فصل: تفسير الآية رقم (76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فلما آتاهم من فضله بخلوا به‏}‏ يعني فلما رزقهم الله لم يفعلوا من أعمال البر شيئاً ‏{‏وتولوا‏}‏ يعني عما عاهدوا الله عليه ‏{‏وهم معرضون‏}‏ يعني عن العهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 79‏]‏

‏{‏فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ‏(‏77‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏78‏)‏ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم‏}‏ يعني فأعقبهم الله نفاقاً بأن صيرهم منافقين يقال أعقبت فلاناً ندامة إذا صارت عاقبة أمره إلى ذلك وقيل معناه أنه سبحانه وتعالى عاقبهم بنفاق قلوبهم ‏{‏إلى يوم يلقونه‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى حرمهم التوبة إلى يوم القيامة فيوافونه على النفاق فيجازيهم عليه ‏{‏بما أخلفوا الله ما وعدوه‏}‏ يعني الصدقة والإنفاق في سبيله ‏{‏وبما كانوا يكذبون‏}‏ يعني في قولهم لنصدقن ولنكونن من الصالحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا ائتمن خان» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة وفي رواية خصلة منهن كان فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» قال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال قد توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق مخلد في النار فإن أخوة يوسف عليه السلام جمعوا هذه الخصال وكذا قد يوجد لبعض السلف ولبعض العلماء بعض هذه أو كله‏.‏ قال الشيخ‏:‏ هذا ليس بحمد الله إشكالاً ولكن اختلف العلماء في معناه فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في هذه الخصال ويتخلق بأخلاقهم فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه وهذا موجود في صاحب هذه الخصال فيكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار وقوله صلى الله عليه وسلم كان منافقاً خالصاً معناه كان شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال قال بعض العلماء وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من ندر ذلك منه فليس ذلك حاصلاً فيه هذا هو المختار في معنى الحديث‏.‏

وقال جماعة من العلماء‏:‏ المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا وائتمنوا على دينهم فخافوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ورجع إليه الحسن البصري بعد أن كان على خلافه، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر وروياه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القاضي عياض‏:‏ وإليه مال أكثر أئتمنا‏.‏

وحكى الخطابي قولاً آخر‏:‏ إن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال وحكى أيضاً عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقولا فلان منافق وإنما يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بال أقوام يفعلون كذا» والله أعلم‏.‏ وقال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا‏}‏ يعني هؤلاء المنافقين ‏{‏أن الله يعلم سرهم‏}‏ يعني ما تنطوي عليه صدورهم من النفاق ‏{‏ونجواهم‏}‏ يعني ويعلم ما يفاوض به بعضهم بعضاً فيما بينهم والنجوى هو الخفي من الكلام يكون بين القوم والمعنى أنهم يعلمون أن الله يعلم جميع أحوالهم لا يخفى عليه شيء منها ‏{‏وأن الله علام الغيوب‏}‏ وهذا مبالغاً في العلم يعني أن الله عالم بجميع الأشياء فكيف تخفى عليه أحوالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات‏}‏ الآية ‏(‏ق‏)‏ عن أبي مسعود البدري قال‏:‏ لما نزلت آية الصدقة كنا نحمل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا مراء وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صاع هذا فنزلت ‏{‏الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ الآية وقال ابن عباس وغيره من المفسرين‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال‏:‏ يا رسول الله مالي ثمانية آلاف درهم جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت» فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى أنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمان ماله لهما مائة وستين ألف درهم وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال‏:‏ يا رسول الله بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر فأمسكت أحدهما لعيالي وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثرة في الصدقات فلمزهم المنافقون‏.‏ فقالوا‏:‏ ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله ورسوله لغنيان عن صاع أبي عقيل ولكن أحب أن يذكر نفسه ليعطي من الصدقة فأنزل الله سبحانه وتعالى الذين يلمزون يعيبون المطوعين يعني المتبرعين من المؤمنين يعني عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي في الصدقات والتطوع التنفل بما ليس بمواجب عليه ‏{‏والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏ يعني أبا عقيل الأنصاري والجهد بالضم الطاقة وهي لغة أهل الحجاز وبالفتح لغيرهم وقيل‏:‏ الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة وقد يكون القليل من المال الذي يأتي به فيتصدق به أكثر موقعاً عند الله تعالى من الكثير الذي يأتي به فيتصدق به لأن الغني أخرج ذلك المال الكثير عن قدرة وهذا الفقير أخرج القليل إنما أخرجه عن ضعف وجهد وقد يؤثر المحتاج إلى المال غيره رجاء ما عند الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ‏{‏فيسخرون منهم‏}‏ يعني أن المنافقين كانوا يستهزئون بالمؤمنين في إنفاقهم المال في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو قولهم لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنياً وكان يعيرون الفقير الذي يتصدق بالقليل ويقولون‏:‏ إنه لفقير محتاج إليه فكان يتصدق به وجوابهم إن كل من يرجو ما عند الله من الخير والثواب يبذل الموجود لينال ذلك الثواب الموعود به وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏سخر الله منهم‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى جازاهم على سخريتهم ثم وصف ذلك وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ يعني في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 82‏]‏

