فصل: تفسير الآيات (17- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (17- 20):

{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
{مَثَلُهُمْ} شبههم. {كَمَثَلِ الذي} بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ثم قال: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177].
وقال الشاعر:
وانّ الذي حانت بفلج دماؤهم ** هم القوم كلّ القوم يا أُمّ خالد

{استوقد}: أوقد ناراً كما يُقال: أجاب واستجاب.
قال الشاعر:
وداع دعانا من يجيب إلى الندّى ** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

{فَلَمَّآ أَضَاءَتْ} النار {مَا حَوْلَهُ} يقال: ضاء القمر يضوء ضوءاً، وأضاء يضيء إضاءةً وأضاء غيره: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ} النار يكون لازماً ومتعدّياً.
وقرأ محمد بن السميقع {ضاءت} بغير ألف. و{حوله} نصب على الظرف.
{ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بنورهم) والمذكور في أوّل الآية النار؛ لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم.
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ}: قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فأستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فأتّقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيّراً، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم، فاذا ماتوا عادوا إلى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.
وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضّلالة.
سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام إلى يثرب حتى إنقطعت النبوة من بني اسرائيل وافضت إلى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول إذا خرج: فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا منه، ثم لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.
وقال الضحاك: لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحاً قاصفاً فأطفأها، فكذلك اليهود كلمّا أوقدوا ناراً لحرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله.
ثم وصفهم جميعاً فقال: {صُمٌّ}: أي هم صمٌّ عن الهدى فلا يسمعون.
{بُكْمٌ}: عنه فلا يقولون.
{عُمْيٌ}: عنه فلا يرونه.
وقيل: {صُمٌّ} يتصاممون عن سماع الحقّ، {بُكْمٌ} يتباكمون عن قول الحقّ، {عُمْيٌ} يتعامون عن النظر إلى الحق بغير إعتبار.
وقرأ عبد الله: {صمّاً بكماً عمياً} على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذّم، وقيل: على الحال.
{فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} عن الضلالة والكفر إلى الهداية والإيمان.
ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ} هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضاً معطوف على المثل الأوّل مجازه: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ومثلهم أيضاً كصيّب.
قال أهل المعاني: (أو) بمعنى الواو، يريد وكصيّب، كقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108] وأنشد الفرّاء:
وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر ** لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وأنشد أبو عبيدة:
يصيب قد راح يروي الغُدُرا ** فاستوعب الأرض لمّا أن سرا

وأصله من صاب يصوب صوباً إذا نزل.
قال الشاعر:
فلست لأنسي ولكن لملاك ** تنزّل من جوّ السماء يصوب

وقال أمرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام ** وريح الخزامي ونشر القطر

فسمّي المطر صيّباً لأنّه ينزل من السماء.
واختلف النّحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلاّ في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأُدغمت إحدى اليائين في الأُخرى.
وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صَييِبْ فاستثقلت الكسرة على الياء فسُكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت إلى الكسر.
والسماء: كلّ ما علاك فأظلك وأصله: سماو؛ لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحداً أو جمعاً، قال الله: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} [البقرة: 29] ثم قال: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29].
وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسموات جمع الجمع.
قال الرّاجز:
سماوة الهلال حتى احقوقفا ** طي الليالي زلفا فزلفا

{فِيهِ} أي في الصيّب، وقيل: في الليل كناية عن ضمير مذكور، وقيل: في السماء؛ لأنّ المراد بالسماء السّحاب، وقيل: هو عائد إلى السماء على لغة من يذكرها.
قال الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوماً ** لحقنا بالسماء مع السّحاب

والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18]. وقال: {إِذَا السمآء انفطرت} [الإنفطار: 1].
{ظُلُمَاتٌ}: جمع ظلمة، وضُمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء.
وقرأ الأعمش: {ظُلْمات} بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد.
كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة:
أبتْ ذكر مَنْ عوّدن أحشاء قلبه ** خفوقاً ورفصات الهوى في المفاصل

ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد.
وقرأ أشهب العقيلي: {ظلمات} بفتح اللام، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها إلى أخفّ الحركات.
كقول الشاعر:
فلمّا رأونا بادياً ركباتنا ** على موطن لا نخلط الجدّ بالهزل

