فصل: تفسير الآيات (167- 173):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (167- 173):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً * إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} يعني اليهود الذين علم الله تعالى منهم إنهم لايؤمنون {لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} يعني دين الإسلام {إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} يعني اليهودية {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} إلى قوله تعالى: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ} الآية نزلت في النسطورية والماريعقوبية والملكانية والمرقوسية وهم نصارى نجران وذلك إن الماريعقوبية قالوا لعيسى: هو الله، وقالت النسطورية: هو ابن الله، وقالت المرقوسية: هو روح الله، فأنزل الله تعالى {ياأهل الكتاب} يعني يا أهل الانجيل وهم النصارى {لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} أي لا تتشددوا في دينكم فتفتروا عليّ بالكذب، وأصل الغلو مجاوزة الحد في كل شيء، يقال: غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها يغلو بها غلواً وغلاء.
خالد المخزومي:
خمصانة فلق موشحها ** رؤد الشباب غلا بها عِظَم

{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} لا تقولوا أن لله شركاء أو ابناً، ثم بين حال عيسى وصفته فقال: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} وهو الممسوح المطهر من الذنوب والأدناس التي تكون في الناس كما يمسح للشيء من الاذى الذي يكون فيه فيطهر، عيسى ابن مريم لا ابن الله بل رسول الله [وعبده قال: «إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبّياً»] ردَّ بهذا على اليهود والنصارى جميعاً {وَكَلِمَتُهُ} يعني قوله: كن، فكان بشراً من غير أب وذلك قوله تعالى: {كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] الآية وقيل: هي بشارة الله مريم بعيسى ورسالته إليها على لسان جبرئيل وذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح} [آل عمران: 45] وقال تعالى مصدّقاً بكلمة من الله {أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} يعني أعلمها وأخبرها بها كما يقال: ألقيت إليك كلمة حسنة {وَرُوحٌ مِّنْهُ} الآية.
قال بعضهم: معناه ونفخة منه وذلك أن جبرئيل نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، فقال: {وَرُوحٌ مِّنْهُ} لأنه بأمره كان المسيح وربما لأنه ريح يخرج من الروح، قال ذو الرمة يصف شرر النار التي تسقط من القداحة:
فقلت له ارمها إليك وأحيها ** بروحك واقتته لها قيتة قدراً

واجعل لها قوتاً بقدر. يدل عليه قوله تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] الآية هذا معنى قول عذرتها.
وقال أبو عبيدة: إنّه كان إنساناً بإحياء الله عز وجل إياه، يدل عليه قول السدّي {وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي مخلوق من عنده، وقيل: معناه ورحمة من الله تعالى، عيسى رحمة لمن شهد وآمن به، يدل عليه قوله في المجادلة {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] أي قوّاهم برحمة منه، فدلّ الروح بالوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وأوحى إلى مريم بالمسيح وأوحى أنه ابن مريم يدلّ عليه قوله تعالى: {بروح منه} يعني بالوحي، وقال في حم المؤمن: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15].
وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] أي وحينا، وقيل: إهدنا بروح جبرئيل فقال: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ} وألقى إليها أيضاً روح منه وهو جبرائيل. يدل عليه قوله في النحل {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] نظيره في الشعراء قال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وقال: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] وقال: {يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] يعني جبرئيل، وقال: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] الروح الوحي يعني من الإضافة إليه على التخصيص كقوله لآدم عليه السلام {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29].
قال الثعلبي: وسمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول: كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجهاً وأكملهم أدباً وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني فيأبى فقال له ذات يوم: مالك لاتؤمن؟ قال: لأن في كتابكم حجة على من انتحله، قال وما هو؟ قال: قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه، فغمّ قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل: قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام، فسأل الغلام فأعاد قوله، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال: يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا الحدث يسألني في مجلسك، وإنه لم يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها ان شاء الله، فدخل بيتاً مظلماً، وأغلق عليه بابه وانشغل في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] فصاح بأعلى صوته: إفتحوا الباب فقد وجدت، ففتحوا، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد، وقال: إن كان قوله: {وروح منه} توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضاً منه، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب «النظائر في القرآن» وهو كتاب لايوازيه في بابه كتاب.
{فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} قال أبو عبيدة: معناه ولاتقولوا هم ثلاثة.
وقال الزجاج: ولاتقولوا آلهتنا ثلاثة، وذلك أنهم قالوا: أب وابن وروح القدس، {انتهوا} عن كفركم {خَيْراً لَّكُمْ} إلى قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} وذلك إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟
قالوا: عيسى.
قال: وأي شي أقول؟ قال: تقول أنه عبد الله ورسوله، فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى إن يكون عبداً لله. قالوا: بلى، فنزلت {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ} الآية. لم يأنف ولم يتعظّم ولم يختتم وأصله الأنفة، والتجنب وأصله في اللغة من قولهم نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك.
قال الشاعر:
فباتوا فلولا ما تذكر عنهم ** من الحلف لم ينكف لعينيك تدمع

