فصل: تفسير الآية رقم (42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سماعون للكذب أكّالون للسحت‏}‏ نزلت في حكم اليهود مثل كعب بن الأشرف ونظرائه كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم قال الحسن‏:‏ كان الحاكم منهم إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه ثم يريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيسمع الكذب ويأكل الرشوة وهي السحت وأصل السحت الاستئصال يقال‏:‏ سحته إذا استأصلته وسميت الرشوة في الحكم سحتاً، لأنها تستأصل دين المرتشي‏.‏ والسحت كله حرام يحمل عليه شدة الشره وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار بحيث يخفيه لا محالة ومعلوم أن حالة الرشوة كذلك فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لعن الراشي والمرتشي في الحكم» أخرجه الترمذي وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص‏.‏ قال الحسن‏:‏ إنما ذلك في الحاكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقاً وقال ابن مسعود‏:‏ الرشوة في كل شيء فمن شفع شفاعة ليرد بها حقاً أو يدفع بها ظلماً فأهدى بها إليه فقبل فهو سحت‏.‏ فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى‏:‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن جاؤوك‏}‏ يعني اليهود ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك سيئاً‏}‏ خيَّر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم فإن شاء حكم وإن شاء ترك قال الحسن ومجاهد والسدي نزلت في اليهوديين اللذين زنيا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ نزلت في رجلين من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كان حيي بن أخطب قد جعل للنضير ديتين وللقرضي دية واحدة لأنه كان من بني النضير فقالت قريظة‏:‏ لا نرضى بحكم حيي ونتحاكم إلى محمد فأنزل الله هذه الآية يخير نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

اختلف علماء التفسير في حكم هذه الاية على قولين‏:‏ أحدهما أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيراً فإن شاء حكم بينهم وإن شاء عرض عنهم ثم نسخ ذلك بقوله ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ فلزمه الحكم بينهم وزال التخير هذا القول مروي عن ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والسدي‏.‏ والقول الثاني‏:‏ إنها محكمة وحكام المسلمين بالخيار إذا ترافعوا إليهم فإن شاؤوا حكموا بينهم وأن شاؤوا أعرضوا عنهم وهذا القول مروي عن الحسن والشعبي والنخعي والزهري وبه، قال أحمد‏:‏ لأنه لا منافاة بين الآيتين‏.‏

أما قوله فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ففيه التخيير بين الحكم والإعراض‏.‏ وأما قوله ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ ففيه كيفية الحكم إذا حكم بينهم قال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ ومذهب الشافعي، إنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليه لأن إمضاء حكم الإسلام صغاراً لهم‏.‏ فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يتخير في ذلك وهو التخيير المذكور في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين وأما إذا تحاكم مسلم وذمي وجب على الحاكم بينهم لا يختلف القول فيه لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط‏}‏ يعني بالعدل والاحتياط ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏ يعني العادلين فيما ولوا وحكموا فيه ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا» هذا من أحاديث الصفات فمن العلماء من قال فيه وفي أمثاله‏:‏ نؤمن بها ولا نتكلم في تأويلها ولا نعرف معناها لكن نعتقد أن ظاهرها غير مراد وأن لها معنى يليق بالله‏.‏ هذا مذهب جماهير السلف وطوائف من المتكلمين‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ إنها تؤول بتأويل يليق بها وهذا قول أكثر المتكلمين‏.‏ فعلى هذا قال القاضي عياض‏:‏ المراد بكونه عن اليمين الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة والعرب تنسب الفعل المحمود والإحسان إلى اليمين وضده إلى اليسار قالوا واليمين مأخوذة من اليمن وقزله وكلتا يديه يمين مبني على أنه ليس المراد باليمين الجارحة تعالى الله عن ذلك فإنها مستحيلة في حقه تعالى وقوله ‏{‏وما ولوا‏}‏ بفتح الواو وضم اللام المخففة هكذا ذكره الشيخ محيي الدين في شرح مسلم‏.‏ قال‏:‏ ومعناه وما كانت له عليه ولاية وهذا الفضل لمن عدل فيما تقلده من الأحكام والله أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكيف يحكمونك وعندهم التوراة‏}‏ هذا تعجيب من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فى تحكيم اليهود إياه مع علمهم بما فى التوراة تركهم قبول ذلك الحكم مع اعتقادهم صحته وعدولهم إلى حكم من يجحدون نبوته طلباً للرخصة لا جرم إن الله تعالى أظهر جهلهم وعنادهم لأنهم حكموا النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الزانيين ثم أعرضوا عن حكمه فى الآية لتقريع اليهود والمعنى وكيف يجعلونك حكماً بينهم ويرضون بحكمك وعندهم التوراة ‏{‏فيها حكم الله‏}‏ يعني الرجم الذي تحاكموا إليك من أجله ‏{‏ثم يتولون من بعد ذلك‏}‏ يعني ثم يعرضون عن حكمك الموافق لما فى كتابهم ‏{‏وما أولئك‏}‏ يعني اليهود ‏{‏بالمؤمنين‏}‏ يعني بكتابهم كما يزعمون‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وما أولئك بالمصدقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد ‏{‏يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن الله بعث فى بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا‏:‏ أي انقادوا لأمر الله تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي‏:‏ يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم فى التوراة‏.‏ قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه‏.‏ للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى‏:‏ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا ‏{‏والربانيون والأحبار‏}‏ أما الربانيون فتقدم تفسيره فى سورة آل عمران وأما الأحبار فقال ابن عباس‏:‏ هم الفقهاء‏.‏ وقيل‏:‏ هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان‏.‏ وقال الفراء‏:‏ إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذى يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ إنما هو حَبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التى يقتدى بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار‏.‏ وقيل‏:‏ الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث‏:‏ يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه‏.‏ وإنما سمي العالم حبراً لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا‏؟‏ فيه خلاف، فقيل‏:‏ لا فرق‏.‏ والربانيون، والأحبار بمعنى واحد وهم‏:‏ العلماء والفقهاء‏.‏ وقيل‏:‏ الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن الله تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار‏.‏

وقيل‏:‏ الربانيون هم الولاة‏.‏ والحكام والأحبار هم العلماء‏:‏ وقيل‏:‏ الربانيون علماء النصارى، والأحبار‏:‏ علماء اليهود‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بما استحفظوا من كتاب الله‏}‏ يعني بما استودعوا من كتاب الله‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يحفظوا كتاب الله فلا ينسوه وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه‏.‏ وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معاً وذلك بأن يحفظوا كتاب الله فى صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا يسنوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه فإذا فعلوا كانوا قائمين بحفظه ‏{‏وكانوا عليه شهداء‏}‏ يعني‏:‏ أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب الله ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند الله ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏ هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لا تخافوا أحداً من الناس فى إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني فى كتمان ذلك ‏{‏ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً‏}‏ يعني ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمناً قليلاً يعني الرشوة فى الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع فى المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ بمعنى‏:‏ أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه فى التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏ فقال جماعة من المفسرين‏:‏ الآيات الثلاث نزلت فى الكفار ومن غير حكم الله من اليهود، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك‏.‏ ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏ فى الكفار لكها أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون‏}‏ إلى قوله هم الفاسقون هذه الآيات الثلاث فى اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فى هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق‏.‏

وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضاً واختار الزجاج لأنه قال‏:‏ من زعم أنّ حكماً من أحكام الله تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر‏.‏ وقال طاوس‏:‏ قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله‏؟‏ فقال‏:‏ به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء‏.‏ وقال‏:‏ هو كفر دون الكفر‏.‏ وقال ابن مسعود والحسن والنخعي‏:‏ هذه الآيات الثلاث عامة فى اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب‏.‏ وقيل‏:‏ هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً وحكم بغيره وأما من خفي عليه النص أو أخطأ فى التأويل فلا يدخل فى هذا الوعيد والله أعلم بمراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ يعني‏:‏ وفرضنا على بني اسرائيل فى التوراة أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاقاً فيقتل به وذلك أن الله تعالى حكم فى التوراة أن على الزاني المحصن الرجم وأخبر أن اليهود بدّلوه وغيروه وأخبر أيضاً أن فى التوراة أن النفس بالنفس وأن هؤلاء اليهود غيروا هذا الحكم وبدلوه ففضلوا بني النضير على بني قريظة فكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا إليهم نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة فغيروا حكم الله الذي أنزل فى التوراة‏.‏

قاب ابن عباس‏:‏ أخبر الله بحكمه فى التوراة وهو أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص‏.‏ قال‏:‏ فما لهم يخالفون فيقتلون النفسين بالنفس ويفقأون العينين بالعين‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أن قاتل النفس يقتل بها إذا تكافأ الدمان ومذهب الشافعي‏:‏ أنه لا يقتل مسلم بكافر لما صح من حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يقتل مسلم بكافر» الحديث أخرجاه فى الصحيحين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعين بالعين‏}‏ يعني تفقأ بها ‏{‏والأنف بألأنف‏}‏ يعني يجدع به ‏{‏والأذن بالأذن‏}‏ يعني تقطع بها ‏{‏والسن بالسن‏}‏ يعني تقلع بها وأما سائر الأطراف والأعضاء فيجري فيها القصاص كذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجروح قصاص‏}‏ يعني فيما يمكن أن يقتص منه وهذا تعميم بعد التخصيص، لأن الله تعالى ذكر النفس والعين والأنف والأذن فخص هذه الأربعة بالذكر ثم قال تعالى‏:‏ والجروح قصاص، على سبيل العموم فيما يمكن أن يقتص منه كاليد والرجل والذكر والانثيين وغيرها وأما مالا يمكن القصاص فيه كرضّ في لحم أو كسر فى عظم أو جراحة فى بطن يخاف منها التلف فلا قصاص فى ذلك وفيه الأرش والحكومة‏.‏ واعلم أن هذه الآية دالة على أن هذا الحكم كان شرعاً فى التوراة فمن قال شرع من قبلنا يلزمنا إلا ما نسخ منه بالتفصيل قال هذه الآية حجة فى شرعنا ومن أنكره قال إنها ليست بحجة علينا وأصل هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بعد البعثة هل هم متعبدون بشرع من تقدم من الأنبياء عليهم السلام‏؟‏ فنقل عن أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وعن أحمد فى أحد الروايتين عنه أنه كان متعبداً بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها واختار ابن الحاجب من المتأخرين هذا المذهب وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد البعثة متعبداً بشرع من قبله فيما لم ينسخ من الأحكام الباقية قبل شريعته لكنه لم يعتبر فيه قيد الوحي وهو الحق وإلا لم يبق للنزاع معنى إذ لا ينكر أحدا كون النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بعد البعثة بما أوحى إليه سواء كان من شريعة من قبله أم لا وذهبت الأشاعرة والمعتزلة إلى المنع من ذلك وهو اختيار الآمدي من المتأخرين واحتج الأولون لصحة مذهبهم بأن الإجماع منعقد على صحة الاستدلال بقوله‏:‏ ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ الآية مع أنه من شريعة من تقدم لأنه مذكور في التوراة‏.‏

ومكتوب على بني إسرائيل‏:‏ ولولا أنا متعبدون بشريعة من قبلنا لما صح هذا الاستدلال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تصدق به‏}‏ يعني بالقصاص فلم يقتص من الجاني ‏{‏فهو كفارة له‏}‏ فى هاء له قولان‏:‏ أحدهما أن الهاء فى له كناية عن المجروح وولي المقتول وذلك أن المجروح أو ولي المقتول إذا تصدق بالقصاص كان ذلك كفارة لذنوبه وهذا قول ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص والحسن ويدل عليه ما روي عن أبي الدرداء قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «ما من رجل يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة وحط عنه به خطيئة» أخرجه الترمذي‏.‏ وعن أنس قال‏:‏ «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو أخرجه أبو داود والنسائي»‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الضمير فى قوله له يعود إلى الجارح والقاتل يعني أن المجني عليه إذا عفا عن الجاني كان ذلك العفو كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به فى الآخرة وهذا قول ابن عباس ومجاهد ومقاتل كما أن القصاص كفارة له فأما أجر العافي، فعلى الله تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون‏}‏‏:‏ يعني لأنفسهم حيث لم يحكموا بما أنزل الله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقفينا على آثارهم‏}‏ يعني وعقبنا على آثار النبيين الذين أسلموا ‏{‏بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة‏}‏ يعني أن عيسى عليه السلام كان مصدقا بأن التوراة منزلة من عند الله عزّ وجل وكان العمل بها واجباً قبل ورود النسخ عليها فإن عيسى عليه السلام نسخ بعض أحكام التوراة وخالفها ‏{‏وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور‏}‏ يعني فيه هدى من الجهالة وضياء من عمى البصيرة ‏{‏ومصدقاً لما بين يديه من التوراة‏}‏ هذا ليس بتكرار للأول لأن فى الأول الإخبار بأن عيسى مصدق لما بين يديه من التوراة‏.‏ وفي الثاني‏:‏ الإخبار بأن الإنجيل مصدق للتوراة، فظهر الفرق بين اللفظين وأنه ليس بتكرار ‏{‏وهدى وموعظة للمتقين‏}‏ إنما قال‏:‏ وهدى مرة أخرى لأن الإنجيل يتضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيكون سبباً لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما كون الإنجيل موعظة، فلما فيه من المواعظ البليغة والزواجر والأمثال وإنما خص المتقين بالذكر لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه‏}‏ قال أهل المعاني‏:‏ قوله وليحكم يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون المعنى وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، فيكون هذا إخباراً عما فرض عليهم فى وقت إنزاله عليهم من الحكم بما تضمنه الإنجيل ثم حذف القول لأن ما قبله من قوله وكتبنا وقفينا يدل عليه وحذف القول كثير‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أن يكون قوله وليحكم ابتداء وفيه أمر للنصارى بالحكم بما فى كتابهم وهو الإنجيل‏.‏

فإن قلت فعلى هذا الوجه كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن قلت‏:‏ إن المراد بهذا الحكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن ذكره فى الإنجيل ووجوب التصديق بنبوته موجود فإذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد حكموا بما فى الإنجيل‏.‏

وقوله ‏{‏ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏}‏ يعني‏:‏ فأولئك هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني وأنزلنا إليك يا محمد القرآن ‏{‏بالحق‏}‏ يعني بالصدق الذي لا شك فيه أنه من عند الله ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب‏}‏ يعني أن يصدق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ‏{‏ومهيمناً عليه‏}‏ قال ابن عباس يعني شاهداً على الكتب التي قبله ومنه قول حسان‏:‏

إن الكتاب مهيمن لنبينا *** والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد أنه شاهد ومصدق لنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما كان القرآن مهيمناً على الكتب التي قبله لأنه الكتاب الذي لا ينسخ ولا يغير ولا يبدل‏.‏ وإذا كان القرآن كانت شهادته على التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب المنزلة حقا وصدقاً‏.‏

