلك فأزداد يقيناً، فعاتبه الله عزّ وجلّ فقال: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} بإحياء الموتى {قَالَ بلى} يارب علمت وآمنت ولكن ليس الخبر كالمعاينة فذلك قوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي يسكن قلبي إلى المعاينة والمشاهدة.
فعلى هذا القول أراد إبراهيم عليه السلام أن يصير له علم اليقين عين اليقين، كما أن الإنسان يعلم الشيء ويتيقنه ولكن يحب أن يراه من غير شك له فيه، كما أن المؤمنين يحبّون رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ورؤية الجنّة ورؤية الله تعالى مع الإيمان بذلك وزوال الشك فيه.
قال ابن زيد: مرّ إبراهيم عليه السلام بحوت ميّت نصفه في البر ونصفه في البحر فما كان في البحر فدواب البحر تأكله وما كان في البر فدواب البر تأكله، فقال له الخبيث إبليس: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟
فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى}، قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بذهاب وسوسة إبليس منه ويصير الشيطان خاسراً صاغراً.
وقال بعضهم: إن إبراهيم عليه السلام لما أحتجّ على نمرود وقال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
وقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} وقتل ذلك الرجل وأطلق الآخر.
قال إبراهيم: فإنّ الله عزّ وجلّ يحيي بأن يقصد إلى جسد ميّت فيحييه ويجعل الروح فيه.
فقال له نمرود: أنت عاينت هذا، فلم يقدر أن يقول نعم رأيته، فانتقل إلى حجّة أُخرى، فقال إنّ الله عزّ وجلّ يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، ثم سأل ربّه فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} حتّى إذا قال لي قائل: أنت عاينت؟ أقول: نعم قد عاينت ولا أحتاج إلى الإنصراف لأي حجّة أُخرى، وليعلم نمرود إنّ الإحياء كما فعلت لا كما فعل هو.
وهذا معنى قول محمد بن إسحاق عن ابن يسارة.
روى في الخبر: إنّ نمرود قال لإبراهيم عليه السلام: أنت تزعم إن ربّك يُحيي الموتى وتدعوني إلى عبادته فسل لربّك يُحيي الموتى إنّ كان قادراً وإلاّ قتلتك.
فقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بقوّة حجّتي ونجاتي من القتل، فإن عدو الله توعدني بالقتل إنّ لم تُحيي له ميّتاً.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي: لما أتخذ الله إبراهيم خليلاً، سأل مَلَك الموت أن يأذن له فيبشّر إبراهيم بذلك، فأذن له فأتى إبراهيم ولم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم عليه السلام أغير الناس، إذا خرج أغلق بابه، فلمّا دخل وجد في داره رجلاً فثار إليه ليأخذه فقال له: مَنْ أذن لك أن تدخل داري؟
فقال مَلَك الموت: أذن لي ربّ هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت، وعرف أنّه مَلَك الموت.
فقال: مَنْ أنت؟
قال: مَلَك الموت جئت أُبشّرك بأن الله عزّ وجلّ أتخذك خليلاً، فحمد الله تعالى وقال له: ما علامة ذلك؟
قال: أن يجيب الله دعائك ويُحيي الموتى بسؤالك، ثم أنطلق مَلَك الموت.
فقال إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بعلمي أنّك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك. واتخذتني خليلاً.
محمد بن مسلم عن سعيد بن المسيّب وأبي عبيدة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يرحم الله إبراهيم نحن أحق بالشك منه قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن}؟
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}»
ثم قرأ إلى آخر الآية.
محمد بن إسحاق بن خزيمة قال سمعت أبا إبراهيم المزني يقول: معنى قوله عليه السلام «نحن أحق بالشك من إبراهيم» إنّما شك إبراهيم أيجيبه الله عزّ وجلّ إلى ما يسأل أم لا.
عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا القاسم النصر أباذي سُئل عن هذه الآية فقال: حنّ الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه، فذلك قوله عزّ وجلّ {أَوَلَمْ تُؤْمِن}. يعني أنت مؤمن شهد له بالإيمان، كقول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

