فصل: تفسير الآيات رقم (36- 38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏36‏)‏ فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏37‏)‏ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فأزلهما الشيطان‏}‏ أي استزل آدم وحواء ودعاهما إلى الزلة وهي الخطيئة، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى على عصمة الأنبياء والجواب عما صدر عند قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏ في سورة طه ‏{‏عنها‏}‏ أي الجنة ‏{‏فأخرجهما مما كان فيه‏}‏ يعني من النعيم وذلك أن إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لآدم وحواء فمنعه الخزنة فأتى الحية وكانت صديقة لإبليس وكانت من أحسن الدواب لها أربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزّان الجنة فسألها أن تدخله الجنة في فيها فأدخلته ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون‏.‏ وقيل إنما رآهما على باب الجنة لأنهما كانا يخرجان منهما، وكان إبليس بقرب الباب فوسوس لهما وذلك أن آدم لما دخل الجنة ورأى ما فيها من نعيم قال لو أن خلداً فاغتنم ذلك الشيطان منه وأتاه من قبل الخلد‏.‏ وقيل لما دخل الجنة وقف على آدم وحواء وهما لا يعلمان أنه إبليس فبكى وناح نياحه أحزنتهما وهو أول من ناح فقالا ما يبكيك قال أبكي عليكما لأنكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما ومضى إبليس ثم أتاها بعد ذلك وقال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد فأبى أن يقبل منه فقاسمهما بالله إني لكما لمن الناصحين، فاغترا وما ظنا أن أحداً يحلف بالله كاذباً، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة، ثم ناولت آدم فأكل منها‏.‏ قال إبراهيم بن أدهم‏:‏ أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً، فقال ابن عباس‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ «يا آدم ألم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب وعزتك ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً‏.‏ قال‏:‏ فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش فيها إلاّ نكداً فاهبط من الجنة وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وزرع وسقى حتى إذا بلغ واشتد حصده ثم درسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه وخبزه ثم أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه الجهد» وفي رواية أخرى عن ابن عباس‏:‏ إن آدم لما أكل من الشجرة التي نهى عنها قال الله تعالى‏:‏ يا آدم ما حملك على ما صنعت‏؟‏ قال يا رب زينته لي حواء قال‏:‏ فإني أعقبتها أن لا تحمل إلاّ كرهاً ولا تضع إلاّ كرهاً ودميتها في الشهر مرتين، فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك‏.‏ والرنة الصوت، فلما أكلا من الشجرة تهافتت عنهما ثيابهما، وأخرجا من الجنة، فذلك قوله عز وجل ‏{‏وقلنا اهبطوا‏}‏ أي انزلوا إلى الأرض يعني آدم وحواء وإبليس والحية فهبط آدم بسرنديب من أرض الهند على جبل يقال له نود، وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالإبلة من أعمال البصرة والحية بأصبهان ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ يعني العداوة التبي بين المؤمنين من ذرية آدم وبين إبليس وإليه الإشارة بقوله عز وجل‏:‏

‏{‏إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً‏}‏ والعداوة التي بين ذرية آدم والحية‏.‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ترك الحيات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالماهن منذ حاربناهن» أخرجه أبو داود، وله عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف من ثأرهن فليس مني» وفي رواية «اقتلوا الكبار كلها إلاّ الجان الأبيض الذي كأنه قضيب فضة» ‏(‏م‏)‏ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن بالمدينة جنّاً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» وفي رواية «إن بهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئاً فاخرجواعليه ثلاثاً فإن ذهب إلاّ فاقتلوه فإنه كافر» ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ أي موضع قرار ‏{‏ومتاع‏}‏ أي بلغة ومستمتع ‏{‏إلى حين‏}‏ أي إلى وقت انقضاء آجالكم‏.‏ قوه عز وجل ‏{‏فتلقى آدم‏}‏ أي فتلقن، والتلقي هو قبول عن فطنة وفهم‏.‏ وقيل هو التعلم ‏{‏من ربه كلمات‏}‏ أي كانت سبب توبته‏.‏ وقيل إن تلك الكلمات هي قوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية وقيل هي لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم لا إله إلاّ أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفس فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين، وقيل قال آدم‏:‏ يا رب أرأيت ما أتيت أشي ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته عليّ قبل أن تخلقني‏؟‏ بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك‏.‏ قال‏:‏ يا رب فكما قدرته علي فاغفر لي‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى أمر آدم بالحج وعلمه أركانه فطاف بالبيت سبعاً وهو يومئذٍ ربوة حمراء ثم صلّى ركعتين ثم استقبل البيت وقال اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم قد غفرت لك ذنوبك‏.‏ وقيل‏:‏ إن آدم لما أهبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله تعالى‏.‏ وقيل هي ثلاثة أشياء‏:‏ الحياء والدعاء والبكاء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً‏.‏ وقيل‏:‏ لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم اكثر حين أصاب الخطيئة لو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة ‏{‏فتاب عليه‏}‏ أي فتجاوز عنه وغفر له‏.‏

وأصل التوبة من تاب يتوب إذا رجع فكأن التائب رجع عن ذلك الذنب الذي كان عليه، ولا تتحقق التوبة منه إلاّ بثلاثة أمور‏.‏ علم وحال وعمل‏.‏ أما العلم فهو أن يعلم العبد ضرر الذنب وأنه حجاب عن الله تعالى، فإذا حصل هذا العلم تألم القلب فعند ذلك يحصل الندم وهو الحال فيترك العبد الذنب، وبعزم في المستقبل أن لا يعود إليه وهو العمل فإذا تحققت هذه الثلاثة الأمور وحصلت التوبة، وسيأتي بسط هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏توبوا إلى الله توبة نصوحاً‏}‏ في سورة التحريم إن شاء الله تعالى ‏{‏إنه هو التواب‏}‏ أي الرجاع على عباده بقبول التوبة‏.‏ والتواب في وصف الله سبحانه وتعالى‏:‏ المبالغ في قبول توبة عباده ‏{‏الرحيم‏}‏ أي بخلقه وصف سبحانه وتعالى نفسه مع كونه بأنه رحيم ‏{‏قلنا اهبطوا منها جميعاً‏}‏ يعني هؤلاء الأربعة‏.‏ وقيل إن الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا والهبوط الثاني من السماء الدنيا إلى الأرض، وفيه ضعف لأنه قال في الهبوط الأول ‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ فدل على أنه كان من الجنة إلى الأرض، والأصح أنه للتأكيد ‏{‏فإمَّا يأتينكم مني هدى‏}‏ فيه تنبيه على عظم نعم الله على آدم وحواء كأنه قال وإن أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بهدايتي التي تؤديكم إلى الجنة مرة أخرى على الدوام الذي لا ينقطع وقيل المخاطب هم ذرية آدم يعني يا ذرية آدم إما يأتينكم مني رشد وبيان وشريعة وقيل كتاب ورسول ‏{‏فمن تبع هداي فلا خوف عليهم‏}‏ يعني فيما يستقبلهم ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ أي على ما خلفوا وقيل لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 44‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏39‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏40‏)‏ وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ‏(‏41‏)‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏42‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي جحدوا ‏{‏وكذبوا بآياتنا‏}‏ أي بالقرآن ‏{‏أولئك أصحاب النار‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏هم فيها خالدون‏}‏ أي لا يخرجون منها ولا يموتون فيها قوله عز وجل ‏{‏يا بني إسرائيل‏}‏ اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلّى الله عليهم وسلم أجمعين ومعنى إسرائيل عبدالله وقيل صفوة الله والمعنى يا أولاد يعقوب ‏{‏اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ أي اشكروا نعمتي وإنما عبر عنه بالذكر لأن من ذكر النعمة فقد شكرها ومن جحدها فقد كفرها وقيل الذكر يكون بالقلب ويكون اللسان ووحد النعمة لأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ومعناه أن المضرة المحضة لا تكون نعمة ولو فعل الإنسان منفعة وقصد نفسه بها لا تسمى نعمة إذا لم يقصد بها الغير ثم إن النعم ثلاثة‏:‏ نعمة تفرد بها الله تعالى وهي إيجاد الإنسان ورزقه ونعمة وصلت إلى الإنسان بواسطة الغير لكن الله مكنه من ذلك فالمنعم بها في الحقيقة هو الله تعالى ونعمة حصلت للإنسان بسبب الطاعة وهي أيضاً من الله تعالى، فالله هو المنعم المطلق في الحقيقة لأن أصول النعم كلها منه‏.‏ وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله ‏{‏اذكروا نعمتي‏}‏ لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم كلها منه‏.‏ وأما النعم المختصة ببني إسرائيل فكثيرة لأن قوله ‏{‏اذكروا نعمتي‏}‏ لفظها واحد ومعناها الجمع فمن النعم أن الله تعالى أنقذهم من فرعون وفلق البحر لهم وأغرق فرعون وتظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى في التيه عليهم وإنزال التوراة ونعم غير هذه كثيرة فإن قلت إذا فسر النعمة بهذا فما كانت على المخاطبين بها بل كانت على آبائهم فكيف تكون نعمة عليهم حتى يذكروها‏.‏ قلت إنما ذكر المخاطبين بها لأن فخر الآباء الأبناء ولأن الأبناء إذا اتيقنوا أن الله قد أنعم على آبائهم بهذه النعم فقد وجب عليهم ذكرها وشكرها‏.‏ وقيل أن هذه النعم هي إدراك المخاطبين بها زمن محمد صلى الله عليه وسلم وذكرها الإيمان به ‏{‏وأوفوا بعهدي‏}‏ أي امتثلوا أمري ‏{‏أوف بعهدكم‏}‏ أي بالقول والثواب وأصل للعهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال ومنه سمي الموثق الذي تلزم مراعاته عهداً وقيل أراد بالعهد جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكليف دون بعض وقيل أراد به ما ذكر في سورة المائدة وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لأكفرن عنكم سيئاتكم‏}‏ فهذا قوله‏:‏ ‏{‏أوف بعهدكم‏}‏ وقيل هو قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ يعني شريعة التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ هو قوله‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ الله‏}‏ وقيل أراد بهذا العهد ما أثبته في كتب الأنبياء المتقدمة من وصف محمد صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث في آخر الزمان، وذلك أن الله عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة السلام أني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن تبعه وصدق النور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين، وهو قوله‏:‏