وقيل‏:‏ المهيمن الأمين‏.‏ وإنما كان القرآن أميناً على الكتب التي قبله فيما أخبر أهل الكتب عن كتبهم فإن قالوا ذلك فى القرآن فقد صدقوا وإلا فلا ‏{‏فاحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ يعني‏:‏ إذا ترافع أهل الكتاب إليك يا محمد فاحكم بينهم بالقرآن الذي أنزل الله إليك ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ يعني‏:‏ ولا تبع أهواء هؤلاء اليهود فى الحكم وقال ابن عباس لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن ‏{‏عما جاءك من الحق‏}‏ يعني ولا تنحرف عن الحق الذي جاءك من عند الله متبعاً أهواءهم، وقوله‏:‏ ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق وإن كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لكن المراد به غير لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتبع أهواءهم قط‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ الخطاب فى قوله منكم للأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين بدليل أن الله عز وجل قال قبل هذه ‏{‏إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور‏}‏ ثم قال بعد ذلك ‏{‏وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم‏}‏ ثم قال ‏{‏وأنزلنا إليك الكتاب‏}‏ ثم جمع فقال ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ والشرعة‏:‏ الشريعة‏.‏ يعني لكل أمة شريعة فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة والدين واحد وهو التوحيد‏.‏ وأصل الشريعة من الشرع وهو البيان والإظهار فمعنى شرع بيَّن وأوضح‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الشروع في الشيء‏.‏ والشريعة في كلام العرب، المشرعة التي يشرعها الناس فيشربون ويسقون منها‏.‏ وقيل‏:‏ الشريعة الطريقة ثم استعير ذلك للطريقة الإلهية المؤدية إلى الدين والمنهاج الطريق الواضح وقال بعضهم الشريعة والمنهاج عبارتان عن معنى واحد والتكرير للتأكيد والمراد بهما‏:‏ الدين وقال آخرون‏:‏ بينهما فرق لطيف وهو أن الشريعة هي التي أمر الله بها عباده‏.‏ والمنهاج‏:‏ الطريق الواضح المؤدي إلى الشريعة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ فى قوله شرعة ومنهاجاً سنة وسبيلاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ سبيلاً وسنة فالسنن مختلفة للتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللقرآن شريعة يحل الله عز وجل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل غيره هو التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم السلام وقال علي بن أبي‏:‏ الإيمان منذ بعث آدم عليه السلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ولكل قوم شريعة ومنهاج‏.‏ قال العلماء‏:‏ وردت آيات دالة على عدم التباين فى طريقة الأنبياء والرسل منها قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ ووردت آيات دالة على حصول التباين بينهم منها هذه الآية وهي قوله ‏{‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً‏}‏ وطريق الجمع بين هذه الآيات أن كل آية دلت على عدم التباين فهي دالة على أصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وكل ذلك جاءت به الرسل من عند الله ولم يختلفوا فيه‏.‏

وأما الآيات الدالة على حصول التباين بينهم، فمحمولة على الفروع، وما يتعلق بظواهر العبادات فجائز أن يتعبد الله عباده فى كل وقت بما يشاء فهذه طريق الجمع بين هذه الآيات والله أعلم بأسرار كتابه واحتج بهذه من قال إن شرع من قبلنا لا يلزمنا لأن قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً يدل على أن كل رسول جاء بشريعة خاصة فلا يلزم أمة رسول الاقتداء بشريعة رسول آخر ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة‏}‏ يعني جماعة متفقة على شريعة واحدة ودين واحد لا اختلاف فيه ‏{‏ولكن ليبلوكم‏}‏ يعني ولكن أراد أن يختبركم ‏{‏فيما آتاكم‏}‏ يعني من الشرائع المختلفة هل تعلمون بها أم لا‏؟‏ فيتبين بذلك المطيع من العاصي والموافق من المخالف ‏{‏فاستبقوا الخيرات‏}‏ هذا خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يعني فبادروا يا أمة محمد بالأعمال الصالحات التي تقربكم إلى الله تعالى ‏{‏إلى الله مرجعكم جميعاً‏}‏ يعني المطيع والعاصي والموافق والمخالف ‏{‏فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون‏}‏ يعني‏:‏ فيخبركم فى الآخرة بما كنتم فيه تختلفون من أمر الدين والدنيا‏.‏ والمعنى‏:‏ فيخبركم في الآخرة بما لا تشكون معه فيفصل بين المحق والمبطل والطائع والعاصي بالثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن أحكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس قال بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا‏:‏ يا محمد قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأشرافهم وسادتهم وأنّا إن اتبعناك اتبعتنا اليهود ولم يخالفونا وأن بيننا وبين قومنا خصومة فتتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك ونصدقك فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية ‏{‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏}‏ يعني احكم بينهم يا محمد بالحكم الذي أنزله الله في كتابه ‏{‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏ يعني فيما أمروك به‏.‏

قال العلماء‏:‏ ليس في هذه الآية تكرار لما تقدم، وإنما أنزلت فى حكمين مختلفين‏.‏ أما الآية الأولى‏:‏ فنزلت فى شأن رجم المحصن وأن اليهود طلبوا منه أن يجلده وهذه الآية نزلت فى شأن الدماء والديات حين تحاكموا إليه في أمر قتيل كان بينهم قال بعض العلماء هذه الآية ناسخة للتخيير فى قوله‏:‏ ‏{‏فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك‏}‏ يعني‏:‏ واحذر يا محمد هؤلاء اليهود الذين جاؤوا إليك أن يصرفوك ويصدوك بمكرهم وكيدهم فيحملوك على ترك العلم ببعض ما أنزل الله إليك في كتابه واتباع أهوائهم ‏{‏فإن تولوا‏}‏ يعني فإن أعرضوا عن الإيمان بك والرضا بالحكم بما أنزل الله عليك ‏{‏فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم‏}‏ يعني فاعلم يا محمد أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة فى الدنيا ببعض ذنوبهم وإنما خص بعض الذنوب لأن الله جازاهم فى الدنيا على بعض ذنوبهم بالقتل والسبي والجلاء وأخر مجازاتهم على باقي ذنوبهم إلى الآخرة ‏{‏وإن كثيراً من الناس لفاسقون‏}‏ يعني اليهود لأنهم ردوا حكم الله تعالى ‏{‏أفحكم الجاهلية يبغون‏}‏ يعني أفحكم الجاهلية هؤلاء اليهود قال ابن عباس‏:‏ يعني بحكم الجاهلية ما كانوا عليه من الضلال والجور في الأحكام وتحريفهم إياها عما أمر الله به وقال مقاتل كانت بين بني النضير وقريظة دماء وهما حيان من اليهود وذلك قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه فقالت بنو قريظة بنو النضير إخواننا أبونا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر وإن قتلنا منهم قتيلاً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً وأرش جراحتنا على النصف من جراحتهم فاقض بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضيري، ودم النضيري وفاء من دم القرظي ليس لأحدهما فضل على الآخر فى دم ولا عقل ولا جراحة‏.‏ فغضبت بنو النضير، وقالوا‏:‏ لا نرضى بحكمك فإنك لنا عدو وإنك ما تألو فى وضعنا وتصغيرنا‏.‏ فأنزل الله‏:‏ أفحكم الجاهلية يبغون‏.‏ وقرئ بالتاء على الخطاب‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم يا محمد أفحكم الجاهلية تبغون ‏{‏ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون‏}‏ يعني‏:‏ أي حكم أحسن من حكم الله إن كنتم موقنين أنّ لكم رباً وأنه عدل في أحكامه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين، لأن خصوص السبب لا يمنع من عموم الحكم، فقال قوم‏:‏ نزلت هذه الآية فى عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين وذلك أنهما اختصما فقال عبادة إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبيّ‏:‏ لكني لا أبرأ من ولاية اليهود فإن أخاف الدوائر ولا بد لي منهم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه فقال‏:‏ إذن أقبل فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ لما كانت وقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين‏:‏ أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أماناً إني أخاف أن يدال علينا اليهود‏.‏ وقال رجل آخر‏:‏ أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أماناً‏.‏ فأنزل الله هذ الآية ينهاهم عن موالاة اليهود والنصارى‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا‏:‏ ماذا يصنع بنا إذا نزلنا‏؟‏ فجعل اصبعه فى حلقه أشار إلى أنه الذبح وأنه يقتلكم فأنزل الله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏}‏ فنهى الله المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وأعواناً على أهل الإيمان بالله ورسوله وأخبر أنه من اتخذهم أنصاراً وأعواناً وخلفاء من دون الله ورسوله والمؤمنين فإنه منهم وإن الله ورسوله والمؤمنين منه براء ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ يعني أن بعض اليهود أنصار لبعض على المؤمنين وأن النصارى كذلك يد واحدة على من خالفهم فى دينهم وملتهم ‏{‏ومن يتولهم منكم فإنه منهم‏}‏ يعني ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين فينصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم لأنه لا يتولى مولى إلا وهو راض به وبدينه وإذا رضيه ورضى دينه صار منهم وهذا تعليم من الله تعالى وتشديد عظيم في مجانبة اليهود والنصارى وكل من خالف دين الإسلام ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ يعني أن الله لا يوفق من وضع الولاية في غير موضعها فتول اليهود والنصارى مع علمه بعداوتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، روي أن أبا موسى الأشعري قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ إن لي كاتباً نصرانياً فقال‏:‏ مالك وله قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً‏؟‏ يعني مسلماً أما سمعت قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض‏}‏ قلت‏:‏ له دينه ولي كتابته‏:‏ فقال‏:‏ لا أكرّمهم إذا أهانهم الله ولا أعزهم إذا أذلهم الله ولا أدنيهم إذا أبعدهم الله‏.‏