يعني أنتم كذلك.
{قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ} ليسكن {قَلْبِي} بزيادة اليقين والحجّة، وحقيقة الخلّة وإجابة الدعوة.
قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير} مختلفة أجناسها وطباعها ليكون أبلغ في القدرة، وخصّ الطائر من سائر الحيوان لخاصيّة الطيران، واختلفوا في ذلك الطير ماهي.
فقال ابن عباس: أخذ طاووساً ونسراً وغراباً وديكاً.
مجاهد وعطاء بن يسار وابن جريج وابن زيد: كانت غراباً وديكاً وطاووساً وحمامة.
سعيد بن أيوب عن سعيد بن الحرث الغراب عن أبي هريرة السناني: أنّها الطاووس والديك والغراب والحمامة.
قال عطاء الخراساني: أوحى الله عزّ وجلّ لنبيّه أن أحضر أربعة من الطير: بطّة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكاً أحمر.
{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرأ عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه وأبو الأسود الدؤلي وأبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن البصري وعكرمة والأعرج وشيبة ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم والكسائي وأبو عمرو ويعقوب وأيوب: بضم الصاد، وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم: إضممهنّ ووجّههنّ إليك.
يقال: صرت الشيء أصوره إذا أملته.
قال أمرؤ القيس:
وأفرع ميّال يكاد يصورها ** وعجز كدعص أثقلته البوايص

وقال الطرمّاح:
عفايف الأذيال أو أن يصورها ** هوى والهوى للعاشقين صروع

أي يميلها هوى.
ويقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق.
ويقال: إنّي إليكم لأصور، أي مشتاق مائل، وامرأة صوراء، والجمع صور، مثل عوداء وعُود.
قال الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ** يوم الفراق إلى جيراننا صور

وقال عطاء وعطيّة وابن زيد والمؤرخ: معناه: أجمعهن وأضممهن، يقال: صار يصور صوراً إذا جمع، ومنه قيل: إني إليكم لأصور.
قال الشاعر:
وجاءت خلعة دُهس صفايا ** يصوّر عنوقها أحوى زنيم

أي بضم خلعة والخلعة خيار المال، ودهس على لون الدهاس وهو الرمل. صفايا غزار معجبة.
قال أبو عبيدة وابن الأنباري: معناه: قطّعهن وأصغر القطع.
قال به ابن الحمير:
فلما جذبت الحبل أطّت نسوعه ** بأطراف عيدان شديد أسورها

فأدنت لي الأسباب حتّى بلغتها ** بنهض وقد كاد أرتقائي يصورها

قال رؤبة:
صرنا به الحكم واعياً الحكما ** أي قطعنا الحكم به

وقرأ علقمة وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير وطلحة وقتادة وأبو جعفر ويحيى بن رئاب والأعمش وحمزة وخلف: {فَصُرْهُنَّ} بكسر الصاد، ومعناه: قطّعهن وفرّقهن. يقال: صار يصير صيراً، إذا قطع، وأنصار الشيء بنصار أنصاراً إذا انقطع.
قالت الخنساء:
فلو تلاقي الذي لاقته مضر ** لظلت الشم منها وهي تنصار

أي مقطّع مصدّع وتمهيد.
وأنشد أبو سهيل محمد بن محمد الأشعث الطالقاني في العزائم:
وغلام رأيته صار كلبا ** ....... ساعتين صار غزالاً

وقال الفرّاء: هو مقلوب من صرت أصري صريا إذا قطعت فقدمت هاوياً كما يقال: عوث وعاث يعني قطعهم ثم قلب فقيل صار. قال الشاعر:
يقولون إن الشام يقتل أهله ** فمن لي إذ لم آته بخلود

تغرب آبائي فهلا صراهم ** من الموت إن لم يذهبوا وجدودي

وقال بعضهم: معناه أملهنّ، وهي لغة هذيل وسليم. وأنشد الكسائي:
وفرع يصير الجيد وحف كأنّه ** على الليت قنوان الكروم الدوالح