‏{‏اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏80‏)‏ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ‏(‏81‏)‏ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما نزلت الآيات المتقدمة في المنافقين وبان نفاقهم وظهر للمؤمنين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ويقولون استغفر لنا فنزلت استغفر لهم أو لا تستغفر فلن يغفر الله لهم وإنما خص سبحانه وتعالى السبعين من العدد بالذكر لأن العرب كانت تستكثر السبعين ولهذا كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلى على عمه حمزة رضي الله تعالى عنه سبعين تكبيرة ولأن آحاد السبعين سبعة وهو عدد شريف فإن السموات والأرضين سبع والأيام سبع والأقاليم سبع والبحار سبع والنجوم السيارة سبع فلهذا خص الله تبارك وتعالى السبعين بالذكر للمبالغة في اليأس من طمع المغفرة لهم‏.‏ قال الضحاك ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله قد رخص لي فسأزيدن على السبعين لعل الله أن يغفر لهم» فأنزل الله سبحانه وتعالى سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر قال‏:‏ لما توفي عبد الله يعني بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلىلله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليك فقال رسول الله صلىلله عليه وسلم‏:‏ «إنما خيرني الله عز وجل فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين» قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل ولا تصلي على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون زاد في رواية فترك الصلاة عليهم‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ يعني أن هذا الفعل من الله وهو ترك العفو عنهم وترك المغفرة لهم من أجل أنهم اختاروا الكفر على الإيمان بالله ورسوله ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ يعني والله لا يوافق للإيمان به وبرسوله من اختار الكفر والخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله‏}‏ يعني فرح المتخلفون عن غزوة تبوك والمخلف المتروك بمقعدهم يعني بقعودهم في المدينة خلاف رسول الله يعني بعده وعلى هذا المعنى خلاف بمعنى خلف فهو اسم للجهة المعينة لأن الإنسان إذا توجه إلى قدامه فمن تركه خلفه فقد تركه بعده وقيل معنه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى تبوك وأقاموا بالمدينة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد أمرهم بالخروج إلى الجهاد فاختاروا القعود مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله‏}‏ والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الخروج إلى الجهاد وذلك أن الإنسان يميل بطبعه لى إيثار الراحة والقعود مع الأهل والولد ويكره إتلاف النفس والمال وهو قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لا تنفروا في الحر‏}‏ وكانت غزوة تبوك في شدة الحر فأجاب الله عن هذا بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الذين اختاروا الراحة والقعود خلافك عن الجهاد في الحر أن نار جهنم التي هي موعد في الآخرة أشد حراً من حر الدنيا لو كانوا يعلمون‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا معه وذلك في الصيف‏.‏ فقال رجال‏:‏ يا رسول الله الحر شديد ولا نستطيع الخروج فلا تنفر في الحر فقال الله عز وجل قل نار جهنم أشد حراً لوكانوا يفقهون فأمره الله تعالى بالخروج ‏{‏فليضحكوا قليلاً‏}‏ يعني فليضحك هؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحين قليلاً في الدنيا الفانية بمقعدهم خلافه ‏{‏وليبكوا كثيراً‏}‏ يعني مكان ضحكهم في الدنيا وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلا أن معناه الإخبار والمعنى‏:‏ إنهم وإن فرحوا وضحكوا طول أعمارهم في الدنيا فهو قليل بالنسبة إلى بكائهم في الآخرة لأن الدنيا فانية والآخرة باقية والمنقطع الفاني بالنسبة إلى الدائم الباقي قليل ‏{‏جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ يعني أن ذلك البكاء في الآخرة جزاء لهم على ضحكهم وأعمالهم الخبيثة في الدنيا ‏(‏خ‏)‏‏.‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً»

وروى البغوي بسنده عن أنس بن مالك قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا فإن أهل النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون فلو أن سفناً أجريت فيها لجرت»

