فصل: تفسير الآيات (41- 42):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (41- 42):

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)}
{ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا اللّه {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} وهم المنافقون نظيره، قوله: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] {وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} يعني قوّالين به يعني بني قريضة {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا، وإسم المرأة بسرة وكانت خيبر حرباً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان الزانيان محصنين، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا: إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه، فليسألوه، فبعثوا رهطاً منهم مستخفين. فقالوا لهم: سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير. فقال لهم: إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه، فقال لهم بنو قريظة والنضير: إذاً واللّه يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم إنطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وهل ترضون قضائي في ذلك؟».
قالوا: نعم، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل: إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ووصفه له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له إبن صوريا قال: فأي رجل فيكم؟».
قالوا: هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه تعالى على موسى في التوراة، قال: أرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم عبد اللّه بن صوريا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت إبن صوريا؟»قال: نعم، قال: «فأنت أعلم اليهود؟»، قال: كذلك يزعمون، قال: «أتجعلونه بيني وبينكم؟» قالوا: نعم قد رضينا به إذ رضيت به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أنشدك باللّه الذي لا إله إلاّ هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المنّ والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن». قال إبن صوريا: نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد؟ قال: «إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم». قال إبن صوريا: والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر اللّه»؟
قال: كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا إبن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقال: واللّه لا ترجمون حتى يرجم فلاناً إبن عم الملك. فقال: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. قال اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل، ولكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال لهم: نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده، وقال: «أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه».
قال عبد اللّه بن عمر: شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما أمر برجم اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة ونزلت {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ} [المائدة: 15] فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال: أنشدك باللّه وأُعيذك باللّه أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنه فقال له ابن صوريا: أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ، قال: ما هي؟ قال: أخبرني عن نومك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تنام عيناي وقلبي يقظان»قال له: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء، قال: «أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له» قال له: صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طويلاً ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً فقال صلى الله عليه وسلم: «اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل»قال له: صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرئيل.
قال: صفه لي، فوصفه له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول اللّه حقّاً فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيل إمرأة. يفدوا بها الرجل، وبالرجل منهم الرجلين منّا، وبالعبد منهم الحرّ منّا، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم، فأنزل اللّه تعالى في الرجم والقصاص {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هَادُواْ سَمَّاعُونَ}
رفع الخبر بحرف الصفة يعني ومن الذين هادوا فهم سمّاعون، وإن شئت جعلته خبر إبتداء مضمر أي فهم سمّاعون للكذب، وقيل: اللام بمعنى إلى.
كان أبو حاتم يقول: اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك. واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين {لَمْ يَأْتُوكَ} وهم أهل خيبر {يُحَرِّفُونَ الكلم} جمع الكلمة {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي من بعد وضعه مواضعه كقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى} [البقرة: 189]. وإنما ذكر الكتابة ردّاً إلى اللفظ وهو الكلم. وقرأ علي: يحرّفون الكلام من بعد مواضعه {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه {وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} كفره وضلالته.
قال مجاهد: دليله قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية [البقرة: 193]، [الأنفال: 39].
وقال الضحّاك: هلاكه، قتادة: عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} أي بالهداية على القدرة {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل، ولليهود الجزية والقتل والسبي، [...........] عن محمد عليه السلام وأصحابه وفيهم ما يكرهون {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} الخلود في النار.
{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فيه أربع لغات: السُحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة، واختار الكسائي: سَحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف.
والسَحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به» وأصله ما أشدّ أشدّه، وقال اللّه تعالى {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61].
قال الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلاّ مسحتاً أو مجلف

قال: من تخلّف إذا استأصل الشجر سحت.
وقال الفرّاء: أصله كلب الجوع، فيقال: رجل سحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يُلقى أبداً إلاّ جائعاً، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم. ونزلت هذه الآية في حكام اليهود، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم.
وروى أبو عقيل عن الحسن: في قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قال: تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة.
وعنه في غير هذه الرواية. قال: كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب، وعنه أيضاً قال: إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقّاً فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئاً ليدرأ به عن نفسه فلا بأس.
والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن. ومقاتل وقتادة والضحّاك والسدّي.
وقال ابن مسعود: هو الرشوة في كل شيء.
قال مسلم بن صبيح: صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضباً شديداً، وقال: لو علمت إنّك تفعل هذا ما كلّمت في حاجتك، ولا أكلم لما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: من يشفع شفاعة ليرد بها حقّاً أو ليدفع بها ظلماً فأهدي له فقيل فهو سحت، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن ما كنّا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم، قال: الأخذ على الحكم كفر. قال اللّه عز وجل {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44].
وقال أبو حنيفة: إذا ارتشى الحاكم إنعزل في الوقت وإن لم يُعزل.
وقال عمر وعلي وابن عباس رضي اللّه عنهم: السحت خمسة عشر: الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقايدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة.
وعن جعفر بن كيسان قال: سمعت الحسن يقول: إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لعنة اللّه على الراشي والمرتشي».
قال الأخفش: السحت كل كسب لا يحل.
ثم قال: {فَإِن جَآءُوكَ} يا محمد {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}. خير اللّه سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك.
واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم، مثل ما جعل اللّه لنبيه صلى الله عليه وسلم أم هو منسوخ؟
فقال أكثر العلماء: هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة، فإن شاؤا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام. هو قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] هو جريان حكمنا عليهم. وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة. وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي. وروى ذلك ابن عباس قال: لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} [المائدة: 2] نسختها {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسختها {أَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 49].
فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلاّ إنهم لا يرون الرجم وقالوا: لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من ذلك ما كتموه. وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم. وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلاّ أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلماً مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} أي بالعدل {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} العاملين.

.تفسير الآيات (43- 46):

{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)}
{وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكماً ويرضون بمحمد {وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله} وهو الرجم فلا يرضون بذلك.
{ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك} إلى قوله: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} فإن قيل: وهل فينا غير مسلم؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله} [الفتح: 29] {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} [الأعراف: 158] لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته. وقيل: لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر. إنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء، يعرّض بأهل الكتاب.
وهذا كقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض} [آل عمران: 83].
وقال يزيد بن عمرو بن نفيل: أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذباً زلالاً. وقيل: معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه. كما روي إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: «أسلمت نفسي إليك».
وقيل: معناه: يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى عليه السلام وهو قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام.
وقال الحسن والسدّي أراد محمداً صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] وقال: أم تحسدون الناس في الحياة {والربانيون والأحبار} يعني العلماء وهم ولد هارون عليه السلام وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر.
قال الفرّاء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم.
فقال الكسائي وأبو عبيدة: هو من الحبر الذي يكتب به. وقال النضر بن شميل: سألت الخليل عنه، فقال: هو من الحبار وهو الأثر الحسن. فأنشد:
لا تملأ الدلو وعرق فيها ** ألا ترى حبّار من يسقيها

