فصل: تفسير الآيات (8- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (8- 14):

{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)}
{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا}: أي ويقول الراسخون كقوله في آخر السورة: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَا} أي ويقولون {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} لا تملها عن الحق والهدى، كما ازغت قلوب اليهود والنصارى، والذين في قلوبهم زيغ.
يُقال: زاغ يزيغ ازاغة إذا مال.
وزاغ تزيغ زيغاً وزيوغاً وزيغاناًاذا حال.
{بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}: وفقنا لدينك، والإيمان بالمحكم والمتشابه من كتابك.
{وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}: وآتنا من لدنك رحمة وتوفيقاً وتثبيتاً للذي نحن عليه من الهدى والإيمان.
وقال الضحاك: تجاوزاً ومغفرة الصدَّق [.....] على شرط السنة.
{إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب}: تعطي. وفي الآية ردَّ على القدرية.
وروى عن أسماء بنت يزيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُكثر في دعائه: «اللهم يا مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك».
قالت: فقلتُ: يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب؟ قال: نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه، وإن شاء أقامه على الحق، فنسأل اللّه تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسألهُ أن يهبْ لنا من لدنه رحمةً إنَّهُ هو الوهاب.
قالت: قلت: يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال: بلى قولي: «اللهم ربَّ محمّد النبي، اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلاّت الفتن ما أحييتني». وعن أبي موسى الأشعري قال: وإنما مثلُ القلب مثل ريشة بفلاة من الأرض.
خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّ قلب ابن آدم مثل العصفور يتقلب في اليوم سبع مرات.
{رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ}: بالبعث ليوم القيامة وقيل: اللام بمعنى في أيَّ يوم.
{لاَّ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه وهو يوم القيامة [....] عندما قرأ الآية [....] ولذلك انصرف عن الخطر إلى الخبر.
{إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} وهو مفعال من الوعد.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ} قرأ السلمي {يغني} بالياء المتقدمة من الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل.
وقرأ الحسن {لن يغني} بالياء وسكون الياء الأخيرة كقول الشاعر:
كفى باليأس من أسماء كافي ** وليس لسقمها إذا طال شافي

وكان حقّه أن يقول: كافياً، فأرسل الياء، وأنشد الفرّاء في مثله:
كأن أيديهنّ بالقاع القرق ** أيدي جوار يعاطين الورق

القرق والقرقة لغتان في القاع.
ومعنى قوله: {لن يغني}: أي لن ينفع، ولن يدفع وإنما سمى المال غنى؛ لأنه ينفع الناس ويدفع عنهم الفقر والنوائب.
{عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً}.
قال الكسائي وقال أبو عبيدة: معناه عند اللّه شيئاً، من بمعنى الحال.
{أولئك هُمْ وَقُودُ النار} {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} نظم الآية {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم}: عند حلول النقمة والعقوبة مثل آل فرعون، وكفَّار الأمم الخالية عاقبناهم فلن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم.
وأما معنى {كَدَأْبِ}: فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضَّحاك وأبو روق والسدَّي وابن زيد: كمثل آل فرعون مع موسى يقول كعب اليهود: لكفر آل فرعون والذين من قبلهم.
ربيع والكسائي وأبو عبيدة: كسنّة آل فرعون. الأخفش: كأمر آل فرعون. قال أمرؤ القيس:
كدأبك من أم الحويرث قبلها ** وجارتها أم الرباب بمأسل

وهذا أصل الحرف يقال: دائب في الأمر أو أبة دأباً ودائب (ويدأ ودءوبا) إذا أدمنت العمل ونعيته.
وأدأب السير أدآباً، فإنَّما يرجع معناه إلى النَّساب والحاك والعادة.
قال الشاعر:
لأرتحلن بالفجر ثمّ لادئبنّ