قلت‏:‏ إنه لا يتم أمر البصرة إلا به‏.‏ فقال‏:‏ مات النصراني والسلام يعني‏:‏ هب أنه مات فما تصنع بعده فما تعمله بعد موته فاعمله الآن واستغنِ عنه بغيره من المسلمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين فى قلوبهم مرض‏}‏ يعني فترى يا محمد الذين فى قلوبهم شك ونفاق ‏{‏يسارعون فيهم‏}‏ يعني يسارعون فى مودة اليهود وموالاتهم ومناصحتهم لأنهم كانوا أهل ثروة ويسار فكانوا يغشونهم ويخالطونهم لأجل ذلك‏.‏ نزلت فى عبد الله بن أبي، المنافق وفي أصحابه من المنافقين ‏{‏يقولون‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏نخشى أن تصيبنا دائرة‏}‏ الدائرة من دوائر الدهر كالدولة التي تدول والمعنى‏.‏ يقول المنافقون‏:‏ إنما نخالط اليهود لأنا نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه، ويعنون بذلك المكروه الهزيمة فى الحرب والقحط والجدب والحوادث المخوفة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور علينا الأمر كما كان قبل محمد ‏{‏فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده‏}‏ قال المفسرون‏:‏ عسى من الله واجب لأن الكريم إذا أطمع في خير فعله وهو بمنزلة الواعد لتعلق النفس به ورجائها له والمعنى فعسى الله أن يأتي بالفتح لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار دينه على الأديان كلها وإظهار المسلمين على أعدائهم من الكفار واليهود والنصارى وقد فعل الله ذلك بمنّه وكرمه فأظهر دينه ونصر عبده‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالفتح فتح مكة‏.‏ وقيل‏:‏ فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك ونحوهما من بلادهم ‏{‏أوأمر من عنده‏}‏ يعني أنه تعالى يقطع أصل اليهود من أرض الحجاز ويخرجهم من بلادهم بلا كلفة وتعب ولا يكون للناس فيه فعل البتة كما ألقى فى قلوبهم الرعب فأخلوا ديارهم وخربوها بأيديهم ورحلوا إلى الشام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين‏}‏ يعني فيصبح المنافقون الذين كانوا يوالون اليهود نادمين على ما حدثوا به أنفسهم أنّ أمر محمد لا يتم وقيل ندموا على دس الأخبار إلى اليهود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏ويقول الذين آمنوا‏}‏ يعني ويقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين ‏{‏أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم‏}‏ وذلك أن المؤمنين كانوا يتعجبون من حال المنافقين عندما أظهروا الميل إلى موالاة اليهود والنصارى ويقولون إن المنافقين حلفوا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعنا ومن أنصارنا والآن كيف صاروا موالين لأعدائنا من اليهود محبين للاختلاط بهم فبان كذب المنافقين في أيمانهم الباطلة ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ أي بطل كل خير عملوه لأجل ما أظهروا من النفاق ومولاة اليهود ‏{‏فأصبحوا خاسرين‏}‏ يعني أنهم خسروا فى الدنيا بافتضاحهم وخسروا في الآخرة بإحباط ثواب أعمالهم وحصلوا بالعذاب الدائم المقيم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه‏}‏ يعني من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه وهو دين الإسلام فيبدله ويغيره بدخوله فى الكفر بعد الإيمان فيختار‏:‏ إما اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من أصناف الكفر فلن يضر الله شيئاً وإنما ضرَّ نفسه برجوعه عن الدين الصحيح الذي هو دين الإسلام قال الحسن‏:‏ علم الله تعالى أن قوماً سيرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه‏.‏ وذكر صاحب الكشاف أن إحدى عشرة فرقة من العرب ارتدت ثلاث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم‏:‏ بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار وهو الأسود العنسي وكان كاهناً فتنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج منها عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله تعالى على يد فيروز الديلمي في بيته فقتله فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بقتله ليلة قتل فسرَّ المسلمون بذلك وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبر قتله في آخر ربيع الأول‏.‏ وبنو حنيفة وهم قوم مسيلمة الكذاب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله‏.‏

«أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك» فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب‏.‏ أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» وستأتي قصة قتله فيما بعد وبنو أسد وهم قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وارتد سبع فرق في خلافة أبي بكر الصديق وهم فزارة قوم عيينة بن حصن الفزاري وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة اليربوعي وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب‏.‏