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 85‏]‏

‏{‏فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ ‏(‏83‏)‏ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏84‏)‏ وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإن رجعك الله‏}‏ يعني فإن ردك الله يا محمد من غزاتك هذه ‏{‏إلى طائفة منهم‏}‏ يعني إلى المتخلفين عنك وإنما قال منهم لأنه ليس كل من تخلف بالمدينة عن غزوة تبوك كان منافقاً مثل أصحاب الأعذار ‏{‏فاستأذنوك للخروج‏}‏ يعني فاستأذنك المنافقون الذين تخلفوا عنك وتحقق نفاقهم في الخروج معك إلى غزوة أخرى ‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبداً‏}‏ يعني فقل يا محمد لهؤلاء الذين طلبوا الخروج وهم مقيمون على نفاقهم لن تخرجوا معي أبداً لا إلى غزوة ولا إلى سفر ‏{‏ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم‏}‏ يعني لأنكم ‏{‏رضيتم بالقعود أول مرة‏}‏ يعني أنكم رضيتم بالتخلف عن غزوة تبوك ‏{‏فاقعدوا مع الخالفين‏}‏ يعني‏:‏ مع المتخلفين من النساء والصبيان‏.‏ وقيل‏:‏ مع المرضى والزمنى‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ مع الذين تخلفوا بغير عذر‏.‏ وقيل‏:‏ مع المخالفين يقال صاحب خالف إذا كان مخالفاً كثير الخلاف وفي الآية دليل على أن الرجل إذا ظهر منه مكروه وخداع وبدعة يجب الانقطاع عنه وترك مصاحبته لأن الله سبحانه وتعالى منع المنافقين من الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد وهو مشعر بإظهار نفاقهم وذمهم وطردهم وإبعادهم لما علم من مكرهم وخداعهم إذا خرجوا إلى الغزوات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏}‏ الآية، قال قتادة‏:‏ بعث عبد الله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه قال فنهاه عمر عن ذلك فأتاه نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أهلكك حب اليهود» فقال يا نبي الله إني لم أبعث إليك لتؤنبني ولكن بعثت إليك لتستغفر لي وسأله قميصه أن يكفن فيه فأعطاه إياه واستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات فكفنه في قميصه صلى الله عليه وسلم ونفث في جلده ودلاه في قبره فأنزل الله سبحانه وتعالى ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره الآية ‏(‏خ‏)‏‏.‏

عن عمر بن الخطاب‏:‏ قال لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله علي وسلم ليصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي عليه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت إليه فقلت يا رسول الله أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا كذا وكذا عدد عليه وقوله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال‏:‏

«إني خيرت فاخترت لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إلى قوله وهم فاسقون قال فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ والله ورسوله أعلم‏.‏ وأخرجه الترمذي وزاد فيه فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله تعالى ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما أدخل حفرته فأمر به فاخرج فوضعه على ركبتيه ونفث فيه من ريقه وألبسه قميصه والله أعلم‏.‏ قال‏:‏ وكان كسا عباساً قميصاً قال سفيان وقال أبو هارون‏:‏ وكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصان فقال له ابن عبد الله يا رسول الله ألبس عبد الله قميصك الذي يلي جلدك‏.‏ قال سفيان‏:‏ فيرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع وفي رواية عن جابر قال‏:‏ لما كان يوم بدر أتى بالأسارى وأتى بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي إياه فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه الذي ألبسه‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

قد وقع في هذه الأحاديث التي تتضمن قصة موت عبد الله بن أبي بن سلول المنافق صورة اختلاف في الروايات ففي حديث ابن عمر المتقدم، أنه لما توفي عبد الله بن أبي سلول أتى ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه وصلى عليه وفي حديث عمر بن الخطاب من إفراد البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى له ليصلي عليه‏.‏ وفي حديث جابر‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه بعد ما أدخل حفرته فأمر به فأخرج فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه‏.‏ قميصه ووجه الجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه قميصه فكفن فيه ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه وليس في حديث جابر ذكر الصلاة عليه فالظاهر والله أعلم أنه صلى عليه أولاً كما في حديث عمر وابن عمر ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ثانياً بعد ما أدخل حفرته فأخرجه منها ونزع عنه القميص الذي أعطاه وكفن فيه لينفث عليه من ريقه ثم إنه صلى الله عليه وسلم ألبسه قميصه بيده الكريمة فعل هذا كله بعبد الله بن أبي تطييباً لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابياً مسلماً صالحاً مخلصاً، وأما قول قتادة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاده في مرضه وأنه سأله أن يستغفر له وأن يعطيه قميصه وأن يصلي عليه فأعطاه قميصه واستغفر له وصلى عليه ونفث في جلده ودلاه في حفرته فهذه جمل من القول ظاهرها الترتيب وما المراد بهذا الترتيب إلا توفيقاً بين الأحاديث فيكون قوله‏:‏ ونفث في جلده ودلاه في قبره جملة منقطعة عما قبلها‏.‏

