فصل: تفسير الآيات (97- 103):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (97- 103):

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)}
{إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ} الآية.
نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة. وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس.
ورأوا قلة المؤمنين قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم، فذكر الله تعالى {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة} أي يقبض أرواحهم ملك الموت.
وقوله: {تَوَفَّاهُمُ} إن نَصَبْتَ جعلته ماضياً فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى {تَتَوَفَّاهُمُ} [النحل: 28] وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة} يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] علم أن المراد بقوله: {توفاهم الملائكة} ملك الموت والله أعلم.
فإن قيل: فلم أخرجه بلفظ الجماعة؟ قيل: قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل {انا نحن} ولا عليك إن الله واحد.
ومثله في القرآن كثير وقوله: {ظالمي} ظالمي أنفسهم بالشرك، والنفاق، ونصب ظالمي على الحال من {توفاهم الملائكة} في حال تحملهم أي شركهم {قالوا} يعني الملائكة.
{فِيمَ كُنتُمْ} أي فيماذا كنتم؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه: فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين؟
{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ} أي مقهورين عاجزين {فِي الأرض} يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين {قَالُواْ} يعني الملائكة {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله} يعني أرض المدينة {وَاسِعَةً} أي آمنة {فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة.
وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأُخرج منها.
وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم».
فأكذبهم الله عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال: {فأولئك مَأْوَاهُمْ} أي منزلهم {جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً} أي بئس المصير إلى جهنم.
ثم استثنى أهل مكة منهم فقال: {إِلاَّ المستضعفين} يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتجهزون للحوق به {مِنَ الرجال والنسآء والولدان} والمستضعفين نصب على الاستثناء من مأواهم {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} لا يقدرون على حيلة ولاقوة ولانفقة للخروج منها {وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} لا يعرفون طريقاً إلى الخروج منها وقال: إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً وكنت غلاماً صغيراً {فأولئك} الذين هم بهذه الصفة {عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} أي يتجاوز {وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} وفي هذه الآية دليل على إمكان قول مَنْ قال إن الإيمان هو الأقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أظمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي في طاعة الله {يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}.
مجاهد: مراغماً كثيراً: أي متزحزحاً على كره.
علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس، وعليّ بن الحكم عن الضحاك: المراغم: السهول من الأرض إلى الأرض.
أما السعة فسعة من الرزق، وبه قال مقاتل بن حيان.
وقال أبو عبيدة: المراغم والمهاجر واحد، يقال: راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب، والمُذهب في الأرض.
قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه ** عزيز المراغم والمهرب

