فصل: تفسير الآيات (92- 96):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (92- 96):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)}
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة وأسلم معه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه، فخرج هارباً من مكة إلى المدينة، ثم قدمها فكان أطماً من آطامها فتحصن فيه، فجزعت لذلك امه جزعاً شديداً، حين بلغها إسلامه، وخروجه إلى المدينة، فقالت: لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه، والله لايظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة، فأتوا بالمدينة، فاتوا عياشاً وهو في الأطم «يعني الجبل» فقالا له: إنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وقد حَلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها. ذلك عهد الله علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له خرج اليهم ثم حلفوا بالله، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة، فلما دخل قالت: والله لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به.
ثم تركوه متروكاً موثقاً في الشمس ماشاء الله ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد، فقال له: ياعياش هذا الذي كنت عليه، فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله، وقال: والله لا ألقاك خالياً أبداً إلاّ قتلتك، ثم أن حارثاً بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان عياش يؤمئذ حاضراً، ولم يشعر باسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء صنعت إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قد كان أمري وأمر الحرث ماقد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً وليس معنى قوله: {وَمَا كَانَ} على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53].
ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمناً قتل مؤمناً قط لأنّ ما نفى الله لم يجز وجوده. كقوله تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ولايقدر العباد على إنبات شجرها البتة.
وقوله تعالى: {إِلاَّ خَطَئاً} عندنا ليس من الأول للمعنى.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} البتة إلاّ أن المؤمن قد يخطئ في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده.
قال أبو عبيدة: العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير، أي ليس مؤمناً على حال، إلاّ أن يقتل مخطئاً فإن قتله مؤمناً فعليه، كذا وكذا، ومثله قوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلاّ أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها.
ومثله قول جرير:
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ** على الأرض إلاّ ذيل برد مرجّل

فكأنه قال: لم يطأ على الأرض إلاّ أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض.
وقال أبو خراش الهذلي:
أمست سقام خلاء لا أنيس به ** إلاّ السباع ومرّ الريح بالغرف

الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

يقول: إلاّ أن يكون بها اليعافير والعيس.
وقال بعضهم: إلاّ ههنا معنى لكن فكأنه قال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} ولا عمداً إلاّ بحال. لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] معناه لكن تجارة عن تراض منكم.
وقوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه تحرير أي إعتاق {رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}.
قال المفسرون: المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية.
{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين الله عهد، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل.
وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: كان الرجل يسلم، ثم يأتي قومه وهم مشركون، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له فنزلت هذه الآية {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} وليست له دية، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمناً من قوم كانوا حرباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه عهد ثم قال: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي عهد فأصبتم رجلاً منهم {فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} على الفاعل {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} الرقبة {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لا تفرق بين صيامه {تَوْبَةً مِّنَ الله} وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ {وَكَانَ الله عَلِيماً} بمن قتله خطئاً {حَكِيماً} فيمن حكم عليه.
والدية في الخطأ، مائة من الإبل، عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقّة، وعشرون جذعة، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل.
فقال الشافعي في القديم: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم.
وأما اسنان المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردَّ إلى الدية ليربطون خلفه، [......] حقّه، وثلاثون جذعة.
{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار وكان مسلماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني فهر، فقال له: أيت بني النجار؟ وأقرأهم السلام وقل لهم: إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعاً وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي ديته قال: فأعطوه مائة من الإبل ثم إنصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غَرَّهُ الشيطان قال: فوسوس إليه، فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفساً مكان نفس ومعك الدية.
قال: فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة كافراً، فجعل يقول في شعره:
قتلت به فهراً وحملت عقله ** سراة بني النجار أرباب فارع