قال سيبويه: موضع الكاف رفع؛ لأن الكاف للتشبيه تقوم مقام الاسم، وتقديرهُ: دأبهم {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} كدأب الأمم الماضية {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ الله}: فعاقبهم.
{بِذُنُوبِهِمْ}: نظيره قوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40].
{والله شَدِيدُ العقاب} {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ}: قرأ إسحاق وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخَلْقٌ بالياء فيهما، الباقون بالتاء، فمن قرأهما بالياء فعلى الأخبار عنهم أنَّهم يحشرون ويقلبون، ومن قرأهما بالتاء فعلى الخطاب أي قلَّ لهم إنكم ستغلبون وتحشرون وكلا الوجهين صحيح؛ لأنه لم يوح إليهم، واذا كان المخاطب بالشيء غير حاضر وكانت مخاطبته في الكلام بالتاء على الخطاب، وبالياء على الأخبار والأعلام كما تقول: قل لغير اللّه ليضربن ولتضربن.
واختلف المفسرون في المعنى لهذه الآية من هم؟ فقال مقاتل: هم مشركو مكَّة، ومعنى الآية قيل لكفَّار مكّة: ستغلبون يوم بدر وتحشرون في الهجرة، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلَّى اللّه عليه وسلَّم للكافرين يوم بدر: «إنَّ اللّه غالبكم وحاشركم إلى جهنَّم».
دليلُ التأويل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ} [القمر: 45].
وقال بعضهم: المراد بهذه الآية اليهود.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: «إنَّ يهود أهل المدينة قالوا لمَّا هَزَمَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر: هذا واللّه النبي الأمَّي الذي بشَّرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنَّه لا تردُّ له راية، وأرادوا تصديقه واتَّباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى إلى وقفة أخرى به، فلمَّا كان يوم أُحدْ ونكب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شكَّوا وقالوا: لا واللّه ما هو به فغلبَ عليهم الشقاء ولم يسلموا، وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عهدُ إلى مدة لم تنقضِ فنقضوا ذلك العهد من أجله.
وإنطلق كعب بن الإشرف في ستين راكباً إلى أهل مكَّة، أبي سفيان واصحابه، فوافقوهم وأجمعوا أمرهم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لتكون كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل اللّه فيهم هذه الآية.»
.
وقال محمد بن إسحاق عن رجاله لمَّا أصاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قريشاً ببدر، وقدِم إلى المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: «يا معشر اليهود إحذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم قد عرفتم إنَّي نبي مرسل تجدونَ ذلك في كتابكم وعهدَ اللّه إليكم». فقالوا: يا محمَّد لا يغرنَّك أن لقيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة، لك واللّه لو قاتلناك لعرف منا البأس، فأنزل اللّه تعالى {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا}: يعني اليهود ستغلبون وتهزمون وتحشرون إلى جهنَّم في الآخرة، وهذه رواية عكرمة، وسعيد بن جبير عن ابن عباس.
قال: أهل اللغة إشتقاق جهنَّم من الجهنام وهي البئر البعيدة القعر.
{وَبِئْسَ المهاد} يعني النار {قَدْ كَانَ} ولم يقل كانت؛ لأنّ (آية) تأنيهثا غير حقيقي، وقيل: ردّها إلى البيان أي: قد كان لكم بيان فذهبَ إلى المعنى وترك اللفظ كقول امرؤ القيس:
برهرهة رأدة رخصة ** كخر عوبة البانة المنقطر

ولم يقل المنقطرة؛ لأنَّه ذهب إلى القضيب، وقال الفراء: ذكَّره؛ لأنَّه فرق بينهما بالصفة فلما حالت الصفة بين الفعل والاسم المؤنث ذكَّر الفعل وأنَّثه:
إنَّ أمرؤاً غرَّه منكره واحدة بعدي ** وبعدك في الدنيا لمغرورُ