وكندة قوم الأشعث بن قيس الكندي وبنو بكر بن وائل قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفرقة واحدة ارتدت فى خلافة عمر بن الخطاب وهم غسان قوم جبلة بن الأيهم واختلف العلماء في المعنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب كما تقدم تفصيله إلا أهل المدينة وأهل مكة وأهل البحرين من بني عبد القيس فإنهم ثبتوا على الإسلام ونصر الله بهم الدين ولما ارتد مَن ارتد من العرب ومنعوا الزكاة همَّ أبو بكر بقتالهم وكره ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عمر‏:‏ كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله» فقال أبو بكر‏:‏ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً أو قال عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا‏:‏ هم أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدّاً من الخروج على أثره، فقال ابن مسعود‏:‏ كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء‏.‏ وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ سمعت أبا حصين يقول‏:‏ ما ولد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة وقالت عائشة‏:‏ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأبَّ النفاق ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها وبعث أبو بكر الصديق خالد بن الوليد في جيش كثير إلى بني حنيفة باليمامة وهم قوم مسيلمة الكذاب فأهلك الله مسيلمة على يد وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة، فكان وحشي يقول‏:‏ قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام أراد بذلك وحشي أنه في حال الجاهلية قتل حمزة وهو خير الناس وفي حال إسلامه قتل مسيلمة الكذاب وهو شر الناس وقال قوم‏:‏ المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ الأشعريون قوم أبي موسى الأشعري، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال لما نزلت هذه الآية ‏{‏فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«هم قوم هذا» يعني أبا موسى الاشعري أخرجه الحاكم في المستدرك وقيل هم أهل اليمن ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً الإيمان يمان والحكمة يمانية»

وقال السدي‏:‏ نزلت في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوه على إظهار الدين، وقيل‏:‏ هم أحياء من أهل اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من أهل كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أخلاط الناس جاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في خلافة عمر، وعلى هذا التقدير، تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع الخبر على وفقه بحمد الله تعالى فتكون هذه الآية معجزة‏.‏

وأما معنى المحبة، فيقال أحببت فلاناً بمعنى جعلت قلبي معرضاً بأن يحبه والمحبة إرادة ما تراه أو تظنه خيراً‏.‏ ومحبة الله تعالى العبد، إنعامه عليه وتوفيقه وهدايته إلى طاعته والعمل بما يرضى به عنه وأن يثيبه أحسن الثواب على طاعته وأن يثني عليه ويرضى عنه ومحبة العبد لله عزّ وجل أن يسارع إلى طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعل ما يوجب سخطه وعقوبته وأن يتحبب بما يوجب له الزلفى لديه جعلنا الله ممن يحبهم ويحبونه بمنّه وكرمه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ هذه من صفات الذين اصطفاهم الله تعالى ووصفهم بقوله‏:‏ يحبهم ويحبونه، يعني أنهم أرقاء رحماء لأهل دينهم وإخوانهم من المؤمنين ولم يرد ذل الهوان بل أراد لين جانبهم لإخوانهم المؤمنين وهم من رقتهم ورحمتهم ولين جانبهم أشداء أقوياء غلظاء على أعدائهم الكافرين‏.‏

قال علي بن أبي طالب‏:‏ أذلة على المؤمنين يعني أهل رقة على أهل دينهم أعزة على الكافرين أهل غلظة على من خالفهم في دينهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تراهم كالولد لوالده والعبد لسيده وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أثنى الله على المؤمنين بأنهم يتواضعون للمؤمنين إذا لقوهم ويعنفون الكافرين إذا لقوهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذل بمعنى الشفقة والرحمة كأنه قال راحمين للؤمنين مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع وإنما أتى بلفظة على حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم لا لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم بل ذلك التذلل لأجل أنهم ضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع ويدل على صحة هذا سياق الآية وهو قوله‏:‏ ‏{‏أعزة على الكافرين‏}‏ يعني أنهم أشداء أقوياء في أنفسهم وعلى أعدائهم ‏{‏يجاهدون في سبيل الله‏}‏ يعني أنهم ينصرون دين الله ‏{‏ولا يخافون لومة لائم‏}‏ يعني لا يخافون عدل عادل فى نصرهم الدين وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم فبين الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصره لدين الله بيده أو بلسانه لومة لائم وهذه صفة المؤمنين المخلصين إيمانهم لله تعالى ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصفهم بمحبة الله ولين جانبهم للمؤمنين وشدتهم على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم كل ذلك من فضل الله تعالى تفضل بهم عليهم ومن إحسانه إليهم ‏{‏والله واسع عليم‏}‏ يعني أنه تعالى واسع الفضل عليم بمن يستحقه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية فى عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال‏:‏ أوالي الله ورسوله والمؤمنين يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله‏:‏ نزلت فى عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقرأ‏:‏ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن سلام‏:‏ رضينا بالله ربّاً وبرسوله نبياً وبالمؤمنين أولياء‏.‏

وقيل‏:‏ الآية عامة في حق جميع المؤمنين لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فعلى هذا يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏}‏ صفة لكل مؤمن ويكون المراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين لأن المنافقين كانوا يدعون أنهم مؤمنون إلا أنهم لم يكونوا يداومون على فعل الصلاة والزكاة فوصف الله تعالى المؤمنين بأنهم يقيمون الصلاة يعني بتمام ركوعها وسجودها فى مواقيتها ويؤتون الزكاة يعني ويؤدون الزكاة يعني ويؤدون زكاة أموالهم إذا وجبت عليهم‏.‏

أما قوله تعالى وهم راكعون فعلى هذا التفسير فيه وجوه‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد من الركوع هنا الخضوع والمعنى أن المؤمنين يصلون ويزكون وهم منقادون خاضعون لأوامر الله ونواهيه‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن يكون المراد منه أن من شأنهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإنما خص الركوع بالذكر تشريفاً له‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ قيل إن هذه الآية نزلت وهم ركوع‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في شخص معين وهو علي بن أبي طالب‏.‏ قال السدي‏:‏ مر بعلي سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، فعلى هذا قال العلماء‏:‏ العمل القليل في الصلاة لا يفسدها والقول بالعموم أولى وإن كان قد وافق وقت نزولها صدقة علي بن أبي طالب وهو راكع‏.‏ ويدل على ذلك ما روي عن عبد الملك بن سليمان قال‏:‏ سألت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عن هذه الآية ‏{‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ من هم‏؟‏ فقال‏:‏ المؤمنون، فقلت‏:‏ إن ناساً يقولون هو علي، فقال‏:‏ علي من الذين آمنوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا‏}‏ يعني ومن يتول القيام بطاعة الله ونصر رسوله والمؤمنين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد المهاجرين والأنصار ومن يأتي بعدهم ‏{‏فإن حزب الله‏}‏ يعني أنصار دين الله ‏{‏هم الغالبون‏}‏ لأن الله ناصرهم على عدوهم والحزب في اللغة أصحاب الرجل الذين يكونون معه على رأيه وهم القوم الذين يجتمعون لأمر حزبه يعني أهمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ومعنى‏:‏ اتخذوا دينكم هزواً ولعباً هو إظهارهم الإسلام بألسنتهم قولاً وهم على ذلك يبطنون الكفر ويسرونه ‏{‏من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ يعني اليهود ‏{‏والكفار‏}‏ يعني عبدة الأصنام وإنما فصل بين أهل الكتاب والكفار وإن كان أهل الكتاب من الكفر لأن كفر المشركين من عبدة الأصنام أغلظ وأفحش من كفر أهل الكتاب ‏{‏أولياء‏}‏ يعني لا تتخذوهم أولياء والمعنى أن أهل الكتاب والكفار اتخذوا دينكم يا معشر المؤمنين هزواً وسخرية فلا تتخذوهم أنتم أولياء وأنصاراً ‏{‏واتقوا الله إن كنتم مؤمنين‏}‏ يعني مؤمنين حقاً لأن المؤمن يأبى موالاة أعداء الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً‏}‏ قال الكلبي‏:‏ كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود‏:‏ قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ويضحكون على طريق الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل من النصارى كان بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يقول حرق الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فطارت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا حسدوا المسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم يسمع بمثله فيما مضى من الأمم قبلك فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء فمن أين لك صياح كصياح العير فما أقبح هذا الصوت وما أسمج هذا الأمر‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله‏}‏ الآية وأنزل ‏{‏وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً‏}‏ ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ يعني أن هزؤهم ولعبهم من أفعال السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى الذي اتخذوا دينك هزواً ولعباً ‏{‏هل تنقمون منا‏}‏ وهذا على سبيل التعجب من فعل أهل الكتاب والمعنى هل تجدون علينا في الدين إلا الإيمان بالله وبما أنزل إلينا وبما أنزل على جميع الأنبياء من قبل وهذا ليس مما ينكر أو ينقم منه وهذا كما قال بعضهم‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهنَّ فلول من قراع الكتائب