أي الجيد يميله من كثرته.
وعن ابن عباس فيه روايتان: {فَصُرْهُنَّ} مفتوحة الصاد مشددة الراء مكسورة من التصرية وهي الجمع ومنه المصرّاة.
والثاني: {فَصُرْهُنَّ} بضم الصاد وفتح الراء وتشديدها من الصرّة وهي في معنى الجمع والشدّ أيضاً. فمن تأوّله على القطع والتفريق، ففي الكلام تقديم وتأخير تقديره: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن. ومَنْ فسّره على الضم ففيه إضمار معناه: فصرهن إليك، ثم قطعهنَّ فحذفه فأكتفى بقوله تعالى: {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} لأنّه يدلّ عليه، وهذا كما يقال: خذ هذا الثوب واجعل على كلّ رمح عندك منه علماً، يريد قطعّهُ واجعل على كلّ رمح علماً.
{ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ}، لفظه عام ومعناه خاص؛ لأنّ أربعة من الطير لا يبلغ الجبال كلّها، ولا كان إبراهيم عليه السلام يصل إلى ذلك فهذا كقوله عزّ وجلّ: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] كقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25].
{جُزْءًا} قرأ عاصم رواية أبي بكر والمفضّل {جُزْءًا} مثقلاً مهموزاً حيث وقع.
وقرأ أبو جعفر {جُزْءًا} مشدّدة الزاء، وقرأ الباقون مهموزاً مخففّاً، وهي لغات معناها: النصيب والبعض.
قال المفسّرون: أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يذبح تلك الطيور بريشها ويقطّعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها بعضها ببعض. ففعل ذلك إبراهيم ثم أمره أن يجعل أجزاءها على الجبال.
واختلفوا في عدد الأجزاء والجبال، قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن أبي إسحاق: أُمر بأن يجعل كلّ طائر أربعة أجزاء ثم يعمد إلى أربعة أجبل فيجعل على كلّ جبل ربعاً من كلّ طائر ثم يدعوهن: تعالين بإذن الله. هذا مثل ضربه الله عزّ وجلّ لإبراهيم وأراه إياه، يقول: كما بعثت هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة فكذلك أبعث الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
وقال ابن جريج والسدي: جزّأها سبعة أجزاء فوضعها على سبعة أجبل ففعل ذلك وأمسك رؤسهن عنده، ثم دعاهن: تعالين بأمر الله سبحانه، فجعل كل قطرة من دم طير تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأُخرى، وكلّ عظم يصير إلى الآخر، وكلّ بضعة تذهب إلى الأُخرى، وإبراهيم ينظر حتى لقيت كلّ جثة بعضها بعضاً في السماء بغير رأس، ثم أقبلن إليّ فكلّما جاء طائر مال برأسه فإنّ كان رأسه دنا منه وإن لم يكن رأسه تأخّر حتّى يلقي كلّ طائر برأسه.
فذلك قوله: {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ سَعْياً} هو مصدر، أي يسعين سعياً، وقيل: نصب بنزع حرف الصفة، أي بالسعي، واختلفوا في معنى السعي، فقال بعضهم: هو الإسراع والعدو، وقال بعضهم: مشياً على أرجلهن كقوله سبحانه في سورة القصص: {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} [20] نظيره في سورة الجمعة: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [9] أي فامضوا.
والحكمة في المشي دون الطيران كونه أبلغ في الحجّة وأبعد من الشبهة؛ لأنّها لو طارت لتوهم متوهم أنّها غير تلك الطير أو أن أرجلها غير سليمة والله أعلم.
وقال بعضهم: هو بمعنى الطيران، وقال النضر بن شميل: سألت الخليل بن أحمد عن قوله: {يَأْتِينَكَ سَعْياً} هل يقال لطائر إذا طار سعي؟ قال: لا. قلت: فما معنى قوله: {يَأْتِينَكَ سَعْياً}؟
قال: معناه: يأتينّك وأنت تسعى سعياً. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا الحسن الأقطع وكان حكيماً يقول: صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لكلّ آية ظهر وبطن ولكل حرف حدّ ومطلع».
وظاهر الآية ما ذكره أهل التفسير، وبطنها: إن إبراهيم عليه السلام أُمر بذبح أربعة أشياء في نفسه بسكين الأياس كما ذبح في الظاهر الأربعة الأطيار بسكين الحديد، فالنسر مثل لطول العمر والأجل، والطاووس زينة الدنيا وبهجتها، والغراب الحرص، والديك الشهوة.
قال الله تعالى: {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

.تفسير الآيات (261- 264):

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
{مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية فيها إضمار واختصار تقديرها: مثل صدقات الذين ينفقون أموالهم، فإن شئت قلت: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ}. {فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ} زارع حبّة {أَنبَتَتْ} أخرجت {سَبْعَ سَنَابِلَ} جمع سنبلة، أدغمها أبو عمر وأبو غزية وحمزة والكسائي، وأظهرها الباقون. فمن أدغم فلأن التاء والسين مهموزتان، ألا ترى أنهما متعاقبان. أنشد أبو عمرو:
يالعن الله بني السعلاة ** عمرو بن ميمون لئام النات

أراد لئام الناس فحوّل السين تاء. ومن أبرز فلأنهما كلمتان وهو الأصل واللغة الفاشية.
{فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} أبو جعفر والأعمش: يتركان خمس مائة ومائة، حيث كانت استخفافاً.
وقرأ الباقون بالمد.
فإن قلت: هل رأيت سنبلة فيها مائة حبة، أو هل بلغك ذلك؟
قيل: لا ننكر ذلك ولا يستحيل، فإن يكن موجوداً فهو ذلك وإلاّ فجائز أن يكون معناه كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة أن جعل الله سبحانه ذلك فيها، ويحتمل أن يكون معناه: أنّها إذا بُذرت أنبتت مائة حبّة، فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبّة مضاهياً لها، لأنّه كان عنها، وكذلك ما قاله الضحاك قال: أنبتت كلّ سنبلة مائة حبّة.
{والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} ما بين سبع وسبعين وسبعمائة إلى ما شاء الله عزّ وجل ممّا لا يعلمه إلاّ الله.
{والله وَاسِعٌ} غني لتلك الأضعاف {عَلِيمٌ} بمن ينفق.
قال الضحاك في هذه الآية: من أخرج درهماً ابتغاء مرضاة الله فله في الدنيا لكلّ درهم سبعمائة درهم خلفاً عاجلاً، ولقي ألف درهم يوم القيامة.
قال الكلبيّ في قوله: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} الآية: نزلت في عثمان بن عفّان رضي الله عنه وعبد الرحمن بن عوف، «أمّا عبد الرحمن فإنّه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كانت عندي ثمانية آلاف فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها ربّي عزّ وجل.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك في ما أمسكت وفيما أعطيت»
فأمّا عثمان فقال: عليّ جهاز مَنْ لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهّز المسلمين ألف بعير بأحلاسها وأقتابها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين فنزلت فيهما هذه الآية.
قال عبد الرحمن بن سمرة: «جاءَ عثمان رضي الله عنه بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُدخل يده فيها ويقبلها ويقول: ماضرّ ابن عفّان ما عمل بعد اليوم».
قال أبو سعيد الخدري: «رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم رافعاً يده يدعو لعثمان رضي الله عنه» يارب عثمان بن عفّان رضيت عنه فأرض عنه «وما زال يدعو رافعاً يديه حتّى طلع الفجر فأنزل الله تعالى فيه {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله}».
أي في طاعة الله.
{ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً} وهو أن يمنّ عليه بعطائه ويعد نعمه عليه يكدّرها يواصل المنّة النعمة.
يقال: مَنْ يمنّ منّة ومنّاً ومنيّتاً إذا أنعم وأعطى. قال الله تعالى: {هذا عَطَآؤُنَا فامنن} [ص: 39] أي إعط ثم كثر ذلك حتّى صار ذكر النعمة والاعتداد بها منّة.
{وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بإظهار العطيّة وذكرها لمن لا يجب وقوفه عليها وما أشبه ذلك من القول الذي يُؤديه.
قال سفيان والمفضّل في قوله: {مَنّاً وَلاَ أَذًى}: هو أن يقول أعطيتك فما شكرت.
قال الضحاك: أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتّبعه مناً وأذىً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً وظننت أنّ سلامك يثقل عليه، فكفّ سلامك عنه.
قال ابن زيد: فشيء خير من السلام؟
قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أُسامة تدلّني على رجل يخرج في سبيل الله حقّاً فإنّهم لا يخرجون إلاّ ليأكلوا الفواكه، فعندي جعبة وأسهم فيها فقال: الله لا بارك الله لكِ في جعبتك ولا في أسهمك فقد أذيتهم قبل أن تعطيهم.
فحظر الله عن عباده المن بالصنيعة وأختص به صفتاً لنفسه؛ لأن منّ العباد تعيير وتكدير ومَنّ الله عزّ وجلّ إنعام وأفضال وتذكير. وأنشد معاد بن المثنّى العنبري عن أبيه محمود بن الورّاق:
أحَسَنُ مَنْ كلّ حَسَنْ ** في كلّ حين وزمن