وقال الشاعر:
إلى بلد غير داني المحل ** بعيد المراغم والمضطرب

قال القيسي: فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغماً أي مغاضباً لهم ومهاجراً أي مقاطعاً عن دينهم، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي صلى الله عليه وسلم هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه.
وقيل: إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب.
فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير وضيئاً يقال له: جندع فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها، والله لا أبقى الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله. ثم قال: هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيداً فأتى خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وافى المدينة لكان مهاجراً، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل الله تعالى {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} قبل بلوغه إلى مهاجره {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ} أي وجب ثوابه {عَلىَ الله} بإيجابه ذلك على نفسه {وَكَانَ الله غَفُوراً} كان منه في حال الشرك {رَّحِيماً} بما كان منه في الإسلام.
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} أي هاجرتم فيها {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي حرج وإثم {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين {إِنْ خِفْتُمْ} أي علمتم {أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} في الصلاة {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} مجاهراً بعداوته وقال: [.
...] عدوا بمعنى أعداء والله أعلم.
قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة}.
تمام الكلام ههنا.
ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال: {فإن خفتم ان يفتنكم الذين كفروا} يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] الآية.
هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أُخرى عن يوسف وهو قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها {لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52].
وفي التفسير: أنَّ يوسف لما قال هذه المقالة. قال له جبرئيل عليه السلام ولا حين هممت؟ وعندئذ قال يوسف {وَمَآ أُبَرِّئُ نفسي} [يوسف: 53] ومثل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وقال: {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} [القصص: 68] افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلاً بأول الكلام كان معناه [....].
قال: وحَمْل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى مافصلت قوله تعالى: {أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} متصلاً بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السُنّة ناسخة الكتاب، قيل: على زيادة معنى مع إستقامة نظمها أولى من حملها على غيرها.
حكم الآية:
اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أُبيح له القصر تخفيفاً عنه وإليه ذهب الشافعي، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان في غزوة بني لحيان.
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} الآية.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا: «إن المشركين لما رأوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر يصلّون جميعاً ورسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمهم ندموا على تركهم إلاّ كانوا كبراً عليهم فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر. وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم.
فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} مقيماً يعني شهيداً معهم {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ} إلى آخر الآية قال: فعلمه جبرئيل صلاة أُخرى.
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعاً، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين»
.
كيفية صلاة الخوف:
اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف.
فقال الشافعي: إذا صلى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائماً وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو، ويأتي الطائفة الأُخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالساً وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأُخرى منه.
واحتج بقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ} الآية.
فاحتج أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك يوم ذات الرقاع.
وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} قال: هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بأزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائماً فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام، فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع.
ويدل على صحة هذا التأويل أيضاً حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة. قال: فإذا صلى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف اولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة. ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة.
قال الشافعي: فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائماً وأتموا لأنفسهم فحسن، وإن ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم فجائز ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها ما بقي عليه ثم يثبت جالساً حتى يقضي مابقي عليها ثم يسلم بهم.
قال: وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالساً في الثانية أوقائماً في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه. ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى.
قال: وإن كان العدو قليلاً من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لايسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلى بهم الإمام جميعاً وركع وسجد بهم جميعاً إلاّ صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا.
وإذا ركع ركع بهم جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلاّ صفاً أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعاً معاً وقال: وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني.
ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس، وهذا نحو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عُسفان.
روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} قال قوم: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم، وأثقالهم وأنزل الله تعالى {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ} فصلى العصر فصف أصحابه صفين. ثم كبر بهم جميعاً ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين قام النبي صلى الله عليه وسلم والصف الأقل ثم كبَّر بهم وركعوا بهم جميعاً فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعاً كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين، وتشهد، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف.
عطاء عن جابر قال: «صلينا مع الرسول صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين. وكبَّر وكبَّرنا معه جميعاً ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو.
وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه. قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركع وركعنا جميعاً.
ثم رفع رأسه فاستوى قائماً فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الاولى، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعاً»
، كما نصنع وسلم هؤلاء بأقرانهم.
قال الشافعي: ولو صلى بالخلف [.
...]. فإذا صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يُسلم جائز وهكذا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن المحل.
وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن «عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلى كل طائفة ركعتين».
قال المزني: وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له صلى الله عليه وسلم فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف.
وقال أبو حنيفة: السنٌّة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين، فيصلّي بفرقة ركعة، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلَّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون.
وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى. ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى. وأتمّت صلاتها، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف.
وهو ما «روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي صلى الله عليه وسلم فَصَفَّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو، فركع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، سجد مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعل مثل ذلك، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة وسجدتين».
قال نافع عن ابن عمر: فإن كان خوفاً أشد من ذلك، فليصلوا قياماً وركباناً حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة.
وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بذي قرد فصف صفاً يوازي العدو.
وقال: فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلم فيهم جميعاً ثم إنصرف وكان النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة»
.
حديث أبي هريرة في صلاة الخوف:
وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال: عام غزوة نجد، «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العصر. وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبّر الذين معه، والذين يقاتلون العدو جميعاً. ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه. والآخرون قيام مما يلي القوم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو.
ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو. فركعوا، وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد كما هو فثم سلم وسلموا جميعاً، فصلى رسول الله ركعتين. ولكل رجل من الطائفتين ركعتان»
.
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دون خلاف في هذا بين العلماء إلاّ ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا: لايصلي صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله.
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا محارباً وبني أنمار «فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال» فنزل رسول الله والمسلمون معه ولايرون من العدو واحداً فوضع الناس اسلحتهم وأمتعتهم من ناحية وخرج رسول الله فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي، والسماء ترش فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي، ثم الحضرمي، فقال أصحابه: يا غويرث. هذا محمد قد انقطع من إصحابه. قال: قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الله»ثم دعا: «اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت». ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه ثم قال: «من يعصمك الآن يا غويرث» قال: لا أحد.
قال: إشهد أن لا اله إلاّ الله وأني عبده ورسوله، فقال: لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليه، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث: للنبي صلى الله عليه وسلم لأنت خير مني. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه». فقالوا: ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائماً على رأسه ما منعك منه؟ قال: والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يدّي فسبقني فأخذه وقال: «يا غويرث من يمنعك مني الآن»، فقلت: لا ثم قال: «اشهد أن لا اله إلاّ الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك» فقلت: لا، ولكني أُعطيك موثقاً أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً، فردّ السيف إليّ.
قال: وسكن الوادي فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم الخبر، وأقرأهم هذه الآية {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لاضرر {إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} من عدوكم {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} يهانون فيه.
قال الزجاج: الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد ثمّ قال: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم، والأذى مقصور، يقال: أذى يأذي أذىً، مثل فرع يفرع فرعاً {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها {فاذكروا الله} يعني فصلوا لله {قِيَاماً} للصحيح {وَقُعُوداً} للسقيم {وعلى جُنُوبِكُمْ} للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس، ويقال: معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال {فَإِذَا اطمأننتم} يعني صلاة الخوف والمرض والقتال، ورجعتم إلى منازلكم {فَأَقِيمُواْ الصلاة} أي أتموا الصلاة أربعاً {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} أي واجباً مفروضاً في الحضر والسفر، فركعتان في السفر وأربع في الحضر، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ووقتت مخففة.