يعني أنه ليس فيهم عيب إلا ذلك وهذا ليس بعيب بل هو مدح عظيم لهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وعازوراء وزيد وخالد وأزار بن أبي أزار وأشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال‏:‏ أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط- إلى قوله- ونحن له مسلمون الآية فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا‏:‏ والله لا نؤمن بمن آمن به، فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم قالوا والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله هذه الآية ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزلنا إلينا وما أنزل من قبل‏}‏ وهذا هو ديننا الحق وطريقنا المستقيم فلم تنقمونه علينا ‏{‏وأن أكثركم فاسقون‏}‏ يعني أنما كرهتم إيماننا ونقمتموه علينا مع علمكم بأننا على الحق بسبب فسقكم وإقامتكم على الدين الباطل لحب الرياسة وأخذ الأموال بالباطل وإنما قال أكثركم لأن الله يعلم أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وبرسوله‏.‏ قوله عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قل هل أنبئكم بشرٍّ من ذلك‏}‏ هذا جواب لليهود لما قالوا ما نعرف ديناً شراً من دينكم‏.‏ والمعنى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة هل أخبركم بشر من ذلك الذي ذكرتم ونقمتم علينا من إيماننا بالله وبما أنزل علينا ‏{‏مثوبة عند الله‏}‏ يعني جزاء‏.‏

فإن قلت‏:‏ المثوبة مختصة بالإحسان لأنها في معنى الثواب، فكيف جاءت في الإساءة‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع‏.‏

فإن قلت‏:‏ هذا يقتضي أن الموصفين بذلك الدين محكوم عليهم بالشر لأنه تعالى قال بشر من ذلك ومعلوم أن الأمر ليس كذلك فما جوابه‏؟‏‏.‏ قلت‏:‏ جوابه أن الكلام خرج على حسب قولهم واعتقادهم، فإن اليهود حكموا بأن اعتقاد ذلك الدين شر فقال لهم‏:‏ هب أن الأمر كذلك لكن من لعنه الله وغضب عليه ومسخ صورته شر من ذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من لعنه الله‏}‏ معناه هل أنبئكم بمن لعنه الله أو هو من لعنه الله ومعنى لعنه الله‏:‏ أبعده وطرده عن رحمته ‏{‏وغضب عليه‏}‏ يعني وانتقم منه لأن الغضب إرادة الانتقام من العصاة ‏{‏وجعل منهم القردة والخنازير‏}‏ يعني من اليهود من لعنه الله وغضب عليه ومنهم من جعلهم قردة وخنازير قال ابن عباس‏:‏ إن الممسوخين كلاهما أصحاب السبت فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير‏.‏

وقيل إن مسخ القردة كان من أصحاب السبت من اليهود ومسخ الخنازير كان في الدين كفروا بعد نزول المائدة في زمن عيسى عليه السلام ولما نزلت هذه الآية عيَّر المسلمون اليهود وقالوا لهم‏:‏ يا إخوان القردة والخنازير وافتضحوا بذلك ‏{‏وعبد الطاغوت‏}‏ يعني‏:‏ وجعل منهم عبد الطاغوت، يعني من أطاع الشيطان فيما سول له والطاغوت هو الشيطان‏.‏ وقيل‏:‏ هو العجل‏.‏ وقيل‏:‏ هو الكهان والأحبار‏.‏ وجملته أن كل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده وهو الطاغوت ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الملعونين والمغضوب عليهم والممسوخين ‏{‏شرّ مكاناً‏}‏ يعني من غيرهم ونسب الشر إلى المكان والمراد به أهله فهو من باب الكناية وقيل‏:‏ أراد أن مكانهم سقر ولا مكان أشد شراً منه ‏{‏وأضل عن سواء السبيل‏}‏ يعني وأخطأ عن قصد طريق الحق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا جاؤوكم قالوا آمنا‏}‏ قال قتادة‏:‏ نزلت في أناس من اليهود دخلواعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به وهم متمسكون بضلالتهم وكفرهم فكان هؤلاء يظهرون الإيمان وهم في ذلك منافقون، فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بحالهم وشأنهم ‏{‏وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به‏}‏ يعني‏:‏ إنهم دخلوا كافرين وخرجوا كما دخلوا كافرين لم يتعلق بقلوبهم شيء من الإيمان فهم كافرون في حالتي الدخول والخروج ‏{‏والله أعلم بما كانوا يكتمون‏}‏ يعني من الكفر الذي في قلوبهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وترى كثيراً منهم‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وترى يا محمد كثيراً من اليهود وكلمة «من» يحتمل أن تكون للتبعيض‏.‏ ولعل هذه الأفعال المذكورة في هذه الآية ما كان يفعلها كل اليهود فلذا قال تعالى‏:‏ وترى كثيراً منهم ‏{‏يسارعون‏}‏‏.‏ المسارعة في الشيء‏:‏ المبادرة إليه بسرعة لكن لفظة المسارعة إنما تستعمل في الخير‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ يسارعون في الخيرات وضدها العجلة، وتقال في الشر في الأغلب وإنما ذكرت لفظة في قوله يسارعون ‏{‏في الإثم والعدوان وأكلهم السحت‏}‏ الفائدة وهي أنهم كانوا يقدمون على هذه المنكرات كأنهم محقون فيها‏.‏ والإثم اسم جامع لجميع المعاصي والمنهيات فيدخل تحته العدوان وأكل السحت، فلهذا ذكر الله العدوان وأكل السحت بعد الإثم والمعاصي وقيل الإثم ما كتموه من التوراة والعدوان وما زادو فيها والسحت هو الرشا وما يأكلونه من غير وجهه ‏{‏لبئس ما كانوا يعملون‏}‏ يعني لبئس العمل كان هؤلاء اليهود يعملون وهو مسارعتهم إلى الإِثم والعدوان وأكلهم السحت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لولا‏}‏ يعني هلا وهي هنا بمعنى التحضيض والتوبيخ ‏{‏ينهاهم الربانيون والأحبار‏}‏ قال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره كلهم من اليهود لأنه متصل بذكرهم ‏{‏عن قولهم الإثم‏}‏ يعني الكذب ‏{‏وأكلهم السحت‏}‏ والمعنى هلا نهى الأحبار والرهبان، اليهود عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ‏{‏لبئس ما كانوا يصنعون‏}‏ يعني الأحبار والرهبان إذا لم ينهوا غيرهم عن المعاصي‏.‏ وهذا يدل على أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه لأن الله تعالى ذمّ الفريقين في هذه الآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما في القرآن أشد توبيخاً من هذه الآية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ما في القرآن آية أخوف عندي منها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود يد الله مغلولة‏}‏ نزلت هذه الآية في فنحاص اليهودي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله قد بسط على اليهود حتى كانوا أكثر الناس أموالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله ومحمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف عنهم ما بسط عليهم من السعة‏.‏

فعند ذلك قال فنحاص‏:‏ يد الله مغلولة يعني محبوسة مقبوضة عن الرزق والبذل والعطاء‏.‏ فنسبوا الله تعالى إلى البخل والقبض تعالى الله عن قولهم علوَّاً كبيراً، ولما قال هذه المقالة الخبيثة فنحاص ولم ينهه بقية اليهود ورضوا بقوله، لا جرم لأن الله تعالى أشركهم معه في هذه المقالة فقال تعالى إخباراً عنهم‏:‏ وقالت اليهود يد الله مغلولة‏.‏ يعني نعمته مقبوضة عنا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بقدر ما يبر به قسمه وذلك قدر ما عبد آباؤنا العجل‏.‏

والقول الأول أصح، لقوله تعالى‏:‏ ينفق كيف يشاء‏.‏ واعلم أن غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود بدليل قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}‏ والسبب أن اليد آلة لكل الأعمال لا سيما لدفع المال وإنفاقه وإمساكه فأطلقوا اسم السبب على المسبب وأسندوا الجود والبخل إلى اليد مجازاً فقيل للجواد الكريم فياض اليد ومبسوط اليد وقيل للبخيل مقبوض اليد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا‏}‏ يعني‏:‏ أمسكت أيديهم عن كل خير وطردوا عن رحمة الله‏.‏

قال الزجاج‏:‏ رد الله عليهم فقال‏:‏ أنا الجواد الكريم وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسوكة‏.‏ وقيل‏:‏ هذا دعاء على اليهود علمنا الله كيف ندعو عليهم‏؟‏ فقال‏:‏ غلت أيديهم أي في نار جهنم‏.‏ فعلى هذا هو من الغل حقيقة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم وطرحوا في النار جزاء لهم على هذا القول ومعنى لعنوا بما قالوا عذبوا سبب ما قالوا فمن لعنتهم أنهم مسخوا في الدنيا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة والجزية وفي الآخرة لهم عذاب النار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ يعني أنه تعالى جواد كريم ينفق كيف يشاء وهذا جواب لليهود ورد عليهم ما افتروه واختلقوه على الله تعالى عن قولهم علواً كبيراً وإنما أجيبوا بهذا الجواب على قدر كلامهم‏.‏

وأما الكلام في اليد فقد اختلف العلماء في معناها على قولين‏:‏ أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وعلماء أهل السنة وبعض المتكلمين أن يد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه فيجب علينا الإيمان بها والتسليم ونمرها كما جاءت في الكتاب والسنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تعطيل قال الله تعالى ‏{‏لما خلقت بيدي‏}‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين»

والقول الثاني‏:‏ قول جمهور المتكلمين وأهل التأويل، فإنهم قالوا اليد تذكر في اللغة على وجوه، أحدها‏:‏ الجارحة وهي معلومة‏.‏ وثانيهما‏:‏ النعمة‏.‏ يقال‏:‏ لفلان عندي يد أشكره عليها‏.‏ وثالثها‏:‏ القدرة قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أولي الأيدي والأبصار‏}‏ فسروه بذوي القوى والعقول لا يدلك بهذا الأمر والمعنى سلب كمال القدرة‏.‏ ورابعها‏:‏ الملك يقال هذه الضيعة في يد فلان أي في ملكه ومنه قوله تعالى ‏{‏الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ أي يملك ذلك، أما الجارحة فمنتفية في صفة الله عز وجل لأن العقل دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض تعالى الله عن الجسمية والكيفية والتشبيه علواً كبيراً فامتنع بذلك أن تكون يد الله بمعنى الجارحة وأما سائر المعاني، التي فسرت اليد بها فحاصلة، لأن أكثر العلماء من المتكلمين زعموا أن اليد في حق الله عبارة عن القدرة وعن الملك وعن النعمة وها هنا إشكالان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن اليد إذا فسرت بمعنى القدرة فقدرة الله واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين في قوله تعالى بل يداه مبسوطتان وأجيب عن هذا الإشكال بأن اليهود لما جعلوا قولهم ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ كناية عن البخل أجيبوا على وفق كلامهم فقال‏:‏ بل يداه مبسوطتان‏.‏ أي ليس الأمر على ما وصفتموه من البخل بل هو جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه فقد أعطى عل أكمل الوجوه‏.‏

الإشكال الثاني‏:‏ أن اليد إذا فسرت بالنعمة فنص القرآن ناطق بتثنية اليد ونعم الله غير محصورة ولا معدودة ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ وأجيب عن هذا الإشكال بأن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها مثل‏:‏ نعمة الدنيا ونعمة الدين ونعمة الظاهر ونعمة الباطن ونعمة النفع ونعمة الدفع‏.‏ فالمراد بالتثنية، المبالغة في وصف النعمة‏.‏ أجاب أصحاب القول عن هذا بأن قالوا‏:‏ إن الله تعالى أخبر عن آدم أنه خلقه بيديه ولو كان معنى خلقه لآدم بقدرته أو بنعمته أو بملكه لم يكن لخصوصية آدم بذلك وجه مفهوم لأن جميع خلقه مخلوقون بقدرته وجميعهم في ملكه ومتقلبون في نعمه فلما خص الله آدم عليه السلام بقوله تعالى لما خلقت بيدي دون خلقه علم بذلك اختصاصه وتشريفه على غيره‏.‏ ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن أبي الحسن الأشعري قولاً‏:‏ أن اليد صفة قائمة بذات الله وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه على سبيل الكرامة لآدم واصطفائه له فلو كانت اليد عبارة عن القدرة امتنع كون آدم مصطفى بذلك لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات فلا بد من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء هذا آخر كلامه‏.‏

وأجيب عن قولهم‏:‏ إن التثنية بحسب الجنس ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع كثيرة بأن الاسم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجمع ولا يؤدي عن الجنس أيضاً قالوا وخطأ في كلام العرب أن يقال ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم لأن الدرهم إذا ثني لا يؤدي في كلام العرب إلا عن اثنين بأعيانهما ولكن الواحد يؤدي عن جنسه، كما تقول العرب‏:‏ ما أكثر الدرهم في أيدي الناس‏.‏ بمعنى ما أكثر الدراهم في أيديهم، لأن الواحد يؤدي عن الجمع فثبت بهذا البيان قول من قال‏:‏ إن اليد صفة لله تعالى تليق بجلاله وإنها ليست بجارحة، كما نقول‏:‏ المجسمة تعالى الله عن قولهم علّواً كبيراً ‏{‏ينفق كيف يشاء‏}‏ يعني أنه تعالى يرزق كما يريد ويختار فيوسع على من يشاء ويقتّر على من يشاء لا اعتراض عليه في ملكه ولا فيما يفعله ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله تبارك وتعالى لما أنفق عليك وقال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما بيده وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يرفع ويخفص وهذا الحديث أيضاً أحد أحاديث الصفات فيجب الإيمان به وإمراره كما جاء من غير تشبيه ولا تكييف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً‏}‏ يعني كلما نزلت عليك آية من القرآن كفروا بها فازدادوا شدة في كفرهم وطغياناً مع طغيانهم والمراد بالكثير علماء اليهود وقيل إقامتهم على كفرهم زيادة منهم فيه ‏{‏وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‏}‏ يعني‏:‏ ألقينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى‏.‏ وقيل‏:‏ ألقى ذلك بين طوائف اليهود، فجعلهم مختلفين في دينهم متعادين متباغضين إلى يوم القيامة، فإن بعض اليهود جبرية، وبعضهم قدرية، وبعضهم مشبهة وكذلك النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والمارونية‏.‏