‏{‏وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس‏}‏ يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ‏{‏وإياي فارهبون‏}‏ أي فخافون في نقضكم العهد ‏{‏وآمنوا بما أنزلت‏}‏ يعني بالقرآن ‏{‏مصدقاً لما معكم‏}‏ يعني أن القرآن موافق لما في التوراة من التوحيد والنبوة والأخبار ونعمت النبي صلى الله عليه وسلم فالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن تصديق للتوراة لأن التوراة فيها الإشارة إلى نعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي مبعوث فمن آمن به فقد آمن بما في التوراة ومن كذبه وكفر به فقد كذب التوراة وكفر بها ‏{‏ولا تكونوا أول كافر به‏}‏ الخطاب لليهود، نزلت في كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود، والمعنى ولا تكونوا يا معشر اليهود أول من كفر به‏.‏ فإن قلت كيف جعلوا أول من كفر به وقد سبقهم إلى الكفر به مشركو العرب من أهل مكة وغيرهم‏؟‏ قلت‏:‏ هذا تعريض لهم والمعنى كان يجب أن تكونوا أول من آمن به لأنكم تعرفون صفته ونعته بخلاف غيركم وكنتم تستفتحون به على الكفار فلما بعث كان أمر اليهود بالعكس‏.‏ وقيل معناه ولا تكونوا أول كافر به من اليهود فيتبعكم غيركم على ذلك فتبوءوا بإثمكم وإثم غيركم ممن تبعكم على ذلك ‏{‏ولا تشتروا‏}‏ أي ولا تستبدلوا ‏{‏بآياتي‏}‏ أي ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في التوراة ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ أي عوضاً يسيراً من الدنيا لأن الدنيا بالنسبة إلى الآخرة كالشي اليسير الحقير الذي لا قيمة له والذي كانوا يأخذونه من الدنيا كالشيء اليسير بالنسبة إلى جميعها فهو قليل القليل فلهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ وذلك أن كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماءهم كانوا يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالهم وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئاً معلوماً من زرعهم وثمارهم ونقودهم وضروعهم فخافوا إن بينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعوه أن تفوتهم تلك المآكل فغيروا نعته وكتموا اسمه واختاروا الدنيا على الآخرة وأصروا على الكفر ‏{‏وإياي فاتقون‏}‏ أي فخافون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتقوى قريب من معنى الرهبة والفرق بينهما أن الرهبة خوف مع حزن واضطراب والتقوى جعل النفس في وقاية مما تخاف‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تلبسوا الحق بالباطل‏}‏ أي ولا تكتبوا في التوراة ما ليس فيها فيختلط الحق المنزل بالباطل الذي كتبتم‏.‏

وقيل معناه ولا تخلطوا الحق الذي أنزل عليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة الباطل الذي تكتبونه بأيديكم من تغيير صفته وقيل لا تخلطوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي الحق بالباطل أي بصفة الدجال وذلك أنه أنه لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده اليهود وقالوا ليس هو الذي ننتظره وإنما هو المسيح ابن داود يعني الدجال وكذبوا فيما قالوا‏:‏ ‏{‏وتكتموا الحق وأنتم تعلمون‏}‏ يعني أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبي مرسل‏.‏ وفيه تنبيه لسائر الخلق وتحذير من مثله فصار هذا الخطاب وإن كان خاصاً في الصورة لكنه عام في المعنى فعلى كل أحد أن لا يلبس الحق بالباطل ولا يكتم الحق لما فيه من الضرر والفساد وفيه دلائل أيضاً على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ يعني الصلوات الخمس بمواقيتها وحدودها وجميع أركانها ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ أي أدوا الزكاة المفروضة عليكم في أموالكم ‏{‏واركعوا مع الراكعين‏}‏ أي صلوا مع المصلين، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعبر عن الصلاة بالركوع لأنه ركن من أركانها وهذا خطاب لليهود لأن صلاتهم ليس فيها ركوع فكأنه قال لهم صلوا صلاة ذات ركوع فلهذا المعنى أعاده بعد قوله وأقيموا الصلاة لأن الأول خطاب الكافة والثاني خطاب قوم مخصوصين وهم اليهود‏.‏ وفيه حث على إقامة الصلاة في الجماعة فكأنه قال صلوا مع المصلين في الجماعة‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏ الاستفهام فيه للتقرير مع التقريع والتعجب من حالهم‏.‏ والبر اسم جامع لجميع أعمال الخير والطاعات، نزلت هذه الآية في علماء اليهود، وذلك أن الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا سأله عن أمر محمد صلىلله عليه وسلم اثبت على دينه فإن أمره حق وقوله صدق وقيل إن جماعة من اليهود قالوا لمشركي العرب‏:‏ إن رسولاً سيظهر منكم ويدعوكم إلى الحق، وكانوا يرغبونهم وفي اتباعه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسدوه وكفروا به فبكتهم الله ووبخهم بذلك حيث إنهم كانوا يأمرون الناس باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه وأعرضوه عنه‏.‏ وقيل كانوا يأمرون الناس بالطاعة والصلاة والزكاة وأنواع البر ولا يفعلونه فوبخهم الله بذلك ‏{‏وتنسون أنفسكم‏}‏ أي وتعدلون عما لها فيه نفع والنسيان عبارة عن السهو الحادث بعد حصول العلم والمعنى أتتركون أنفسكم ولا تتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏وأنتم تتلون الكتاب‏}‏ يعني تقرؤون التوراة وتدرسونها وفيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وفيها أيضاً الحث على الأفعال الحسنة والإعراض عن الأفعال القبيحة والإثم ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ يعني أنه حق فتتبعونه والعقل قوة يهيئ قبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ومنه قول علي بن أبي طالب‏:‏

وإن العقل عقلان *** فمطبوع ومسموع

ولا ينفع مطبوع *** إذا لم يك مسموع

كما لا تنفع الشمس *** وضوء العين ممنوع

وأصل العقل الإمساك لأنه مأخوذ من عقال الدابة كعقل بالعقال ليمنعه من الشرود فكذلك العقل يمنع صاحبه من الكفر والجحود والأفعال القبيحة‏.‏ ومعنى الآية أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو إرشاد الغير إلى تحصيل المصلحة وتحذيره عما يوقعه في المفسدة والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير وذلك لأن الإنسان إذا وعظ غيره ولم يتعظ هو فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل فلهذا قال أفلا تعقلون وقيل إن من وعظ الناس يجتهد أن ينفذ موعظته إلى القلوب فإذا خالف قوله فعله كان ذلك سبب تنفير القلوب عن قبول موعظته ‏(‏ق‏)‏ عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى فيجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ما لك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيقول بل كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه» قوله فتندلق، أي تخرج أقتاب بطنه أي أمعاء بطنه واحدها قتب وروى البغوي بسنده عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون قيل مثل الذي يعلم الناس والخير ولا يعمل به كالسراج يضي للناس ويحرق نفسه» وقيل من وعظ بقوله ضاع كلامه، ومن وعظ بعفله نفذت سهامه، «وقال بعضهم‏:‏

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها *** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يسمع ما تقول ويقتدى *** بالقول منك وينفع التعليم