وكل ما جاء في القرآن من هذا النحو، فهذا وجهه، فمعنى الآية {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ}: أي عبرة ودلالة على صدق ما أقول لكم ستغلبون.
{فِي فِئَتَيْنِ}: فرقتين وجماعتين وأصلها في الحرب من بعضهم بقى إلى بعض. {التقتا} يوم بدر.
{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله}: طاعة لله وهم رسول اللّه صلَّى اللّه عليه وسلَّم وأصحابه، وقد كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، على عدَّة أصحاب طالوت الَّذين جازوا معه النهر وما جازَ معه إلاّ مؤمن، سبعة وسبعون رجلاً من المهاجرين ومئتان وستة وثلاثون رجلاً من الأنصار.
وكان صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم والمبارزين علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكانت الإبل في جيش النبي صلى الله عليه وسلم سبعين بعيراً والخيل فرسين: فرس للمقداد بن عمر الكندي، وفَرسْ لمرثد بن أبي فهد العنزي، وكان معهم من السلاح: ستة أدرع وثمانية سيوف وجميع من أستشهد من المسلمين يوم بدر أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
{وأخرى} وفرقة أخرى {ا كَافِرَةٌ}: وهم مشركو مكّة ورأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً مقاتلاً وكانت خيلهم مائة فرس، وكان حرب بدر مشهد شهده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وكان سبب ذلك أعين بن سفين، وإختلف القرَّاء في هذه الآية، قرأها منهم {فِئَةٌ} بالرفع على معنى منهما فئة أو إحداهما فئة.
وقرأ الزهري بالخفض على البدل من الفئتين.
وقرأ ابن السميقع: فما، على المدح.
وقرأ مجاهد: تقاتل بالياء ردَّه إلى القوم وجهان على لفظه، وقرأ الباقون بالتاء.
{يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ} قرأ أبو رجاء وأبو الحرث والحسن، وأبو جعفر، وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب بالتاء وإختاره أبو حاتم، الباقون بالياء، والباقون ممن قرأ بالتاء بمعناه ترونَ يا معشر اليهود والكفار أهل مكَّة مثلي المسلمين.
ومن قرأ بالياء فأختلف في وجهه فجعل بعضهم الخطاب للمسلمين، ثم له تأويلان أحدهما: ما يرى المسلمون المشركين مثلهم في العدد، ثم ظهر العدد القليل على العدد الكثير بخمس أمثال فتلك الآية فإن قيل كذا جاز أن يقول مثليهم وهم قد كانوا ثلاثة أمثالهم، فالجواب أن يقول: هذا مثل وعندك عبدٌ محتاج إليه وإلى مثله، إحتاج إلى مثلَيه فأنت محتاج إلى ثلاثة، ويقول: معي ألف وأحتاج إلى مثليه فأنت محتاجٌ إلى ثلاثة آلاف، فإذا نويت أن يكون الألف داخلاً في المثل كان المثل والاثنان ثلاثة.
قاله الفرَّاء: التأويل الآخر أن معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتها ستمائة وستة وعشرون، وكانوا ثلاثة أمثالهم تسعمائة وخمسين، ثم قلّلهم في أعينهم في حالة أخرى حتى رأتها مثل عدد أنفسهم.
قال ابن مسعود: في هذه الآية نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضاعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا ولا واحداً، ثم قللهم اللّه في أعينهم حتى رأتهم عدداً يسيراً أقل عدداً من أنفسهم.
وقال ابن مسعود أيضاً: لقد قلَّلوا في أعُيننا يوم بدر حتى قلت لرجُل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلاً منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً، وقال بعضهم: الروية راجعة إلى المشركين يعني: يرى المشركون المؤمنين مثليهم قلَّلهم اللّه في أعينهم قبل القتال يعني في أعين المشركين ليجترؤا عليهم ولا ينصرفوا، فلمّا أخذوا في القتال كثّرهم في أعينهم ليجبنوا وقلّلهم في أعين المؤمنين ليجتروا فذلك قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} [الأنفال: 44] الآية.
محمَّد أبي الفرات عن سعيد ابن أبي آوس في قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} قال: كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟ قالوا: ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا: ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا، قال: وذلك ممَّا نصر به المسلمون.
وقرأ السلمي {يَرَوْنَهُمْ} بضم الياء على مالم يسمي فاعله وإنْ شئت على معنى الظن.
{رَأْيَ العين} أي في رأي العين نصب ونزع حرف الصفة وإن شئت على المصدر أي ترونهم رأي العين، أي: في نظر العين يقال: رأيت الشيء رأياً ورؤية ورؤيا ثلاث مصادر إلاّ أنَّ الرؤيا أكثر ما يستعمل في المنام ليفهم في رأى العين بمعنى النظر إذا ذكر.
وقال الأعشى:
فلما رأى لا قوم من ساعة ** من الرأي ما أبصروه وما أكتمن

