فصل: تفسير الآيات (33- 43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (33- 43):

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
{إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}: قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ونحن على دينهم ومنهاجهم، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: يعني: إنَّ اللَّه اصطفى هؤلاء الَّذين قالوا بالإسلام، وأنتم على غير دين الإسلام، واصطفى (افتعل) من الصفوة وهو الخالص من كل شيء، يعني: اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحاً شيخ المرسلين، وآل إبراهيم وآل عمران.
قال بعضهم: أراد بآل إبراهيم وآل عمران: إبراهيم وعمران نفسهما، كقوله عزَّ وجلَّ: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248]: يعني موسى وهارون عليهم السلام.
قال الشاعر:
ولاتبك ميتاً بعد ميّت أحبّه ** علي وعبّاس وآل أبي بكر

يعني: أبا بكر.
قال الباقون: آل إبراهيم: إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وإنَّ محمَّداً عليه السلام من آل إبراهيم وآل عمران.
وقال مقاتل: هو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون.
قال الحسن ووهب بن منبه: هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى.
وقيل: هو عمران بن ماتان، وامرأته حنّة، وخصّه من الأنبياء؛ لأنَّ الأنبياء والرسُل بقضَّهم وقضيضهم من نسلهم. {عَلَى العالمين * ذُرِّيَّةً}: نصب على حال قاله الأخفش.
الفرّاء على القطع؛ لأنَّ الذريَّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة.
الزجَّاج: نصبٌ على البدل. وقيل: على النكرة أي اصطفى ذريَّة {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}: وقيل: على الحال أي بعضها من ولد بعض. وقال أبو روق: بعضها على دين بعض.
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: قال الحروي: لمَّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة، فلمَّا صلَّى النَّاس الجمعة حملوه، فلم تترك الصلاة في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلاَّ يوم ممات الحسن، فإن الناس إتَّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلَّي في المسجد صلاة العصر.
قال الجزائري: سمعت منادياً ينادي: {إِنَّ الله اصطفى ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين}، وإصطفى الحسن البصري على أهل زمانه.
الأعمش عن أبي وائل، قال: قرأت في مصحف عبد اللَّه بن مسعود: إنَّ اللَّه إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران، فقال ابن عباس ومقاتل: هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلثمائة سنة، وكان بنو مايان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم.
وقال ابن إسحاق: هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين ين يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود عليه السلام.
{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً}: أي جعلت الذي في بطني محرَّرا نذراً منَّي لك، والنذر: ما أوجبه الانسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة.
قال اللَّه فقولي: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} [مريم: 26]: أي أوجبت.
وقال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: «من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه».
قال الأعشى:
غشيتُ لليلي بليل خدورا ** وطالبتها ونذرت النذورا

ومن هذا قولهم: نذر فلان دم فلان: أي أوجبت على نفسه قتله.
وقال جميل:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي ** وحموا لقائي يابثين لقوني