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 49‏]‏

‏{‏وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ‏(‏45‏)‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ‏(‏46‏)‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ قيل إن المخاطبين بهذا هم المؤمنون لأن من ينكر الصلاة والصبر على دين على محمد صلى الله عليه وسلم لا يقال له استعن بالصبر والصلاة فلا جرم وجب صرفه إلى من صدّق محمداً صلى الله عليه وسلم وآمن به‏.‏ وقيل يحتمل أن يكون الخطاب لبني إسرائيل لأن صرف الخطاب إلى غيرهم يوجب تفكيك نظم القرآن ولأن اليهود لم ينكروا أصل الصلاة والصبر لكن صلاتهم غير صلاة المؤمنين، فعلى هذا القول أن الله تعالى لما أمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والتزام شريعته وترك الرياسة وحب الجاه والمال قال لهم استعينوا بالصبر أي بحبس النفس عن اللذات وإن ضممتم إلى ذلك الصلاة هان عليكم ترك ما أنتم فيه من حب الرياسة والجاه والمال‏.‏ وعلى القول الأول يكون معنى الآية واستعينوا على حوائجكم إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ على ما يشغلكم من أنواع البلاء‏.‏ وقيل‏:‏ على طلب الآخرة بالصبر وهو حبس النفس عن اللذات وترك المعاصي‏.‏ وقيل بالصبر على أداء الفرائض‏.‏ وقيل الصبر هو الصوم لأن فيه حبس النفس عن المفطرات وعن سائر اللذات وفيه انكسار النفس والصلاة، أي اجمعوا بين الصبر والصلاة وقيل معناه واستعينوا بالصبر على الصلاة وعلى ما يجب فيها من تصحيح النية وإحضار القلب ومراعاة الأركان والآداب مع الخشوع والخشية، فإن اشتغل بالصلاة ترك ما سواها‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، أي إذا أهمه امر لجأ إلى الصلاة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نعي له أخوة قثم وهو في سفره فاسترجع ثم تنحى عن الطريق، فصلى ركعتين أطال فيهما السجود، ثم قام إلى راحلته وهو يقول‏:‏ فاستعينوا بالصبر والصلاة ‏{‏وإنها‏}‏ يعني الصلاة وقيل الاستعانة ‏{‏لكبيرة‏}‏ أي ثقيلة ‏{‏إلا على الخاشعين‏}‏ يعني المؤمنين وقيل الخائفين‏:‏ وقيل المطيعين المتواضعين لله وأصل الخشوع السكون فالخاشع ساكن إلى الطاعة وقيل الخشوع الضراعة وأكثر ما تستعمل في الجوارح وإنما كانت الصلاة ثقيلة على غير الخاشعين لأن من لا يرجو لها ثواباً ولا يخاف على تركها عقاباً فهي ثقيلة عليه‏.‏ وأما الخاشع الذي يرجو لها ثواباً ويخاف على تركها عقاباً فهي سهلة عليه ‏{‏الذين يظنون‏}‏ أي يستيقنون وقيل يعلمون ‏{‏أنهم ملاقو ربهم‏}‏ يعني في الآخرة وفيه دليل على ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة ‏{‏وأنهم إليه راجعون‏}‏ يعني بعدت فيجزيهم بأعمالهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم‏}‏ إنما أعاد هذا الكلام مرة أخرى توكيداً للحجة عليهم وتحذيراً من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وإني فضلتكم على العالمين‏}‏ يعني على عالمي زمانكم وهذا التفضيل وإن كان في حق الآباء ولكن يحصل به الشرف للأبناء ‏{‏واتقوا يوماً‏}‏ أي واخشوا عذاب يوم ‏{‏لا تجزي‏}‏ أي لا تقضى ‏{‏نفس عن نفس شيئاً‏}‏ يعني حقاً لزمها‏.‏

وقيل معناه لا تنوب نفس عن نفس يوم القيامة، ولا ترد عنها شيئاً مما أصابها، بل يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ‏{‏ولا تقبل منها شفاعة‏}‏ أي في ذلك اليوم والمعنى لا تقبل الشفاعة إذا كانت النفس كافرة، وذلك أن اليهود قالوا يشفع لنا آباؤنا فرد الله عليهم ذلك بقوله ولا تقبل منها شفاعة وقيل إن طاعة المطيع لا تقضي عن العاصي ما كان واجباً عليه وقيل معناه أن النفس الكافرة لو جاءت بشفيع لا يقبل منها ‏{‏ولا يؤخذ منها عدل‏}‏ أي فدية وهو مماثلة الشيء بالشيء ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ أي لا يمنعون من العذاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ نجيناكم‏}‏ أي واذكروا إذ خلصنا أسلافكم وأجوادكم فاعتدها نعمة ومنة عليهم لأنهم نجوا بنجاة أسلافهم ‏{‏من آل فرعون‏}‏ أي من أتباعه وأهل دينه وفرعون اسم علم لمن كان يملك مصر من القبط والعماليق وفرعون هذا كان اسمه الوليد بن مصعب بن الريان وعمر أكثر من أربعمائة سنة ‏{‏يسومونكم‏}‏ أي يكلفونكم ويذيقونكم ‏{‏سوء العذاب‏}‏ أي أشد العذاب وأسوأه، وقيل‏:‏ يصرفونكم في العذاب مرة كذا ومرة كذا، وذلك أن فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وخولاً، وصنفهم في الأعمال أصنافاً‏:‏ صنف يبنون ويزرعون، وصنف يخدمونه ومن لم يكن في عمل وضع عليه الجزية وقال ابن وهب‏:‏ كانوا أصنافاً في أعمال فرعون فذوو القوة يسلخون السواري من الجبال، حتى تقرعت أيديهم وأعناقهم ودبرت ظهورهم من قطعها ونقلها وصنف ينقلون الحجارة والطين يبنون له القصور، وطائفة يضربون اللبن ويطبخون الآجر، وطائفة نجارون وحدادون، والضعفة منهم يضرب عليهم الخراج يعني الجزية ضريبة يؤدونها كل يوم، فمن غربت عليه الشمس قبل أن يؤدي ضريبته، غلبت يداه إلى عنقه شهراً والنساء يغزلن الكتان وينسجنه وقيل تفسير يسومونكم سوء العذاب، ما بعده وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم‏}‏ أي يتركونهن أحياء‏.‏ وذلك أن فرعون رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصر، وأحرقت كل قبطي بها ولم تتعرض لبني إسرائيل فهاله ذلك، وسأل الكهنة عن رؤياه فقالوا‏:‏ يولد غلام يكون على يديه هلاكك وزوال ملكك فأمر فرعون بقتل كلا غلام يولد في بني إسرائيل، ووكل بالقوابل فكنّ يفعلن ذلك حتى قتل في طلب موسى اثنى عشر ألفاً وقيل‏:‏ سبعين الفاً، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤساء القبط على فرعون وقالوا‏:‏ إن الموت قد وقع ببني إسرائيل فتذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك أن يقع العمل علينا فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فولد هارون في السنة التي لا يذبح فيها وولد موسى في السنة التي يذبح فيها ‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏ أي اختيار وامتحان، والبلاء يطلق على النعمة العظيمة وعلى المحنة الشديدة ليختبر الله العبد على النعمة بالشكر، وعلى الشدة بالصبر فإن حمل قوله‏:‏ ‏{‏وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم‏}‏ على صنع فرعون كان من البلاء والمحنة وإن حمل على الإنجاء كان من النعمة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ فرقنا بكم البحر‏}‏ أي فصلنا بعضه من بعض وجعلنا فيه مسالك بسبب دخولكم البحر وسمي بحراً لاتساعه‏.‏

ذكر سياق القصة

وذلك أنه لما دنا هلاك فرعون، أمر الله موسى عليه الصلاة والسلام أن يسري ببني إسرائيل من مصر بالليل، فأمر موسى قومه أن يسرجوا في بيوتهم السرج إلى الصبح، وأن يستعيروا حلى القبط لتبقى لهم أو ليتبعوهم لأجل المال، وأخرج الله كل ولد زنا كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل وكل ولد زنا كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط حتى يرجع كل ولد إلى أبيه وألقى الله الموت على القبط فمات كل بكر لهم فاشتغلوا بدفنهم وقيل‏:‏ بلغ ذلك فرعون فقال لا أخرج في طلبهم حتى يصيح الديك فما صاح تلك الليلة ديك وخرج موسى في بني إسرائيل وهم ستمائة ألف وعشرون ألفاً لا يعدون ابن عشرين سنة لصغره، ولا ابن ستين سنة لكبره، وكانوا يوم دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنساناً ما بين رجل وامرأة فلما أرادوا السير ضرب عليهم التيه فلم يدروا أين يذهبوا فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك فقالوا‏:‏ إن يوسف لما حضره الموت أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فلذلك انسد علينا الطريق فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموه فقال موسى‏.‏ ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به ومن لم يعلم صمت أذناه عن سماع قولي‏:‏ فكان يمر بالرجل وهو ينادي فلا يسمع صوته حتى سمعته عجوز منهم فقالت له‏:‏ أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما أسألك فأبى عليها وقال‏:‏ حتى أسأل ربي فأمره أن يعطيها سؤالها فقالت‏:‏ إني عجوز لا أستطيع المشي فاحملني معك وأخرجني من مصر هذا في الدنيا وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة من غرف الجنة إلا نزلتها معك قال‏:‏ نعم، قالت‏:‏ إنه في النيل في جوف الماء فادع الله أن يحسر عنه الماء فدعا الله فحسر عنه الماء، ودعا الله أن يؤخر عنه طلوع الفجر حتى يفرغ من أمر يوسف، ثم حفر موسى ذلك الموضع فاستخرجه وهو في صندوق من مرمر وحمله معه حتى دفنه بالشام، فعند ذلك فتح لهم الطريق فسار موسى ببني إسرائيل هو في ساقتهم وهارون في مقدمتهم، ثم خرج فرعون في طلبهم في ألف ألف وسبعمائة ألف وكان فيهم سبعون ألفاً من دهم الخيل سوى سائر الشيات وقيل‏:‏ كان معهن مائة ألف حصان أدهم وكان فرعون في الدهم وكان على مقدمة عسكر هامان، وكان فرعون في سبعة آلاف ألف وكان بين يديه مائة ألف ألف ناشب ومائة ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف حراب ومائة في ألف ألف، معهم الأعمدة واسر بنو إسرائيل حتى وصلوا البحر والماء في غاية الزيادة، ونظروا حين أشرقت الشمس فإذا هم بفرعون في جنوده فبقوا متحيرين وقالوا‏:‏ يا موسى أين ما وعدتنا به فكيف نصنع هذا فرعون خلفنا إن أدركنا قتلنا والبحر أمامنا إن دخلناه غرقنا، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فلم يطعه فأوحى الله إليه أن كنه فضربه، وقال‏:‏ انفلق يا أبا خالد فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط منهم طريق وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل الله الريح والشمس على قعر البحر، حتى صار يبساً وخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق عن جوانبهم الماء كالجبل الضخم لا يرى بعضهم بعضاً فخافوا، وقال‏:‏ كل سبط منهم قد هلك إخواننا فأوحى الله إلى جبال الماء أن تشبكي فصار الماء كالشباك يرى بعضهم بعضاً، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ فرقنا بكم البحر‏}‏ ‏{‏فأنجيناكم‏}‏ يعني من فرعون ‏{‏وأغرقنا آل فرعون‏}‏‏.‏ وذلك أن فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منفلقاً‏:‏ انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا مني ادخلوا البحر فهاب قومه أن يدخلوا، وقيل‏:‏ قالوا له‏:‏ إن كنت رباً فادخل البحر كما دخل موسى وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق فتقدمه، وخاض البحر فلما شم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في أثرها ولم يملك فرعون من أمره شيئاً، واقتحمت الخيول خلفه في البحر وجاء ميكائيل خلفهم يسوقهم وهو على فرس ويقول‏:‏ الحقوا بأصحابكم حتى صاروا كلهم في البحر وخرج جبريل من البحر وهم أولهم بالخروج فأمر الله البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم وأغرقهم أجمعين وكان بين طرفي البحر أربع فراسخ وهو بحر القلزم وهو على طرف من بحر فارس، وقيل‏:‏ هو بحر من وراء مصر يقال له‏:‏ إساف وكان إغراق آل فرعون بمرأى من بني إسرائيل فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ يعني إلى هلاكهم وقيل‏:‏ إلى مصارعهم وقيل‏:‏ إن البحر قذفهم حتى نظروا إليهم ووافق ذلك يوم عاشوراء فصام موسى عليه السلام ذلك اليوم شكراً لله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏51‏)‏ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏52‏)‏ وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏53‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وإذ وعدنا‏}‏ من المواعدة وهو من الله الأمر ومن موسى القبول وذلك أن الله وعده بمجيء الميقات ‏{‏موسى‏}‏ اسم عبري معرب فموسى بالعبرية الماء والشجر سمي موسى لأنه أخذ من بين الماء والشجر ثم قلبت الشين سيناً فسمي موسى ‏{‏أربعين ليلة‏}‏ أي انقضاء أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة، وقرن التاريخ بالليل دون الأنهار لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر لأن الظلمة أقدم من الضوء‏.‏