{وَلاَ الملائكة المقربون} هم حملة العرش لايأبون ان يكونوا عبيداً لله، لأن من الكفار من اتخذ الملائكة آلهة فلذلك ذكرهم ثم أوعدهم فقال: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} المستكبر والمقر {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} في التضعيف ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
{وَأَمَّا الذين استنكفوا} عن عبادته {واستكبروا} عن السجود {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} ثم قال: {الله ولي الذين آمنوا}.

.تفسير الآيات (174- 176):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة}.
روى محمد بن المنكدر وابو الزبير عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر فلما غشياني فوجدني قد أغمي عليّ فتوضّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صَبّ عليّ من وضوئه فأفقت، فقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي سبع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد؟ قال: فلم يجبني شيئاً ثمّ خرج وتركني ثم رجع إليّ وقال: «يا جابر إني لا أراك ميّتاً من وجعك هذا وإن الله عز وجل، قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين»، وقرأ هذه الآية {يَسْتَفْتُونَكَ} إلى آخرها.
وكان جابر يقول: نزلت هذه الآية فيَّ.
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي أُختاً فما لي وما لها.
فنزلت هذه الآية وابتدأ بالرجل، فيقال: إنه مات قبل أُخته.
سعيد عن قتادة قال: قال بعضهم على الكلالة فقالوا يا نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل هذه الآية {يَسْتَفْتُونَكَ} أي يستخبرونك ويسألونك {قل الله يفتيكم في الكلالة}.
قال الشعبي: اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة وقال أبو بكر: هو ما عدا الولد، وقال عمر: هو ما عدا الوالد.
ثم قال عمر: إني لأستحي من الله أن أُخالف أبا بكر.
وقال عمر رضي الله عنه: لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهنّ لكان أحب إلينا من الدنيا وما فيها، الكلالة والخلافة وأبواب الربا.
وقال محمد بن سيرين: نزلت هذه الآية والنبي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان وإلى جنبه عمر فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة وبلغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لأحمق أن ظننت أنّ إمارتك تحملني أن أُحدّثك فيها ما لم أُحدّثك يومئذ لما لقّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والله، لا أزيدك عليها شيئاً أبداً فقال عمر: لم أرد هذا رحمك الله، ثم قال عمر: من كنت بيّنتها له فإنها لم تبين لي وما شهدك أفهمتها له فإني لم أفهمها.
وقال طارق بن شهاب: أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضينّ في الكلالة قضاءً تحدّث به النساء في خدورها فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرّقوا، فقالوا: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمّه.
وقال أبو الخير: سأل رجل عتبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا، يسألني عن الكلالة ما شغل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيء مثل ما شغلت بهم الكلالة.
وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال: والله إني ما أدع بعدي شيئاً هو أهم من الكلالة، قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن الناس فيّ وقال: تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء، وقيل لها: آية الصيف لأنها نزلت في الصيف.
وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد، والآية الثانية في الزوج والزوجة والأُخوة منهم، والآية التي ختم بها سورة النساء من ذكر بعضهم.