فإن قلت، فهذا المعنى أيضاً حاصل بين فرق المسلمين فكيف يكون ذلك عيباً على اليهود والنصارى حتى يذموا به‏.‏ قلت‏:‏ هذه البدع التي حصلت في المسلمين إنما حدثت بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين‏.‏

أما في الصدر الأول، فلم يكن شيء من ذلك حاصلاً بينهم فحسن جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله‏}‏ يعني كلما أفسد اليهود وخالفوا حكم الله يبعث الله عليهم من يهلكهم‏.‏

أفسدوا فبعث الله عليهم بختنصر البابلي ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس وهم الفرس ثم أفسدوا‏.‏ وقالوا‏:‏ يد الله مغلولة فبعث الله المسلمين فلا تزال اليهود في ذلة أبداً وقال مجاهد‏:‏ معنى الآية كلما مكروا في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأه الله تعالى وقال السدي‏:‏ كلما أجمعوا أمرهم على شيء ليفسدوا به أمر محمد صلى الله عليه وسلم فرَّقه الله تعالى وكلما أوقدوا ناراً في حرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله وأخمد نارهم وقذف في قلوبهم الرعب وقهرهم ونصر نبيه ودينه ‏{‏ويسعون في الأرض فساداً‏}‏ يعني ويجتهدون في دفع الإسلام ومحو ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من كتبهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم يسعون بالمكر والكيد والحيل وليس يقدرون على غير ذلك ‏{‏والله لا يحب المفسدين‏}‏ يعني أن الله لا يحب من كانت هذه صفته‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا نلقى اليهود ببلدة إلا وجدتهم من أذل الناس فيها وهم أبغض خلق الله إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أن أهل الكتاب آمنوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه فيما جاء به ‏{‏واتقوا‏}‏ يعني اليهودية والنصرانية ‏{‏لكفرنا عنهم سيئاتهم‏}‏ يعني‏:‏ لمحونا عنهم ذنوبهم التي عملوها قبل الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله ‏{‏ولأدخلناهم جنات النعيم‏}‏ يعني مع المسلمين يوم القيامة ‏{‏ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل‏}‏ يعني أقاموا أحكامهما بحدودهما وعملوا بما فيهما من الوفاء بالعهود والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لأن نعته وصفته موجودان فيهما‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل مع أنهما نُسخا وبدلا‏.‏ قلت‏:‏ إنما أمرهم الله تعالى بإقامة ما فيهما من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباع شريعته وهذا غير منسوخ لأنه موافق لما في القرآن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنزل إليهم من ربهم‏}‏ فيه قولان أحدهما أن المراد به كتب أنبيائهم القديمة مثل كتاب شعياء وكتاب أرمياء وزبور داود وفي هذا الكتب أيضاً ذكر محمد صلى الله عليه وسلم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن المراد بما أنزل من ربهم هو القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ يعني أن اليهود لما أصروا على تكذيب محمد وثبتوا على كفرهم ويهوديتهم أصابهم الله بالقحط والشدة حتى بلغوا إلى حيث قالوا ‏{‏يد الله مغلولة‏}‏ فأخبر الله أنهم لو تركوا اليهودية والكفر الذي هم عليه لانقلبت تلك الشدة بالخصب والسعة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه لأنزلت عليهم المطر وأخرجت لهم النبات والمراد من ذلك توسعة الرزق عليهم ‏{‏منهم أمة مقتصدة‏}‏ أي عادلة‏.‏ والاقتصاد‏:‏ الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير‏.‏ أصله من القصد، لأن من عرف مقصوداً طلبه من غير اعوجاج عنه‏.‏ والمراد بالأمة المقتصدة‏:‏ من آمن من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه والنجاشي وأصحابه الذين أسلموا ‏{‏وكثير منهم‏}‏ يعني من أهل الكتاب الذين أقاموا على كفرهم مثل كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود ‏{‏ساء ما يعملون‏}‏ يعني بئس ما يعملون من إقامتهم على كفرهم قال ابن عباس‏:‏ عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ الآية روي عن الحسن أن الله تعالى لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاق ذرعاً وعرف أن من الناس من يكذبه، فأنزل هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عيب اليهود وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام فقالوا‏:‏ أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون‏:‏ تريد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى حناناً، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منهم، سكت، فأنزل الله هذه الآية وأمره بأن يقول لهم‏:‏

‏{‏يا أهل الكتاب لستم على شيء‏}‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية في أمر الجهاد وذلك أن المنافقين كرهوا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم له فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في قصة الرجم والقصاص وما سأل عنه اليهود ومعنى الآية يا أيها الرسول بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك مجاهراً به ولا تراقبن أحداً ولا نترك شيئاً مما أنزل إليك من ربك وإن أخفيت شيئاً من ذلك في وقت من الأوقات فلما بلغت رسالته وهو قوله تعالى ‏{‏وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏ وقرئ رسالاته قال ابن عباس‏:‏ يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالتي يعني أنه صلى الله عليه وسلم لو ترك إبلاغ البعض كان كمن لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله إليه وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئاً مما أوحي إليه‏.‏ روى مسروق عن عائشة قالت من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل إليه فقد كذب‏؟‏ ثم قرأت ‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏ أخرجاه في الصحيحين بزيادة فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ يعني يحفظك يا محمد ويمنعك منهم والمراد بالناس هنا الكفار فإن قلت أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته يوم أحد وقد أوذي بضروب من الأذى فكيف يجمع بين ذلك وبين قوله والله يعصمك من الناس‏.‏

قلت‏:‏ المراد منه أنه يعصمه من القتل فلا يقدر عليه أحد أراده بالقتل ويدل على صحة ذلك ما روي عن جابر أنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال‏:‏ «إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً‏.‏ فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ فقلت‏:‏ الله ثلاثاً ولم يعاقبه وجلس»‏.‏

وفي رواية أخرى «قال جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني‏؟‏‏.‏ فقال‏:‏ لا‏.‏ فقال من يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ الله فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم»

أخرجاه في الصحيحين وزاد البخاري في رواية له‏:‏ أن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ «سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال‏:‏ ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة قال‏:‏ فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة السلاح فقال من هذا‏؟‏ قال سعد بن أبي وقاص‏:‏ فقال له رسول الله ما جاء بك‏؟‏ فقال‏:‏ وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام» وعن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلاً حتى نزلت ‏{‏والله يعصمك من الناس‏}‏ فأخرج رسول الله من القبة فقال لهم أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث غريب‏.‏ وقيل في الجواب عن هذا‏:‏ إن هذه الآية نزلت بعد ما شج رأسه في يوم أحد لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً وقوله ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الكافرين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه لا يرشد من كذبك وأعرض عنك‏.‏ وقال ابن جرير الطبري‏:‏ معناه إن الله لا يوفق للرشد من حاد عن سبيل الحق وجار عن قصد السبيل وجحد ما جئت به من عند الله ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لستم على شيء‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين الحق المرتضى عند الله ولستم على شيء مما تدعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى عليه السلام يا معشر اليهود ولا مما جاءكم به عيسى يا معشر النصارى فإنكم أحدثتم وغيرّتم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف وراتع بن حرملة‏.‏ قالوا يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم» بلى‏:‏ ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيه ما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فأنا برئ من إحداثكم «قالوا‏:‏ فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ولا نؤمن لك ولا نتبعك‏.‏