يعني أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بعد ما أعطاه القميص وبعد أن صلى عليه والله أعلم‏.‏ وقال القرطبي في شرح صحيح مسلم له أن عبد الله بن أبي بن سلول كان سيد الخرزج في آخر جاهليتهم فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وانصرف إليه الخزرج وغيرهم حسده وناصبه العداوة غير أن الإسلام غلب عليه فنافق وكان رأساً في المنافقين وأعظمهم نفاقاً وأشدهم كفراً وكان المنافقون كثيراً حتى لقد روى عن ابن عباس أنهم كانوا ثلثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة وكان ولده عبد الله يعني ولد عبد الله بن أبي من فضلاء الصحابة وأصدقهم إسلاماً وأكثرهم عبادة وأشرحهم صدراً وكان أبر الناس بأبيه ومع ذلك فقد قال يوماً للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله إنك لتعلم أني من أبر الناس بأبي وإن أمرتني أن آتيك برأسه فعلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل نعفو عنه وكان من أحرص الناس على إسلام أبيه وعلى أن ينتفع من بركات النبي صلى الله عليه وسلم بشيء ولذلك لما مات أبوه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه لكيفنه فيه فينال من بركاته فأعطاه وسأله أن يصلي عليه فصلى عليه كل ذلك إكراماً لابنه عبد الله وإسعافاً له ولطلبته من قول عمر تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه يحتمل أن يكون قبل نزول ولا تصل على أحد منهم مات أبداً‏.‏ ويظهر من هذا السياق أن عمر وقع في خاطره أن الله نهاه عن الصلاة عليه فيكون هذا من قبيل الإلهام والتحديث الذي شهد له به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ويحتمل أن يكون فهمه من سياق قوله‏:‏ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وهذان التأويلان فيهما بعد‏.‏ قال القرطبي‏:‏ والذي يظهر لي، والله أعلم، أن البخاري ذكر هذا الحديث من رواية ابن عباس وساقة سياقة هي أبين من هذه وليس فيها هذا اللفظ فقال عن ابن عباس عن عمر لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر‏:‏ وثبت إليه الحديث، إلى قوله فصلى عليه ثم انصرف فلم يلبث إلا يسيراً حتى أنزلت عليه الآيتان من براءة‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وهذا مساق حسن وتنزيل متقن ليس فيه شيء من الإشكال المتقدم فهو الأولى وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سأزيد على السبعين» وعد بالزيادة وهو مخالف لما في حديث ابن عباس عن ابن عمر فإنه فيه لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت وهذا تقييد لذلك الوعد المطلق فإن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً ويقيد بعضها بعضاً فلذلك قال لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت فقد علم أنه لا يغفر له‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني خيرت» مشكل مع قوله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية وهذا يفهم منه النهي عن الاستغفار لمن مات كافراً وهو متقدم على الآية التي فيها التخيير والجواب عن هذا الإشكال أن المنهى عنه استغفاره لمن تحقق موته على الكفر والشرك‏.‏ وأما استغفاره لأولئك المنافقين المخير فيهم فهو قد علم صلى الله عليه وسلم أنه لا يقع ولا ينفع وغايته وإن وقع كان تطييباً لقلوب الأحياء من قراباتهم فانفصل الاستغفار المنهى عنه من المخير فيه وارتفع الإشكال بمحمد الله والله أعلم‏.‏

وقال الشيخ محيي الدين النووي‏:‏ إنما أعطاه قميصه ليكفنه فيه تطييباً لقلب ابنه عبد الله فإنه كان صحابياً صالحاً وقد سأل ذلك فأجابه إليه وقيل بل أعطاه مكافأة لعبد الله بن أبي المنافق الميت لأنه ألبس العباس حين أسر يوم بدر قميصاً وفي الحديث بيان مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء له وقابله بالحسنى وألبسه قميصه كفناً وصلى عليه واستغفر له قال الله سبحانه وتعالى وإنك لعلى خلق عظيم وقال البغوي‏:‏ قال سفيان بن عيينة كانت له يد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحب ان يكافئه بها ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم فيما فعل بعبد الله بن أبي فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله والله إني كنت أرجو أن يسلم به ألف من قومه» فيروى أنه أسلم ألف من قومه لما رأوه يتبرك بقميص النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقم على قبره‏}‏ يعني لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم قام فلان بأمر فلان إذا كفاه أمره وناب عنه فيه ‏{‏إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون‏}‏ وهذا تعليل لسبب المنع من الصلاة عليه والقيام على قبرة ولما نزلت هذه الآية ما صلى رسول الله عليه وسلم على منافق ولا قام على قبره وبعدها‏.‏