.سورة المائدة:

مدنية، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله: {لا تحلوا شعائر اللّه} نسختها آية السيف.
قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم حجة الوداع قال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» وهي إحدى عشر ألفاً وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، ومائة وعشرون آية.
عن عبد اللّه بن عمر قال: قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها.
أبو أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المائدة أُعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات».
بسم اللّه الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
{يَا أَيُّهَا} يا نداء أي إشارة، ها تنبيه {الذين آمَنُواْ} نصب على البدل من: أيّها {أَوْفُواْ بالعقود} يعني بالعهود.
قال الزجّاج: العقود أو كل العهود. يقال: عاقدت فلاناً وعاهدت فلاناً، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره. وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شّداً قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم ** شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا

واختلفوا في هذه العقود ما هي، قال ابن جريح: هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين.
أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد، وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81]. وقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقال الآخرون: فهو عالم.
قال قتادة: أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 33].
ابن عباس: هي عهود الأيمان والفراق، غيره: هي العقود التي عقدها الناس بينهم، {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} اختلفوا فيها، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي: هي الأنعام كلها وهي إسم للبقر والغنم والإبل، يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] ثم بيّن ما هي، فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام.
وقال الشعبي: بهيمة الأنعام: الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذُبحت.
وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} قال ما في بطونها، قلت: إن خرج ميتاً آكله. قال: نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها.
وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نُحرت فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أُحلت لكم.
وقال أبو سعيد الخدري: سألنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الجنين، فقال: «ذكاته ذكاة أمّه».
قال الكلبي: بهيمة الأنعام وحشها، كالظباء وبقر الوحش مفردين، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة، سمّيت بذلك لأنها أُبهمت عن أن تميّز.
{إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} يقول: عليكم في القرآن لأنه حاكم وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ} وقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]. {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قال الأخفش: هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه معنى النهي.
وقال الكسائي: هو حال من قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} كما يقول: أُحل لكم الطعام غير معتدين فيه.
معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلاّ ما كان منها وحشياً فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم محرمين. فذلك قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراماً في الحركات وهما جميعاً جمع حرام، ويقال: رجل حرام وحُرم ومحرِم، وحلال وحِلّ ومحلّ {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} يحرم ما يريد على من يريد.
{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري، وقال: إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو الناس؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة». فقال: حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان، ثم خرج شريح من عنده، فلما خرج، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز:
لقد لفها الليل بسواق حطم ** ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر الوضم ** باتوا نياماً وابن هند لم ينم

بات يقاسيها غلام كالزلم ** خلج الساقين مسموح القدم

فلما كان في العام القابل خرج حاجّاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجّاً فحل بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مه قد قلد الهدي».
فقال لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه عزّ وجل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله}.
ابن عباس ومجاهد: هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه تعالى عنها، وقال الحسن دين الله كلّه يدل عليه قوله: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32].
عطية عن ابن عباس: هي أن تصيد وأنت محرم، يدل عليه قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا}.
عطاء: شعائر حرمات اللّه اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذّي حرم اللّه.
أبو عبيدة: هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي، والإشعار العلامة، ومنه الحديث: حين ذبح عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة، وهي على هذا القول فعيلة، بمعنى مفعّلة.
قال الكميت:
نقتلهم جيلا فجيلاً تراهم ** شعائر قربان بهم يتقرب