صنيعةٌ مربوبةٌ ** خاليةٌ مِنَ المننْ

قال الثعلبي: أبو علي زاهر بن أحمد السرَخسي قال: أنشدنا أبو ذر القرطبي:
ماتم معروفك عند أمري ** كلّفته المعرف إعظامكا

إنّ من البر فلا تكذبن ** إكرام من أظهر إكرامكا

والمن للمنعم نقصٌ فلا ** تستفسدن بالمنّ إنعامكا

والعزّ في الجود وبخل الفتى ** مذلّة أحببت إعلامكا

قال: وأنشدني محمد بن القاسم قال: أنشدني محمد بن طاهر قال: أنشدني أبو علي البصري:
وصاحب سلفت منه إليّ يد ** أبطا عليه مكافاتي فعاداني

لما تيقّن أنّ الدهر حاربني ** أبدى الندامة فيما كان أولاني

وقال آخر:
أفسدت بالمن ماقدّمت من حُسن ** ليس الكريم إذا أعطى بمنّان

{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ خَيْرٌ} أي كلام حسن وردّ على السائل جميل، وقيل: [....] حسن.
وقال الكلبي: دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب. قال الضحاك: قول في إصلاح ذات البين. {وَمَغْفِرَةٌ} أي مغفرة منه عليه لما علم خلّته وفاقته. قاله محمد بن جرير، وقال الكلبي والضحاك: تجاوز عن ظلمه، وقال: يتجاوز عنه إذا استطال عليه عند ردّه علم الله تعالى إنّ الفقير إذا رُدّ بغير نوال شقّ عليه ذلك مما يدعو إلى بذاء اللسان أو إظهار الشكوى، وعلم ما يلحق المانع منه، فحثّه على الصفح والعفو وبيّن أن ذلك خير له {مِّن صَدَقَةٍ} يدفعها إليه {يَتْبَعُهَآ أَذًى} أي مَنّ وتعيير السائل بالسؤال أو شكاية منه أو عيب أو قول يُؤذيه.
{والله غَنِيٌّ} عن صدقة العباد، ولو شاء لأغنى جميع الخلق ولكنّه أعطى الأغنياء لينظر كيف شكرهم وأخلى الفقراء لينظر كيف صبرهم، وذلك قوله عزّ وجلّ: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} [النحل: 71] بالفرض والصدقة والمعروف [].
{حَلِيمٌ} إذ لم يعجّل على مَنْ يمنّ ويؤذي بصدقته.
وعن عبد الرحمان السليماني مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ثم ردّوا عليه بوقار ولين أو بذل يسير أو بردَ جميل فإنّه قد يأتيكم مَنْ ليس بأنس ولا جان ينظرون كيف صنيعتكم فيما خوّلكم الله عزّ وجلّ».
وعن بشر بن الحرث قال: رأيت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في المنام فقلت: يا أمير المؤمنين تقول شيئاً لعلّ الله عزّ وجلّ ينفعني به.
فقال: ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء رغبةً في ثواب الله، وأحسن منه تَيْهِ الفقراء على الاغنياء ثقةً بالله عزّ وجلّ.
فقلت: يا أمير المؤمنين زدني، فولّى وهو يقول:
قد كنت ميّتاً فصرت حيّاً ** وعن قليل تصير ميتاً