فإن قلت‏:‏ الفسق أدنى حالاً من الكفر ولما ذكر في تعليل هذا النهي كونه كافراً دخل تحته الفسق وغيره فما الفائدة في وصفه بكونه فاسقاً بعد ما وصفه بالكفر قلت إن الكافر قد يكون عدلاً في نفسه بأن يؤدي الأمانة ولا يضمر لأحد سوءاً وقد يكون خبيثاً في نفسه كثير الكذب والمكر والخداع وإضمار السوء للغير وهذ أمر مستقبح عند كل أحد ولما كان المنافقون بهذه الصفة الخبيثة وصفهم الله سبحانه وتعالى بكونهم فاسقين بعد أن وصفهم بالكفر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون‏}‏ الكلام على هذه الآية في مقامين المقام الأول في وجه التكرار والحكمة فيه أن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل أولاً وتأكيده وإرادة أن يكون المخاطب به على بال ولا يغفل عنه ولا ينساه وأن يعتقد أن العمل به مهم وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه وهو أن أشد الأشياء جذباً للقلوب والخواطر الاشتغال بالأموال والأولاد وما كان كذلك يجب التحذير منه مرة بعد أخرى وبالجملة فالتكرير يراد به التأييد والمبالغة في التحذير من ذلك الشيء الذي وقع الاهتمام به وقيل أيضاً إنما كرر هذا المعنى لأنه أراد بالآية الأولى قوماً من المنافقين كان لهم أموال وأولاد عند نزولها وبالآية الأخرى أقواماً آخرين منهم المقام الثاني في وجه بيان ما حصل من التفاوت في الألفاظ في هاتين الآيتين وذلك أنه قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك بالفاء وقال هنا ولا تعجبك بالواو والفرق بينهما أنه عطف الآية الأولى على قوله ولا ينفقون إلا وهم كارهون وصفهم بكونهم كارهين للإنفاق لشدة المحبة للأموال والأولاد فحسن العطف عليه بالفاء في قوله فلا تعجبك وأما هذه الآية فلا تعلق لها بما قبلها فلهذا أتى بحرف الواو وقال سبحانه وتعالى في الآية الأولى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وأسقط حرف لا هنا قال سبحانه وتعالى وأولادهم والسبب فيه أن حرف لا دخل هناك لزيادة التأكيد فيدل على أنهم كانوا معجبين بكثرة الأموال والأولاد وكان إعجابهم بأولادهم أكثر وفي إسقاط حرف لا هنا دليل على أنه لا تفاوت بين الأمرين قال سبحانه وتعالى في الآية الأولى إنما يريد الله ليعذبهم بحرف اللام وقال سبحانه وتعالى هنا أن يعذبهم بحرف أن والفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف اللام فمعناه أن كقوله سبحانه وتعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله ومعناه وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله وقال تبارك وتعالى في الآية الأولى في الحياة الدنيا وقال تعالى هنا في الدنيا والفائدة في إسقاط لفظة الحياة التنبيه على أن الحياة الدنيا بلغت في الخسة إلى حيث إنها لا تستحق أن تذكر ولا تسمى حياة بل يجب الاقتصار عند ذكرها على لفظ الدنيا تنبيهاً على كمال دنائتها فهذه جمل في ذكر الفرق بين هذه الألفاظ الله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 90‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ‏(‏86‏)‏ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏87‏)‏ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏88‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏89‏)‏ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا أنزلت سورة‏}‏ يحتمل أن يراد بالسورة بعضها لأن إطلاق لفظ الجمع على البعض جائز ويحتمل أن يراد جميع السورة‏.‏ فعلى هذا المراد بالسورة براءة لأنها مشتملة على الأمر بالإيمان والأمر بالجهاد ‏{‏أن‏}‏ أي بأن ‏{‏آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف يأمرهم بالإيمان مع كونهم مؤمنين فهو من باب تحصيل الحاصل قلت‏:‏ معناه الأمر بالدوام على الإيمان والجهاد في المستقبل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأمر بالإيمان يتوجه على كل أحد في كل ساعة‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا الأمر وإن كان ظاهره العموم لكن المراد به الخصوص وهم المنافقون والمعنى أن أخلصوا الإيمان بالله وجاهدوا مع رسوله وإنما قدم الأمر بالإيمان على الأمر بالجهاد لأن الجهاد بغير إيمان لا يفيد أصلاً فكأنه قيل للمنافقين‏:‏ الواجب عليكم أن تؤمنوا بالله أولاً وتجاهدوا مع رسوله ثانياً حتى يفيدكم ذلك الجهاد فائدة يرجع عليكم نفعها في الدنيا والآخرة‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏استأذك أولوا الطول منهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني أهل الغنى وهم أهل القدرة والثروة والسعة من المال وقيل‏:‏ هم رؤساء المنافقين وكبراؤهم وفي تخصيص أولى الطول بالذكر قولان‏:‏ أحدهما أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على أهبة السفر والجهاد‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إنما خص أولي الطول بالذكر لأأن العاجز عن السفر والجهاد لا يحتاج إلى الاستئذان ‏{‏وقالوا‏}‏ يعني أولي الطول ‏{‏ذرنا نكن مع القاعدين‏}‏ يعني في البيوت مع النساء والصبيان وقيل مع المرضى والزمنى ‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ قيل‏:‏ الخوالف النساء اللواتي يتخلفن في البيوت فلا يخرجن منها، والمعنى رضوا بأن يكونوا في تخلفهم عن الجهاد كالنساء وقيل‏:‏ خوالف جمع خالفة وهم أدنياء الناس وسفلتهم يقال فلان خالفة قومه إذا كان دونهم ‏{‏وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون‏}‏ يعني‏:‏ وختم على قلوب هؤلاء المنافقين فهم لا يفقهون مراد الله في الأمر بالجهاد‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم‏}‏ أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم يعني الرسول والمؤمنين ‏{‏وأولئك لهم الخيرات‏}‏ منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة وقيل الحور لقوله فيهن خيرات حسان وهي جمع خيرة تخفيف خيرة ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ أي الفائزون بالمطالب‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم‏}‏ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم‏}‏ يعني وجاء المعتذرون من أعراب البوادي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه في التخلف عن الغزو معه‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معتذرين إليه دفاعاً عن أنفسهم فقالوا يا نبي الله إن نحن غزونا معك تغير أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«قد أنبأني الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم»

وقيل‏:‏ هم نفر من بن غفار رهط خفاف بن إيماء بن رحضة‏.‏ وقيل‏:‏ هم من أسد وغطفان‏.‏ وقال ابن عباس هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجاء المعذرون‏:‏ أي المقصرون‏.‏ يعني‏:‏ أنهم قصروا ولم يبالغوا فيما اعتذروا به والمعذر من يرى أن له عذراً ولا عذر له‏.‏ إن الأصل في هذا اللفظ عند النحاة المعتذرون أدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما والاعتذار في كلام العرب على قسمين يقال اعتذر إذا كذب في عذره ومنه قوله تعالى يعتذرون إليكم فرد الله عليهم بقوله قل لا تعتذروا فدل ذلك على فساد عذرهم وكذبهم فيه ويقال اعتذر إذا أتى بعذر صحيح ومنه قول لبيد‏:‏

ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر *** يعني فقد جاء بعذر صحيح‏.‏ وقيل‏:‏ هو من التعذير الذي هو التقصير‏.‏ يقال‏:‏ عذر تعذيراً إذا قصروا ولم يبالغ فعلى هذا المعنى، يحتمل أنهم كانوا صادقين في اعتذارهم وأنهم كانوا كاذبين ومن المفسيرين من قال‏:‏ إنهم كانوا صادقين، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعده ‏{‏وقعد الذين كذبوا الله ورسوله‏}‏ فلما فصل بينهم وميزهم عن الكاذبين دلَّ ذلك على أنهم ليسوا كاذبين ويروى عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قيل له هذا الكلام، قال‏:‏ إن قوماً تكلفوا عذراً بباطل فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله وجاء المعذورن وتخلف آخرون لا لعذر ولا لشبهة عذر جرأة على الله تعالى فهم المراد بقوله وقعد الذين كذبوا الله ورسوله وهم منافقو الأعراب الذين ما جاؤوا وما اعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله يعني في ادعائهم الإيمان ‏{‏سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم‏}‏ يعني في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار وإنما قال منهم لأنه سبحانه وتعالى علم أن منهم من سيؤمن ويخلص في إيمانه فاستثناهم الله من المنافقين الذي أصروا على الكفر والنفاق وماتوا عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏91‏)‏ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ‏(‏92‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏ليس على الضعفاء‏}‏ لما ذكر الله سبحانه وتعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد واعتذروا بأعذار باطلة عقبه بذكر أصحاب الأعذار الحقيقية الصحيحة وعذرهم وأخبر أن فرض الجهاد عنهم ساقط فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ليس على الضعفاء والضعيف هو الصحيح في بدنه العاجز عن الغزو وتحمل مشاق السفر والجهاد مثل الشيوخ والصبيان والنساء ومن خلق في أصل الخلقة ضعيفاً نحيفاً ويدل على أن هؤلاء الأصناف هم الضعفاء أن الله سبحانه وتعالى عطف عليهم المرضى فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولا على المرضى‏}‏ والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فأما المرضى فيدخل فيهم أهل العمى والعرج والزمانة وكل من كمان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من الجهاد والسفر للغزو ‏{‏ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون‏}‏ يعني الفقراء العاجزين عن أهبة الغزو والجهاد، فلا يجدون الزاد والراحلة والسلاح ومؤنة السفر لأن العاجز عن نفقة الغزو معذور ‏{‏حرج‏}‏ أي ليس على هؤلاء الأصناف الثلاثة حرج أي إثم في التخلف عن الغزو‏.‏ وقال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ ليس في الآية أنه يحرم عليهم الخروج لأن الواحد من هؤلاء لو خرج ليعين المجاهدين بمقدار القدرة إما بحفظ متاعهم أو بتكثير سوادهم بشرط أن لا يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم فإن ذلك طاعة مقبولة ثم إنه تعالى شرط على الضعفاء في جواز التخلف عن الغزو شرطاً معيناً وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إذا نصحوا لله ورسوله‏}‏ ومعناه‏:‏ أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إفشاء الأراجيف وإثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى أهل المجاهدين الذين خرجوا إلى الغزو وقاموا بمصالح بيوتهم وأخلصوا الإيمان والعمل لله وتابعوا الرسول صلى الله عليه وسلم فإن جملة هذه الأمور تجري مجرى النصح لله ورسوله ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ أي ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلفه عن الجهاد بعذر قد أباحه الشارع طريق يتطرق عليه فيعاقب عليه والمعنى أنه سد بإحسانه طريق العقاب عن نفسه ويستنبط من قوله ما على المحسنين من سبيل أن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مخلصاً من قلبه ليس عليه سبيل في نفسه وماله إلا ما أباحه الشرع بدليل منفصل ‏{‏والله غفور‏}‏ يعني لمن تخلف عن الجهاد بعذر ظاهر أباحه الشرع ‏{‏رحيم‏}‏ يعني‏:‏ أنه تعالى رحيم بجميع عباده‏.‏

قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو وأصحابه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت في عبد الله بن أم مكتوم وكان ضرير البصر ولما ذكر الله عز وجل هذه الأقسام الثلاثة من المعذورين أتبعه بذكر قسم رابع وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك‏}‏ يعني ولا حرج ولا إثم في التخلف عنك على الذين إذا ما أتوك ‏{‏لتحملهم‏}‏ يعني يسألونك الحملان ليبلغوا إلى غزو عدوك وعدوهم والجهاد معك يا محمد‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ نزلت في البكائين وكانوا سبعة‏.‏ ونقل الطبري عن محمد بن كعب وغيره قالوا‏:‏ جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه فقال‏:‏ لا أجد ما أحملكم عليه فأنزل الله هذه الآية وهم سبعة نفر من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير ومن بني واقف جرمي بن عمير ومن بني مازن ابن النجار عبد الرحمن بن كعب يكنى أبا ليلى ومن بني المعلى سلمان بن صخر ومن بني حارثة عبد الرحمن بن زيد وهو الذي تصدق بعرضه فقبل الله منه ذلك ومن بني سلمة عمرو بن عنمة وعبد الله بن عمر المزني‏.‏

وقال البغوي‏:‏ هم سبعة نفس سمعوا البكائين معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن مغفل المزني، قال‏:‏ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله إن الله عز وجل قد ندبنا إلى الخروج معك فاحملنا‏.‏ فقال‏:‏ «لا أجد ما أحملكم عليه» وقال مجاهد‏:‏ هم بنو مقرن من مزينة وكانوا ثلاثة إخوة‏.‏ معقل، وسويد، والنعمان بنو مقرن‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في العرباض بن سارية، ويحتمل أنها نزلت في كل ما ذكر‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ سألوه أن يحملهم على الدواب‏.‏ وقيل‏:‏ بل سألوه أن يحملهم على الخفاف المرفوعة والنعال المخصوفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا أجد ما أحملكم عليه»، فولوا وهم يبكون ولذلك سموا البكائين‏.‏ فذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع‏}‏ قال صاحب الكشاف‏:‏ وكقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض جمعها لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض ومن البيان كقولك أفديك من رجل ‏{‏حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون‏}‏ يعني على أنفسهم في الجهاد ‏{‏إنما السبيل‏}‏ لما قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ما على المحسنين من سبيل‏.‏ قال تعالى في حق من يعتذر ولا عذر له إنما السبيل يعني إنما يتوجه الطريق بالعقوبة ‏{‏على الذين يستأذنوك‏}‏ يا محمد في التخلف عنك والجهاد معك ‏{‏وهم أغنياء‏}‏ يعني قادرين على الخروج معك ‏{‏رضوا بأن يكونوا مع الخوالف‏}‏ يعني رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف وهم النساء والصبيان والقعود معهم ‏{‏وطبع الله على قلوبهم‏}‏ يعني ختم عليها ‏{‏فهم لا يعلمون‏}‏ ما في الجهاد من الخير في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فالفوز بالغنيمة والظفر بالعدو وأما في الآخرة فالثواب والنعيم الدائم الذي لا ينقطع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 98‏]‏