ذكر القصة في ذلك‏:‏

قال العلماء‏:‏ لما أنجى الله نبي إسرائيل من البحر وأغرق عدوهم ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليهما، وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة فقال موسى لقومه‏:‏ إني ذاهب إلى ميقات ربي لآتيكم منه بكتاب فيه بيان ما تأتون وما تذرون، ووعدهم أربعين ليلة واستخلف عليهم أخاه هارون فلما جاء الموعد أتاه جبريل عليه الصلاة والسلام على فرس يقال له‏:‏ فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلا حيي ليذهب بموسى إلى ميقات ربه فرآه السامري، وكان صائغاً اسمه ميخا وقال ابن عباس‏:‏ اسمه موسى بن ظفر، وقيل‏:‏ كان من أهل ماحرا وقيل كرمان وقيل من بني إسرائيل من قبيلة يقال لها السامرة وكان منافقاً يظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر فلما رأى جبريل على ذلك الفرس ورأى موضع قدم الفرس يخضر في الحال فقال في نفسه إن لهذا لشأناً وقيل رأى جبريل حين دخل البحر قدام فرعون فقبض قبضة من تراب فرسه وألقى في روعه، أنه إذا ألقي في شيء حيي فلما ذهب موسى إلى الميقات، ومكث على الطور أربعين ليلة وأنزل الله عليه التوراة في الألواح وكانت الألواح من زبرجد، وقربه نجياً وأسمعه صرير الأقلام وقيل‏:‏ إنه بقي أربعين ليلة لم يحدث فيها حدثاً حتى هبط من الطور، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من القبط حين أرادوا الخروج من مصر بعلة عرس لهم فلما هلك فرعون وقومه بقي ذلك الحلي في أيديهم فلما فصل موسى قال لهم السامري‏:‏ إن الحلي الذي استعرتموه من القبط غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفيرة وادفنوه فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه وقيل‏:‏ إن هارون أمرهم بذلك فلما اجتمعت الحلي أخذها السامري وصاغها عجلاً في ثلاثة أيام، ثم ألقى فيها القبضة التي أخذها من تراب فرس جبريل عليه الصلاة والسلام فصار عجلاً من ذهب مرصعاً بالجواهر وخار خورة وقيل‏:‏ كان يخور ويمشي، فقال لهم السامري؛ «هذا إلهكم وإله موسى فنسي» أي فتركه ها هنا وخرج يطلبه وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد، فعدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضى عشرون يوماً، ولم يرجع موسى وقعوا في الفتنة وقيل‏:‏ كان موسى وعدهم ثلاثين ليلة ثم زيدت العشرة فكانت فتنتهم في تلك العشرة فلما مضت الثلاثون ولم يرجع موسى، ظنوا أنه قد مات ورأوا العجل وسمعوا قول السامري فعكف عليه ثمانية آلاف رجل يعبدونه، وقيل‏:‏ عبده كلهم إلا هارون مع اثني عشر ألف رجل وهذا أصح فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم اتخذتم العجل‏}‏ يعني إلها ‏{‏من بعده‏}‏ أي من بعد موسى ‏{‏وأنتم ظالمون‏}‏ أي وأنتم ضارون لأنفسكم بالمعصية حيث وضعتم العبادة في غير موضعها ‏{‏ثم عفونا عنكم‏}‏ أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي من بعد عبادتكم لعجل ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ أي لكي تشكروا عفوي عنكم، وحسن صنيعي إليكم وأصل الشكر هو تصور النعمة وإظهارها ويضاده الكفر وهو نسيان النعمة وسترها والشكر على ثلاث أضرب‏:‏ شكر القلب وهو تصور النعمة‏.‏

وشكر اللسان وهو الثناء على النعمة‏.‏ وشكر بسائر الجوارح وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقها، وقيل الشكر هو الطاعة بجميع الجوارح في السر والعلانية؛ وقيل‏:‏ حقيقة الشكر العجز عن الشكر‏.‏ وحكي أن موسى عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ إلهي أنعمت عليّ النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وإنما شكري إياك نعمة منك فأوحى الله تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني‏.‏ وقال داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة وقال الفضيل‏:‏ شكر كل نعمة أن لا يعصى بعدها بتلك النعمة وقيل شكر النعمة ذكرها وقيل‏:‏ شكر النعمة ذكرها وقيل‏:‏ شكر النعمة أن لا يراها البتة ويرى المنعم وقيل الشكر لمن فوقك بالطاعة والثناء ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ آتينا موسى الكتاب‏}‏ يعني التوراة ‏{‏والفرقان‏}‏ قيل‏:‏ هو نعت الكتاب والواو زائدة‏.‏ والمعنى الكتاب المفرق بين الحلال والحرام والكفر والإيمان وقيل‏:‏ الفرقان هو النصر على الأعداء والواو أصلية ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ يعني التوراة ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏ يعني الذين عبدوا العجل ‏{‏يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل‏}‏ يعني إلهاً تعبدونه فكأنهم قالوا ما نصنع قال ‏{‏فتوبوا إلى بارئكم‏}‏ أي ارجعوا إلى خالقكم بالتوبة قالوا كيف نتوب قال ‏{‏فاقتلوا أنفسكم‏}‏ يعني ليقتل البريء منكم المجرم‏.‏ فإن قلت التوبة عبارة عن الندم على فعل القبيح والعزم على أن لا يعود إليه وهذا مغاير للقتل‏.‏ فكيف يجوز تفسير التوبة بالقتل‏.‏ قلت‏:‏ ليس المراد تفسير التوبة بالقتل بل بيان أن توبتهم لا تتم إلا بالقتل، وإنما كان كذلك لأن الله أوحى إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن توبة المرتد لا تتم إلا بالقتل‏.‏ فإن قلت‏:‏ التائب من الردة لا يقتل فكيف استحقوا القتل وقد تابوا من الردة‏.‏

قلت ذلك مما تختلف فيه الشرائع فلعل شرع موسى كان يقتضي أن يقتل التائب من الردة إما عاماً في حق الكل أو خاصاً في حق الذين عبدوا العجل ‏{‏ذلكم خير لكم عند بارئكم‏}‏ يعني القتل وتحمل هذه الشدة لأن الموت لا بد منه فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا‏:‏ نصبر لأمر الله تعالى فجلسوا محتبين من الحبوة وهم ضم الساق إلى بطن بثوب، وقيل لهم من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته، وأصلت القوم الخناجر والسيوف، وأقبلوا عليهم فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فيرق له، فما يمكنهم المضي لأمر الله تعالى فقالوا يا موسى كيف نفعل‏؟‏ فأرسل الله تعالى عليهم سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً فكانوا يقتلون إلى السماء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون الله وبكيا وتضرّعا إليه وقال‏:‏ يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية فكشف الله السحابة عنهم وأمرهم أن يكفوا عن القتل، فتكشف عن ألوف من القتلى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ كان عدد القتلى سبعين ألفاً فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، فكان من قتل منهم شهيداً ومن بقي مكفراً عنه ذنوبه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ أي فعلتم ما أمرتم به فتجاوز عنكم ‏{‏إنه هو التواب‏}‏ أي الرجاع بالمغفرة القابل التوبة ‏{‏الرحيم‏}‏ بخلقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏55‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏56‏)‏ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك‏}‏ أي لن نصدقك ‏{‏حتى نرى الله جهرة‏}‏ أي عياناً وذلك أن الله عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً من خيارهم وقال لهم‏:‏ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، ففعلوا وخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه فقالوا لموسى‏:‏ اطلب لنا أن نسمع كلام ربنا قال‏:‏ أفعل فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغمام وتغشى الجبل كله فدخل موسى في الغمام، وقال للقوم‏:‏ ادنوا حتى دخلوا تحت الغمام وخروا سجداً وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجه نور ساطع فلا يستطيع أحد أن ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب وسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاكم وأسمعهم الله تعالى‏:‏ ‏(‏إني أنا الله لا إله إلا أنا ذو بكة أخرجتكم من أرض مصر بيد شديدة فاعبدوني ولا تعبدوا غيري فلما فرغ موسى وانكشف الغمام أقبل إليهم فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة‏)‏ وإنما قالوا‏:‏ جهرة توكيد للرؤية لئلا يتوهم متوهم أن المراد بالرؤية العلم ‏{‏فأخذتكم الصاعقة‏}‏ قيل‏:‏ هي الموت وفيه ضعف لأن قوله وأنتم تنظرون يرده إذ لو كان منها الموت لامتنع كونهم ناظرين إليها وقيل‏:‏ إن الصاعقة هي سبب الموت واختلفوا في ذلك السبب فقيل‏:‏ إن ناراً نزلت من السماء فأحرقتهم‏.‏ وقيل‏:‏ جاءت صيحة من السماء وقيل‏:‏ أرسل جموعاً من الملائكة فسمعوا بحسهم فخروا صعقين ‏{‏وأنتم تنظرون‏}‏ أي ينظر بعضكم إلى بعض كيف يأخذه الموت فلما هلكوا جعل موسى يبكي ويتضرع ويقول إلهي ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد هلك خيارهم «لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا» فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم الله رجلاً بعد رجل، بعد ما ماتوا يوماً وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم بعثناكم‏}‏ أي أحييناكم ‏{‏من بعد موتكم‏}‏ أي لتستوفوا بقية آجالكم وأرزاقكم ولو أنهم كانوا قد ماتوا لانقضاء آجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة ‏{‏لعلكم تشكرون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وظللنا عليكم الغمام‏}‏ يعني في التيه يقيكم حر الشمس، وذلك أنه لم يكن لهم في التيه شيء يسترهم ولا يستظلون به فشكوا إلى موسى فأرسل الله غماماً أبيض رقيقاً يسترهم من الشمس وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم الليل إذا لم يكن قمر ‏{‏وأنزلنا عليكم المن والسلوى‏}‏ أي في التيه الأكثرون على أن المن هو الترنجبين وقيل‏:‏ هو شيء كالصمغ يقع على الشجر طعمه كالشهد‏.‏ وقال وهب‏:‏ هو الخبز الرقاق، وأصل المن هو ما يمن الله به من غير تعب ‏(‏ق‏)‏ عن سعيد بن زيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«الكماة من المن وماؤها شفاء للعين» ومعنى الحديث أن الكمأة شيء أنبته الله من غير سعي أحد ولا مؤنة وهو بمنزلة المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، وقوله‏:‏ وماؤها شفاء للعين معناه أن يخلط مع الأدوية فينتفع به لا أنه يقطر ماؤها بحتاً في العين وقيل‏:‏ إن تقطيره في العين ينفع لكن لوجع مخصوص، وليس يوافق كل وجع العين وكان هذا المن ينزل على أشجارهم في كل ليلة من وقت السحر إلى طلوع الشمس، كالثلج لكل إنسان صاع فقالوا‏:‏ يا موسى قد قتلنا هذا المن بحلاوته، فادع لنا ربك أن يطعمنا اللحم فأرسل الله عليهم السلوى، وهو طائر يشبه السماني وقيل هو السماني بعينه فكان الرجل يأخذ ما يكفيه يوماً وليلة، فإذا كان يوم الجمعة يأخذ ما يكفيه ليومين لأنه لم يكن ينزل يوم السبت شيء ‏{‏كلوا‏}‏ أي وقلنا لهم كلوا ‏{‏من طيبات‏}‏ أي حلالات ‏{‏ما رزقناكم‏}‏ أي تدخروا لغد فخالفوا وادخروا فدود وفسد، فقطع الله عنهم ذلك ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لولا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر» قوله‏:‏ لم يخنز اللحم لم ينتن ولم يتغير ‏{‏وما ظلمونا‏}‏ أي وما بخسوا حقنا ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ يعني بأخذهم أكثر مما حولهم فاستحقوا بذلك عذابي وقطع مادة الرزق الذي كان ينزل عليهم بلا مؤنة ولا تعب في الدنيا ولا حساب في العقبى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏59‏)‏ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية‏}‏ سميت قرية لاجتماع الناس فيها قال ابن عباس‏:‏ هي أريحاء قرية الجبارين وقيل‏:‏ كان فيها قوم من بقية عاد يقال لهم‏:‏ العمالقة ورأسهم عوج بن عنق، فعلى هذا يكون القائل يوشع بن نون لأنه هو الذي فتح أريحاء بعد موت موسى لأن موسى مات في التيه، وقيل‏:‏ هي بيت المقدس وعلى هذا فيكون القائل موسى‏.‏ والمعنى إذا خرجتم من التيه بعد مضي الأربعين سنة، ادخلوا بيت المقدس ‏{‏فكلوا منها حيث شئتم رغداً‏}‏ أي موسعاً عليكم ‏{‏وادخلوا الباب‏}‏ فمن قال‏:‏ إن القرية أريحاء قال ادخلوا من أي باب كان من أبوابها وكان لها سبعة أبواب ومن قال إن القرية هي بيت المقدس قال هو باب حطة ‏{‏سجداً‏}‏ محنين خضعاً متواضعين كالراكع ولم يرد به نفس السجود ‏{‏وقولوا حطة‏}‏ أي حط عنا خطايانا أمروا بالاستغفار‏.‏ وقال ابن عباس قولوا لا إله إلا الله لأنها تحط الذنوب والخطايا على تقدير مسألتنا حطة ‏{‏نغفر لكم خطاياكم‏}‏ أي نسترها عليكم من الغفر وهو الستر لأن المغفرة تستر الذنوب ‏{‏وسنزيد المحسنين‏}‏ يعني ثواباً ‏{‏فبدل‏}‏ أي فغير ‏{‏الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم‏}‏ أي قالوا قولاً غير ما قيل لهم، وذلك أنهم بدلوا قول الحطة بالحنطة، وقالوا بلسانهم حطاناً سمقاثاً أي حنطة حمراء، وذلك استخفافاً منهم بأمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ طؤطئ لهم للباب ليخفضوا رؤوسهم فأبوا ذلك ودخلوا زحفاً على أستاههم فخالفوا في الفعل ما خالفوا في القول، وبدلوه ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قبل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعره» ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء‏}‏ يعني عذاباً من السماء، قيل‏:‏ أرسل الله عليهم طاعوناً فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون ألفاً ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ أي يعصون ويخرجون عن أمر الله تعالى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ استسقى موسى لقومه‏}‏ أي طلب السقيا لقومه، وذلك أنهم عطشوا في التيه فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأوحى الله إليه كما قال مبيناً ‏{‏فقلنا اضرب بعصاك‏}‏ وكانت العصا من آس الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى عليه الصلاة والسلام ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نوراً واسمها عليق، وقيل‏:‏ نبعة حملها آدم معه من الجنة فتوارثها الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فأعطاها موسى ‏{‏الحجر‏}‏ قال وهب‏:‏ لم يكن حجراً معيناً بل كان موسى يضرب أي حجر كان فيتفجر عيوناً لكل سبط عين، وكانوا اثني عشر سبطاً، وقيل‏:‏ كان حجراً معيناً بدليل أنه عرفه بالألف واللام قال ابن عباس‏:‏ كان حجراً خفيفاً مربعاً قدر رأس الرجل وكان موسى عليه الصلاة والسلام يضعه في مخلاة، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه وقيل‏:‏ كان للحجر أربعة وجوه في كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين وقيل كان من الرخام وقيل، كان من الكذان وهي الحجارة الليّنة وقيل‏:‏ هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه ليغتسل، ففر به فأتاه جبريل وقال إن الله يأمرك أن ترفع هذا الحجر فلي فيه قدرة ولك فيه معجزة فوضعه في مخلاة فلما سألوه السقيا قيل اضرب بعصاك الحجر فكان إذا احتاجوا إلى الماء، وضعه وضربه بعصاه فتتفجر منه عيون لكل سبط عين تسيل إليهم في جدول، وكان إذا أراد حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء وييبس الحجر فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً‏}‏ يعني على عدد أسباط بني إسرائيل، والمعنى فضربه فانفجرت قال المفسرون‏:‏ انفجرت وانبجست‏:‏ بمعنى واحد وقيل انبجست أي عرقت وانفجرت أي سالت ‏{‏قد علم كل أناس مشربهم‏}‏ أي موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره ‏{‏كلوا واشربوا‏}‏ أي وقلنا لهم كلوا واشربوا ‏{‏من رزق الله‏}‏ يعني المن والسلوى والماء فهذا كله من رزق الله كان يأتيهم بلا مشقة ولا كلفة ‏{‏ولا تعثوا في الأرض مفسدين‏}‏ العيث أشد الفساد في هذه الآية معجزة عظيمة لموسى عليه الصلاة والسلام، حين انفجر من الحجر الصغير ما روى منه الجميع الكثير ومعجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم لأنه انفجر من بين أصبعيه فروى منه الجم الغفير، لأن انفجار الماء من الدم واللحم أعظم من انفجاره من الحجر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 61‏]‏

‏{‏وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد‏}‏ وذلك أنهم سئموا من المن والسلوى وملوه، فاشتهوا عليه غيره لأن المواظبة على الطعام الواحد تكون سبباً لنقصان الشهوة‏.‏ فإن قلت‏:‏ هما طعامان فما بالهم قالوا على طعام واحد‏.‏ قلت‏:‏ أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل ولو كان على مائدة الرجل عدة ألوان يداوم عليها في كل يوم لا يبدلها كانت بمنزلة الطعام الواحد ‏{‏فادع لنا ربك‏}‏ أي فاسأل لنا ربك ‏{‏يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الفوم الخبز وقيل هو الحنطة، وقيل هو الثوم ‏{‏وعدسها وبصلها‏}‏ إنما طلبوا هذا الأنواع لأنها تعين على تقوية الشهوة أو لأنهم ملوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة ‏{‏قال‏}‏ يعني موسى ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى‏}‏ أي الذي هو أخس وأردأ وهو الذي طلبوه ‏{‏بالذي هو خير‏}‏ يعني بالذي هو أشرف وأفضل وهو ما هم فيه ‏{‏اهبطوا مصراً‏}‏ يعني إن أبيتم إلا ذلك‏.‏ فأتوا مصراً من الأمصار، وقيل‏:‏ بل هو مصر البلد الذي كانوا فيه ودخول التنوين عليه كدخوله على نوح ولوط، والقول هو الأول ‏{‏فإن لكم ما سألتم‏}‏ يعني من نبات الأرض ‏{‏وضربت عليهم الذلة‏}‏ أي جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم وألزموا الذل والهوان وقيل‏:‏ الذلة الجزية وزي اليهودية وفيه بعد لأنه لم تكن ضربت عليهم الجزية بعد ‏{‏والمسكنة‏}‏ أي الفقر والفاقة وسمي الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، فترى اليهود وإن كانوا أغنياء مياسير كأنهم فقراء فلا ترى أحداً من أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود ‏{‏وباؤوا‏}‏ أي رجعوا ولا يقال باء إلا بشراً ‏{‏بغضب من الله‏}‏ وغضب الله إرادة الانتقام ممن عصاه ‏{‏ذلك‏}‏ أي الغضب ‏{‏بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله‏}‏ أي بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم التي في التوراة ويكفرون بالإنجيل والقرآن ‏{‏ويقتلون النبيين‏}‏ النبي معناه المخبر من أنبأ ينبئ وقيل هو بمعنى الرفيع مأخوذ من النبوة وهو المكان المرتفع ‏{‏بغير الحق‏}‏ أي بغير جرم‏.‏ فإن قلت‏:‏ قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق فما فائدة ذكره‏.‏ قلت‏:‏ ذكره وصفاً للقتل والقتل يوصف تارة بالحق وهو ما أمره الله به وتارة بغير الحق وهو قتل العدوان فهو كقوله‏:‏ ‏{‏قال رب احكم بالحق‏}‏ فالحق وصف للحكم، لا أن حكمه ينقسم إلى حق وجور‏.‏ يروى أن اليهود قتلت سبعين نبياً في أول النهار، وقامت إلى سوق بقلها في آخره وقتلوا زكريا ويحيى وشعياء وغيرهم من الأنبياء ‏{‏ذلك بما عصوا‏}‏ أي ذلك القتل والكفر بما عصوا أمري ‏{‏وكانوا يعتدون‏}‏ أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 63‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏62‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هادوا‏}‏ يعني اليهود سموا بذلك لقولهم‏:‏ «إنا هدنا إليك» أي ملنا إليك وقيل‏:‏ هادوا أي تابوا عن عبادة العجل وقيل إنهم مالوا عن دين الإسلام ودين موسى عليه السلام ‏{‏والنصارى‏}‏ سموا بذلك لقول الحواريين نحن «أنصار الله» وقيل‏:‏ لاعتزائهم إلى قرية يقال لها ناصرة وكان المسيح ينزلها ‏{‏والصابئين‏}‏ أصله من صبأ إذا خرج من دين إلى دين آخر سموا بذلك لخروجهم من الدين قال عمر وابن عباس‏:‏ هم قوم من أهل الكتاب قال عمر ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب وقال ابن عباس‏:‏ لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل‏:‏ هم قوم بين اليهود والمجوس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل‏:‏ هم قوم بين اليهود والمجوس لا تحل ذبائحهم ولا مناكحتهم وقيل‏:‏ هم بين اليهود والنصارى يحلقون أوساط رؤوسهم وقيل‏:‏ هم قوم يقرون بالله ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كل دين شيئاً، والأقرب أنهم قوم يعبدون الكواكب وذلك أنهم يعتقدون أن الله تعالى خلق هذا العالم وجعل الكواكب مدبرة له فيجب على البشر عبادتها وتعظيمها، وأنها هي التي تقرب إلى الله تعالى‏.‏ ولما ذكر هذه الوظائف قال ‏{‏من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ فإن قلت‏:‏ كيف قال في أول الآية إن الذين آمنوا وقال في آخرها من آمن بالله فما فائدة التعميم أولاً ثم التخصيص آخراً قلت‏:‏ اختلف العلماء في حكم الآية فلهم فيه طريقان أحدهما أنه أراد أن الذين آمنوا على التحقيق ثم اختلفوا فيهم فقيل هم الذين آمنوا في زمن الفطرة وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وبحيرا الراهب وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي، فمنهم من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه فكأنه تعالى قال‏:‏ إن الذين آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والذين كانوا على الدين الباطل المبدل من اليهود والنصارى والصابئين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجرهم عند ربهم، وقيل‏:‏ هم المؤمنون من الأمم الماضية وقيل‏:‏ هم المؤمنون من هذه الأمة والذين هادوا يعني الذين كانوا على دين موسى ولم يبدلوا والنصارى الذين كانوا على دين عيسى ولم يغيروا والصابئين يعني في زمن استقامة أمرهم من آمن منهم ومات وهو مؤمن لأن حقيقة الإيمان تكون بالوفاة‏.‏ وأما الطريقة الثانية فقالوا؛ إن المذكورين بالإيمان في أول الآية إنما هو على طريق المجاز دون الحقيقة وهم الذين آمنوا بالأنبياء الماضين ولم يؤمنوا بك وقيل‏:‏ هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم يؤمنوا بقلوبهم واليهود والنصارى والصابئون، فكأنه تعالى قال هؤلاء المطلوبون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي صار مؤمناً عند الله، وقيل‏:‏ إن المراد من قوله إن الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة حين الماضي، ثبتوا على ذلك المستقبل وهو المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً‏}‏ أي في إيمانه ‏{‏فلهم أجرهم عند ربهم‏}‏ أي جزاء أعمالهم ‏{‏ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ أي في الآخرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا أخذنا ميثاقكم‏}‏ أي عهدكم يا معشر اليهود ‏{‏ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ يعني الجبل العظيم قال ابن عباس‏:‏ أمر الله جبلاً من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام على رؤوسهم وسبب ذلك أن الله تعالى لما أنزل التوراة على موسى، وأمرهم أن يعملوا بأحكامها فأبوا أن يقبلوها لما فيها من الآصار يعني الأثقال والتكاليف الشاقة أمر الله تعالى جبريل عليه السلام، أن يقلع جبلاً على قدر عسكرهم وكان قدره فرسخاً في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم قدر قامة كالظلة وقيل لهم‏:‏ إن لم تقبلوا ما في التوراة وإلا أرسلت هذا الجبل عليكم ‏{‏خذوا‏}‏ أي قلنا لهم خذوا ‏{‏ما آتيناكم‏}‏ أي ما أعطيناكم ‏{‏بقوة‏}‏ أي بجد واجتهاد ‏{‏واذكروا ما فيه‏}‏ أي ادرسوا ما فيه ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ أي لكي تنجوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في العقبى وإلا رضت رؤوسكم بهذا الجبل فلما رأوا ذلك نازلاً بهم قبلوا وسجدوا، وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود فصار ذلك سنة في سجود اليهود لا يسجدون إلا على أنصاف وجوههم، ويقولون‏:‏ بهذا السجود رفع عنا العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 67‏]‏

‏{‏ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏ثم توليتم‏}‏ أي أعرضتم ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي من بعد ما قبلتم التوراة ‏{‏فلولا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ أي بالإمهال ‏{‏لكنتم من الخاسرين‏}‏ أي المغبونين بذهاب الدنيا والعذاب في العقبى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم‏}‏ أي جاوزوا الحد ‏{‏في السبت‏}‏ يقال‏:‏ سبت اليهود لأنهم يعظمونه ويقطعون فيه أعمالهم، وأصل السبت القطع‏.‏

ذكر الإشارة إلى القصة

قال العلماء‏:‏ بالأخبار إنهم كانوا في زمن داود عليه الصلاة والسلام بقرية بأرض أيلة وحرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فكان إذا دخل يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا اجتمع هناك حتى لا يرى الماء من كثرتها‏.‏ فإذا مضى السبت تفرقت الحيتان ولزمن قعر البحر فلذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏}‏ ثم إن الشيطان وسوس إليهم، وقال‏:‏ إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ولم تنهوا عن أخذها عن غيره فعمد رجال منهم فحفروا حياضاً كباراً حول البحر، وشرعوا منه إليها أنهاراً فإذا كان عشية الجمعة فتحوا تلك الأنهار فيقبل الموج من البحر بالحيتان إلى تلك الحياض فيقعن فيها ولا يقدرن على الخروج منها لعمقها، فإذا كان يوم الأحد أخذوها وقيل‏:‏ إنهم كانوا ينصبون الشخوص والحبائل يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل بهم عقوبة فتجرؤوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلا قد أحل لنا فأخذوا وملحوا وأكلوا وباعوا واشتروا فلما فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاثة أصناف، وكانوا نحو سبعين ألفاً صنف أمسك عن الصيد ونهى عن الاصطياد وصنف أمسك ولم ينه وصنف انهمكوا في الذنب وهتكوا الحرمة وكان الصنف الناهون اثني عشر ألفاً، فلما أبى المجرمون قبول نصيحتهم قالوا‏:‏ والله لا نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بينهم بجدار فغيروا على ذلك سنين، ثم لعنهم داود وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية فخرج الناهون ذات يوم من بابهم ولم يخرج من المجرمين أحد، ولم يفتحوا الباب فلما أبطؤوا تسوروا عليهم الجدار فإذا هم جميع قردة لهم أذناب وهم تتعاوون، وقيل‏:‏ صار الشباب قردة والشيوخ خنازير فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يمكث مسخ فوق ثلاث ولم يتولدوا‏.‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ أمر تحويل وتكوين، ومعنى خاسئين مبعدين مطرودين؛ وقيل فيه تقديم وتأخير معناه كونوا خاسئين قردة ولهذا لم يقل خاسئات ‏{‏فجعلناها‏}‏ يعني عقوبتهم بالمسخ ‏{‏نكالاً‏}‏ أي عقوبة وعبرة ‏{‏لما بين يديها وما خلفها‏}‏ قيل‏:‏ معناه عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم وقيل‏:‏ جعلنا عقوبة قرية أصحاب السبت عبرة لمن بين يديها من القرى التي كانت عامرة في الحال وما خلفها أي‏.‏

ما يحدث بعدها من القرى ليتعظوا بذلك وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وموعظة للمتقين‏}‏ أي المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لئلا يفعلوا مثل فعلهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏ البقرة واحدة البقر وهي الأنثى وأصلها البقر وهو الشق سميت بذلك لأنها تشق الأرض للحراثة‏.‏

ذكر الإشارة إلى القصة في ذلك

قال علماء السير والأخبار‏:‏ إنه كان زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏ فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما أشكل عليم، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم‏:‏ إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ‏{‏قالوا أتتخذنا هزواً‏}‏ أي نحن نسألك أمر القتيل، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يعلموا ما وجه الحكمه فيه ‏{‏قال‏}‏ يعني موسى ‏{‏أعوذ بالله‏}‏ أي أمتنع بالله ‏{‏أن أكون من الجاهلين‏}‏ أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل‏:‏ من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى استوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة الله عز وجل، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال‏:‏ اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات ذلك الرجل، وصارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من الناس، فلما كبر ذلك الطفل، وكان باراً بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوماً‏:‏ يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، قالت‏:‏ أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك‏.‏ فقال الفتى‏:‏ إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة والله لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه‏:‏ إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة، فقال‏:‏ بكم أبيعها قالت‏:‏ بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق، وبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه، وهو أعلم فقاله له الملك‏:‏ بكم هذه البقرة‏؟‏ قال بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى أمي فقاله له الملك‏:‏ لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي‏.‏

ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له‏:‏ ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له‏:‏ استأمرت أمك فقال الفتى‏:‏ نعم‏.‏ إنها أمرتني أن لا نقصها عن ستة على رضاها‏.‏ فقال الملك‏:‏ إني أعطيتك اثني عشر ديناراً ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه‏:‏ إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجزيك، فإذا أتاك فقل له‏:‏ أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقاله له الملك‏:‏ اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهباً والمسك الجلد فأمسكتها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلاً من الله تعالى ورحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏}‏ أي ما سنها ‏{‏قال‏}‏ يعني موسى ‏{‏إنه يقول‏}‏ يعني الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنها بقرة لا فارض ولا بكر‏}‏ أي لا كبيرة ولا صغيرة والفارض المسنة التي لم تلد، والبكر الفتية التي لم تلد ‏{‏عوان‏}‏ أي نصف ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي بين السنين ‏{‏فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ أي من ذبح البقرة ولا تكثروا السؤال ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها‏}‏ قال ابن عباس شديد الصفرة وقيل‏:‏ لونها صاف وقيل الصفراء السوداء والأول أصح لأنه يقال أصفر فاقع أسود حالك ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ اي يعجبهم حسنها وصفاء لونها ‏{‏قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي‏}‏ أي سائمة أو عاملة ‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏ أي التبس واشتبه أمرها علينا ‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏ أي إلى وصفها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وايم الله لو يستثنوا لما بينت لهم آخر الدهر» ‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول‏}‏ أي ليست مذللة بالعمل ‏{‏تثير الأرض‏}‏ أي تقلبها للزراعة ‏{‏ولا تسقي الحرث‏}‏ أي ليست بسنانية والسانية هي التي تستسقي الماء من البئر لسقي الأرض ‏{‏مسلمة‏}‏ أي بريئة من العيوب ‏{‏لا شية فيها‏}‏ أي لا لون فيها غير لونها ‏{‏قالوا الآن جئت بالحق‏}‏ أي بالبيان التام الذي لا إشكال فيه فطلبوها فلم يجدوا بقرة بكمال وصفها، إلا بقرة ذلك الفتى فاشتروها منه بملء مسكها ذهباً ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ أي وما قاربوا أن يفعلوا ما أمروا به، قيل لغلاء ثمنها وقيل‏:‏ لخوف الفضيحة وقيل‏:‏ لعزة وجودها بهذه الأوصاف جميعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً‏}‏ خوطبت الجماعة بذلك لوجود القتل فيهم ‏{‏فادارأتم فيها‏}‏ قال ابن عباس أي اختلفتم واختصمتم من الدرء وهو الدفع لأن المتخاصمين يدفع بعضهم بعضاً ‏{‏والله مخرج ما كنتم تكتمون‏}‏ أي مظهر ما كنتم من أمر القتيل لا محالة ولا يتركه مكتوباً ‏{‏فقلنا اضربوه‏}‏ يعني القتل ‏{‏ببعضها‏}‏ أي ببعض البقرة قال ابن عباس ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو اصل الأذن وقيل‏:‏ ضربوه بلسانها وقيل‏:‏ بعجب الذنب وقيل‏:‏ بفخذها اليمين والأقرب أنهم كانوا مخيرين في ذلك البعض وإنهم إذا ضربوه بأي جزء منها أجزأ وحصل المقصود وإنه ليس في القرآن ما يدل على ذلك البعض ما هو‏.‏ وذلك يقتضي التخيير وفي الآية إضمار تقديره فضربوه فحيي وقام بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دماً وقال قتلني فلان يعني ابن عمه ثم سقط ميتاً مكانه‏.‏ فحرم قاتله الميراث وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما أحيا الله عاميل صاحب البقرة ‏{‏يحيي الله الموتى‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏ويريكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏ أي تمنعون أنفسكم عن المعاصي‏.‏ فإن قلت كان حق القصة أن يقدم ذكر القتيل أولاً، ثم ذكر ذبح البقرة بعد ذلك‏.‏ فما وجه ترتيب هذه القصة على هذا الترتيب‏؟‏ قلت‏:‏ وجهه أن الله لما ذرك من قصص بني إسرائيل وما وجد من خياناتهم تقريعاً لهم على ذلك وما وجد فيهم من الآيات العظيمة، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين في نفس الأمر، فالأولى لتقريعهم على ترك المسارعة إلى امتثال الأمر وما يتبعه والثانية لتقريعهم على قتل النفس المحرمة فلو قدم قصة القتيل على قصة الذبح لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض من تثنية التقريع، فلهذا قدم ذكر الذبح أولاً ثم عقبه بذكر القتل‏.‏ فإن قلت ما فائدة ضرب القتيل ببعض البقرة والله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء من غيره ضرب بشيء‏؟‏ قلت‏:‏ الفائدة فيه أن تكون الحجة أوكد وعن الحيلة أبعد لاحتمال أن يتوهم متوهم أن موسى عليه السلام، إنما أحياه بضرب من السحر والحيلة فإذا أحيي القتيل، عندما ضرب ببعض البقرة انتفت الشبهة، وعلم أن ذلك من عند الله وبأمره كان ذلك‏.‏ فإن قلت‏:‏ هلا أمروا بذبح غير البقرة‏؟‏ قلت‏:‏ الكلام في غير البقرة لو أمروا به كالكلام في البقرة ثم في ذبح البقرة فوائد منها التقرب بالقرآن على ما كانت العادة جارية عندهم، ومنها أن هذا القربان كان عندهم من أعظم القرابين ومنها تحمل المشقة العظيمة في تحصيلها بتلك الصفة ومنها حصول ذلك المال العظيم الذي أخذه صاحبها من ثمنها‏.‏

فصل في حكم هذه المسألة في شريعة الإسلام إذا وقعت

وذلك أن‏:‏ إذا وجد قتيل في موضع، ولا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به‏.‏ واللوه أن يغلب على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء ثم تفرقوا عن قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم أو وجد قتيل في محلة أو قرية وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على الظن أنهم قتلوه فإن ادعى الولي على بعضهم حلف خمسين يميناً على من يدعي عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم فإذا حلفوا أخذوا الدية من عاقلة المدعى عليه، إن ادعوا قتل خطأ، وإن ادعوا قتل عمد فمن مال المدعى عليه ولا قود عليه في قول الأكثرين، وذهب عمر بن عبدالعزيز إلى وجوب القود وبه قال مالك وأحمد فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول المدعي عليه لأن الأصل براءة ذمته من القتل وهل يحلف يميناً واحداً أم خمسين يميناً‏؟‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه يحلف يميناً واحدة كما في سائر الدعاوى‏.‏ والثاني‏:‏ أنه يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر القتيل، وعند أبي حنيفة لا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعي بل إذا وجد قتيل في محله، يختار الإمام خمسين رجلاً من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلاً، فإن حلفوا وإلا أخذ الدية من سكانها‏.‏ والدليل على أن البداءة بيمين المدعي عند وجود اللوث‏.‏ ما روى عن سهل بن أبي خيثمة قال‏:‏ انطلق عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خبير وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبدالله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه‏.‏ ثم قدم المدينة فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذهب عبدالرحمن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه‏:‏ «كبر كبر وهو أحدث القوم سناً» فسكت، فتكلما فقال أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو قال صاحبكم قالوا‏:‏ كيف نحلف ولم نشهد ولم نر‏؟‏ قال‏:‏ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين نهم قالوا‏:‏ كيف نأخذ بأيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وفي رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته وذكر نحوه وزاد في رواية فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة أخرجاه في الصحيحين، ووجه الدليل من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث لأن اليمين أبداً تكون لمن يقوى جانبه وعند عدم اللوث تكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله مع يمينه والله أعلم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم‏}‏ أي يبست وجفت وقساوة القلب انتزاع الرحمة منه، وقيل معناه غلظت واسودت ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي من بعد ظهور الدلالات التي جاء بها موسى، وقيل‏:‏ هي إشارة إلى إحياء القتيل بعد ضربه ببعض البقرة ‏{‏فهي‏}‏ يعني القلوب في الغلظ والشدة ‏{‏كالحجارة‏}‏ أي كالشيء الصلب الذي لا تخلخل فيه ‏{‏أو‏}‏ قيل‏:‏ أو بمعنى بل وقيل بمعنى الواو أي و‏{‏أشد قسوة‏}‏ فإن قلت‏:‏ لم شبه قلوبهم بالحجارة ولم يشبهها بالحديد وهو أشد من الحجارة وأصلب‏.‏

قلت‏:‏ لأن الحديد قابل للين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ليست قابلة للين فلا تلين قط‏.‏ ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال ‏{‏وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار‏}‏ قيل‏:‏ أراد به جميع الحجارة وقيل أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى ليسقي الأسباط والتفجير التفتح بالسعة والكثرة ‏{‏وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء‏}‏ يعني العيون الصغار التي دون الأنهار ‏{‏وإن منها لما يهبط من خشية الله‏}‏ أي ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله، وخشيتها عبارة عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد منها، وقلوبكم يا معشر اليهود لا تلين ولا تخشع‏.‏ فإن قلت‏:‏ الحجر جماد لا يعقل ولا يفهم فكيف يخشى‏؟‏ قلت‏:‏ إن الله تعالى قادر على إفهام الحجر والجمادات فتعقل وتخشى بإلهامه لها، ومذهب أهل السنة إن الله تعالى أودع في الجمادات والحيوانات، علماً وحكمة لا يقف عليهما غيره فلها صلاة وتسبيح وخشية يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإن من شيء إلا يسبح الله بحمده‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه‏}‏ فيجب على المرء الإيمان به وبكل علمه إلى الله تعالى ‏(‏م‏)‏ عن جابر بن سمرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن» عن علي قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا إلى بعض نواحيها فما استقبله شجر ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليكم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث غريب ‏(‏خ‏)‏ عن جابر بن عبدالله قال «كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جذع في قبلته يقوم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته فلما وضع المنبر سمعنا للجذع حنيناً مثل صوت العشار حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه، وفي رواية‏:‏ صاحت النخلة صياح الصبي فنزل صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي لا يسكت حتى استقرت‏.‏ قال‏:‏ بكت على ما كانت تسمع من الذكر» قال مجاهد‏:‏ ما ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله وذلك يشهد لما قلنا ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ فيه وعيد وتهديد والمعنى أن الله بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم حتى يجازيهم بها في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أفتطمعون‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو الداعي إلى الإيمان وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له، وقيل‏:‏ هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم كانوا يدعون إلى الإيمان أيضاً ومعنى أفتطمعون أفترجعون ‏{‏أن يؤمنوا لكم‏}‏ أي يصدقكم اليهود بما تخبرونهم وقيل‏:‏ معناه أفتطمعون أن يؤمنوا لكم مع أنهم لم يؤمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام وكان هو سبب في خلاصهم من الذل وظهور المعجزات على يده ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله‏}‏ قيل المراد بالفريق‏:‏ هم الذين كانوا مع موسى يوم الميقات، وهم الذين سمعوا كلام الله تعالى، وقيل المراد بهم‏:‏ الذي كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأقرب لأن الضمير راجع إليهم في أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، فعلى هذا يكون معنى يسمعون كلام الله يعني التوراة، لأنه يصح أن يقال لمن يسمع التوراة يسمع كلام الله ‏{‏ثم يحرفونه‏}‏ أي يغيرون كلام الله، ويبدلونه فمن فسر الفريق الذين يسمعون كلام الله بالفريق الذين كانوا مع موسى عليه السلام استدل بقول ابن عباس رضي الله عنهما إنها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه، وذلك لأنهم لما رجعوا إلى قومهم بعد ما سمعوا كلام الله أما الصادقون منهم فإنهم أدوا كما سمعوا وقالت طائفة منهم‏:‏ سمعنا الله يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلن تفعلوا، فكان هذا تحريفهم ومن فسر الفريق الذين كانوا يسمعون كلام الله بالذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان تحريفهم تبديلهم صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم في التوراة ‏{‏من بعد ما عقلوه‏}‏ أي علموا صحة كلام الله ومراده فيه ثم مع ذلك خالفوه ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ أي فساد مخالفته ويعلمون أيضاً أنهم كاذبون‏.‏ قوله عز وجل ‏{‏وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‏}‏ نزلت هذا الآية في اليهود، الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إن منافقي اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لهم‏:‏ آمنا بالذي آمنتم به وإن صاحبكم صادق وقوله حق وإنا نجد نعته وصفته في كتابنا ‏{‏وإذا خلا بعضهم إلى بعض‏}‏ يعني كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا ورؤساء اليهود لاموا منافقي اليهود على ذلك و‏{‏قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم‏}‏ يعني قص الله عليكم في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه حق وقوله صدق ‏{‏ليحاجوكم به‏}‏ أي ليخاصمكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحتجوا عليكم بقولكم فيقولون لكم قد أقررتم أنه نبي حق في كتابكم لم لا تتبعونه، وذلك أن اليهود قالوا لأهل المدينة حين شاوروهم في إتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمنوا به فإنه نبي حق ثم لام بعضهم بعضاً، وقالوا‏:‏ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم لتكون لهم الحجة عليكم ‏{‏عند ربكم‏}‏ أي في الدنيا والآخرة وقيل‏:‏ هو قول يهود بني قريظة بعضهم لبعض‏.‏

حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا إخوان القردة والخنازير‏.‏ قالوا‏:‏ من أخبر محمداً بهذا‏؟‏ هذا ما خرج إلا منكم وقيل‏:‏ إن اليهود أخبروا المؤمنين بما عذبهم الله به من الجنايات‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ أتحدثونهم بما قضى الله عليكم من العذاب ليروا الكرامة لأنفسهم عليكم عند الله ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ أي إن ذلك لا يليق بما أنتم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏أولا يعلمون‏}‏ يعني اليهود ‏{‏أن الله يعلم ما يسرون‏}‏ أي ما يخفون ‏{‏وما يعلنون‏}‏ أي ما يبدون وما يظهرون‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومنهم‏}‏ أي من اليهود ‏{‏أميون‏}‏ أي لا يحسنون الكتابة ولا القراءة جمع أمي وهو المنسوب إلى أمه كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة ‏{‏لا يعلمون الكتاب إلا أماني‏}‏ جمع أمنية وهي التلاوة، ومنه قول الشاعر‏:‏

تمنى كتاب الله أول ليلة *** تمنى داود الزبور على رسل

أي تلا كتاب الله‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ معناه غير عارفين بمعاني كتاب الله تعالى وقيل الأماني الأحاديث الكاذبة المختلفة وهي الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم وأضافوها إلى الله تعالى وذلك من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته وغير ذلك، وقيل‏:‏ هو من التمني وهو قولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة‏}‏ وغير ذلك مما تمنوه فعلى هذا يكون المعنى لا يعلمون الكتاب‏.‏ لكن يتمنون أشياء لا تحصل لهم ‏{‏وإن هم إلا يظنون‏}‏ أي على يقين ‏{‏فويل‏}‏ الويل كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة وأصلها في اللغة العذاب والهلاك وقال ابن عباس‏:‏ الويل شدة العذاب وعن أبي سعيد الخدري‏.‏ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب‏.‏ الخريف سنة ‏{‏للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ تأكيد للكتابة لأنه يحتمل أن يأمر غيره بأن يكتب فقال‏:‏ بأيديهم لنفي هذه الشبهة والمراد بالذين يكتبون الكتاب اليهود وذلك أن رؤساء اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فاحتالوا في تعويق سفلتهم عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة فغيروها، وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر أكحل العينين ربعة فغيروا وكتبوا مكانه طوال أزرق العينين سبط الشعر فكانوا إذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرأوا عليهم ما كتبوا ‏{‏ثم يقولون هذا من عند الله‏}‏ يعني هذه الصفة التي كتبوها‏.‏ فإذا نظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى تلك وجدوه مخالفاً لها فيكذبونه ويقولون إنه ليس به ‏{‏ليشتروا به‏}‏ أي بما كتبوا ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ أي المآكل والرشا التي كانوا يأخذونها من سفلتهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل لهم بما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون‏}‏‏.‏