{والله يُؤَيِّدُ}: يقوي {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك}: التي ذكرت {لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار}: لذوي العقول، وقيل: لمن أبصر الجمعين.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات}: جمع شهوة وهي نزوع عن النفس إليه، وإنَّما حُركَّت الهاء في الجمع ليكون فرقاً بين جمع الاسم وبين جمع النعت؛ لأنَّ النعت لا تحرك نحو: ضخمه، ضُخمات، وحبلة حبلات، والاسم يُحرك مثل: تمرة وتمرات، هو نفقة الجيل ونفقات، فإذا كان ثاني الاسم تاء أو واواً، فأكثر العرب على تسكينها (إستثقالاً) لتحريك الياء والواو كقولك: بيضة وبيضات، جوزة وجوزات.
وعن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُفَّت الجنَّة بالمكاره وحُفَّت النَّار بالشهوات».
{مِنَ النساء}: بدأ بهنَّ؛ لأنهنَّ حبائل الشيطان وأقرب إلى الافتان. {والبنين}: عن القاسم بن عبد الرحمن قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم للأشعث بن قيس: هل لك من ابنة حمزة من ولد؟ قال: نعم لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني حيلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لئن قلت ذلك إنَّهم لثمرة القلوب وقرَّة الأعين وإنَّهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة». {والقناطير المقنطرة}: المال الكثير بعضه على بعض.
ابن كيسان: المال العظيم، أبو عبيدة: تقول العرب هو أن لا يُحدَّ.
وقال الباقون: فلا محدود، ثم اختلفوا فيه، فروى أبو صالح عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار: إثنا عشر ألف أوقية». وعن يزيد الرقاشي قال: دخلت أنا وثابت وناسٌ معنا إلى أنس بن مالك فقلنا له: يا أبا حمزة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قيام الليل؟ قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية أعطي قيام ليلة كاملة، ومن قرأ مائتي آية ومعه القرآن فقد أدَّى حَقَّه، ومن قرأ خمسمائة آية إلى أن يبلغ ألف آية كان كمن تصدَّق بقنطار قبل أن يصبح، قيل: وما القنطار؟ قال: ألف دينار». سالم بن أبي الجعد عن معاذ بن جبل قال: القنطار ألف ومائتا أوقيَّة، وهو قول ابن عمر ومثله روي زر بن حبيش عن أُبي بن كعب: عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية». وروى عطية عن ابن عباس وعبدالله بن عمر عن الحكم عن الضحاك: «إنَّ القنطار ألف ومائتا مثقال». ومثله روى يونس عن الحسن عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
روي حمزة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القنطار ألف دينار». سعيد بن جبير عن عكرمة: هو مائة ألف ومائة مَنْ، ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم، ولقد جاء الإسلام يوم جاء وبمكة مائة رجل.
وعن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح قال: القنطار: مائة رطل.
فقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
أبو نظرة: مسك ثور ذهباً أو فضَّة.
سعيد بن المسيَّب وقتادة: ثمانون ألفاً.
ليث عن مجاهد القنطار: سبعون ألفاً.
شريك: أربعون ألف مثقال.
الحسن: القنطار ديَّة أحدكم.
ومثله روى الوالبي عن ابن عباس وجويبر عن الضحَّاك قال: إثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار ديَّة أحدكم.
وعن أبي حمزة الثمالي قال: القنطار بلسان أفريقيا والأندلس ثمانية آلاف جروال من ذهب أو فضة.
وروى الثمالي عن السدي قال: أربعة آلاف مثقال.
قال الثعلبي: ورأيت في بعض الكتب أنّ القناطير مأخوذة من عقد الشيء وإحكامه وأصلها من الإحكام يقال: قنطرت الشيء إذا أحكمته، ومنه سمَّيت القنطرة المقنطرة.
قال الضحاك: المقنطرة: المحصنَّة المحكمة.
قتادة: هي الكثيرة المنضدة بعضها فوق بعض كأنّها المدفونة يقال: قنطر إذا كثر.
السدي: المخزونة المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير.
قال الفراء: المضعَّفة كأن القنطار ثلاثة والمقنطرة تسعة.
أبو عبيدة: هو مفعللة من القنطار مثل قولك ألف مؤلَّف.
{مِنَ الذهب والفضة}: قيل سُمَّي الذهب ذهباً؛ لأنه يذهب ولا يبقى، والفضَّة؛ لأنَّه تنفض أي تفرق.
{والخيل المسومة}: الخيل جمع هو لا واحد له من لفظه. واحدهُ (فرس) كالقوم والنساء والرهط والجيش ونحوها. واختلف العلماء في معنى {المسومة} فقال مجاهد، وسعيد بن جبير، والربيع: هي الراعية.
ومثله روى عطيَّة عن ابن عباس والحسن: هي المرعيّة يُقال: سامت الخيل يسوم سوماً، فهي سائمة، وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة، وسوَّمتها تسويماً فهي مسوَّمة. قال اللّه: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10].
وفيهُ قول الأخطل:
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله ** أولى لك ابن مسيمة الاجال