{وَرَعْدٌ}: وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.
{وَبَرْقٌ}: وهو النار الذي تخرج منه.
قال مجاهد: الرعد ملك يسبّح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصّريم أيضاً رعد.
والبرق: ملك يسوق السحاب.
وقال عكرمة: الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل.
شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فاذا انتبذت السحاب ضمّها فاذا اشتدَّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق.
ربيعة بن الأبيض عن علي عليه السلام قال: البرق مخاريق الملائكة.
وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان.
وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصّعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشيَ عليه، وصعق، إذا مات.
{حَذَرَ الموت} أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة.
وقرأ قتادة: حذار الموت.
{والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي عالم بهم، يدل عليه قوله: {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12].
وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]: أي تهلكوا جميعاً.
وأمال أبو عمرو والكسائي {الكافرين} في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء.
{يَكَادُ البرق} أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل بحذف أن فاذا سببّوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر:
قد كاد من طول البلى أن تمسحا... {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}: أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطّاف.
وقرأ أُبيّ: يتخطف.
وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد {يخطّف} فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.
وقرأ العامة: التخفيف لقوله: {فَتَخْطَفُهُ الطير} [الحج: 31] وقوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} [الصافات: 10]. {كُلَّمَا}: حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما.
{أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ}: وفي حرف عبد الله [.....].
{وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}: أي أقاموا ووقفوا متحيّرين.
القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما:
قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} أي كأصحاب صيّب، كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددّهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}.
ورعد من صفته أن يضع السامع يده إلى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت}.
وبرق من صفته أنْ يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقدّه، وذلك قوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ}.
وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه:
فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.
{فِيهِ ظُلُمَاتٌ} وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن.
{وَرَعْدٌ}: وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي.
{وَبَرْقٌ}: وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة.
فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب إلى القرآن فيؤدّي ذلك إلى الإيمان؛ لأنّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم كفر والكفر موت.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتاً إلاّ ظنّ أنه قد أُتي ولا يسمع صياحاً إلاّ ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية أخرى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو} [المنافقون: 4].
وقوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمِنوا وصارت لهم نوراً فاذا ماتوا عادوا إلى الخشية والظلمة.
قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحَسُن حاله وأصاب في الإسلام رخاءً وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيراً وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} [الحج: 11] الآية.
الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأُحد ارتدّوا وسكتوا.
{وَلَوْ}: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.
ومعنى الآية: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّاً بكماً عمياً.
{إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قادر، وكان حمزة يكسر شاء، وجاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدّت وطبت وغيرها.

.تفسير الآيات (21- 25):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
{يَا أَيُّهَا الناس}: قال ابن عباس: {يَا أَيُّهَا الناس} خطاب أهل مكة، و{يا أيها الذين آمنوا} خطاب أهل المدينة، وهو هاهنا عام.
{اعبدوا} وحّدوا وأطيعوا. {رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} أوجدكم وأنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً. {والذين} أي وخلق الذين {مِن قَبْلِكُمْ} {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}: لكي تنجوا من السُحت والعذاب.
قال سيبويه: لعل وعسى حرفا ترج وهما من الله [.....].
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} بساطاً ومقاماً ومناماً. {والسماء بِنَآءً} سقفاً مرفوعاً محفوظاً.
{وَأَنزَلَ مِنَ السمآء}: من السحاب. {مَآءً} وهو المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات} من الوان الثمرات وأنواع النبات.
{رِزْقاً} طعاماً. {لَّكُمْ} وعلفاً لدوابكم.
{فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أي أمثالا وأعدالاً وقرأ ابن السميقع: ندّاً على الواحد، كقول جرير:
أتيما تجعلون إليّ ندّاً ** وما تيم لذي حسب نديد

{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إنّه واحد وأنّه خالق هذه الأشياء.
قال ابن مسعود في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} قال: أكفّاء من الرجال تطيعوهم في معصية الله.
وقال عكرمة: هو قول الرجل: لولا كلبنا لدخل اللص دارنا.
{وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} الآية نزلت في الكفّار، وذلك أنهم قالوا لما سمعوا القرآن: ما يشبه هذا كلام الله وإنّا لفي شكَ منه، فأنزل الله تعالى {وَإِن كُنْتُمْ} يا معشر الكفّار، وإن لفظة جزاء وشرط، ومعناه: إذ؛ لأنّ الله تعالى علم إنهم شاكّون كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] وقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278].
قال الأعشى:
بانت وقد أسفرت في النفس حاجتها ** بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا

قال المؤرّخ: أصلها من السّورة وهي الوثبة: تقول العرب سرت إليه وثبت إليه.
قال العجاج:
وربّ ذي سرادق محجورٌ ** سرت إليه في أعالي السّور

قال الأعشى:
وسمعت حلفتها التي حلفت ** إن كان سمعك غير ذي وقر

{فِي رَيْبٍ} أي في شك وتهمة.
{مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} محمد يعني القرآن.
{فَأْتُواْ} لم يأتوا بمثله، لأنّ الله علم عجزهم عنه.
{بِسُورَةٍ} أصلها في قول بعضهم: من أسارت، أي أفضلت فحذفت الهمزة كأنّها قطعة من القرآن، وقيل: هي الدرجة الرفيعة، وأصلها من سور البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة ** ترى كل مُلْك دونها يتذبذب

{مِّن مِّثْلِهِ} يعني مثل القرآن، و{من} صلة كقوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور: 30-31].
كقول النابغة:
ولا أرى ملكاً في الناس يشبهه ** ولا أخا (لي) من الأقوام من أحد

أي أحداً.
وقيل في قوله: {مثله}: راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} أي من رجل أُمّي لا يُحسن الخط والكتابة.
{وادعوا شُهَدَآءَكُم} يعني استعينوا بآلهتكم التي تعبدونها من دون الله.
وقال مجاهد والقرظي: ناساً يشهدون لكم.
وإنما ذكر الاستعانة بلفظ الدعاء على عادة العرب في دعائهم القائل في الحروب والشدائد: [يال.....].
قال الشاعر:
فلمّا التقت فرساننا ورجالهم ** دعوا يا لكعب واعتزينا لعامر

{إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إنّ محمداً أسرّ قوله من تلقاء نفسه، فلما تحدّاهم وعجزوا قال الله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي فإن لم تجيئوا بمثل القرآن.
{وَلَن تَفْعَلُواْ}: ولن تقدروا على ذلك.
وقيل {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} فيما مضى {وَلَن تَفْعَلُواْ} فيما بقي.
{فاتقوا النار التي وَقُودُهَا} حطبها وعلفها {الناس والحجارة} قال الحسن ومجاهد: {وقودها} بضم الواو حيث كان وهو رديء، لأن الوقود بضم الراء المصدر وهو الالتهاب، والوقود بالفتح وهو ما يوقد به النار كالظهور والبرود، ومثليهما ومثل الوَضوء والوُضوء.
وقرأ عبيد بن عمير: وقيدها الناس والحجارة.
قيل: تلك الحجارة كجت الأرض النائية مثل الكبريت يجعل في أعناقهم إذا إشتعلت فيها النار أحرق توهجها وجوههم، فذلك قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} [الزمر: 24].
اختلفوا في الحجارة، فقال ابن عباس وأكثر المفسّرين: إنها حجارة الكبريت الأسود وهي أشد الأشياء حراً، وقال حفص ابن المعلى: أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت معمولة من الحجر، دليله قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وقيل: هي أن أهل النار إذا عيل صبرهم بكوا وشكوا فتنشأ سحابة سوداء مظلمة فيرجون الفرج ويرفعون رؤوسهم إليها فتمطرهم حجارة عظاماً كحجارة الرّحا، فتزداد النار اتّقاداً والتهاباً كنار الدنيا إذا زيد حطبها زاد لهيبها.
وقيل: ذكر الحجارة ها هنا تعظيماً لأمر النار لأنها لا تأكل الحجارة إلاّ إذا كانت فظيعة وهائلة.
{أُعِدَّتْ}: خلقت وهُيئت للكافرين، وفي هذه الآية دليل على أنّ النار مخلوقة؛ لأنّ المعدَّ لا يكون إلاّ موجوداً.
{وَبَشِّرِ} أي وأخبر.
{الذين آمَنُواْ} وأصل التبشير: إيصال الخبر السار على مسامع الناس ويستبشر به، وأصله من البشرة؛ لأنّ الإنسان إذا فرح بان ذلك في وجهه وبشرته، ثمّ كثر حتى وضع موضع الخبر فيما ساء وسرّ قال الله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
{وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الخصال والفعلات {الصالحات} نعت لأسم مؤنث محذوف.
وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه في {وَعَمِلُواْ الصالحات}: معناه أخلصوا الأعمال، يدلّ عليه قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} [الكهف: 110] أي خالصاً لأن المنافق والمرائي لا يكون عمله خالصاً، وقال: أقاموا الصلوات المفروضات، دليله قوله تعالى: {وأقاموا الصلاة}.
{والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} [الأعراف: 170] من المسلمين.
وقال ابن عباس: عملوا الصالحات فيما بينهم وبين ربّهم، وقال: العمل الصالح يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والاخلاص.
وقال سهل بن عبدالله: لزموا السنّة؛ لأنّ عمل المبتدع لا يكون صالحاً.
وقيل: أدّوا الأمانة، يدل عليه قوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82] أي أميناً.
وقيل: تابوا، ودليله قوله تعالى: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف: 9] أي التائبين.
{أَنَّ لَهُمْ}: محل {أن} نصب بنزع حرف الصّفة، أي بأنّ لهم.
{جَنَّاتٍ}: في محل النصب فخفض لأنها جمع التأنيث، وهي جمع الجنّة وهي البستان، سمّيت جنّة لاجتنانها بالأشجار.
{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار}: أي من تحت شجرها ومساكنها. وقيل: بأمرهم، كقوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي} [الزخرف: 51] أي بأمري.
والأنهار: جمع نهر، سمّي نهراً لسعته وضيائه ومنه النهار.
وأنشد أبو عبيدة:
ملكتُ بها كفّي فأنهرتُ فتقها ** يرى قائم من دونها ما وراءها