وأدركت ثاري واضطجعت موسّداً ** وكنت إلى الأوثان أوّل راجع

قول فيه {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} بكفره، وارتداده عن الإسلام.
حكم هذه الآية:
فقالت الخوارج والمعتزلة: إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمناً وهذا الوعيد لاحق به.
وقالت المرجئة: إنّها نزلت في كافر قتل مؤمناً، فأما المؤمن إذا قتل مؤمناً فإنه لايدخل النار.
وقالت طائفة من أصحاب الحديث، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً وواعد عليه مالبث إلاّ أن يتوب أو يستغفر.
وقالت طائفة منهم: كل مؤمن قتل مؤمناً فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبه لمن قتل مؤمناً متعمداً.
وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً فإنه لايكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان، إلاّ إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة.
فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلاً ممن قتله وذلك كفارة له، فإن كان تائباً من ذلك ولم يكن منقاداً ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له.
وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا قود فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لايخلف وعداً وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلاً، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والدليل على أن المؤمن لايصير بقتله المؤمن كافراً ولا خارجاً من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمناً بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178].
والقصاص لايكون إلاّ في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فلم يرد به إلاّ أخوة الإيمان، والكافر لايكون أخاً للمؤمن.
ثم قال: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذاباً أليماً بقوله: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178].
ولم يرد مع مثلها الغضب، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب ناراً، والعذاب قد يكون ناراً وقد يكون غيرها في الدنيا، ألا ترى إلى قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] يعني القتل والأسر، والدليل عليه قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] مخاطباً المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجر: 9] واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ، والدليل عليه أيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وعلى مافي القرآن ممن فعل من ذلك شيئاً، فكان عليه أجراً فهو كفارة له، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ولو كان القاتل خارجاً عن الإسلام. لم يكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم معنى، وروي أنّ مؤمناً قتل مؤمناً متعمّداً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأمر القاتل بالايمان من فعله ولو كان كافراً أو خارجاً عن الإيمان. لأمره أولاً بالإيمان.
وقال: لطالب الدم أتعفو؟ قال: لا ثم قال أتأخذ الدية؟ قال: لا، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر، ولو كان ذلك كفراً لبينهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بكفر كان قد حَرُمَ بها أهله عليه، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح، الشفيق، المبعوث بالتأديب والتعليم.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «ثلاثة من أهل الإسلام. الكفّ عمّن قال: لا اله إلاّ الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة، والإيمان بالأقدار».
ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافراً بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضاً الشرك اضافة، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء، ولو جاز أن يكون كافراً من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمناً من لم يأت بالإيمان [......].
وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية.
وقيل: إن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً يدخل في النار مؤبداً لأنّ الله تعالى قال: {خَالِداً فِيهَا}.
يقال لهم: إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً متعمداً.
وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين لها على أنّا لو سلمّنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً متعمداً، فإنا نقول لهم: لِمَ قلتم إن الخلود هو التأبيد، خبرونا عن قول الله {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] فما معنى الخلد ههنا في النار، يقولون: إنه المراد به التأبيد في الدنيا.
والدنيا تزول وتفنى.
ومثله قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] وكذلك قوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد؟
فإن قالوا: لا ولابد منه، فيقال لهم: قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد، فكذلك يقول العرب: لأُودعنَّ فلاناً في السجن، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى؟
وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا: إن الله لما قال: {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6] دَلَّ على كفره لأن الله لا يغضب إلاّ على من كان كافراً أو خارجاً من الإيمان.
قلنا: إن هذه الآية لاتوجب عليه الغضب لأن معناه {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} ان يغضب عليه ويلعنه، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجباً كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني. إلى أن فارق الدنيا. {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40].
ولم يقل: أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها.
ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذاً لقوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15] معنى، فكذلك ههنا.
ولو كان ذلك على معنى الوجوب.
كان لقوله: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ووجدنا في لغة العرب. إنه إذا قال القائل: جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذباً، وإذا قال: أجزيه، ولم يفعل كان كاذباً، فعلم أن منهما فرضاً واضحاً يدل على صحة هذا التأويل.
ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس.
قوله: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له.
وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال: فهو جزاؤه إن جازاه فهو جزاؤه.
روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} قال: جزاؤه إن جازاه قال: فليس قوله: {وغضب عليه ولعنه} من الأفعال الماضية.
ومتى قلتم أن المراد منه: فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة؟ يقال لهم: قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل.
وهو قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} [الكهف: 99]. {وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق: 23] كل ذلك يكون مستقبلاً، وقد يرد بلفظ المستقبل، والمراد به الماضي كقوله: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} [البروج: 8].
بمعنى إلاّ ان آمنوا، ومثله كثير، وقد قيل في تأويل هذه الآية: إن هذا الوعيد {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} مستحلاً لقتله، وأما قوله: من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة. وذلك يغفر الله لهم الذنوب.
وأمر بالتوبة منها فقال: {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً} [النور: 31] ونحوه من الآيات. ولم يفصل بين ذنب وذنب، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى..
قال الله {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70] وقال إخوة يوسف {اقتلوا يُوسُفَ} [يوسف: 9] ثم قال: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] يعني بالتوبة وسُئل النبي صلى الله عليه وسلم أمن كل ذنب يقبل التوبة؟ فقال: نعم، فإن قيل: فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له؟ قيل: تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنباً ولم يستغفر الله منه ويدل على هذا ما حدّث:
خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفر إلاّ من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً».
قال خالد بن دهقان: فقال هاني بن كلثوم: سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مؤمناً ثم اغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً».
قال خالد: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: اغتبط بقتله، قال: هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبداً.
سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لا أعلم للقاتل توبة إلاّ أن يستغفر الله.
وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] إلى قوله: {جَمِيعاً} [المائدة: 32]. هات يا أبا سعيد، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل.
فقال: إي والله الذي لا اله إلاّ هو ما جعل دماء بني اسرائيل أكرم من دمائنا، فإن قيل: فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] قال: ما نسخها شيء.
وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة أنه سأل سعيد: هل لمن قتل مؤمناً من توبة؟ فقال: لا، فنزلت عليه الآية {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 70].
قال سعيد: فقرأها عليّ ابن عباس كما قرأتها عليّ فقال: هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء.
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال: لما نزلت هذه الآية التي في الفرقان {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 70] عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال: إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر.
نقول ومن الله التوفيق: إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل، وقوله: إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليماً سبيل الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لايقع في الأخبار، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعاً خبر أنّ.
فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولاً فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص.
وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان.
وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة. ثم أُنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم.
وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر. وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه {رادّ} لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفوراً أي ما يكون صاحبه معذوراً ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها، ويؤيد ذلك. قضية الشفاعة وغيرها.
فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة، وصحة قولنا، فهذا حكم الآية.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس:نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان يقال له: مرداش بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره، فسمعوا بسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنهُ كان على دين المسلمين.
فلما راى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبّر فنزل وهو يقول: لا اله إلاّ الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أُسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً.
وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتلتموه إرادة ما معه»ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على اسامة بن زيد فقال: يا رسول الله استغفر لي وقال: «فكيف بلا اله إلاّ الله»قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
قال أُسامة: فما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لي بعد، ثلاث مرات. فقال: «إعتق رقبة».
وبمثله قال قتادة، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس. قال: مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه غنم فسلّم عليهم فقالوا: ما سلم عليكم إلاّ متعوّذاً، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله}.
وروى المبارك عن الحسن أنّ أُناساً من المسلمين لقوا أُناساً من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال: فشدَّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف. قال: إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه.
قال: وكان والله قليلاً نزراً.
قال: فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم، فقال: يا رسول الله إنما قالها متعوذاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلاّ شققت عن قلبه؟». قال: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «لتنظر صادقاً كان أو كاذباً» قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنما ينبئ عنه لسانه» قال: فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح. وقد وضع إلى جنب قبره، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب، قال: فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} الآية.
قال الحسن: أما ذاك ما كان أن تكون الأرض تحبس من هو شر منه ولكن وعظاً لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله} أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين {فَتَبَيَّنُواْ} يعني المؤمن من الكافر، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضاً.
قال: ابن سيرين: إنما قال: {إليكم} لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها، ويقال: العرض ماسوى الدراهم والدنانير {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني ثواباً كثيراً لمن ترك قتل المؤمن {كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ} تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا اله إلاّ الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها، فنهاهم أن يخيفوا أحداً بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم {فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} بالهجرة {فَتَبَيَّنُواْ} أن تقتلوا مؤمناً {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الخير والشر {خَبِيراً}.
روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً}، قال: حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا اله إلاّ الله: لست مؤمناً، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله: {وهو مؤمن}.
زعم ابن سيرين هو القول بهذه الآية.
وقالوا لما قال الله {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلاّ قولهم فلولا أن الإيمان هو القول، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذاً؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلاّ الله» وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط. ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول. ثم لم يكن ذلك ايماناً منهم. وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلا شققت عن قلبه».
فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره، وأنّ حقيقة التصديق بالقول، ولكن ليس للعبد حكم إلاّ على ما سمعه منه فقط، وفي هذه الآية ردٌّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منَّ على المؤمنين من بين جميع الخلق. ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان. كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عاند غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني.
{لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} الآية.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي وليس الأزدي وهما عميان فقال: يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ماترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم.
وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما نزلت هذه الآية {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله} قال ابن أم مكتوم: اللهم أنزل عذري، فنزلت {غير أولي الضرر} فوضعت بينهم وكان بَعد ذلك يغزو ويقول إدفعوا إليّ اللواء ويقول: أقيموني بين الصفين فإني لا استطيع أن أفرّ.
معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} فعرض ابن أم مكتوم قال: فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} وبقية الآية {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين} عن الغزو أو الجهاد، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر، والضرر مصدر، يقال: رجل ضرير من الضرر.
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أولي. الضرر.
{والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غيرهم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين، ونُصِبَ على الاستثناء {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً} أي فضيلة {وَكُلاًّ} يعني المجاهد والقاعد {وَعَدَ الله الحسنى} ومن يجاهد الجنّة، وزاد من فضل المجاهدين فقال: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} قال: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في سبيل الله درجة، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن محيريز في هذه الآية: هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدد حضر الفرس الجواد المضمر سبعين خريفاً.