ودليل هذا التأويل قوله: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] وقيل: الشعائر المشاعر.
وقال القتيبي: شعائر اللّه واحدتها شعيرة، وهي كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته.
{وَلاَ الشهر الحرام} بالقتال فيه فإنه محرم لقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217].
وقال: النسّيء، وذلك أنهم كانوا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً، دليله قوله: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} [التوبة: 37] {وَلاَ الهدي} وهو كل ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة.
{وَلاَ القلائد} قال أكثر المفسّرين هي الهدايا، والمراد به المقلدات وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم.
وقال مطرف بن الشخيّر وعطاء: هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى اللّه عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية {ولا آمِّينَ} قاصدين {البيت الحرام} يعني الكعبة.
وقرأ الأعمش: ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد}.
{يَبْتَغُونَ} يطلبون {فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} يعني الرزق بالتجارة {وَرِضْوَاناً} معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان، وهذا كقوله: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] فلا يرضى اللّه تعالى عنهم حتى يسلموا.
قتادة: هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها.
وقيل: إبتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر، يدل عليه قراءة حميد بن قيس {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ} على الخطاب للمؤمنين، وهذه الآية منسوخة بقوله: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28].
فلا يجوز أن يحجّ مشرك، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج.
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ} من إحرامكم {فاصطادوا} أمر إباحة وتخيير كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ}.
روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: أقبل رجل مؤمن كان حليفاً لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن اللّه من قبل دخل الجاهلية ما شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما».
وقال الآخرون: نزلت في حجاج كفار العرب، وقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير: يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأُخرى مقبولة.
واختلفوا في معناه، فقال ابن عباس وقتادة: لا يحملنكم. قال أبو عبيد: يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني.
قال الشاعر، وهو أبو أسماء بن الضرية:
يا كرز إنك قد فتكت بفارس ** بطل إذا هاب الكماة مجرّب

ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

والمؤرج: لا يدعونكم. الفرّاء: لأكسبنكم، يقال فلان جُرمه أهله أي كافيهم.
وقال الهذلي يصف عقاباً:
جرمة ناهض في رأس نيق ** ترى لعظام ما جمعت صليبا

وقال بعضهم وهو الأخفش: قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62]: أي حق لهم النار.
{شَنَآنُ قَوْمٍ} أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت.
قرأ أهل المدينة والشام، وعاصم والأعمش: بجزم النون الأول، وقرأ الآخرون بالفتح، وهما لغتان إلاّ أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين. فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها.
{أَن صَدُّوكُمْ} قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر: إن صدّوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبد اللّه: أن يصدّوكم، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير، قال ابن جرير: لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم.
{أَن تَعْتَدُواْ} عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم.
{وَتَعَاوَنُواْ} أي ليعين بعضكم بعضاً، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها: متعاونة {عَلَى البر} وهو متابعة الأمر {والتقوى} وهو مجانبة الهوى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} يعني المعصية والظلم.
عن واصب بن معبد صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن البر والإثم قال: «جئت إليّ تسألني عن البر والإثم»؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره، فقال: «البر ما انشرح به صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس».
عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي، قال: حدّثني أبي قال: سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري، قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس» {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح اللّه عز وجل أكلها، فارقتها روحها بغير تذكية، وإنما قلنا: نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال.
{والدم} أُجْمِل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال.
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أُحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد».
{وَلَحْمُ الخنزير} وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه. {وما أُهلّ به} ذبح {لِغَيْرِ اللَّهِ} وذكر عليه غير اسم اللّه.
قال أبو ميسرة: في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ.
{والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام}، {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ}، {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة}، {والسارق والسارقة}.
{لاَ تَقْتُلُواْ الصيد} إلى قوله: {ذُو انتقام} [المائدة: 95] {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} [المائدة: 103، 104].
فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، والموقوذة: التي تضرب بالخشب حتّى تموت.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها. فقال فيه: قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك.
قال الفرزدق:
شغارة تقذ الفصيل برجلها ** طارة لقوادم الأبكار

والمتردية: التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت.
والنطيحة: التي تنطحها صاحبتها فتموت، و«هاء» التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول إستوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب، فإنما أُدخل الهاء ها هنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدرَ أهي صفة لمؤنث أو مذكر، والعرب تقول لحية دهين، وعين كحيل، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء، قالوا: رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وما أكل السبع غير المعلم.
وقرأ ابن عباس: وأكيل السبع، وقرأ ابن أبي زائدة: وأكيلة السبع، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان: وما أكل السبع بسكون الباء وهي لغة لأهل نجد.
قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب:
من يرجع العام إلى أهله ** فما أكيل السبع بالراجع

قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع ملياً أو أكل منه أكلوا ما بقي {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} يعني إلاّ ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء، والتذكية تمام فري الأوداج، وإنهار الدم، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد: جري المذكيات غلاب.
قال الشاعر:
يفضله إذا اجتهدوا عليه ** تمام السن منه والذكاء

ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول.
ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام.
وقال ابن عباس وعتبة بن عمير: إذا طرفت بعينها أو ضربت بذَنبِها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك.
وعن زيد بن ثابت: أن ذئباً نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي صلى الله عليه وسلم في أكله.
أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».
قال عاصم عن عكرمة: إن رجلاً أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تريد أن تميتها موفات قبل أن تذبحها».
{وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قال بعضهم: فهو جمع واحدها نصاب، وقيل: هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق.
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف: النصب بجزم الصّاد.
وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو: النصب بفتح النون وسكون الصّاد.
وقرأ الجحدري: بفتح النون والصّاد جعله إسماً موحداً كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب، ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] واختلفوا في معنى النصب هاهنا.
فقال مجاهد وقتادة وابن جريح: كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجراً وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة من قبالهم منها، قالوا: وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش.
وقال الآخرون: هي الأصنام المنصوبة.
قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تستكّنه ** لعاقبة واللّه ربك فاعبدا

ثم اختلفوا في معناها. فقال بعضهم: تقديره على إسم النصب. ابن زيد {وما ذبح على النصب} وما {أهلّ لغير اللّه به} هما واحدة.
قطرب: معناه: ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام. قال اللّه تعالى {فَسَلاَمٌ لَّكَ} [الواقعة: 91] أي عليك، وقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 6] أي فعليها، {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ} معطوف على ما قبله، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الإستقسام بالأزلام، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها زلم مثل عمر، وزلم وهي القداح.
قال الشاعر:
فلئن جذيمة قتّلت سرواتها ** فنساؤها يضربن بالأزلام

وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفراً أو غزواً أو تجارة أو تزويجاً أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحاً مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها: أمرني ربي، إن خرج الآمر مضى لأمره، وإن خرج الناهي أمسك.
وقال سعيد بن جبير: الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها.
أبو هشام عن زياد بن عبد اللّه عن محمد بن إسحاق قال: كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب، قدح فيه: العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله، وقدح فيه: نعم، للأمر، إذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر.
وقدح فيه: لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح لا لم يفعلوا ذلك الأمر، وقدح فيه: منكم وقدح فيه: ملصق وقدح فيه: من غيركم، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاماً أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتاً أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب فيضرب، فإن خرج عليه: منكم، كان وسيطاً منهم وإن خرج عليه: من غيركم، كان حليفاً، وإن خرج عليه: ملصق، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به، فإن خرج: لا، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. فقال اللّه عز وجل {ذلكم فِسْقٌ}.
قال مجاهد: هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها.
قال سفيان بن وكيع: الشطرنج.
رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من تكهّن أو استقسم أو تطيّر طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة».
{الْيَوْمَ يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّاراً، وفيه لغتان قال: الشعبي وائس يايس إياساً وإياسة.
قال النضر بن شميل: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت.
وقال طارق بن شهاب: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: آية نقرؤها لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيداً، قال: أية آية؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ}، قال عمر: قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقوفاً بعرفات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيد، ولا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده.
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم» ما يبكيك يا عمر قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص، فقال: «صدقت».
وكانت هذه الآية نعي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها أحد وثمانون يوماً أو نحوها.
واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي: {اليوم} وهو يوم نزول هذه الآية {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض. فهذا معنى قول ابن عباس والسدي.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك، وقيل: هو أن اللّه تعالى أعطى هذه الأُمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأُمم فزادهم.
وقيل: إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة [.......] هو بايعك ثم فرّقوه، يكن هذا لغيرهم، وقيل: لم يكن إلاّ هذه الأُمة، وقيل: هو أن اللّه تعالى جمع بهذه الآية جميع [........] الولاية وأسبابها.
قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال: سمعت العباس بن حمزة قال: سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء: الكتاب والرسول، والخلعة والولاية.
قال: كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسراً وأخفّها أمراً وأغزرها علماً وأوفرها حكماً، ورسول اللّه جعله أعظم الرسل وأفضلهم، والخلعة جعله عطاءً ولم يجعلها عارية، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور.
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} حققت وعدي في قولي ولأُتم نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين.
وقال الشعبي: نزلت هذ الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت غيرهم.
السّدي: أظهرتكم على العرب.
{وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً فَمَنِ اضطر} إجتهد {فِي مَخْمَصَةٍ} مجاعة يقال: هو خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخَمص والخُمص الجوع.
قال الشاعر:
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة ** يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهماً

{غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ}.
قال أبو عبيدة: غير متحرف مائل، قطرب: مائل، المبرّد: زايغ وقرأ النخعي: متجنف وهما بمعنى واحد يقال: تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد.
قتادة: غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي.
وقال أبو حنيفة: ما أكل فوق الشبع {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه إضمار، تقديره: فأكله، ويكتفى بدلالة الكلام عليه، فإن اللّه غفور رحيم أي غفور له غفور كما يقول عبد اللّه: ضربت، فيريد ضربته.
قال الشاعر:
ثلاث كلّهنّ قتلت عمداً ** فأخزى اللّه رابعة تعود

وقد فسر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المخمصة بما رواه الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال: سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة؟
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها».
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية.
قال أبو رافع: «جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك يا رسول اللّه، قال: أجل يا رسول اللّه ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو».
عن عبد اللّه بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب».
رجعنا إلى حديث أبي رافع قال: فأمرني أن لا أدع كلباً بالمدينة إلاّ قتلته وقلت حتى خفت العوالي فأتيت إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بأمري، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته. وقال ابن عمر: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول رافعاً صوته: «اقتلوا الكلاب».
قال: وكنا نلقى المرأة تقدم من المدينة بكلبها فنقتله، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها وحرم ثمنها. وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي».
ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أُولاهنّ بالتراب نرجع إلى الحديث الأول.
قال: «فلما أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا: يا رسول اللّه ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها، فسكت رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية».
وأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه.
وروى الحسن عن عبد اللّه بن معقل قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لولا أنّ الكلاب أُمّة من الأُمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلباً ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطاً».
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم».
والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال: قيل لعبد اللّه بن المبارك: ما تقول في قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من اقتنى كلباً لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر».
فقال حدّثني الأصمعي قال: قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد: ما بلغك في الكلب؟ قال: بلغني أن من أخذ كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط. فقال له: ولم ذلك؟ قال: هكذا جاء الحديث، قال: خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل.
وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله.
قال الثعلبي: أنشدني أبو الحسن الفارسي قال: أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحاً فأنشأ يقول:
نزلنا بعمار فأشلى كلابه ** علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل

فقلت لأصحابي أسر إليهم ** إذا اليوم أم يوم القيامة أطول

قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالا: يا رسول اللّه إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت {يَسْأَلُونَكَ} يا محمد {مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} قل: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني الذبائح التي أحلّها الله {وَمَا عَلَّمْتُمْ} يعني وصيد ما علمتم {مِّنَ الجوارح}.
واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك، وإلاّ فلا يطعم، وهذا غير معمول به.
وقال سائر العلماء: هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب، والصقر، والبازي، والباشق، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها.
يقال: فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب {مُكَلِّبِينَ} منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين إلى هذه الحال أي في حال صيدكم أصحاب كلاب، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه على الصيد.
قال الشاعر:
باكره عند الصباح مكلّب ** أزلّ كسرحان القصيمة أغبر

قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن: مكلبين بتخفيف اللام على هذا المعنى، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضاً، ويجوز أن يكون من قولهم: أكلب الرجل، إذا كثرت كلابه، مثل: وأمشى إذا كثرت ماشيته، وذكر الكلاب لإنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح.
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} آداب الصيد {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي من العلم الذي علمكم اللّه، وقال السّدي: من بمعنى الكاف، أي كما علّمكم اللّه، وهو أن لا يجثمن ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} عند إرسال البهم والجوارح.
حكم الآية:
والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل. فإذا دعاه أجابه، وإذا أراده لم يفرّ منه، فإذا فعل ذلك مرّات فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله، وكان حلالاً، فإن أكل منه، فللشافعي فيه قولان: أحدهما: لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ اللّه عز وجل قال: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه، وهذا قول الحسن وطاووس والشعبي وعطاء والسدّي.
وقال ابن عباس: إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته، فاضربه ولا تأكل من صيده.
يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه فإن أدركته لم يقتل، فاذبح واذكر اسم اللّه عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً، فإنما أمسك على نفسه، فإن خالط كلبَك كلابٌ فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل وإذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه، فإن أدركته فكل، إلاّ أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل».
والقول الثاني: أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقّاص، وابن عمر، وأبي هريرة، قال حميد بن عبد اللّه وسعد ابن أبي وقّاص: لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين، قال: كل وإن لم يبق إلاّ نصفه أو ثلثيه فكل ميتة.
وروى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة.
وروى أبو قلابة عن ثعلبة الخشني: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول اللّه إن أرضنا أرض صيد فأُرسل سهمي وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حبس عليك سهمك، وذكرت اسم اللّه فكل، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل».
{واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني الذبائح {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} يعني ذبائح اليهود والنصارى، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته، فأما إذا سمّى أحدهم غير اللّه عند الذبح مثل قول النصارى: باسم المسيح، اختلفوا فيه.
فقال ربيعة: سمعت ابن عمر يقول: لا تأكلوا ذبائح النصارى، فإنهم يقولون: باسم المسيح، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم، دليله قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121].
والقول الثاني: إنّه يجوّز ذبيحتهم، الكتابي، وإن سمّي غير اللّه فإن هذا مستثنى من قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم، وعلى هذا أكثر العلماء.
قال الشعبي وعطاء: في النصراني يذبح فيقول: باسم المسيح قالا: يحلّ. فإنّ اللّه عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون.
وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب، والمربيات لكنائسهم وما ذبح لها فقالا: هي حلال، وقرأ هذه الآية.
وقال الحسن والحرث العكلي: ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل اللّه لنا طعامه، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكله، فإذا غاب عنك فكل، فقد أحل اللّه لك ما في القرآن، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه.
قال علي رضي الله عنه: «لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلاّ مسلم».
قوله عز وجل {والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها، فقال قوم: عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء، والدليل عليه قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] الآية، فشرط في نكاح الإماء الإيمان.
وقال آخرون: إنما عنى اللّه تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماءً كنّ أو حرائر، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي.
وقال الشعبي: إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة، وتحصن فرجها.
وقال الحسن: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة. فقال بعضهم: هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن.
وقال بعضهم: هي الذميّات، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين، وهو قول ابن عباس.
السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال: من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا تحل لنا، ثم قرأ: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ...} إلى قوله: {صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه.
قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات، ويفسر هذه الآية بقوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] يقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى.
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال: سأل رجل الحسن: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات: فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصاناً غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة، قال: هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}.
قال قتادة: ذكر لنا ان رجالاً قالوا لما نزل قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ}: كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا؟ فأنزل اللّه هذه الآية.
وقال مقاتل ابن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن [...] وجعلهن ممن كفر بالإيمان، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة، {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يعني من أهل النّار.
وقال ابن عباس: ومن يكفر باللّه قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل: بالمؤمنين به.
قال الكلبي: ومن يكفر بالإيمان أي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الثعلبي رحمه اللّه: وسمعت أبا القاسم الجهني قال: سمعت أبا الهيثم السنجري يقول: الباء صلة كقوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] والمعنى ومن يكفر بالإيمان أي يجحده فقد حبط عمله.
وقرأ الحسن بفتح الباء، قرأ ابن السميع: فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين.