فصل: تفسير الآيات رقم (142- 144)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏ يعني يعاملون الله وهو يجازيهم على خداعهم وقيل معناه يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم يظهرون له الإسلام ويبطنون له الكفر وهو خادعهم يعني والله مجازيهم بالعقاب وقيل إنهم يعطون نوراً يوم القيامة كما يعطى المؤمنون فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين ‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏قاموا كسالى‏}‏ يعني مثتاقلين وسبب هذا الكسل أنهم يتعبون بها لأنهم لا يريدون بفعلها ثواباً ولا يريدون بها وجه الله عز وجل ولا يخافون على تركها عقاباً لأن الداعي إلى فعلها خوف الناس فلذلك وقع فعلها على وجه الكسل والفتور ‏{‏يراؤون الناس‏}‏ يعني أنهم لا يقومون إلى الصلاة إلا لأجل الرياء والسمعة لا لأجل الدين ولا يرون أنها واجبة عليهم قال قتادة والله لولا الناس ما صلّى منافق ‏{‏ولا يذكرون الله إلا قليلاً‏}‏ قال ابن عباس إنما قال ذلك لأنهم يفعلونه رياء وسمعة ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله لكان كثيراً وقيل لأن الله لم يقبل ولو قبله لكان كثيراً وقبل المراد بذكر الله الصلاة والمعنى أنهم لا يصلون إلا قليلاً لأنهم متى لم يكن معهم أحد من المؤمنين فلا يصلّون وإذا كانوا مع المؤمنين يتكلفون فعلها ‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏ يعني متحيرين مترددين بين الكفر والإيمان لأنهم ليسوا مع المؤمنين المخلصين ولا مع المشركين المصرحين بالشرك وهو وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ يعني ليسوا من المؤمنين حتى يجب لهم ما يجب للمؤمنين وليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار ‏{‏ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏}‏ يعني طريقاً إلى الهدى ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة إلى هذه مرة» قوله كمثل الشاة العائرة بالعين المهملة ومعناه المتحيرة المترددة لا تدري لأي الغنمين تتبع ومعنى تعير تتردد وتذهب يميناً وشمالاً مرة إلى هذه ومرة إلى هذه لا تدري إلى أين تذهب وهذا مثل المنافق مرة على المؤمنين ومرة مع الكافرين أو ظاهره مع المؤمنين وباطنه مع الكافرين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين‏}‏ لما ذم الله عز وجل المنافقين بقوله مذبذبين بين ذلك نهى الله المؤمنين أن يتخلقوا بأخلاق المنافقين يقول لا تولوا الكفار من دون أهل ملتكم ودينكم فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين والسبب في هذا النهي أن الأنصار بالمدينة كان لهم من يهود بني النضير وقريظة حلف ومودة ورضاع فقالوا يا رسول الله من نتولى‏؟‏ فقال‏:‏ المهاجرين ‏{‏أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً‏}‏ يعني أتريدون أيها المتخذون الكفار أولياء أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة باتخاذكم الكفار أولياء من دون المؤمنين فتستوجبوا بذلك النار ثم بيّن مقر النار من المنافقين

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 148‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ يعني في الطبق في قعر جهنم والنار سبع دركات بعضها فوق بعض سميت طبقات جهنم دركات لأنها متداركة متتابعة‏.‏ وقيل الدرك بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم وقيل هي توابيت من حديد مقفلة عليهم في النار‏.‏ فإن قلت لم كان المنافق أشد عذاباً من الكافر‏؟‏ قلت إن المنافق مثل الكافر في الكفر وزيادة وهو أنه ضم إلى كفره نوعاً آخر من الكفر أخبث منه وهو الاستهزاء بالإسلام والمسلمين وإفشاء أسرار المسلمين ونقلها إلى الكفار‏.‏ فلهذا السبب جعل الله عذاب المنافقين أشد عذاباً من الكفار والمنافق من أظهر الإيمان وأبطن الكفر وقيل هو الذي يصف الإسلام بلسانه ولا يعمل بشرائعه ولا يتقيد بقيوده ولا يدخل تحت أحكامه وأما تسمية من ارتكب ما يفسق به منافقاً فللتغليظ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صام صلّى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان» فإن هذه الخصال صفات المنافقين فمن فعلها فقد تشبه بالمنافقين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن تجد لهم نصيراً‏}‏ يعني ولن تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصراً ينصرهم من عذاب الله إذا نزل بهم ثم استثنى الله عز وجل من تاب من المنافقين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ يعني من النفاق ‏{‏وأصلحوا‏}‏ يعني أصلحوا الأعمال فعملوا بما أمر الله به وأدوا فرائضه وانتهوا عما نهاهم عنه ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ يعني وتمسكوا بعهد الله ووثقوا به ‏{‏وأخلصوا دينهم لله‏}‏ يعني وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي عملوها لله وأرادوه بها ولم يريدوا رياء ولا سمعة فهذه الأمور الأربعة إذا حصلت فقد كمل الإيمان فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ يعني التائبين من النفاق ‏{‏مع المؤمنين‏}‏ يعني في الجنة وقيل مع بمعنى من أي المؤمنين ‏{‏وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏ هذا استفهام تقرير معناه أنه تعالى لا يعذب الشاكر المؤمن فإن تعذيبه لا يزيد في ملكه وتركه عقوبته لا ينقص من سلطانه لأنه الغني الذي لا يحتاج إلى شيء من ذلك فإن عاقب أحداً فإنما يعاقبه لأمر أوجبه العدل والحكمة فإن قمتم بشكر نعمته وآمنتم به فقد أنقذتم أنفسكم من عذابه قال أهل المعاني فيه تقديم وتأخير تقديره إن آمنتم وشكرتم لأن الإيمان مقدم على سائر الطاعات ولأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان ولأن الواو لا توجب الترتيب وقيل هو على أصله والمعنى أن العاقل ينظر بعين بصيرته أولاً إلى ما عليه من النعمة العظيمة في إيجاده وخلقه فيشكر على ذلك شكراً عظيماً مبهماً ثم إذا تمم النظر ثانياً انتهى به النظر إلى معرفة المنعم عليه فآمن به ثم شكره شكراً مفصلاً فكان ذلك الشكر المبهم مقدماً على الإيمان فلذلك قدم الشكر على الإيمان في الذكر ‏{‏وكان الله شاكراً‏}‏ يعني مثيباً عباده المؤمنين موفياً أجورهم والشكر من الله الرضا بالقليل من أعمال عباده وإضعاف الثواب عليه وقيل لما أمر الله عباده بالشكر سمى الجزاء شكراً على سبيل الاستعارة فالمراد من الشاكر في صفة الله تعالى كونه مثيباً على الشكر ‏{‏عليماً‏}‏ يعني بحق شكركم، وإيمانكم فيجازيكم على ذلك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ قال أهل المعاني يعني أنه تعالى لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر به أيضاً من القول يعني من القول القبيح إلا من ظلم قيل هو استثناء متصل والمعنى إلا جهر من ظلم وقيل هو استثناء منقطع ومعناه لكن المظلموم يجوز أن يجهر بظلم الظالم قال العلماء لا يجوز إظهار أحوال الناس المستورة المكتومة لأن ذلك يصير سبباً لوقوع الناس في الغيبة ووقوع ذلك الشخص في الريبة لكن من ظلم فيجوز له إظهار ظلمه فيقول سرق مني أو غصب ونحو ذلك‏.‏ وإن شتم جاز له أن يشتم بمثله ولا يزيد شيئاً على ذلك ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «المستبان ما قالا فعلى الأول» وفي رواية «فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم» أخرجه مسلم قال ابن عباس‏:‏ لا يحب الله ان يدعو أحد إلا أن يكون مظلموماً فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله إلا من ظلم وإن صبر فهو خير له وقال الحسن البصري هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل‏:‏ اللهم أعني عليه اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بيني وبين ما يريد ونحوه من الدعاء وقيل نزلت الآية في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ما صنع به قال مجاهد‏:‏ هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج من عنده فيقول أساء ضيافتي وقال مقاتل نزلت في أبي بكر الصديق وذلك أن رجلاً نال منه والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر فسكت عنه أبو بكر مراراً ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً حتى إذا رددت عليه قمت ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وكان الله سميعاً‏}‏ يعني لدعاء المظلوم ‏{‏عليماً‏}‏ بما في قلبه فليتق الله ولا يقل إلا الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 151‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً‏}‏ قال ابن عباس يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة والضيافة والصلة‏.‏ وقيل معناه إن تبدوا خيراً بدلاً من السوء ‏{‏أو تخفوه‏}‏ يعني تخفوا الخير فلم تظهروه وقيل معناه إن تبدوا حسنة فتعملوا بها تكتب لكم عشراً وإن هم بها ولم يعملها كتبت له واحدة وقيل إن جميع مقاصد الخيرات على كثرتها محصورة في قسمين‏:‏ أحدهما صدق النية مع الحق‏.‏ والثاني التخلق مع الخلق فالذي يتعلق بالخلق ينحصر في قسمين أيضاً وهما إيصال نفع إليهم في السر والعلانية وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن تبدوا خيراً أو تخفوه‏}‏ أو رفع ضر عنهم وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو تعفوا عن سوء‏}‏ فيدخل في هاتين الكلمتين جميع أعمال البر وجميع دفع الضر، وقيل المراد بالخير المال والمعنى إن تبدوا الصدقة فتعطوها الفقراء جهراً أو تخفوها فتعطوها سراً أو تعفوا عن مظلمة ‏{‏فإن الله كان عفواً قديراً‏}‏ يعني لم يزل ذا عفو مع قدرته على الانتقام فاعفوا أنتم عمن ظلمكم واقتدوا بسنّة الله عز وجل يعف عنكم يوم القيامة لأنه أهل للتجاوز والعفو عنكم وقيل معناه إن الله كان عفواً لمن عفا قديراً على إيصال الثواب إليه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بالله ورسله‏}‏ نزلت في اليهود وذلك أنهم آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وقيل نزلت في اليهود والنصارى جميعاً وذلك أن اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد والنصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض‏}‏ يعني ويريدون أن يفرقوا بين الإيمان بالله والإيمان برسله ولا يصح الإيمان مع التكذيب ببعض رسله ‏{‏ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً‏}‏ يعني بين الإيمان بالبعض دون البعض يتخذون مذهباً يذهبون إليه وديناً يدينون به ‏{‏أولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏هم الكافرون حقاً‏}‏ يعني يقيناً وإنما قال ذلك توكيداً لكفرهم لئلا يتوهم متوهم أن الإيمان ببعض الرسل يزيل اسم الكفر عنهم وليعلم أن الكفر ببعض الأنبياء كالكفر بكلهم لأن الدليل الذي يدل على نبوة البعض وهو المعجزة لزم منه أنه حيث وجدت المعجزة حصلت النبوة وقد وجدت المعجزة لجميع الأنبياء فلزم الإيمان بجميعهم ‏{‏وأعتدنا‏}‏ يعني وهيأنا ‏{‏للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ يعني يهانون فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 155‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله‏}‏ يعني والذين صدقوا بوحدانية الله ونبوة جميع أنبيائه وأن جميع ما جاؤوا به من عند الله حق وصدق ‏{‏ولم يفرقوا بين أحد منهم‏}‏ يعني من الرسل بل آمنوا بجميعهم وهم المؤمنون ‏{‏أولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏سوف يؤتيهم أجورهم‏}‏ يعني جزاء إيمانهم بالله وبجميع كتبه ورسله ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ يعني أنه تعالى لما وعدهم بالثواب أخبرهم أنه يتجاوز عن سيئاتهم ويغفرها لهم ويرحمهم فهو كالترغيب لليهود والنصارى في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا آمنوا غفر لهم ما كان منهم في حال الكفر‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء‏}‏ يعني يسألك يا محمد أهل الكتاب، وهم اليهود وذلك أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت نبياً فأتنا بكتاب جملة واحدة من السماء كما أتى موسى بالتوراة وقيل‏:‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً مختصاً بهم وقيل سألوه أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان ليشهدا لك بأنك رسول الله وكان هذا السؤال من اليهود سؤال تعنت واقتراح لا سؤال استرشاد وانقياد والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد، ولأن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قد تقدمت وظهرت فكان طلب الزيادة من باب التعنت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏}‏ يعني أعظم من الذي سألوك يا محمد ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ وتقريع لليهود حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤال تعنت والمعنى لا تعظمن عليك يا محمد مسألتهم ذلك فإنهم من فرط جهلهم واجترائهم على الله لو أتيتهم بكتاب من السماء لما آمنوا بك وإنما أسند السؤال إلى اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإن وجد هذا السؤال من آبائهم الذين كانوا في أيام موسى عليه السلام لأنهم كانوا على مذهبهم وراضين بسؤالهم ومشاكلين لهم في التعنت ‏{‏فقالوا‏}‏ يعني أسلاف هؤلاء اليهود ‏{‏أرنا الله جهرة‏}‏ يعني عياناً‏.‏ والمعنى أرناه نره جهرة وذلك ان سبعين من بني إسرائيل خرجوا مع موسى عليه الصلاة والسلام إلى الجبل فقالوا ذلك وقد تقدمت القصة في سورة البقرة ‏{‏فأخذتهم الصاعقة بظلمهم‏}‏ يعني بسبب ظلمهم وسؤالهم الرؤية ‏{‏ثم اتخذوا العجل‏}‏ يعني إلهاً وهم الذين خلفهم موسى مع أخيه هارون حين خرج إلى ميقات ربه ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ يعني الدلالات الواضحات الدالة على صدق موسى وهي‏:‏ العصا واليد وفلق البحر وغير ذلك من المعجزات الباهرة ‏{‏فعفونا عن ذلك‏}‏ يعني عن ذلك الذنب العظيم فلم نستأصل عبدة العجل‏.‏

والمقصود من هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى أن هؤلاء الذين يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء إنما يطلبونه عناداً ولجاجاً فاني قد أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى وآتيته من المعجزات الباهرات والآيات البينات ما فيه كفاية ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وعبدوا العجل وكل ذلك يدل على جهلهم وأنهم مجبولون على اللجاج والعناد‏.‏ وفي قوله فعفونا عن ذلك استدعاء إلى التوبة‏.‏ والمعنى أن أولئك الذين أجرموا لما تابوا عفونا عنهم فتوبوا أنتم نعف عنكم ‏{‏وآتينا موسى سلطاناً مبيناً‏}‏ يعني حجة واضحة تدل على صدقه وهي المعجزات الباهرات التي أعطاها الله عز وجل لموسى عليه السلام قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم‏}‏ يعني ورفعنا فوقهم الجبل المسمى بالطور بسبب أخذ ميثاقهم وذلك أن بني إسرائيل امتنعوا من قبول التوراة والعمل بما فيها فرفع الله فوقهم الطور حتى أظلهم ليخافوا فلا ينقضوا العهد والميثاق ‏{‏وقلنا لهم‏}‏ يعني والطور يظلهم ‏{‏ادخلوا الباب سجداً‏}‏ فخالفوا ودخلوا وهم يزحفون على أستاههم ‏{‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ يعني وقلنا لهم لا تجاوزوا في يوم السبت إلى ما لا يحل لكم فيه‏.‏ وذلك أنهم نهوا أن يصطادوا السمك في يوم السبت فاعتدوا واصطادوا فيه، وقيل المراد به النهي عن العمل والكسب في يوم السبت ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقاً غلظياً‏}‏ يعني وأخذنا منهم عهداً مؤكداً شديداً بأن يعملوا بما أمرهم الله به وأن ينتهوا عما نهاهم الله عنه ثم إنهم نقضوا ذلك الميثاق وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ يعني فبنقضهم وما مزيدة للتوكيد والمعنى فبسبب نقضهم ميثاقهم لعناهم وسخطنا عليهم وفعلنا بهم ما فعلنا ‏{‏وكفرهم بآيات الله‏}‏ يعني وبجحودهم بآيات الله الدالة على صدق أنبيائه ‏{‏وقتلهم قلوبنا غلف‏}‏ يعني وبقولهم على قلوبنا أغطية وغشاوة فهي لا تفقه ما تقول جمع أغلف وقيل جمع غلاف يعني قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى ما تدعونا إليه فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏بل طبع الله عليها بكفرهم‏}‏ يعني بل ختم الله على قلوبهم بسبب كفرهم ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ يعني إيمانهم بموسى والتوراة وكفرهم بما سواه من الأنبياء والكتب وقيل لا يؤمنون قليلاً ولا كثيراً وقيل المراد بالقليل هو عبدالله بن سلام وأصحابه والذين آمنوا من اليهود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 158‏]‏

‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً‏}‏ يعني حين رموها بالزنا وذلك أنهم أنكروا قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب ومنكر قدرة الله كافر‏.‏ فالمراد بقوله وبكفرهم هو إنكارهم قدرة الله تعالى والمراد بقولهم على مريم بهتاناً عظيماً هو رميهم إياها بالزنا وإنما سماه بهتاناً عظيماً لأنه قد ظهر عند ولادة مريم من المعجزات ما يدل على براءتها من ذلك فلهذا السبب وصف الله قول اليهود على مريم بالبهتان العظيم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله‏}‏ ادعت اليهود أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وصدقتهم النصارى على ذلك فكذبهم الله عز وجل جميعاً وردّ عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ وفي قول رسول الله قولان‏:‏ أحدهما أنه من قول اليهود فيكون المعنى أنه رسول الله على زعمه‏.‏ والقول الثاني أن من قول الله لا على وجه الحكاية عنهم وذلك أن الله تعالى أبدل ذكرهم في عيسى عليه السلام القول القبيح بالقول الحسن رفعاً لدرجته عما كانوا يذكرونه من القول القبيح‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن شبه لهم‏}‏ يعني ألقى شبه عيسى غيره حتى قتل وصلب‏.‏ واختلف العلماء في صفة التشبيه الذي شبه على اليهود في أمر عيسى عليه السلام‏.‏ فروى الطبري بسنده عن وهب بن منبه أنه قال أتى اليهود عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صورهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى فقالوا لهم‏:‏ سحرتمونا لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعاً فقال عيسى لأصحابه من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة فقال رجل منهم أنا فخرج إليهم فقال‏:‏ أنا عيسى وقد صوره الله تعالى على صورة عيسى فأخذوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك‏.‏ ورفع الله عز وجل عيسى عليه السلام من يومه ذلك‏.‏ وفي رواية أخرى عن وهب أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه‏:‏ ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون أحد الحواريين‏.‏ فقالوا هذه من أصحاب عيسى فجحد وقال‏:‏ ما أنا بصاحبه فتركوه ثم أخذوا آخر فجحد كذلك فلما أصبح أتى بعض الحواريين إلى اليهود وكان منفاقاً فقال ما تجعلون لي إن أنا دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهماً فدلهم عليه فألقى الله شبه عيسى على ذلك المنافق الذي دل عليه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى‏.‏ وقال قتادة إن أعداء الله اليهود زعموا انهم قتلوا عيسى وأصلبوه وذكر لنا أن نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي وله الجنة فانه مقتول فقال وجل منهم حبسوا عيسى في بيت وجعلوا عليه رقيباً يحفظه فألقى الله شبه عيسى على ذلك للرقيب فأخذ فقتل وصلب فرفع الله عز وجل عيسى في ذلك الوقت‏.‏

قال الطبري وأولى الأقوال بالصواب ما ذكرنا عن وهب بن منبه من أن شبه عيسى ألقى على جميع من كان مع عيسى في البيت حين أحيط بي وبهم من غير مسألة عيسى إياهم ذلك ولكن ليخزي الله بذلك اليهود وينقذ به نبيه عيسى عليه السلام من كل مكروه أرادوه به من قتل وغيره وليبتلي الله من أراد ابتلاءه من عباده ويحتمل أن يكون ألقى شبهه على بعض أصحابه بعد ما تفرق عنه أصحابه ورفع الله عيسى عليه السلام‏.‏ وبقي ذلك فأخذ وقتل وصلب وظن أصحابه واليهود أن الذي قتلوه وصلبوه وهو عيسى لما رأوا من شبهه به وخفي أمر عيسى عليهم وكانت حقيقة ذلك الأمر عند الله فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم‏}‏ ‏{‏وإن الذين اختلفوا فيه‏}‏ يعني في قتل عيسى وهم اليهود ‏{‏لفي شك منه‏}‏ يعني من قتله وذلك أن اليهود قتلوا ذلك الشخص المشبه بعيسى وكان قد ألقي الشبه على وجه ذلك الشخص دون جسده فلما قتلوه نظروا إلى جسده فوجدوه غير جسد عيسى فقالوا‏:‏ الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره فهذا هو اختلافهم فيه وقيل‏:‏ إن اليهود لما حبسوا عيسى وأصحابه في البيت دخل عليه رجل منهم ليخرجه إليهم‏.‏ فألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل فأخذ وقتل ورفع الله عز وجل عيسى إلى السماء وفقدوا صاحبهم فقالوا‏:‏ إن كنا قتلنا المسيح فأين صاحبنا‏؟‏ وإن كنا قتلنا صاحبنا فأين المسيح عيسى‏؟‏ فهذا هو اختلافهم فيه وقيل إن الذين اختلفوا فيه هم النصارى فبعضهم يقول إن القتل وقع على ناسوت عيسى دون لاهوته وبعضهم يقول وقع القتل عليهما جميعاً وبعضهم يقول رأيناه قتل وبعضهم يقول رأيناه رفع السماء فهذا هو اختلافهم فيه قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ما لهم به من علم‏}‏ يعني أنهم قتلوا من قتلوا على شك منهم فيه ولم يعرفوا حقيقة ذلك المقتول هل هو عيسى أو غيره ‏{‏إلاّ اتباع الظن‏}‏ يعني لكن يتبعون الظن في قتله ظناً منهم أنه عيسى لا عن علم وحقيقة ‏{‏وما قتلوه يقيناً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني لم يقتلوا يقيناً فعلى هذا القول تكون الهاء في قتلوه عائدة على الظن‏.‏ والمعنى مما قتلوا ذلك الظن يقيناً ولم يزل ظنهم ولم يرتفع ما وقع لهم من الشبه في قتله فهو كقول العرب قتله علماً وقتله يقيناً يعني علمه علماً تاماً‏.‏ وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستيلاء وغلبة وكمعنى الآية على هذا لم يكن علمهم بقتل عيسى علماً تاماً كاملاً إنما كان ظناً منهم إنهم قتلوه ولم يكن لذلك حقيقة‏.‏

وقيل إن الهاء في قتلوه عائدة على عيسى والمعنى ما قتلوا المسيح يقيناً كما ادعوا أنهم قتلوه وقيل أن قوله يقيناً يرجع إلى ما بعده تقديره وما قتلوه ‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ يقيناً والمعنى أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه ولكن الله عز وجل رفعه إليه وطهره من الذين كفروا وخلصه ممن أراده بسوء وقد تقدم كيف كان رفعه في سورة آل عمران بما فيه كفاية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله عزيزاً‏}‏ يعني اقتداره على من يشاء من عباده ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني في إنجاء عيسى عليه السلام وتخليصه من اليهود‏.‏ وقيل عزيزاً يعني منيعاً منتقماً من اليهود فسلط عليهم ينطيونس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتله عظيمة حكيماً حكم باللعنة والغضب على اليهود حيث ادعوا هذه الدعوى الكاذبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 160‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ يعني وما من أحد من أهل الكتاب ‏{‏إلاّ ليؤمنن به‏}‏ يعني بعيسى عليه السلام وأنه عبدالله ورسوله وروحه وكلمته هذا قول ابن عباس وأكثر المفسرين وقال عكرمة في قوله إلاّ ليؤمنن به يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا القول لا وجه له لأنه لم يجر للنبي صلى الله عليه وسلم ذكر قبل هذه الآية حتى يرجع الضمير إليه وقول الأكثرين الأولى لأنه تقدم ذكر عيسى عليه السلام فكان عود الضمير إليه أولى ‏{‏قبل موته‏}‏ اختلف المفسرون في هذا الضمير إلى من يرجع‏؟‏ فقال ابن عباس وأكثر المفسرين إن الضمير يرجع إلى الكتابي والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن بعيسى قبل موت ذلك الكتابي ولكن يكون ذلك الإيمان عند الحشرجة حين لا ينفعه إيمانه قال ابن عباس‏:‏ معناه إذا وقع في اليأس حين لا ينفعه إيمانه سواء احترق أو تردى من شاهق أو سقط عليه جدار أو أكله سبع أو مات فجأة فقيل له أرأيت إن خر من فوق بيت قال‏:‏ يتكلم به في الهواء فقيل له أرأيت إن ضربت عنقه قال يتلجلج به لسانه وقال شهر بن حوشب إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة بأجنحتها وجهه ودبره وقالوا يا عدو الله أتاك موسى نبياً فكذبت به فيقول آمنت إنه عبدالله ورسوله وتقول للنصراني أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله وابن الله فيقول آمنت أنه عبدالله فأهل الكتابين يؤمنون به ولكن حيث لا ينفعهم ذلك الإيمان وذهب جماعة من أهل التفسير إلى أن الضمير يرجع إلى عيسى السلام وهو رواية عن ابن عباس أيضاً والمعنى وما من أحد من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتابين إلاّ من آمن بعيسى حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام قال عطاء إذا نزل عيسى إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني ولا أحد يعبد غير الله إلاّ آمن بعيسى وأنه عبدالله وكلمته ويدل على صحة هذا القول ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «والذي نفسي ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» زاد في رواية‏:‏ «حتى تكون السجدة الواحدة خيراً من الدنيا وما فيها» ثم يقول أبو هريرة‏:‏ «اقرؤوا إن شئتم وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته» الآية وفي رواية قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«والله لينزلن فيكم ابن مريم حكماً عادلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» أخرجاه في الصحيحين‏.‏ ففي هذا الحديث دليل على أن عيسى ينزل في آخر الزمان في هذه الأمة ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا ينزل نبياً نبياً برسالة مستقلة وشريعة ناسخة بل يكون حاكماً من حكام هذه الأمة وإماماً من أئمتهم لقوله صلى الله عليه وسلم فيكسر الصليب يعني يكسره حقيقة ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه‏.‏ وكذلك قتله الخنزير وقوله ويضع الجزية يعني لا يقبلها ممن بدلها من اليهود والنصارى‏.‏ ولا يقبل من أحد إلاّ الإسلام أو القتل وعلى هذا قد يقال هذا خلاف منا هو حكم الشرع اليوم فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها منه ولم يجر قتله ولا إجباره على الإسلام والجواب أن هذا الحكم ليس مستمر إلى يوم القيامة بل هو مقيد بما قبل نزول عيسى عليه السلام وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بنسخه وليس الناسخ هو عيسى عليه السلام يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والله أعلم‏.‏ قال الزجاج هذا القول بعيد يعني قول من قال إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان قال لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به‏}‏ قال والذين يبقون يومئذٍ يعني عند نزوله شرذمة قليلة منهم وأجاب أصحاب هذا القول يعني الذين يقولون إن إيمان أهل الكتاب بعيسى إنما يكون عند نزوله في آخر الزمان بأن هذا على العموم‏.‏ ولكن المراد بهذا العموم الذين يشهدون ذلك الوقت ويدركون نزوله فيؤمنون به ويكون معنى الآية وما من أحد، من أهل الكتاب أدرك ذلك الوقت إلاّ آمن بعيسى عند نزوله من السماء وصحح الطبري هذا القول وقال عكرمة في معنى الآية وإن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي فلا يموت يهودي ولا نصراني حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك عند الحشرجة حتى لا ينفعه إيمانه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً‏}‏ يعني يكون عيسى عليه السلام شاهداً على اليهود أنهم كذبوه وطعنوا فيه وعلى النصارى أنهم اتخذوه رباً وأشركوا به ويشهد على تصديق من صدقه منهم وآمن به قال قتادة معناه إنه يكون شهيداً يوم القيامة إنه قد بلغ رسالة ربه وأقر على نفسه بالعبودية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فبظلم من الذين هادوا‏}‏ يعني فبسبب ظلم منهم ‏{‏حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏ يعني ما حرمنا عليم الطيبات التي كانت حلالاً لهم إلاّ بظلم عظيم ارتكبوه وذلك الظلم هو ما ذكره من نقضهم الميثاق وما عدد عليهم من أنواع الكفر والكبائر العظيمة مثل قولهم اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وكقولهم أرنا الله جهرة وكعبادتهم العجل فبسبب هذه الأمور حرم الله عليهم طيبات كانت حلالاً لهم وهي ما ذكره في سورة الأنعام في قوله‏:‏

‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ الآية وقال الطبري‏:‏ في معنى الآية فحرمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم به وكفروا بآيات الله، وقالوا أنبيائهم وقالوا البهتان على مريم وفعلوا ما وصفهم الله به في كتابه طيبات من المآكل وغيرها التي كانت لهم حلالاً عقوبة لهم بظلمهم الذي أخبر الله عنهم في كتابه‏.‏ وروي عن قتادة قال عوقب القوم بظلم ظلموه وبغي بغوة وحرمت عليهم أشياء ببغيهم وظلمهم‏.‏ ونقل الواحدي وابن الجوزي عن مقاتل قال كان الله حرم على أهل التوراة أن يأكلوا الربا ونهاهم أن يأكلوا أموال الناس ظلماً فأكلوا الربا وأكلوا أموال الناس وظلموا بالباطل وصدوا عن دين الله وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فحرم الله عليهم عقوبة لهم ما ذكر في قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏ الآية قال الواحدي فأما وجه تحريم الطيبات عليهم كيف ومتى كان على لسان من حرم عليهم فلم أجد فيه شيئاً انتهى إليه فتركه ولقد أنصف الواحدي فيما قال فإن هذه الآية في غاية الإشكال وبيانه إن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه وقد ذكر المفسرون في معنى الظلم المذكور في الآية ما تقدم ذكره وكلها ذنوب في المستقبل‏.‏ فإن قلت علم الله وقوع هذه الذنوب منهم قبل وقوعها لحرم عليهم ما حرم من الطيبات التي كانت لهم حلالاً عقوبة لهم على ما سيقع منهم قلت جوابه ما تقدم وهو أن الله تعالى لا يعاقب على ذنب قبل وقوعه ولهذا لم يذكر الإمام فخر الدين في تفسير هذه الاية ما ذكره المفسرون بل ذكر تفسيراً إجمالياً فقال أعلم أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين‏:‏ الظلم للخلق والأعراض عن الدين الحق، وأما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله ‏{‏وبصدهم عن سبيل الله كثيراً‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه‏}‏ ثم إنهم مع ذلك في غاية الحرص على طلب المال فتارة يحصلونه بطريق الربا مع أنهم قد نهوا عنه وتارة يحصلونه بطريق الرشا وهو المراد بقوله ‏{‏وأكلهم أموال الناس بالباطل‏}‏ فهذه الأربعة هي الذنوب التي شدد عليهم بسببها في الدنيا والآخرة، أما التشديد في الدنيا فهو ما تقدم من تحريم الطيبات عليهم وأما التشديد في الآخرة فهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إنما قال منهم لأن الله علم أن قوماً منهم سيؤمنون فيأمنون من العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون في العلم منهم‏}‏ يعني من اليهود وهذا استثناء الله عز وجل من آمن من أهل الكتاب ممن تقدم وصفهم في الآيات التي تقدمت فبين فيما تقدم حال كفار اليهود والجهال منهم وبين في هذه الآية حال من هداه لدينه منهم وأرشده للعمل بما علم فقال لكن الراسخون في العلم ولكن هنا بمعنى الاستدراك والاستثناء والراسخون في العلم الثابتون في العلم البالغون فيه أولو البصائر الثاقبة والعقول الصافية وهم عبدالله بن سلام وأصحابه الذين أسلموا من أهل الكتاب لأنهم رسخوا في العلم وعرفوا حقيقته فأوصلهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والمؤمنون‏}‏ يعني بالله ورسله ‏{‏يؤمنون بما أنزل إليك‏}‏ يعني بالقرآن الذي أنزل إليك ‏{‏وما أنزل من قبلك‏}‏ يعني ويؤمنون بسائر الكتاب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله يا محمد وفي المراد بالمؤمنين ها هنا قولان‏:‏ أحدهما إنهم أهل الكتاب فيكون المعنى لكن الراسخون في العلم منهم وهم المؤمنون‏.‏ والقول الثاني أنهم المهاجرون والأنصار من هذه الأمة فيكون قوله والمؤمنون ابتداء كلام مستأنف يؤمنون بما أنزل إليك يعني أنهم يصدقون بالقرآن الذي أنزل إليك يا محمد وما أنزل من قبلك ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ اختلف العلماء في وجه نصبه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط من الكتاب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة‏.‏ وقال عثمان بن عفان إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتهم فقيل له أفلا تغيره‏؟‏ فقال دعوه فإنه لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً وذهب عامة الصحابة وسائر العلماء من بعدهم إلى أنه لفظ صحيح ليس فيه من خطأ من كاتب ولا غيره وأجيب عما روي عن عثمان بن عفان وعن عائشة وأبان بن عثمان بأن هذا بعيد جداً لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ما روي عن عثمان لا يصلح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ولأن القرآن منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه‏؟‏ وقال الزمخشري في الكشاف ولا يلتفت إلى ما زعموا من قوع لحن في خط المصحف وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب يعني كتاب سيبويه ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص والمدح من الافتتان وهو باب قد ذكره سيبويه على أمثلة وشواهد وربما غبي عليه أن السابقين الأولين كانوا أبعد همة في الغيرة في الإسلام وذب الطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله عز وجل ثلمة يسدها من بعدهم وخرقاً يرفؤه من يلحن بهم ثم اختلف العلماء في المقيمين الصلاة أهم الراسخون في العلم أم غيرهم‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما إنهم هم وإنما نصب على المدح والمعنى أذكر المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة قالوا العرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته وإذا تطاولت بمدح أو ذم فربما خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحياناً ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب واستشهدوا على معنى الآية‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم *** سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك *** والطيبون معاقد الأزر

وهذا على معنى أذكر النازلين وهم الطيبون ومن هذا المعنى تقول جاءني المطعمين وهم المعينون‏.‏ والقول الثاني أن المقيمين الصلاة غير الراسخين في العلم وموضع والمقيمين الصلاة خفض بالعطف على قوله تعالى بما أنزله إليك فعلى هذا القول يكون معنى الآية‏:‏ ‏{‏والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة‏}‏ وهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع أحد منهم عن إقامة الصلاة وقيل المراد بهم الملائكة لأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وصحح الزجاج القول الأول واختاره وصحح الطبري القول الثاني واختاره‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمؤتون الزكاة‏}‏ عطف على والمؤمنون لأنه من صفتهم ‏{‏والمؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏ يعني والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب وبالعقاب ‏{‏أولئك‏}‏ يعني من هذه الأوصاف صفته ‏{‏سنؤتيهم أجراً عظيماً‏}‏ يعني سنعطيهم على ما كان منهم من طاعة الله وإتباع أمره ثواباً عظيماً وهو الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلىنوح والنبيين من بعده‏}‏ قال ابن عباس قال سكين وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى فأنزل الله هذه الآيات وقيل هو جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء جملة وأحدة فأجاب الله عز وجل من سؤالهم بهذه الآية فقال‏:‏ إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى نوح أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده والمعنى إنكم يا معشر اليهود تقرون بنبوة نوح وبجميع الأنبياء المذكورين في هذه الآية وهم اثنا عشر نبياً والمعنى أن الله تعالى أوحى إلى هؤلاء الأنبياء وأنتم يا معشر اليهود معترفون بذلك وما أنزل الله على أحد من هؤلاء المذكورين كتاباً جملة واحدة مثل ما أنزل على موسى فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب جملة واحدة على أحد هؤلاء الأنبياء قادحاً في نبوته فكذلك لم يكن إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قادحاً في نبوته بل قد أنزل عليه كما أنزل عليهم‏.‏ قال المفسرون وإنما بدأ الله عز وجل بذكر نوح عليه السلام لأنه أول نبي بعث بشريعة وأول نذير على الشرك وأنزل الله عز وجل عليه عشر صحائف وكان أول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أبا البشر كآدم عليهما السلام وكان أطول الأنبياء عمراً عاش ألف سنة لم تنقص قوته ولم يشب ولم تنقص له سن وصبر على أذى قومه طول عمره ثم ذكر الله الأنبياء من بعده جملة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنبيين من بعده‏}‏ ثم خص جماعة من الأنبياء بالذكر لشرفهم وفضلهم فقال ‏{‏وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط‏}‏ وهم أولاد يعقوب وكانوا اثنى عشر ‏{‏وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داو ذبوراً‏}‏ يعني وآتينا داود كتاباً مزبوراً يعني مكتوباً‏.‏ وقيل‏:‏ الزبور بالفتح اسم الكتاب الذي أنزل على داود وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام بل كلها تسبيح وتقديس وتمجيد وثناء على الله عز وجل ومواعظ وكان داود عليه السلام يخرج إلى البرية فيقوم ويقرأ الزبور وتقوم علماء بني إسرائيل خلفه ويقوم الناس خلف العلماء وتقوم الجن خلف الناس والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه وترفرف الطير على رؤوس الناس وهم يستمعون لقراءة داود ويتعجبون منها فلما قارف الذنب زال عنه ذلك وقيل له ذلك أنس الطاعة وهذا ذل المعصية ‏(‏ق‏)‏ عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيت مزماراً من مزامير آل داود» قال الحميدي زاد البرقاني قلت والله يا رسول الله لو علمت إنك تسمع لقراءتي لحبرتها لك تحبيراً، التحبير تحسين الصوت بالقراءة قال بعض العلماء إنما لم يذكر موسى في هذه الآية لأن الله أنزل عليه التوراة جملة واحدة وكان المقصود بذكر من ذكر من الأنبياء في الآية أنه لم ينزل على أحد منهم كتاباً جملة واحدة فلهذا لم يذكر موسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 165‏]‏

‏{‏وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل‏}‏ لما نزلت هذه الآية المتقدمة قالت اليهود ما لموسى لم يذكر‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية وفيها ذكر موسى عليه السلام والمعنى وأوحينا إلى رسل قد قصصنا عليك من قبل يعني سميناهم في القرآن وعرفناك أخبارهم وإلى من بعثوا وما ورد عليهم من قومهم ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏ أي لم نسمهم لك ولم نعرفك أخبارهم قال أهل المعاني الذين نوه الله بذكرهم من الأنبياء يدل على تفضيلهم على من لم يذكر ولم يسم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلم الله موسى تكليماً‏}‏ يعني خاطبه مخاطبة من غير واسطة لأن تأكيد كلم بالمصدر يدل على تحقيق الكلام وأن موسى عليه السلام سمع كلام الله بلا شك لأن أفعال المجاز لا تؤكد بالمصادر فلا يقال أراد الحائط يسقط إرادة‏.‏ وهذا رد على من يقول إن الله خلق كلاماً في محل فسمع موسى ذلك الكلام وقال الفراء العرب تسمى كل ما يوصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصل لكن لا تحققه بالمصدر وإذا حقق بالمصدر لم يكن إلاّ حقق بالمصدر لم يكن إلاّ حقيقة الكلام فدل قوله تعالى تكليماً على أن موسى قد سمع كلام الله حقيقة من غير واسطة‏.‏ وروى الطبري بسنده من عدة طرق عن كعب الأحبار قال لما كلم الله موسى عليه السلام بالألسنة كلها قبل كلامه يعني كلام موسى بلسانه فجعل موسى يقول يا رب لا أفهم حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة فقال‏:‏ يا رب هكذا كلامك قال لو سمعت كلامي يعني على وجهه لم تك شيئاً قال موسى‏:‏ يا رب هل في خلقك شيء يشبه كلامك قال لا وأقرب خلقي شبهاً بكلامي أشد ما تسمع الناس من الصواعق قال بعض العلماء كما أن الله تعالى خص موسى عليه السلام بالتكليم وشرفه به ولم يكن ذلك قادحاً في نبوة غيره من الأنبياء فكذلك إنزال التوراة عليه جملة واحدة لم يكن قادحاً في نبوة من أنزل عليه كتابه متفرقاً من الأنبياء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رسلاً مبشرين ومنذرين‏}‏ يعني‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده‏}‏ ومن أولئك النبيين أرسلت رسلاً إلى خلقي مبشرين من أطاعني واتبع أمري وصدق رسلي بالثواب الجزيل في الجنة ومنذرين من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي بالعذاب الأليم في النار‏.‏ وقيل هو جواب عن سؤال اليهود إنزال الكتاب جملة واحدة والمعنى أن المقصود من بعثة الرسول هو إرشاد الخلق إلى معرفة الله وتوحيده والإيمان به والاشتغال بعبادته وإنذار من خالف ذلك وهذا المقصود يحصل بإنزال الكتاب جملة واحدة وبإنزاله نجوماً متفرقة بل إنزاله متفرقاً أولى‏.‏

وذلك أن النفوس قبل بعثة الرسل وإنزال الكتب لم تكن تعرف شيئاً من العبادات ولم تألفها فإذا نزل الكتاب جملة واحدة وفيه جميع التكاليف ربما حصل في بعض نفوس العباد نفور العباد نفور من تلك التكاليف وتثقل عليهم كما أخبر الله عن قوم موسى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه‏}‏ فلم يقبلوا أحكام التوراة إلاّ بعد شدة فلهذا السبب كان إنزال القرآن نجوماً متفرقة أولى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ يعني بعد إرسال الرسل وإنزال الكتاب والمعنى لئلا يحتج الناس على الله في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل فيقولوا ما أرسلت إلينا رسولاً وما أنزلت علينا كتاباً ففيه دليل على أنه لو لم يبعث الرسل لكان للناس عليه حجة في ترك التوحيد والطاعة وفيه دليل على ان الله لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ وفيه دليل لمذهب أهل السنة على أن معرفة الله تعالى لا تثبت إلاّ بالسمع لأن قوله‏:‏ ‏{‏لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ يدل على أن قبل بعثة الرسل تكون لهم الحجة في ترك الطاعات والعبادات‏.‏ فإن قلت كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل والخلق محجوبون بما نصب من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى معرفته ووحدانيته كما قيل‏:‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

قلت الرسل منبهون من رقاد الغفلة والجهالة وباعثون الخلق إلى النظر في تلك الدلائل التي تدل على وحدانيته سبحانه وتعالى ومبينون لها وهم وسائط بين الله تعالى وخلقه ومبينونه أحكام الله تعالى التي افترضها على عباده ومبلغون رسالته إليهم ‏(‏ق‏)‏ عن المغيرة بن شعبة قال‏:‏ قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «أتعجبون من غيره سعد والله لأنا أغير منه والله أغير مني ومن أجل غيره الله حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الجنة» لفظ البخاري وفي لفظ مسلم ولا شخص أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الله عزيزاً‏}‏ يعني في انتقامه ممن خالف أمره وعصى رسله ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني في إرساله الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 170‏]‏

‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك‏}‏ قال ابن عباس دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقال لهم‏:‏ «إني والله أعلم أنكم لتعلمن أني رسول الله» فقالوا ما نعلم ذلك فأنزل الله هذه الآية وفي رواية ابن عباس أن رؤوساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد إنا سألنا عنك اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونك فأنزل الله عز وجل لكن الله يشهد بما أنزل إليك يعني إن جحدك هؤلاء اليهود يا محمد وكفروا بما أوحينا إليك وقالوا‏:‏ ما أنزل الله على بشر من بشر من شيء فقد كذبوا فيما ادعوا فإن الله يشهد لك بالنبوة ويشهد بما أنزل إليك من كتابه ووحيه‏.‏ والمعنى أن اليهود وإن شهدوا أن القرآن لم ينزل عليك يا محمد لكن الله يشهد بأنه أنزل عليك وشهادة الله إنما عرفت بسبب أنه أنزل هذا القرآن البالغ في الفصاحة والبلاغة إلى حيث عجز الأولون والآخرون عن معارضته، والإيمان بمثله فكان ذلك معجزاً وإظهار المعجزة شهادة يكون المدعي صادقاً لا جرم قال الله تعالى لكن الله يشهد لك يا محمد بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله عليك ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ يعني أنه تعالى لما قال لكن الله يشهد بما أنزل إليك بين صفة ذلك الإنزال وهو أنه تعالى أنزله بعلم تام وحكمة بالغة وقيل معناه أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله عليك وأنك مبلغه إلى عباده وقيل معناه أنزله بما علم من مصالح عباده في إنزاله عليك ‏{‏والملائكة يشهدون‏}‏ يعني يشهدون بأن الله أنزله عليك ويشهدون بتصديقك وإنما عرفت شهادة الملائكة لأن الله تعالى إذا شهد بشيء شهدت الملائكة بذلك الشيء‏.‏ وقد ثبت أن الله يشهد بأنه أنزله بعلمه فلذلك الملائكة يشهدون بذلك ‏{‏وكفى بالله شهيداً‏}‏ يعني وحسبك يا محمد أن الله يشهد لك وكفى بالله شهيداً وإن لم يشهد معه أحد غيره ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة أهل الكتاب له فإن الله يشهد له وملائكته كذلك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ يعني جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم اليهود ‏{‏وصدوا عن سبيل الله‏}‏ يعني منعوا غيرهم عن الإيمان به بكتمان صفته وإلقاء الشبهات في قلوب الناس وهو قولهم لو كان محمد رسولاً لأتى بكتاب من السماء جملة واحدة كما أتى موسى بالتوراة ‏{‏قد ضلوا ضلالاً بعيداً‏}‏ يعني عن طريق الهدى ‏{‏إن الذين كفروا وظلموا‏}‏ يعني كفروا بالله وظلموا محمداً صلى الله عليه وسلم بكتمان صفته وظلموا غيرهم بإلقاء الشبهة في قلوبهم ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏ يعني لمن علم منهم أنهم يموتون على الكفر وقيل معناه لم يكن الله ليستر عليهم قبائح أفعالهم بل يفضحهم في الدنيا ويعاقبهم عليها بالقتل والسبي والجلاء في الآخرة بالنار وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا ليهديهم طريقاً‏}‏ يعني ينجون فيه من النار وقيل ولا ليهديهم طريقاً إلى الإسلام لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون ‏{‏إلاّ طريق جهنم‏}‏ يعني لكنه تعالى يهديهم إلى طريق يؤدي إلى جهنم وهي اليهودية لما سبق في علمه أنهم أهل لذلك ‏{‏خالدين فيها‏}‏ يعني في جهنم ‏{‏أبداً وكان ذلك على الله سيراً‏}‏ يعني هيناً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ هذا خطاب عام يدخل فيه جميع الكفار من اليهود والنصارى وعبادة الأصنام وغيرهم وقيل هو خطاب لمشركي العرب ‏{‏قد جاءكم الرسول‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏بالحق‏}‏ يعني بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده وقيل جاء بالقرآن الذي هو الحق ‏{‏من ربكم‏}‏ يعني من عند ربكم ‏{‏فآمنوا خيراً لكم‏}‏ يعني فآمنوا بما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم يكن الإيمان بذلك خيراً لكم يعني من الكفر الذي أنتم عليه ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ يعني وإن تجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وتكذبوا بما جاءكم من الحق من ربكم ‏{‏فإن لله ما في السموات والأرض‏}‏ يعني فإن الله هو الغني عن إيمانكم لأن له ما في السموات والأرض ملكاً وعبيداً ومن كان كذلك لم يكن محتاجاً إلى شيء وأنه قادر على من يشاء ‏{‏وكان الله عليماً‏}‏ يعني بما يكون منكم لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده فيجزي كل عامل بعمله ‏{‏حكيماً‏}‏ يعني في تكليفهم مع علمه بما يكون منكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ نزلت هذه الآية في النصارى وذلك أن الله تعالى لما أجاب عن شبه اليهود فيما تقدم من الآية اتبع ذلك بإبطال ما تعتقده النصارى وأصناف أربعة‏:‏ اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية، فأما اليعقوبية والملكانية فقالوا في عيسى أنه الله وقالت النسطورية إنه ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة وقيل‏:‏ إنهم يقولون إن عيسى جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وبأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات وأقنوم الابن عيسى‏.‏ وبأقنوم روح القدس الحياة الحالة فيه فتقديره عندهم الإله ثلاثة، وقيل إنهم يقولون في عيسى ناسوتية وألوهية فناسوتيته من قبل الأم وألوهيته من قبل الأب تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً يقال إن الذين أظهر هذا للنصارى رجل من اليهود يقال له بولص تنصر ودس هذا في دين النصارى ليضلهم بذلك‏.‏ وستأتي قصته في سورة التوبة إن شاء الله تعالى وقيل يحتمل أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعاً‏.‏ فإنهم غلوا في أمر عيسى عليه السلام‏.‏ فأما اليهود فإنهم بالغوا في التقصير في أمره حتى حطوه عن منزلته حيث جعلوه مولوداً لغير رشده وغلت النصارى في رفع عيسى عن منزلته ومقداره حيث جعلوه إلهاً فقال الله تعالى رداً عليهم جميعاً يا أهل الكتاب ‏{‏لا تغلوا في دينكم‏}‏ وأصل الغلو مجاوزة الحد وهو في الدين حرام والمعنى لا تفرطوا في أمر عيسى ولا تحطوه عن منزلته ولا ترفعوه فوق قدره ومنزلته ‏{‏ولا تقولوا على الله إلاّ الحق‏}‏ يعني لا تقولوا إن له شريكاً وولداً وقيل معناه لا تصفوه بالحلول والاتحاد في بدن الإنسان ونزهوا الله تعالى عن ذلك، ولما منعهم الله من الغلو في دينهم أرشدهم إلى طريق الحق في أمر عسى عليه السلام فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله‏}‏ يقول إنما المسيح هو عيسى ابن مريم ليس له نسب غير هذا وأنه رسول الله فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك ‏{‏وكلمته‏}‏ هي قوله تعالى‏:‏ كن فكان بشراً من غير أب ولا واسطة ‏{‏ألقاها إلى مريم‏}‏ يعني أوصلها إلى مريم ‏{‏وروح منه‏}‏ يعني أنه كسائر الأرواح التي خلقها الله تعالى وإنما أضافه إلى نفسه على سبيل التشريف والتكريم كما يقال بيت الله وناقة الله‏.‏ وهذه نعمة الله يعني أنه تفضل بها وقيل الروح هو الذي نفخ فيه جبريل في جيب درع مريم فحملت بإذن الله‏.‏ وإنما أضافه إلى نفسه بقوله منه لأنه وجد بأمر الله قال بعض المفسرين إن الله تعالى لما خلق أرواح البشر جعلها في صلب آدم عليه السلام، وأمسك عنده روح عيسى عليه السلام فلما أراد الله أن يخلقه أرسل بروحه مع جبريل إلى مريم فنفخ في جيب درعها فحملت بعيسى عليه السلام وقيل إن الروح والريح متقاربان في كلام العرب، فالروح عبارة عن نفخ جبريل عليه السلام وقوله منه يعني إن ذلك النفخ كان يأمره وإذنه وقيل أدخل النكرة في قوله وروح على سبيل التعظيم والمعنى روح وأي روح من الأرواح القدسية العالية المطهرة وقوله منه إضافته تلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتكريم ‏(‏ق‏)‏ عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسله‏}‏ يعني فصدقوا يا أهل الكتاب بوحدانية الله وأنه لا ولد له وصدقوا رسله فيما جاءكم به من عند الله وصدقوا بأن عيسى عليه السلام من رسل الله فآمنوا به ولا تجعلوه إله وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ يعني ولا تقولوا الآلهة ثلاثة وذلك أن النصارى يقولون أب وابن وروح القدس وقيل إنهم يقولون إن الله بالجوهر ثلاثة أقانيم وذلك أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاثة بدليل أنهم يجوزون على تلك الذات الحلول في عيسى وفي مريم فأثبتوا ذواتاً متعددة ثلاثة وهذا هو محض الكفر‏.‏ فلهذا قال الله تعالى ولا تقولوا ثلاثة ‏{‏انتهوا خيراً لكم‏}‏ يعني يكون الانتهاء عن هذا القول خير لكم من القول بالتثليث ثم نزه الله تعالى نفسه عن قول النصارى بالتثليث فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ ثم نزه نفسه عن الولد فقال ‏{‏سبحانه أن يكون له ولد‏}‏ يعني لا ينبغي أن يكون له ولد لأن الولد جزء من الأب وتعالى الله عن التجزئة، وعن صفات الحدوث ‏{‏له ما في السموات وما في الأرض‏}‏ يعني أنه تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهما عبيده وملكه وعيسى ومريم من جملة من فيهما فهما عبيده وملكه فإذا كانا عبدين له فكيف يعقل مع هذا أن له ولداً أو زوجة تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً‏؟‏ وهذا بيان لتنزيهه مما نسب إليه من الولد والمعنى أن جميع ما في السموات والأرض خلقه وملكه فكيف يكون بعض ملكه جزء منه‏؟‏ لأن التجزئة إنما تصح في الأجسام والله تعالى منزه عن صفات الأعراض والأجسام ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ يعني أنه تعالى كاف في تدبير خلقه فلا حاجة له إلى غيره، وكل الخلق محتاجون إليه وفقراء إليه وهو غني عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 175‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله‏}‏ وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس بعارعلى عيسى أن يكون عبد الله فنزلت لن يستنكف المسيح يعني لن يأنف ولن يتعظم والاستنكاف الاستكبار مع الأنفة يقال نكفت من كذا واستنكفت منه أي أنفت منه وأصله من نكفت الشيء نحيته ونكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك والمعنى لن ينقبض ولن يمتنع ولن يأنف المسيح أن يكون عبدالله ‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏ يعني ولن يستنكف الملائكة المقربون وهم حملة العرش والكروبيون وأفاضل الملائكة مثل‏:‏ جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أن يكونوا عبيدالله لأنهم في ملكه ومن جملة خلقه وقيل لما ادّعت النصارى في عيسى أنه ابن الله وذلك لما رأوا منه خوارق العادات من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك من المعجزات، أجاب الله تعالى عن هذه الشبهات التي وقعت للنصارى بأن عيسى من شرف قدره وكرامته لن يستنكف أن يكون عبداً لله‏.‏ وكذلك الملائكة المقربون فإنهم مع كرامتهم وعلو منزلتهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيداً لله وقد يستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر ووجه الدليل أن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة ولا يرتقي إلاّ من الأدنى إلى الأعلى ولا حجة لهم فيه والجواب عنه أن الله تعالى لم يقل ذلك رفعاً لمقامهم على مقام البشر بل قاله رداً على من يقول إن الملائكة بنات الله أو أنهم آلهة كما رد على النصارى قولهم إن المسيح ابن الله وقاله أيضاً على النصارى فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة يعني كما أن المسيح عبدالله فكذلك الملائكة عبيدالله‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر‏}‏ يعني ومن يتعظم عن عبادة الله ويأنف من التذلل لله والخضوع والطاعات من جميع خلقه ‏{‏فسيحشرهم إليه جميعاً‏}‏ يعني فسيبعثهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم حيث لا يملكون لأنفسهم شيئاً ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم‏}‏ يعني يوفيهم جزاء أعمالهم الصالحة ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ يعني ويزيدهم على ما أعطاهم من الثواب على أعمالهم الصالحة من التضعيف على ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏{‏وأما الذين استنكفوا واستكبروا‏}‏ يعني الذين أنفوا وتكبروا عن عبادة الله تعالى ‏{‏فيعذبهم عذاباً أليماً ولا يجدون لهم من دون الله‏}‏ يعني من سوى الله لأنفسهم ‏{‏وليّاً‏}‏ يعني ينجيهم من عذابه ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ يعني ولا ناصراً ينصرهم منه، ويدفع عنهم عقوبته بقي في الآية سؤال وهو أن التفصيل غير مطابق للمفصل لأن التفصيل اشتمل على ذكر فريقين‏:‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيوفيهم أجورهم وأما الذين استنكفوا واستكبروا‏}‏ والمفصل اشتمل على ذكر فريق واحد وهو قوله‏:‏ ‏{‏ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر‏}‏ والجواب أنه لا إشكال فيه فهو مثل قولك جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به، وصحة ذلك لوجهين‏:‏ أحدهما أنه حذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه لأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني، والوجه الثاني أن الإحسان إلى غيرهم مما يغمهم فكان داخلاً في جملة التنكيل بهم فكأنه قال ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فيعذبهم بالحسرة والغم إذا رأوا أجور المطيعين العاملين لله تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ خطاب للكافة ‏{‏قد جاءكم برهان من ربكم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما جاء به من البينات من ربه عز وجل وإنما سماه برهاناً لما معه من المعجزات الباهرات التي تشهد بصدقة ولأن للبرهان دليل على إقامة الحق وإيصال الباطل والنبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك ولأنه تعالى جعله حجة قاطعة قطع به عذر جميع الخلائق ‏{‏وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً‏}‏ يعني القرآن وإنما سماه نوراً لأن به تتبين الأحكام كما تتبين الأشياء بالنور بعد الظلام ولأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب فسماه نوراً لهذا المعنى ‏{‏فإما الذين آمنوا بالله‏}‏ يعني صدقوا بوحدانية الله وبما أرسل من رسول وأنزل من كتاب ‏{‏واعتصموا به‏}‏ يعني بالله في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان، وقيل في معنى واعتصموا به أي وتمسكوا بالنور وهو القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فسيدخلهم في رحمة منه‏}‏ يعني فسيدخلهم في رحمته التي ينجيهم بها من أليم عذابه قال ابن عباس الرحمة الجنة ‏{‏وفضل‏}‏ يعني ما يتفضل به عليهم بعد إدخالهم الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏{‏ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً‏}‏ يعني ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به عليهم ويسددهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته ويرشدهم لدينه الذي ارتضاه لعباده وهو دين الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ نزلت في جابر بن عبدالله الأنصاري ‏(‏ق‏)‏ عن جابر بن عبدالله قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعوداني ماشيين فأغمي عليّ فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب علي من وضوئه فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف أصنع في مالي‏؟‏ كيف أقضي في مالي‏؟‏ فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت آية الميراث‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ وفي رواية فقلت يا رسول الله إنما يرثني كلالة فنزلت آية الميراث قال شعبة فقلت لمحمد بن المنكدر يستفتونك‏:‏ ‏{‏قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ قال هكذا نزلت في رواية الترمذي وكان لي تسع أخوات حتى نزلت آية الميراث‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ ولأبي داود قال اشتكيت وعند سبع أخوات فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي فأفقت فقلت يا رسول الله ألا أوصي لأخواتي بالثلثين‏؟‏ قال أحسن قلت بالشطر‏؟‏ قال أحسن ثم خرج وتركني فقال يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك هذا وان الله قد أنزل فبين الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين قال فكان جابر يقول أنزلت هذه الآية في‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ وروى الطبري عن قتادة أن الصحابة أهمهم شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وروى عن ابن سيرين قال نزلت‏:‏ ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ والنبي صلى الله عليه وسلم في مسير له وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة والله لأنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدثك فيها ما لم أحدثك يومئذٍ فقال عمر لم أرد هذا رحمك الله‏.‏ وأما التفسير فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يستفتونك‏}‏ يعني يسألونك ويستخبرونك عن معنى الكلالة يا محمد قل‏:‏ الله يفتيكم في الكلالة يعني أن الله هو يخبركم عما سألتم عنه من أمر الكلالة‏.‏ وقد تقدم في أول السورة الكلام على معنى الكلالة من حيث الاشتقاق وغيره وأن اسم الكلالة يقع على الوارث وعلى الموروث فإن وقع على الوارث فهم من سوى الوالد والولد وإن وقع على الموروث فهو من مات ولا يرثه أحد الأبوين ولا أحد الأولاد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك‏}‏ يعني مات الموت هلاكاً لأنه أعدام في الحقيقة ‏{‏ليس له ولد‏}‏ يعني ولا والد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ودل على المحذوف أن السؤال في الفتيا إنما كان في الكلالة وقد تقدم أن الكلالة من ليس ولد ولا والد ‏{‏ولا أخت‏}‏ يعني ولذلك الهالك أخت وأراد بالأخت من أبيه وأمه أو من أبيه ‏{‏فلها نصف ما ترك‏}‏ يعني فلأخت الميت نصف تركته وهو فرضها إذا انفردت وباقي المال لبيت المال إذا لم يكن للميت عصبة‏.‏

وهذا مذهب زيد بن ثابت وبه قال الشافعي وعند أبي حنيفة وأهل العراق يرد الباقي عليها فإذا كان للميت بنت أخذت النصف بالفرض وتأخذ الأخت النصف الباقي بالتعصيب لا بالفرض لأن الأخوات مع البنات عصبة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو يرثها إن لم يكن لها ولد‏}‏ يعني أن الأخت إذا ماتت وتركت أخاً من الأب والأم أو من الأب فإنه يستغرق جميع ميراث الأخت إذا انفرد ولم يكن للأخت ولد وهذا أصل في جميع العصبات واستغراقهم جميع المال، فأما الأخ من الأم فإنه صاحب فرض لا يستغرق جميع المال وقد تقدم بيانه ‏{‏فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك‏}‏ أراد بنتين فصاعداً وهو أن من مات وترك أختين أو أخوات فلهن الثلثان مما ترك الميت ‏{‏وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ يعني وان كان المتروكون من الإخوة رجالاً ونساء فللذكر منهم نصيب اثنتين من الإخوة الإناث ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏ يعني يبين الله لكم هذه الفرائض والأحكام لئلا تضلوا‏.‏ وقيل معناه كراهية أن تضلوا وقيل بيّن الله الضلالة لتجتنبوها ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏ يعني من مصالح عباده التي حكم بها من قسمة المواريث وبيان الأحكام وغير ذلك لأن علمه محيط بكل شيء ‏(‏ق‏)‏ عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال إن آخر سورة نزلت تامة سورة التوبة وإن آخر آية نزلت آية وفي رواية لمسلم قال آخر آية نزلت يستفتونك وروي عن ابن عباس أن آخر سورة نزلت سورة التوبة وأن آخر آية الكلالة وفي رواية لمسلم قال آخر آية الربا وآخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح وروي عنه أن آخر آية نزلت ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزول سورة النصر سنة ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر هكذا ذكره البغوي وفيه نظر لأنه قد ثبت في الصحيحن من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في الحجة التي أمره عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر‏:‏ ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏ وكانت حجة أبي بكر هذه سنة تسع قبل حجة الوداع بسنة قال البغوي‏:‏ ثم نزلت في طريق حجة الوداع ‏{‏يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏ فسميت آية الصيف ثم نزلت وهو واقف بعرفة ‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏ فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً ثم نزلت آية الربا ثم نزلت‏:‏ ‏{‏واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله‏}‏ عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً‏.‏ وهذا آخر تفسير سورة النساء والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