فصل: تفسير الآيات (11- 13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (11- 13):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)}
{يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} بالدفع عنكم {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.
نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة، وبنو محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة، قالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، وهي صلاة الخوف.
وقال الحسن:كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصراً بطن نخلة. فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمداً، قالوا: فكيف تقتله؟ قال أمسك به، قالوا: وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: «اللّه»، فتهدّده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل اللّه هذه الآية.
الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد اللّه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسلّه ثمّ أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك منّي؟ قال: «اللّه»، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثاً: من يمنعك منّي؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الله»، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد وعبد اللّه بن كثير وعكرمة والكلبي، وابن يسار عن رجاله: بعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلاّ ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم: عمرو بن أميّة الصيمري، فلم يرعهم إلاّ والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم، فقال أحد النفر: قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال: اللّه أكبر الحمد للّه ربّ العالمين. ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما، فقال: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة. إجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: إنّكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا. فقال عمرو بن جحش بن كعب: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك اللّه أيديهم وجاء جبرئيل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ دعا علياً فقال: لا تبرح من مكّة، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي عليه السلام حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية.
قال الثعلبي: وهذا القول أولى بالصواب لأنّ اللّه تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ} الآية، وذلك أنّ اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم اللّه تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة.
وقال: يا موسى إني قد كتبتها لكم داراً قراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك إثني عشر نقيباً من كلّ سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أُمروا، به فاختار موسى عليه السلام النقباء وهذه أسماؤهم: من سبط روبيل: شامل بن ران، ومن سبط شمعون: شاقاط بن حوري، ومن سبط يهودا: كالب بن يوقنا، ومن سبط آبين: مقايل بن يوسف، ومن سبط يوسف، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون، ومن سبط بيامين: قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون: مدي بن عدي، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف: جدي بن قامن، ومن سبط آهر: بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال: نفتا لي محر بن وقسي، ومن سبط دان: حملائل بن حمل، ومن سبط أشار: سابور بن ملكيا.
فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا. بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجباريّن يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع.
قال ابن عمر: كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله.
ويروى له أنه رأى نوحاً يوم الطوفان فقال: إحملني معك في سفينتك، فقال له: أُخرج يا عدو اللّه فإنّي لم أُؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه اللّه على يد موسى، وكان لموسى عليه السلام عسكر فرسخاً في فرسخ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلاّ كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله.
قالوا: فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل مصر فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم، ويقال: إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين. وكان موضع مجلسها جريباً من الأرض. فلمّا بغت بعث اللّه عز وجل عليها أسداً كالفيلة وذئباً كالإبل ونسوراً كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها.
قالوا: فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة فانطلق بهم إلى امرأته وقال: أُنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها.
وقال: ألا أطحنهم برجلي، فقالت إمرأته: لا بل خلِّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلاّ خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم إرتدّوا عن نبي اللّه ولكن اكتموا وأخبروا موسى عليه السلام وهارون فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك. ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم، ثم إنّهم نكثوا العهد، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى، إلاّ رجلان منهم يوشع وكالب، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً}.
وقال اللّه لبني إسرائيل {إِنِّي مَعَكُمْ} ناصركم على عدّوكم.
ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ} يا معشر بني إسرائيل {الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي ونصرتموهم ووقرتموهم.
وأشعر أبو عبيدة:
وكم من ماجد منهم كريم ** ومن ليث يعزّر في الندي

ويروى: وكم من سيّد يُحصى نداه ومن ليثِ.
{وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} ولم يقل أقراضاً، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] {لأُكَفِّرَنَّ} لأستبرءنّ ولأمحوّنّ {عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} أي أخطأ قصد السبيل وهو لكل شيء وسطه، ومنه قيل للظهر: سواء {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله.
قال قتادة: نقضوه من وجوه: كذّبوا الرسل الذين جاؤا بعد موسى فقتلوا أنبياء اللّه ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه.
قال سلمان: إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها.
{لَعنَّاهُمْ} قال ابن عباس: عذّبناهم بالجزية. الحسن ومقاتل: بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}.
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسّية بتشديد الياء من غير ألف. وهي قراءة النخعي، وقرأ الأخفش: قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو، وقرأ الباقون: قاسية على وزن فاعلة، وهو اختيار أبو عبيدة، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية.
قال ابن عباس: قاسية يائسة، وقيل: غليظة لا تلين، وقيل: متكبرة لا تقبل الوعظ، وقيل: ردية فاسدة، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} قرأه العامّة بغير ألف، وقرأ السلمي والنخعي: الكلام بالألف {وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعمته {وَلاَ تَزَالُ} يا محمد {تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ}.
وإختلفوا في الخائنة:
قال المبرّد: هي مصدر، كالكاذبة، واللاّغية، وقيل: هي إسم كالعاقبة والمعاقبة، وقيل: هي بمعنى المبالغة، والهاء هنا للمبالغة مثل: راوية وعلامة ونسابة.
قال الشاعر:
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن ** للغدر خائنة مغلّ الإصبع

ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة.
قال ابن عباس: خائنة أي معصية، وقيل: كذب وفجور، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد، من أهل الكتاب {فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} وهذا منسوخ بآية السيف.

.تفسير الآيات (14- 17):

{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)}
{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} في التوحيد والنبوة {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا} بالعهد {بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} ألا وهو الخصومات والجدال في الدين.
قال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تحبط الأعمال واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله: {بَيْنَهُمُ}.
فقال مجاهد وقتادة والسدّي وابن زيد: يعني بين اليهود والنصارى.
وقال ابن زيد: كما تغري بين البهائم. وقال الربيع: هم النصارى وحدها، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67] {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من اللّه تعالى {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} التوراة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ويترك أخذكم بكثير ممّا تخفون {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم {وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} بيّن، وقيل: مبيّن وهو القرآن {يَهْدِي بِهِ الله} مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب: يهدي به اللّه بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة، وقرأ الآخرون بكسر الهاء إتباعاً. {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب {سُبُلَ السلام} لطرف السلم وهو الله تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور} أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان {بِإِذْنِهِ} بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته {وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} أي من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئاً فيرده إذا قضاء، وهو من قول القائل: ملكت على فلان أمره إذا ضلّ لا يقدر أن ينفّذ أمراً.
الآية {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} ولم يقل: وما بينهنّ لأنّ المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

.تفسير الآيات (18- 19):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}
{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ}.
قال السدّي: قالت اليهود: إنّ اللّه أوحى إلى إسرائيل أن ولداً من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80]، وأمّا النصارى، فإن فرقة منهم قالت: المسيح ابن اللّه.
فأخرجهم الخبر عن الجماعة {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرّون إنّه معذبكم {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بني آدم، ثم قال بالإحسان والإيتاء {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فضلاً {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} عدلاً.
وقال السدّي: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فعذّبه {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير * يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا} محمد {يُبَيِّنُ لَكُمْ} أعلام الهدى وشرائع الدين {على فَتْرَةٍ} إنقطاع {مَّنَ الرسل} واختلفوا في قدر مدّة تلك الفترة.
وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال: الفترة فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة.
معمّر عن قتادة قال: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة وستون سنة.
قال معمّر وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، الضحّاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة {أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أربعة كلّهم يدلي على اللّه يوم القيامة بحجة وعذر، رجل مات فى الفترة ورجل أدرك الفترة الأخيرة، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه، فيبعث اللّه عزّ وجل إليهم ملكاً رسولاً فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم ناراً فيقول: إقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم برداً وسلاماً ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب».