فصل: تفسير الآيات (84- 91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (84- 91):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)}
{وَوَهَبْنَا لَهُ} لإبراهيم {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} وفقنا وأرشدنا {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} إبراهيم وولده {وَنُوحاً هَدَيْنَا} يعني ومن داود ونوح لأن داود لم يكن من ذرية إبراهيم وهو داود بن أيشا {دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} يعني إبنه {وَأَيُّوبَ} وهو أيوب بن أموص بن رانزخ بن روح ابن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم {وَيُوسُفَ} وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» {وموسى} وهو موسى بن عمران بن صهر بن فاعث بن لادي بن يعقوب.
وهارون وهو أخو موسى أكبر منه بسنة {وَكَذَلِكَ} أي كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه بأن رفعنا درجته ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء {نَجْزِي المحسنين} على إحسانهم {وَزَكَرِيَّا} وهو زكريا بن أزن بن بركيا {ويحيى} وهو إبنه {وعيسى} وهو إبن مريم بنت عمران بن أشيم بن أمون بن حزقيا {وَإِلْيَاسَ}.
واختلفوا فيه، فقال عبد اللّه بن مسعود: هو إدريس مثل يعقوب وإسرائيل.
وقال غيره: هو إلياس بن بستي بن فنخاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبي اللّه عليه السلام وهو النصيح لأن اللّه تعالى نسب في هذه الآية الناس إلى نوح وجعله من ذريته ونوح هو إبن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس ومحال أن يكون جدّ أبيه منسوباً إلى أنه من ذريته و{كُلٌّ مِّنَ الصالحين} يعني الأنبياء والمؤمنين {وَإِسْمَاعِيلَ} وهو إبن إبراهيم {واليسع} وهو اليسع بن إخطوب بن العجون {وَيُونُسَ} وهو يونس بن متى {وَلُوطاً} وهو لوط بن هارون أو ابن أخي إبراهيم عليه السلام {وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين} يعني عالمي زمانهم {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ واجتبيناهم} اختبرناهم واصطفيناهم {وَهَدَيْنَاهُمْ} سددناهم وأرشدناهم، {إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ} يعني ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره فعبدوا معه غيره {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} بطل عنهم وذهب عنهم {مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعني تلك الكتب {والحكم والنبوة فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء} يعني قريشاً {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} يعني الأنصار وأهل المدينة.
وقال قتادة: يعني الأنبياء الثمانية عشر الذين قال اللّه عز وجل {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} بسنّتهم وسيرتهم اقتده الهاء فيه هاء الوقف {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} جعلا ورزقاً {إِنْ هُوَ} ما هو يعني محمد صلى الله عليه وسلم {إِلاَّ ذكرى} عظة {لِلْعَالَمِينَ * وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموا اللّه حق عظمته.
وما وصفوا اللّه حق صفته {إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ}.
قال سعيد بن جبير: «جاء رجل من يهود الأنصار يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: أتشرك باللّه الذي أنزل التوراة على موسى؟ ما تجد في التوراة إن اللّه يبغض الحبر السمين وكان حبراً سميناً فغضب وقال: ما أنزل اللّه على بشر من شيء، فقال لأصحابه الذين معه ويحك ولا موسى؟ فقال: واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء. فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية».
وقال السدي: إنها نزلت في فحاص بن عازورا، وهو قائل بهذه المقالة.
محمد بن كعب القرضي: «جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب وقالوا: يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى عليه السلام ألواحاً يحملها من عند اللّه؟ فأنزل اللّه عز وجل {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} الآية [النساء: 153].
فجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئاً. فأنزل اللّه هذه الآية»
.
وقال ابن عباس: «قالت اليهود: يا محمد أنزل اللّه عليك كتاباً؟ قال: نعم. قالوا: واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتاباً فأنزل اللّه {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]».
معلى بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت في الكفار أنكروا قدرة اللّه تعالى عليهم فمن أقرّ أن اللّه على كل شيء قدير فقد قدر اللّه حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر اللّه حق قدره.
وقال مجاهد: نزلت في بشر من قريش. قالوا: ما أنزل اللّه على بشر من شيء.
وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} إلى قوله: {وَتُخْفُونَ كَثِيراً} قال: هم اليهود.
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} قال هذه المسلمين وهكذا.
روى أيوب عنه إنه قرأ {وَعُلِّمْتُمْ} معشر العرب {مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} أي دفاتر كتبنا جمع قرطاس أي تفرقونها وتكتبونها في دفاتر مقطعة حتى لا تكون مجموعة لتخفوا منها ما شئتم ولا يشعر بها العوام، تبدونها وتخفون كثيراً من ذكر محمد وآية الرجم ونحوها مما كتبوها.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بن العلاء: يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً كلها بالياء على الإخبار عنهم.
وقرأها الباقون: بالتاء على الخطاب، ودليلهم قوله تعالى ممّا قبله من الخطاب. قل من أنزل الكتاب.
وقرأ بعده {وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ} فإن أجابوك وقالوا: الله، وإلاّ ف {قُلِ الله} فعل ذلك {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} حال وليس بجواب تقديره ذرهم في خوضهم لاعبين.

.تفسير الآيات (92- 94):

{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
{وهذا كِتَابٌ} يعني القرآن {أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي وهذا كتاب مبارك أنزلناه {مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ} تخبر.
وقرأ عاصم: بالياء أي ولينذر الكتاب {أُمَّ القرى} يعني مكة سمّاها أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها {وَمَنْ حَوْلَهَا} تحمل الأرض كلها شرقاً وغرباً {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالكتاب {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ} يعني الصلوات الخمس {يُحَافِظُونَ} يداومون {وَمَنْ أَظْلَمُ} أي أخطأ قولاً وأجهل فعلاً {مِمَّنِ افترى} اختلق {عَلَى الله كَذِباً} فزعم إنه بعثه نبياً {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} نزلت في مسيلمة الكذاب الحنفي وكان يستمع ويتكهن ويدعي النبوة ويزعم إن اللّه أوحى إليه «وكان قد أرسل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رجلين، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم» أتشهدان أنّ مسيلمة نبي؟ فقالا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما».
وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدي سوارين من ذهب فكبرا عليَّ وأهماني فأوحى اللّه إليَّ أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة، وكذاب صنعاء الأسود العبسي».
{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} نزلت في عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح القرشي، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا قال سميعاً عليماً كتب هو عليماً حكيماً، وإذا قال عليماً حكيماً كتب غفوراً رحيماً، وأشباه ذلك فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} الآية [المؤمنون: 12]. أملاها رسول اللّه عجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللّه أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكتبها فهكذا نزلت» فشك عبد اللّه وقال: لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً لقد قلت كما كتب فارتدّ عن المسلمين ولحق بالمشركين، وقال لهما: عليكم بمحمد لقد كان يملي عليّ فأغيره وأكتب كما أُريد.
ووشى بعمار وجبير عبد لبني الحضرمي يأخذوهما وعذبوهما حتى أعطياهما الكفر وجذع أذن عمار يومئذ فأخبر عمار النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي وبما أعطاهم من الكفر فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاّه هؤلاء فأنزل اللّه عز وجل فيه، وفي خبر: وابن أبي سرح {مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ} إلى قوله: {بِالْكُفْرِ} [النحل: 106].
يعني عبد اللّه بن سعيد بن أبي سرح ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرط هران {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون} وهم الذين ذكرهم اللّه ووصفهم قبل {فِي غَمَرَاتِ الموت} سكراته وهي جمع غمرة وغمرة كل شيء كثرته ومعظمه وأضل الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها ومنه غمرة الماء ثم استعملت في معنى الشدائد والمكاره {والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ} بالعذاب والضرب وجوههم وأدبارهم كما يقال بسط يده بالمكروه {أخرجوا} أي يقولون أخرجوا {أَنْفُسَكُمُ} أرواحكم كرهاً لأنّ نفس المؤمن تنشط للخروج للقاء ربه، والجواب محذوف يعني ولو تراهم في هذا الحال لرأيت عجباً.
{اليوم تُجْزَوْنَ} تثابون {عَذَابَ الهون} أي الهوان {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والقرآن {تَسْتَكْبِرُونَ} تتعظمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سجد للّه سجدة فقد برئ من الكبر» {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى} هذا خبر من اللّه تعالى أنه يقول للكفار يوم القيامة: ولقد جئتمونا فرادى وجدانا لا مال معكم ولا زوج ولا ولد ولا خدم ولا حشم.
قال الحسن: ولقد جئتمونا فرادى كل واحدة على حدة.
وقال ابن كيسان: مفردين من المعبودين، وفرادى جمع فردان مثل سكران وسكارى، وكسلان وكسالى. ويقال أيضاً في واحد فرد بجزم الراء وفرِد بكسرها وفرَد بالفتح وأفرد وجمعها أفراد مثل أحاد وفريد وفردان مثل قضيب وقضبان وكثيب وكثبان.
وقرأ الأعرج: فردى بغير ألف مثل كسرى وكسلى {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} عراة حفاة غرلاً بهم {وَتَرَكْتُمْ} وخلفتم {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ} أعطيناكم ومكنّاكم من الأموال والأولاد والخدم {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} خلف ظهوركم في الدنيا.
روى محمد بن كعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملئت ما بين السماء والأرض فيقول الجبار جل جلاله: وعزّتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأجساد وإنما يدخل في الخياشم كما يدخل السم في اللديغ ثم يشق عليكم الأرض وأنا أول من يشق عنه الأرض فينسلون عنهم سراعاً إلى ربكم على سن ثلاثين مهطعين إلى الداعي فيوقفون في موقف منه سبعين عاماً حفاة عراة غرلاً بهم لا يناظر إليكم فلا يقضي بينكم فتبكي الخلائق حتى ينقطع الدمع ويجف العرق».
وقال القرضي: قرأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قول اللّه عز وجل {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، فقالت: يا رسول اللّه وأسوتاه إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض».
{وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ} وذلك إن المشركين زعموا أنهم يعبدون الأصنام لأنهم شركاء اللّه وشفعاؤهم عنده {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ}.
قرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، والكسائي: بينكم نصباً.
وقرأ أهل المدينة، والحسن، ومجاهد: وهي قراءة أبي موسى الأشعري على معنى لقد تقطع ما بينكم وكذلك هو في قراءة عبد اللّه وقرأ الباقون: بالرفع على معنى لقد تقطع وصلكم فالبين من الأضداد يكفي وصلاً وهجراً وأنشد:
لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى ** ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف

{وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}.

.تفسير الآيات (95- 99):

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}
{إِنَّ الله فَالِقُ الحب} أي فلق الحب عن النبات، ومخرج منها الزرع وشاق النوى عن الشجر والنخل ومخرجها منها.
وقال مجاهد: يعني الشقين الذين عناهما.
وقال الضحاك: فالق الحب والنوى، الحب جمع الحبة وهي كل ما لم يكن لها نواة مثل البر والشعير والذرة والحبوب كلها.
{والنوى} جمع النواة وهي كل ما يكون له حب مثل الخوخ والمشمش والتمر والأجاص ونحوها.
{يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ذلكم الله فأنى تُؤْفَكُونَ} تصدون عن الحق {فَالِقُ الإصباح} شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وكاشفه.
وقال الضحاك: خالق النهار، والأصباح مصدر كالإقبال والإدبار وهي الإضاءة.
وقرأ الحسن والقيسي: فالق الأَصباح بفتح الهمزة جعله جمع مثل قرص وأقراص.
{وَجَعَلَ الليل سَكَناً} سكن فيه خلقه. وقرأ النخعي: فلق الأصباح وجعل الليل سكناً.
وقرأ أهل الكوفة: فالق الأصباح وجعل الليل سكناً على الفعل إتباعاً للمصحف.
وقرأ الباقون: كلاهما بالألف على الإسم.
{والشمس والقمر حُسْبَاناً} أي جعل الشمس والقمر بحساب لا يجاوزاه حتى ينتهيا إلى أقصى منازلهما.
وقرأ يزيد بن قعنب: والشمس والقمر بالخفض عطفاً على اللفظ، والحسبان مصدر كالنقصان والرحمان وقد يكون جمع حساب مثل شهاب وشهبان، وركاب وركبان.
{ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم * وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} أي خلقها {لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} خلقكم وابتدأكم {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم عليه السلام.
{فَمُسْتَقَرٌّ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: فمستقر بكسر القاف على الفاعل يعني فلكم مستقر.
وقرأ الباقون: بفتح على معنى فلكم مستقر.
واختلف المفسرون في المستقر والمستودع. فقال عبد اللّه بن مسعود: فمستقر في الرحم إلى أن يوادع مستودع في القبر إلى أن يبعث.
وقال مقسم: مستقر حيث يأوي إليه، ومستودع حيث يموت.
وقال سعيد بن جبير: فمستقر في بطون الأمهات، ومستودع في أصلاب الآباء.
وقال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه أتزوجت يابن جبير؟ فقلت: لا وما أريد ذلك بوجه. قال: فضرب ظهري وقال: إنه مع ذلك ما كان مستودع في ظهرك فسيخرج.
عكرمة عن ابن عباس: المستقر الذي قد خلق واستقر في الرحم، والمستودع الذي قد استودع في الصلب مما لم يخلق بعد وهو خالقه.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: المستقر في الرحم، والمستودع ما استودع في أصلاب الرجال والدواب.
مجاهد: فمستقر على ظهر الأرض في الدنيا. ومستودع عند اللّه تعالى في الآخرة.
وقال أبو العالية: مستقرها أيام حياتها، ومستودعها حيث تموت وحيث يبعث.
وقال كرب: دعاني ابن عباس رضي الله عنه فقال: اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم من عبد اللّه بن عباس إلى فلان حبر تيماء، أما بعد فحدثني عن مستقر ومستودع.
قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي فأعطيته إياه، فقال: مرحباً بكتاب خليلي من المسلمين فذهب إلى بيته ففتح أسفاطاً له كثيرة فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال: قلت له: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود، حتى أخرج سفر موسى فنظر إليه مرتين فقال: مستقر في الرحم ومستقر فوق الأرض ومستقر تحت الأرض ومستقر حيث يصير إلى الجنة أو إلى النار، ثم قرأ: {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ} [الحج: 5]. وقرأ: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [البقرة: 36].
فقرأ الحسن: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك يوشك أن تلحق، بصاحبك وأنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة ** ولا بدّ يوماً أن تردّ الودائع