فاضرب بدار الفناء بيتاً ** وابن بدار البقاء بيتاً

{ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} أي لا تحبطوا أجور صدقاتكم وثواب نفقاتكم بالمنّ على السائل.
وقال ابن عباس: بالمنّ على الله تعالى والأذى لصاحبها.
ثم ضرب لذلك مثلاً فقال: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ} أي كإبطال الذي ينفق ماله {رِئَآءَ الناس} مراءاة وسمعة ليروا نفقته ويقولوا أنّه كريم سخي صالح {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} وهذا للمنافقين لأن الكافر معلن كفره غير مرائي {فَمَثَلُهُ} أي مثل هذا المنافق المرائي {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} الحجر الأملس.
قال الشاعر:
مالي أراك كإنّي قد زرعت حصاً ** في عام جدب ووجه الأرض صفوان

أما لزرعي آبان فأحصده ** كمايكون لوقت الزرع آبان

وهو واحد وجمع، فمن جعله جمعاً قال: واحده صفوانة، بمنزلة تمرة وتمر ونخلة ونخل.
ومن جعله واحداً قال: جمعه صفي وصفى.
قال الشاعر:
مواقع الطير على الصفى

وقال الزعري: {صَفْوَانٍ} بفتح الفاء، وجمعه صِفوان مثل كَروان وكِروان ووَرشانْ ووِرشان.
{عَلَيْهِ} أي على ذلك الصفوان {تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد العظيم القطر {فَتَرَكَهُ صَلْداً} وهو الحجر الصلب الأملس الذي لا شيء عليه.
قال تابّط شراً:
ولست بحلب جلب ريح وقرّة ** ولا بصفا صلد عن الخير معزل

وهو من الأرض مالا ينبت، ومن الرؤوس مالا شعر عليه.
قال رؤبة:
لمّا رأتني حلق المموّه ** براق أصلاد الجبين الأجلة

يعني الأجلح.
وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفقة المنافق والمرائي والمؤمن الذي يمن بصدقته ويؤذي، يعني: إن الناس يرون في الظاهر إنّ لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة أضمحل كلّه وبطل لأنّه لم يكن لله عزّ وجلّ كأنّه لم يكن كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب.
{فَتَرَكَهُ صَلْداً} أجرد لا شيء عليه {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ} على ثواب شيء {مِّمَّا كَسَبُواْ} عملوا في الدنيا لأنّهم لم يعملوه لله تعالى وطلب ما عنده وإنّما عملوه رياء الناس وطلب حمدهم فصار ذلك معظم من أعمالهم.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} نظيره قوله تعالى في وصف أعمال الكفّار: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]. وقوله: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور: 39] الآية.
عكرمة عن ابن عباس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد يسمع أهل الجمع: أين الذين يعبدون الناس قوموا وخذوا أُجوركم ممن عملتم له فإنّي لا أقبل عملاً خالطه شيء من الدنيا».
عبد الله المدني قال: بلغني أنّ رجلاً دخل على معاوية قال: «مررت بالمدينة فإذا أبو هريرة جالس في المسجد، حوله حلقة يحدّثهم فقال: حدّثني أبو القاسم ثم استعبر فبكى فقال: حدّثني خليلي أبو القاسم ثم استعبر فبكى فقال: حدّثني خليلي أبو القاسم ثم بادره الرجل فقال: إنّي رجل غريب لست من أهل البلد وقد أردت أن تحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كل ذلك تخنقك العبرة فأخبرني هذا الذي أردت أن تحدّث به، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل قد كان خوّله مالاً فيقال كيف صنعت فيما خوّلناك؟
فقال: أنفقت وأعطيت، فقال: أردت أن يقال فلان سخي فقد قيل لك فماذا يُغني عنك. ثم يؤتى برجل شجاع فيقال له: ألم أشجّع قلبك؟
قال: بلى، فيقال: كيف صنعت؟
قال: قاتلت حتّى أحرقت مهجتي، فيقال له: أردت أن يقال فلان شجاع وقد قيل فماذا يغني عنك، ثم يؤتى برجل قد أُوتي علماً فيقال له: ألم أستحفظك العلم؟
قال: بلى، فيقال: كيف صنعت، فيقول: تعلّمت وعلّمت، فيقال: أردت أن يقال فلان عالم وقد قيل فماذا يغني عنك، ثم قال: أذهبوا بهم إلى النار»
.