يعني: ابن الابل.
حبيب بن أبي ثابت، وابن أبي نجيع عن مجاهد: المطهَّمة الحسان ليث عنها المصوَّرة، وعن عكرمة: تسويمها حسنها.
السدَّي: هي الرايعة، وكلها بمعنى واحد.
أبو عبيدة، والحسن، والاخفش، والقتيبيَّ: المعلَّمة. ومثلهُ روى الوالبي عن ابن عباس.
قتادة: شيباتها وألوآنها، المؤرَّج المكويَّة، المبرد: المعرفة في البلدان.
ابن كيسان: اليحلق وكلها قد قسارية وأصلها من السومة، والمسيما وهي العلامة. يُقال: سومت الخيل تسويماً إذا علمتها. قال اللّه تعالى: {بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125].
قال النابغة في صفة الخيل:
بسمر كالقداح مسوَّمات ** عليها معشر اشبها جنَّ

وقال الأعشى:
وفرسان الحفاظ بكل ثغر ** يقودون المسوَّمة العرابا

وقال ابن زيد وأبان بن ثعلب: المسومة: المعدَّة للحرب والجهاد. قل لبيد:
ولعمري لقد بلي كليب ** كلَّ قرن مسوَّم القتال

قال الثعلبي: ورأيتُ في بعض التفاسير: أنَّها الهماليخ.
فصل في الخيل (صفة خلقها).
روى الحسن بن علي عن أبيه علي عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللّه لما أراد أن يخلق الخلق قال للريح الجنوب: إنَّي خالقٌ منكِ خلقاً. فأجعله عزّاً لأوليائي، ومذلة على أعدائي، وجمالاً لأهل طاعتي، فقال الريح: أخلق. فقبض منها قبضةً فخلق فيها فرساً. فقال له: خلقتك عربياً وجعلت الخير معقوداً بناصيتك، والغنائم مجموعة على ظهرك، عطفتُ عليك صاحبك، وجعلتك تطيرُ بلا جناح، وأنت للطلب وأنت للهرب، وسأجعل على ظهرك رجالاً يسبَّحوني ويحمدونني، ويهلَّلوني ويكبَّروني، تسبَّحين إذا سبَّحوا، وتهلَّلين إذا هلَّلوا، وتكبَّرين إذا كبرَّوا». وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة، وتحميدة وتمجيدة، وتكبيرةُ يكبّرها صاحبها وتسعهُ إلاّ وتجيبه بمثلها». ثم قال: «لما سمعت الملائكة صفة الفرس عاتبوا خالقها قالت: ربَّ نحن ملائكتك نسبّحك، ونحمدك فماذا لنا؟ فخلق اللّهُ لها خيلاً بلقاء أعناقها كأعناق البخت، قال: فلما أرسل الفرس إلى الأرض فأستوت قدماه على الأرض صهَل، فقيل: بوركتِ من دابَّة أذلَّ بصهيلهِ المشركين، أذل به أعناقهم، أملأ منه آذانهم، وأرعب به قلوبهم.
فلما عرض الله على آدم من كل شيء قال: أختر من خلقي ماشئت، فاختار الفرس. فقال له: اخترت عزّك وعزّ ولدك خالداً ما خلدوا وباقياً مابقوا. يلقح فينتج منه أولادك أبد الآبدين بركتي عليك وعليه؛ ما خلقتُ خلقاً أحبَّ الي منك ومنهُ»
. فضلها:
روى أبو صالح عن ابيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». وعن سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس قال: لم يكن شيءٌ أحبَّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل.
وعن أبي ذرَّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ليس من فرس عربي إلاّ يؤذن لهُ مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللَّهم خولتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحبُّ ماله وأهله إليه، أو من أحب مالهُ وأهلهُ إليه».
شأنها:
عن أبي وهب الحسيني، وكانت له صحبة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «وارتبطوا الخيل، وامسحوا نواصيها وأكفالها، وقلدوها ولا تقلدوها الاوتار، وعليكم بكل كميت أغرَّ محجَّل أو أشقر محجل، أو أدهم أغرَّ محجَّل». وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال: كان النبي يكره الشكال من الخيل، قال أبو عبد الرحمن: الشكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة أو يكون ثلاث قوائم مطلقة، ورجل محجلة، وليس تكون الشكال إلا في الرجل.
وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار». وجوهها:
زيد بن أسلم عن أبي صالح التمار عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر. ولرجل وزر، فأما الذي هو له أجر فرجلٌ ربطها في سبيل اللَّه، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة، كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فأستنت شرفاً أو شرّفن كانت أن آثارها وأورواثها حسنات له. ولو أنَّها مرَّتْ بنهر فشربت منهُ، ولم يردْ أنْ يسقيها منهُ كان ذلك حسنات لهُ؛ فهي لذلك أجر. ورجلٌ ربطها تقنَّناً وتعففاً، ولم ينسَ حق اللَّه في رقابها وظهرها فهي لذلك ستر. ورجلٌ ربطها فخراً ورياء ونوى لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر». وعن خباب بن الأرث قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة؛ فرس للرحمن، وفرس للأنسان، وفرس للشيطان؛ فأمّا فرس الرحمن فما اتخذ في سبيل اللَّه، وقتل عليه أعداء اللَّه، وأما فرس الإنسان فما استبطن ويحمل عليه، واما فرس الشيطان فما روهب ورُهن عليه وقومِر عليه». {والأنعام}: جمع نعم وهي الابل والبقر والغنم، جمعٌ لا واحد له من لفظه.
{والحرث}: يعني الزرع.
{ذلك}: الذي ذكرت.
{مَتَاعُ الحياة الدنيا}: لا عتاد المعاد والعقبى.
{والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب}: أي المرجع مفعل من أب، يؤوب أوباً مثل المتاب.
زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعتُ عبد اللَّه بن الأرقم وهو يقول لعمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إنّ عندنا حلية من حلية جلود وآنية من ذهب وفضّة فما رأيك فيها. فقال عمر: إذا رأيتني فارغاً فائتني، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّك اليوم فارغٌ. قال: فما نطلق معهُ، فجيء بالمال. فقال: أبسطهُ قطعاً، فبسط ثم جيء بذلك المال وصبَّ عليه ثم قال: اللهم إنَّك ذكرتَ هذه المال فقلت: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة} ثم قلت {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} [الحديد: 23] اللهم إنا لا نستطيع أنْ لا نفرح بما آتينا، اللهم انفقهُ في حق، وأعوذ بك منهُ، قال: فأتى بابن له يحمله، يقال له عبد الرحمن، فقال: يا أبه هب لي خاتماً قال: إذهب إلى أمك تسقيك سويقاً، فلم يعطهِ شيئاً.