وقال سليمان بن يزيد العدوي في هذا المعنى:
فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ** فالناس مفجوع به ومفجع

ومستودع أو مستقر مدخلا ** فالمستقر يزوره المستودع

{قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ * وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ} من الماء، وقيل: من النبات {خَضِراً} يعني أخضر، وهو رطب البقول، يقول: هو لك خضراً مظراً أي هنيئاً مريئاً.
وقال نخلة: خضيرة: إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج، وقد اختضر الرجل واغتضر إذا مات شاباً مصححاً {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا} أي ثمرها وكثيراً منها وما يطلع منها {قِنْوَانٌ} جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان.
قال أبو عبيدة: ولا ضير بهذا الكلام.
وقرأ الأعرج: قنوان بضم القاف، وهي لغة قيس، مثل قضبان. ولغة تميم: قنيان. وجمعه القليل أقنا مثل حنو وأحنا، {دَانِيَةٌ} قريبة ينالها القائم والقاعد. وقال مجاهد: متدلّية.
وقال قتادة: متهدّلة.
وقال الضحاك قصار ملتزقة بالأرض. ومعنى الآية ومن النخل قنوانها دانية ومنها ما هي بعيدة فاكتفى بالقريبة عن البعيدة كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والبرد {وَجَنَّاتٍ} يعني وأخرجنا منه جنات.
وقرأ يحيى بن يعمر والأعمش وعاصم: وجنات رفعاً نسقياً على قنوان لفظاً وإن لم يكن في المعنى من جنسها {مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان} يعني وشجر الزيتون والرمان، فاكتفى بالتمر عن الشجر كقوله: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قتادة: متشابه ورقه يختلف بثمره، وقيل: مشتبهاً في المنظر غير متشابه في المطعم. وقال الحسن: الفعل منها ما يشبه بعضه بعضاً ومنها ما يخالف، وقيل: مشتبهاً في الخلقة من منشأه من الحكمة {انظروا إلى ثَمَرِهِ}.
قرأ أهل الكوفة: بضم الثاء والميم على جمع الثمار. وقرأ الباقون بفتحهما على جمع الثمرة مثل بعر ووبر {إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} نضجه وإدراكه.
وقرأ أبو رجاء ومحمد بن السميقع: ويانعه بالألف على الإسم {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.