محرَّراً: أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة حبيساً عليها مفرغاً لعبادة الله ولخدمة الكنيسة، لا يشغله شيء من الدنيا وكلَّما أخلص فهو محرَّر، يقال: حرَّرت العبد إذا أعتقته، وحرَّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه، ورجل حرّ إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه متعلق، والطين الحر الذي خلُص من الرمل والحصاة والعيوب.
ومحرَّراً: نصب على الحال.
وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما: فإن الحر رجل إذا حرَّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام، وإنْ أحبَّ أن يذهب ذهب حيث شاء، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسل محرَّراً ببيت المقدس، ولم يكن محرَّراً إلاَّ الغلمان، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى، فحرَّرت أُمَّ مريم ما في بطنها.
وكان القصة في ذلك أنَّ زكرَّيا وعمران تزوجا أُختين، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عند زكرَّيا وحنَّة بنت فاقود أم مريم عند عمران، وقد كان أمسك على حنَّة الولد حتى أيست وعجزت، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، فبينما هي في ظل شجرة بصرتُ بطائر يطعم فرخاً فتحركت لذلك شهوتها للولد، ودعت الله أن يهب لها ولداً وقالت: اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدَّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذراً وشكراً، فحملت بمريم فحرَّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى والأُنثى عورة لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همَّ من ذلك، فهلك عمران وحنَّة حامل بمريم.
{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}: أي ولدتها وإذا هي جارية، فالهاء في قوله: {وَضَعْتُهَآ} راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة، لذلك أنَّث.
{قَالَتْ}: عذراً وكانت ترجوا أن تكون غلاماً ولذلك حررَّت.
{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى}: أعتذار إلى اللَّه عزّوجل.
{والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}: ما ظنّت عن السدي، وقرأ العامّة بتسكين التاء وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب: {وَضَعَتْ} بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم.
{وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}: في خدمة الكنيسة والعُبَّاد الذين فيها؛ لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى.
{وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}: وهي بلغتهم: الخادمة والعابدة، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها.
روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد».
{وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ}: آمنها وأجيرها بك. {وَذُرِّيَّتَهَا}: وأولادها.
{مِنَ الشيطان الرجيم}: الطريد اللعين المرمي بالشهب.
ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلاَّ والشيطان يمسه حين يولد فيستهلُ صارخاً من مس الشيطان إيّاه إلاَّ مريم وإبنها» ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم}.
سعيد عن قتادة قال: «كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جُعِل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليهما منه شيء».
قال: وذكر لنا أنّهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم. وقال وهب بن منبه: لمّا ولد عيسى عليه السلام أتى الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام منكّسة، فقال: هذا لحادثٌ حدث، وقال: مكانكم، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً، ثمّ طار أيضاً فوجد عيسى قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم، فقال: إنّ نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلاَّ أنا بحضرتها إلاَّ هذه، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الخفة والعجلة.
{فَتَقَبَّلَهَا}: أي تقبل اللَّه من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر، يقال: قبل ولأن الشيء إذا رَضَيَه يقبله قبولاً بالفتح مصدر، مثل الزارع والزروع والقبول، ولم يأت غير هذه الثلاثة، والقياس الضم مثل الدخول والخروج، قاله أبو عمر والكسائي والأئمّة، وقال بعضهم: معنى التقبّل: التكفّل في التربية والقيام بشأنها.
وقال الحسن: قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل.
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ}: ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له: المصدر على غير المصدر.
قال الفرّاء: مثل قولك تكلمت كلاماً.
قال الفطامي: وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه إتباعاً.
وقال آخر: وإن مشيتم تعاودنا عوادا، ولم يقل: تعاودوا.
{وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}: ولم يقل: إنباتاً.
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يقول: سلك بها طريق السعداء {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}: يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان. وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد.
ابن جريج: أنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً حتى تمت امرأة بالغة تامة.
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}: قال المفسرون: أخذتها أمّ مريم حين ولدتها، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار؛ لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم، فقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها؛ لأن عندي خالتها.
فقال له الأحبار: لا تفعل ذلك؛ فإنّها لو تركت وحقُّ الناس بها لتركت لأُمها التي ولدتها، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جاري.
قال السدي: هو نهر الأردن، فألقوا أقلامهم في الماء، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت في النهر، قاله ابن إسحاق وجماعة.
وقال السدي وجماعة: بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان الماء فذهب بها الماء، فسهمهم وقرعهم زكريا، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها.
قال ابن إسحاق: فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محراباً: أي غرفة في المسجد، وجعل بابه إلى وسطها، لا يرقى إليها إلاّ بسلّم مثل باب الكعبة، فلا يصعد إليها غيره، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم.
{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً}: يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّاً طريّاً. {قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا} فإنّها كانت إذا رزقها اللَّه شيئاً وسألت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
أخبرنا عبد الله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أيّاماً لم يُطعم طعاماً، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال: «يا بنيّة هل عندكِ شيء آكلُ فإنّي جائع؟» فقالت: لا والله بأبي أنتَ وأمّي، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندها، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت: لأوثرنّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام، فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها، فقالت: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك، قال: «فهلمّي به»، فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه، فقال عليه السلام: «من أين لك هذا يا بنيّة؟» قالت: هو من عندالله إنّ الله يزرق من يشاء بغير حساب، فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل، فإنّها كانت يرزقها الله رزقاً حسناً فسُئِلت عنه {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}» فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى علي رضي اللَّه عنه، ثم أكل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا.
قالت فاطمة: وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل اللَّه فيها بركة وخيراً.
قال أهل التفسير: فلما رأى زكريا ذلك قال: إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاماً على الكبر، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد إنقرضوا، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد.
قال اللَّه تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}: أي فعند ذلك. و(هنا) إشارة إلى الغاية كما أن (هذه) إشارة إلى الحاضر.
والكاف: اسم المخاطب وكسرت اللام لإلتقاء الساكنين.
قال المفضل بن سلمة: أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا.
{دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}: فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه. {قَالَ رَبِّ}: أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره، استغني بكسر الباء عن الياء. {هَبْ لِي}: أعطني، {مِن لَّدُنْكَ}: من عندك. وفي لدن أربع لغات: لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال وحذف النون، ولَدْنَ بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون، ولُدْنَ بضم اللام وجزم الدال وفتح النون.
قال الفرّاء: وهي يخصّص بها على الإضافة، وترفع على مذهب مذ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين:
ما زال مهري مزجر الكلب منهم ** لدن غدوة حتى دنت لغروب

{ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}: نسلاً مباركاً تقيّاً صالحاً رضيّاً، والذرية تكون واحداً أو جمعاً ذكراً أو أنثى، وهو ههنا واحد يدل عليه قوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة؛ لتأنيث لفظ الذرية.
كما قال الشاعر:
أبوك خليفة ولدته أخرى ** وأنت خليفة ذاك الكمال

فأنث ولدته؛ لتأنيث لفظ الخليفة، فكما قال آخر:
فما تزدري من حية جبلية سكات ** إذا ما غض ليس بأدردا

فأنث الجبلية؛ لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى، فقال: غض؛ لأنه أراد حية ذكراً والحية تكون الذكر والانثى، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه؛ فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك: حدثنا مغير الضبي، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية.
{إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء}: أي سامعه وقيلَ مجيبه، لقوله تعالى: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} [يس: 25]: أي فأجيبون. وقولهم: سمع اللَّه لمن حمده: أي أجابه.
وأنشد:
دعوت اللَّه حتى خفتُ ألا ** يكون اللَّه يسمعُ ما أقول

أي بكيتُ.
قتادة عن أنس بن مالك قال: قال صلى الله عليه وسلم: «أيما رجلٌ مات وترك ذرية طيبة أجرى اللَّه عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئاً».
{فَنَادَتْهُ الملائكة}: قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: فناديه بالياء، وأبو عمارة وأبو عبيدة، وقرأ الباقون: بالتّاء واختاره أبو حاتم: فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إنْ شئت أنَّثت وإن شئت ذكَّرت، إلاّ أنّ من قرأ بالتاء؛ فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا} [الحجرات: 14]، ومَن ذكّر خلها.
روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم، قال: كان عبد اللَّه يُذكّر الملائكة في القرآن، قال أبو عبيدة: إنمايرى أن اللَّه اختار ذلك خلافاً على المشركين في قولهم: الملائكة بنات اللَّه فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم.
وروى الشعبي أن ابن مسعود قال: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءاً وذكّروا القرآن.
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء. وأراد بالملائكة ههنا: جبريل وحده؛ وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل: يا زكريا {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} فذلك قوله: {فَنَادَتْهُ الملائكة}: يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} [آل عمران: 42]: يعني جبريل وحده، وقوله في النحل: {يُنَزِّلُ الملائكة} [النحل: 2]: يعني جبريل ما يروح بالوحي؛ لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل عليه السلام، يأت عليه قوله ابن مسعود، فناداه جبريل {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}: وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم: ركب فلان في السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وخرج على بغال البريد، وإنما على بغل واحد، وسمعت هذا الخبر من الناس، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173]: يعني نعيم بن مسعود.
{إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173]: يعني أبا سفيان ونحوها كثرة.
وقال المفضل بن سلمة: إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع؛ لاجتماع أصحابه معه، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يُبعث إلاَّ ومعه جمع منهم فهي على هذا.
{وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب}: يعني في المسجد، نظيره قوله: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} [مريم: 11]: أي المسجد، وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21]: أي المسجد، وهو مفعال من الحرب، قيل: سمي بهذا؛ لأنّه تحارب فيه الشيطان، كما قيل: مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن، وفخّمه الآخرون.
{أَنَّ اللَّهَ} قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة: بكسر الألف على إضمار القول تقديره: فنادته الملائكة فقالت: إن اللَّه؛ لأن النداء قول.
وقرأ الباقون: بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال: فنادته الملائكة أن اللَّه يُبشرك.
وقرأ عبد اللَّه: {فِي المحراب} يا زكريا إن اللَّه {يُبَشِّرُكَ}: اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة: موضعين ههنا وفي التوبة {يُبَشِّرُهُمْ} [الآية: 21] ومريم وفي الحجر {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]، [مريم: 7]، و{فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وفي سبحان والكهف {وَبَشِّرِ المؤمنين} [البقرة: 223]، [التوبة: 112]، وفي مريم موضعين: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} [الآية: 7] و{لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} [الآية: 97]، وفي حم عسق: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الشورى: 21، 23] فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة، وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها: حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها.
وقرأ يحيى بن رثاب والكسائي خمسة منها مخففة، موضعين ههنا وفي سبحان والكهف وعسق.
وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفاً واحداً وهو قوله: في {حم، عسق ذَلِكَ} النبي {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ} [الشورى: 23].
وقرأها كلها حميد بن قيس: بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها.
الباقون: بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يُبشر، قال الشاعر:
يا أُمّ عمرو أبشري بالبشرى ** موتُ ذريع وجراد عظلي

ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود. قال الشاعر:
نشرت عوالي إذ رأيتُ حيفة ** ماسك من الحجّاج تعلى كتابها

وقال الفرّاء:
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى ** غبراً أكفهم بقاع ممحل

فأعنهم وأبشر بما بشروا به ** وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل

روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي، قال: من قرأ يبشرهم مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشّرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور، يسرّهم، وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: إن اللَّه يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاماً.
ومن قرأ بالتشديد من بشر يُبشر بشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحهم.
قال جرير:
يا بشر حق لوجهك التبشير ** هلا غضبت لنا وأنت أمير

ودليل التشديد: إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين} [الزمر: 17، 18]، {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ} [الصافات: 112]، {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55].
{بيحيى}: هو اسم لا يجري لمعرفته، والمزايد في أوله مثل: يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم؛ لأجل الياء وفخّمه الآخرون، وجمعُهُ (يحيون) مثل موسون وعسون، واختلفوا فيه لِمَ سُمي يحيى.
قال ابن عباس: لأن اللَّه أحيا به عقر أُمه. قتادة: لأن اللَّه أحيا قلبه بالإيمان. بعضهم: لأن اللَّه أحيا قلبه بالنبوة.
الحسن بن الفضل: لأن اللَّه أحياه بالطاعة حتى لم يعصِ ولم يهم بمعصية.
ما روى عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلاَّ ويلقى اللَّه عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلاَّ يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها.
قال الثعلبي: سمعت الاستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول: سُمي بذلك؛ لأنه أُستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هوان الدنيا على اللَّه إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة».
قال الثعلبي: وسمعت أبا منصور الجمشاذي يقول: عن عمر بن عبيد اللَّه المقدسي: أوحى اللَّه إلى إبراهيم الخليل: أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها: أني مخرج منكما عبداً لا يموت بمعصيتي اسمه حيى فهبي له من اسمك حرفاً، فوهبت له أول حرف من إسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة.
{مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ}: نصب على الحال {مِّنَ الله}: يعني عيسى عليه السلام سُمي كلمة؛ لأن اللَّه قال له: كن من غير أب فكان، فوقع عليه اسم الكلمة؛ لأنه كان بها، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، وكانا ابني خالة، ثم قُتل يحيى قبل أن يرفع عيسى عليهما السلام.
وقال أبو عبيدة وعبدالعزيز بن يحيى: بكلمة من اللَّه وآياته، يقول: أنشدني كلمة فلان: أي قصيدته.
{وَسَيِّداً}: من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود، وهو الرئيس الذي يتَّبع ويُنتهى إلى قوله.
قال المفضل: أراد سيداً في الدين.
شريك عن أبي روق عن الضحاك قال: السيد الحسن الخلق.
وروى شريك بإسناده أيضاً عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل.
سعيد بن المسيب: السيد الفقيه العالم. قتادة: سيد في العلم والصوم، سعيد بن جبير: الحليم، الضحّاك: التقي، عكرمة: الذي لا يغضب، مجاهد: الكريم على اللَّه، ابن زيد: الشريف الكبير، سفيان الثوري: الذي لا يحسد.
روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال: الحسود لا يسود.
قال الخليل بن أحمد: مطاعاً.
الزجّاج: هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه.
أحمد بن عاصم: السيد القانع بما قسم له.
أبو بكر الورّاق: الراضي بقضاء اللَّه تعالى.
محمد بن علي الترمذي: المتوكل على اللَّه.
أبو زيد البسطامي: هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره، لم يُحدث نفسه بدار الدنيا، وقيل: هو السخي.
روى ابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان. قال: وأيُّ داء أدوى من البخل، بل سيدكم عمرو بن جموح.
روى عبد اللَّه بن عباس: إنه كان قاعداً مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجاءه بضعة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر، فسلموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعلى القوم، ثم قالوا: مَن السيد منكم؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فعرفوا أنه رسول اللَّه، فقالوا: فما في أمتك سيد، قال: بلى رجلٌ أعطى مالاً حلالا ورُزِقَ سماحةً، وأدنى الفقراء وقلتْ شكايتهُ.
وروى أن أسد بن عبد اللَّه قال لرجل من بني شيبان: بلغني أن السودد فيكم رخيص. فقال: أما نحن فلا نسود إلاَّ من يعطينا رحله، ويفرش لنا عرضه، ويعطينا ماله. فقال: واللَّه إن السودد فيكم لغال.
{وَحَصُوراً}: أصله من الحصر وهو الحبس، يُقال: حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منهُ، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها، ومنه احصار العدو. قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء: 8]: أي محبساً. ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسهُ ولا يظره حُصر.
قال جرير:
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا ** حصراً بسركِ يا أميم ضنيناً

فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد: الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ، فهو على هذا القول: مفعول بمعنى فاعل يعني: أنه يحصر نفسه عن الشهوات.
وقال سعيد بن المسيب والضحّاك: هو العنّين الذي لا ماء له، ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ابن آدم يلقى اللَّه بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصورا».
{وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين}: ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «كان ذكره مثل هذه القذاة».
وقال المبرد: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور. قال الأخطل:
وشاربُ مربح بالكأس نادمني ** لا بالحصور ولا فيها بسوار

فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة {قَالَ رَبِّ}: يا سيدي قاله لجبرائيل عليه السلام، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين.
وقال الحسن بن الفضل: إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل.
{أنى يَكُونُ}: من أين يكون، {لِي غُلاَمٌ}: ابن. {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر}: قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل: هذا من المقلوب: أي قد بلغت الكبر كما يقال: بلغني الجهد: أي إني في جهد، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ بي ما أريد أن يقطعه، وأنشد المفضل:
كانت فريضةٌ ما زعمت ** كما كانت الزناء فريضة الرجم

وقيل معناه: وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني.
قال الكلبي: كان يوم بُشر بالولد ابن اثنين وتسيعن سنة، وقيل: ابن تسع وتسعون سنة، فذلك قوله: {وامرأتي عَاقِرٌ}: أي عقيم لا تلد، يقال: رجل عاقر وامرأة عاقر، وقد عُقر بضم القاف، يعقر عقراً وعقارة، وقيل: تكلم حتى أُعقِر بكسر القاف يعقر عقراً إذا أبقى فلم يقدر على الكلام.
وقال عامر بن الطفيل:
ولبئس الفتى إن كنت أعورُ عاقراً ** جباناً فما عذري لدى كل محضر

وإنما حذف الهاء؛ لاختصاص الأُناث بهذه، وقال به تارة الخليل.
وقال سيبويه: للنسبة أي ذات عقر، كما يقال: امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل [....] امرأتي عنى عاقر، وشخص عاقر.
وقال عبيد: عاقر مثل ذات رحم، أو خانم مثل من ينحب.
{قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ}: فإن قيل: لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعدما بشرته به الملائكة أكان ذلك شكّ في صدقهم أم أنّ ذلك منه استنكاراً لقدرة ربّه؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهلُ الإيمان فكيف الأنبياء عليهم السلام؟ قيل: إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي: إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان، فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من اللَّه، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من اللَّه لأوحاه إليك خفياً، كما ناداك خفياً وكما يوحى إليك في سائر الأمور، فقال ذلك دفعاً للوسوسة.
والجواب الثاني: إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ}: أي فكيف يكون لي ولد؟ أتجعلني وامرأتي شابين؟ أم ترزقنا ولداً على كبرنا؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء؟ قال ذلك مستفهماً لا منكراً، وهذا قول الحسن وابن كيسان.
{قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً}: علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكراً لك.
{قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس}: تكف عن الكلام.
{ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً}: تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام، ولكنه نُهي عنه يُدل عليه قوله: {واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار}.
قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين: عُقد لسانه عن الكلام؛ عقوبة له لسؤاله الآية بعد مُساءلة الملائكة إياه، فلم يصدر على الكلام ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً: إشارة.
قال الفرّاء: ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين، وهو الصوت الخفي شبه الهمس.
وقرأ الأعمش: {رَمْزًا}: بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به. وقال عطا: أراد به صوم ثلاثة أيام؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلاَّ رمزاً.
{وَإِذْ قَالَتِ الملائكة}: يعني جبرئيل وحده.
{يامريم إِنَّ الله اصطفاك}: بولادة عيسى من غير أب.
{وَطَهَّرَكِ}: من مسيس الرجل. وقال السدي: كانت مريم لا تحيض. {واصطفاك}: بالتحرير في المسجد، {على نِسَآءِ العالمين}: عالمي زمانها ولا يحرر غيرها.
{يامريم اقنتي}: أطيعي وأطيلي الصلاة، {لِرَبِّكِ}: كلمت به الملائكة شفاهاً.
قال الأوزاعي: لمّا قالت لها الملائكة ذلك، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دماً وقيحاً.
{واسجدي واركعي مَعَ الراكعين}.