أي وسعتها، يصف طعنة.
وأراد بالأنهار المياه على قرب الجوار لأن النهر لا يجري.
وقد جاء في الحديث: «أنهار الجنّة تجري في غير إخدود».
{كُلَّمَا} متى ما {رُزِقُواْ} أطعموا {مِنْهَا} من الجنّة {مِن ثَمَرَةٍ}: أي ثمره، و{من} صلة.
{رِّزْقاً} طعاماً. {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا} أُطعمنا {مِن قَبْلُ}: طعامهما، وقيل معناه: هذا الذي رزقنا من قبل، أي وعدنا الله في الدنيا وهو قول عطاء، و{قبل} رفع على الغاية، قال الله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4].
{وَأُتُواْ} وجيئوا {بِهِ} بالرزق.
قرأ هارون بن موسى: {وأتوا} بفتح الألف، أراد أتاهم الخدم به.
{مُتَشَابِهاً} اختلفوا في معناه، فقال ابن عباس ومجاهد والربيع والسّدي: متشابهاً في الألوان، مختلفاً في الطعوم.
الحسن وقتادة: متشابهاً في الفضل، خياراً كلّه؛ لأنّ ثمار الدنيا تبقى ويرذل منها، وإن ثمار الجنة لا يرذل منها شيء.
محمد بن كعب وعلي بن زيد: بمعنى يشبه ثمر الدنيا غير أنها أطيب.
وقال بعضهم: متشابهاً في الإسم مختلفاً في الطعم.
قال ابن عباس: ليس في الجنة شيء ممّا في الدنيا غير الأسماء. {وَلَهُمْ فِيهَآ} في الجنّات. {أَزْوَاجٌ} نساء وجوار، يعني الحور العين.
قال ثعلب: الزوج في اللغة: المرأة والرجل، والجمع والفرد، والنوع واللون، وجميعها أزواج.
{مُّطَهَّرَةٌ} من الغائط والبول والحيض والنفاس والمخاط والبصاق والقيء والمني والولد وكل قذر ودنس.
وقال إبراهيم النخعي: في الجنة جماع ما شئت ولا ولد.
وقيل: مطهّرة عن مساويء الأخلاق.
وقال يمان: مطهّرة من الأثم والأذى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يتفلون ولا يتغوّطون ولا يبولون ولا يتمخطون». قيل: فما بال الطعام؟ قال: «جشأ ورشح تجري من أعرافهم كريح المسك يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس».
{وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} دائمون مقيمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
الحسن عن ابن عمر قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة: كيف هي؟
قال: «من يدخل الجنة يحيى ولا يموت وينعم ولا يبؤس ولا تبلى ثيابه ولا شبابه».
قيل: يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: «لبنة من فضّة ولبنةٌ من ذهب، بلاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران».
وقال يحيى بن أبي كثير: إنّ الحور العين لتُنادينّ أزواجهنّ بأصوات حسان، فيقلن: طالما انتظرناكم، نحن الراضيات الناعمات الخالدات، أنتم حبّنا ونحن حبّكم ليس دونكم مقصد ولا وراءكم معذر.
وقال الحسن في هذه الآية: هنّ عجائزكم الغمض الرّمض العمش طُهّرن من قذرات الدنيا.