قال قطرب: هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» أي جماله وبهاؤه.
وقال العباس لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم يا ابن أخ فيم الجمال؟ قال: «في اللسان».
وقال مصعب بن الزبير لإبنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالاً وإن لم يكن عندك علم كان لك مالاً، {بِمَا استحفظوا} استودعوا من كتاب اللّه {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} إنه كذلك {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} إلى قوله: {الكافرون} واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها.
فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين.
يدلّ على صحة هذا التأويل. ما روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البرّاء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} والظالمون والفاسقون. قال: كلها في الكافرين.
وقال النخعي والحسن: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىً لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة.
عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر، وليس كمن يكفر باللّه واليوم الآخر.
عطاء: هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.
عكرمة: معناه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحداً به فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق. وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال: وسمعت أبا القاسم الحبيبي، قال: سمعت أبا زكريا العنبري، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات، قال: إنها تقع على جميع ما أنزل اللّه لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اللّه فهو كافر ظالم فاسق.
فأما من يحكم ببعض ما أنزل اللّه من التوحيد وترك الشرك ثم لم يحكم بهما فبين ما أنزل اللّه من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات.
قالت الحكماء: هذا إذا ردّ بنص حكم اللّه عياناً عمداً، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا، وأجراها بعضهم على الظاهر.
وقال ابن مسعود، والسدّي: من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} أي وأوحينا في بني إسرائيل في التوراة {أَنَّ النفس بالنفس} يعني النفس القاتلة بالنفس المقتولة ظلماً {والعين بالعين} بقلعهما {والأنف بالأنف} يجدع به {والأذن بالأذن} يقطع به أذنيه.
نافع: في جميع الفقهاء وقرأ الباقون {والسن بالسن} يقلع به وسائر الجوارح قياس على العين والأنف والأذن {والجروح قِصَاصٌ} وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه، فأما ما كان من هيضة لحم أو هيضة عظم ويعده ركن لا يحيط العلم به وقياس أو حكومة.
واختلف الفقهاء في هذه الآية، فقرأ الكسائي: {والعين} رفعاً إلى آخره. واختار أبو عبيد لما روى ابن شهاب عن أنس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قرأه {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} نصباً، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، كله رفع.
وأما أبو جعفر وإبن كثير وإبن عامر وأبو عمرو فكانوا يرفعون الجروح وينصبون سائرها. وقتادة، أبو حاتم قالوا: لأن لهما نظائر في القرآن قوله: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] و{إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة} [الجاثية: 32].
وقرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة ويعقوب بالعطف كلها نصباً ودليلهم قوله تعالى: {أَنَّ النفس بالنفس} وأن العين بالعين وأن الأنف بالأنف وأن الأذن بالأذن فإن الجروح قصاص.
{فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} إختلفوا في الهاء في قوله: {به}، فقال قوم: هي كناية عن المجروح وولي القتيل، ومعناه فمن تصدّق به فهو كفّارة له، للمتصدق يعدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدّق.
وهو قول عبد اللّه بن عباس والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد، دليل هذا القول لحجة ما روى الشعبي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من تصدّق عن جسده بشيء كفّر اللّه عنه بقدر ذلك من ذنوبه».
وروى وكيع عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي السهر قال: كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية، فقال القريشي: إن هذا داق سني.
قال معاوية: كلا أما تسترضيه، فلمّا ألحَّ عليه الأنصاري، قال معاوية: شأنك بصاحبك، وأبو الدرداء جالس.
فقال أبو الدرداء: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مسلم يصاب بشيء عن جسده فيتصدّق به إلاّ رفعه اللّه به درجة وحطّ به عن خطيئة».
فقال الأنصاري: أأنت سمعت بهذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: نعم سمعته أُذناي ووعاه قلبي فعفى عنه.
وروى عوف عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: «جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاء به ولي المقتول، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم قال إذهب فذهب فدعاه فقال: أتعفو؟ قال: لا، قال: أتأخذ الدية؟ قال: لا، قال: القتل، قال: نعم، قال: إذهب، فلما ذهب قال: أما لك أن عفوت فإنه يبوء بإثمك، وإثم صاحبك. قال: فعفى عنه فأرسله ورأيته وهو يجر شسعيه».
وروى عمران عن عدي بن ثابت الأنصاري قال: طعن رجل رجلاً على عهد معاوية، فأعطوه ديتين على أن يرضى. فلم يرضَ وأعطوه ثلاث ديات فلم يرض.
وحدث رجل عن المسلمين عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «من تصدّق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق».
وعن عمر بن نبهان عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من أدى ديناً خفياً وعفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرّات قل هو اللّه أحد» قال أبو بكر: وإحداهن يا رسول اللّه؟ قال: «وإحداهن».
وقال آخرون: عني بذلك الجارح والقاتل، يعني إذا عفا المُجنى عليه عن الجاني فعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني لا يوآخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفّارة له كما إن العافي المتصدق فعلى اللّه تعالى، قال اللّه تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] وهذا قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، وروي ذلك عن ابن عباس. والقول الأوّل أجود لأنّه ربما تصدّق من عليه ولم يتب الخارج من فعله فإنه كفّارة له والدليل عليه قراءة أُبي: فمن تصدّق به فهو كفّارة له. {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}.
{وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم} على آثار النبيين المسلمين للتوراة العالمين به {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}.