‏{‏يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏94‏)‏ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏95‏)‏ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏96‏)‏ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏97‏)‏ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم‏}‏ يعني يعتذر هؤلاء المنافقون المتخلفون عنك يا محمد إليك وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنهم اعتذروا إليه وإلى المؤمنين فلهذا قال تعالى يعتذرون إليكم يعني بالأعذار الباطلة الكاذبة إذا رجعتم إليهم يعني من سفركم ‏{‏قل‏}‏ أي قل لهم يا محمد ‏{‏لا تعتذروا‏}‏ قال البغوي‏:‏ روي أن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين فقال الله تعالى قل لا تعتذروا ‏{‏لن نؤمن لكم‏}‏ يعني لن نصدقكم فيما اعتذرتم به ‏{‏قد نبأنا الله من أخباركم‏}‏ يعني قد أخبرنا الله فيما سلف من أخباركم ‏{‏وسيرى الله عملكم ورسوله‏}‏ يعني في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه وقيل‏:‏ يحتمل أنهم وعدوا بأن ينصروا المؤمنين في المستقبل فلهذا قال وسيرى الله عملكم ورسوله هل تفون بما قلتم أم لا ‏{‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم‏}‏ يعني فيخبركم ‏{‏بما كنتم تعلمون‏}‏ لأنه هو المطلع على ما في ضمائركم في الخيانة والكذب وإخلاف الوعد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم‏}‏ يعني إذا رجعتم من سفركم إليهم يعني إلى المتخلفين بالمدينة من المنافقين ‏{‏لتعرضوا عنهم‏}‏ يعني لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم ولا تؤبخوهم بسبب تخلفهم ‏{‏فأعرضوا عنهم‏}‏ يعني فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق‏.‏ وقيل‏:‏ يريد ترك الكلام يعني لا تكلموهم ولا تجالسوهم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لا تجالسوهم ولا تكلموهم قال أهل المعاني إن هؤلاء المنافقين طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت ثم ذكر العلة في سبب الإعراض عنهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم رجس‏}‏ يعني أن بواطنهم خبيثة نجسة وأعمالهم قبيحة ‏{‏ومأواهم‏}‏ يعني مسكنهم في الآخرة ‏{‏جهنم جزاء بما كانوا يكسبون‏}‏ يعني من الأعمال الخبيثة في الدنيا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في الجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما وكانوا ثمانين رجلاً من المنافقين فقال النبي‏:‏ صلى الله عليه وسلم «لا تجالسوهم ولا تكلموهم» وقال مقاتل‏:‏ نزلت في عبد الله بن أبي حلف للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لا إله إلا هو أنه لا يتخلف عنه بعدها وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فأنزل الله عز وجل هذه الآية والتي بعدها ‏{‏يحلفون لكم لترضوا عنهم‏}‏ يعني‏:‏ يحلف لكم هؤلاء المنافقون لترضوا عنهم ‏{‏فإن ترضوا عنهم‏}‏ يعني فإن رضيتم عنهم أيها المؤمنون بما حلفوا لكم وقبلتم عذرهم ‏{‏فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلوبهم من النفاق والشك فلا يرضى عنهم أبداً‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الأعراب أشد كفراً ونفاقاً‏}‏ نزلت في سكان البادية يعني أن أهل البدو أشد كفراً ونفاقاً من أهل الحضر‏.‏

قال أهل اللغة‏:‏ يقال رجل عربي إذا كان نسبه في العرب وجمعه العرب‏.‏ ورجل أعرابي إذا كان بدوياً يطلب مساقط الغيب والكلأ‏.‏ ويجمع الأعرابي على الأعراب والأعاريب فمن استوطن القرى والمدن العربية فهم عرب ومن نزل البادية فهم الأعراب، فالأعرابي إذا قيل له يا عربي فرح بذلك‏.‏ العربي إذا قيل له‏:‏ يا أعرابي غضب والعرب أفضل من الأعراب، لأن المهاجرين والأنصار وعلماء الدين من العرب‏.‏ والسبب في كون الأعراب أشد كفراً ونفاقاً بُعدهم عن مجالسة العلماء وسماع القرآن والسنن والمواعظ وهو قوله سبحانه وتعالى ‏{‏وأجدر‏}‏ يعني وأخلق وأحرى ‏{‏ألا يعلموا‏}‏ يعني بأن لا يعلموا ‏{‏حدود ما أنزل الله على رسوله‏}‏ يعني الفرائض والسنن والأحكام ‏{‏والله عليم‏}‏ يعني بما في قلوب عباده ‏{‏رحيم‏}‏ فيما فرض من فرائضه وأحكامه ‏{‏ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً‏}‏ يعني لا يرجو على إنفاقه ثواباً ولا يخاف على إمساكه عقاباً إنما ينفق خوفاً أو رياء‏.‏ والمغرم‏:‏ التزام ما لا يلزم‏.‏ والمعنى‏:‏ أن من الأعراب من يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة لأنه لا ينفق ذلك إلا خوفاً من المسلمين أو مرآة لهم ولم يرد بذلك الإنفاق وجه الله وثوابه ‏{‏ويتربص‏}‏ يعني‏:‏ ينتظر ‏{‏بكم الدوائر‏}‏ يعني بالدوائر تقلب الزمان وصروفه التي تأتي مرة بالخير ومرة بالشر‏.‏ قال يمان بن رباب‏:‏ يعني تقلب الزمان فيموت الرسول وتظهر المشركون ‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ يعني‏:‏ بل يتقلب عليهم الزمان ويدور السوء والبلاء والحزن بهم ولا يرون في محمد صلى الله عيله وسلم وأصحابه ودينه ما يسوءهم ‏{‏والله سميع‏}‏ يعني لأقوالهم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بما يخفون في ضمائرهم من النفاق والغش وإرادة السوء للمؤمنين نزلت هذه الآية في أعراب أسد وغطفان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 100‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏99‏)‏ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏

قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ هم بنو مقرن من مزينة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هم أسلم وغفار وجهينة ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أرأيتم إن كان جهينة ومزينة وأسلم وغفار خيراً من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة فقال رجل‏:‏ خابوا وخسروا‏.‏ قال‏:‏ نعم هم خير من بني تميم وبني أسد وبني عبد الله بن غطفان ومن بني عامر بن صعصعة»

وفي رواية «أن الأقرع بن حابس قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنما تابعك سراق الحجيج من أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال وجهينة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أرأيت إن كان أسلم وغفار ومزينة وأحسبه قال‏:‏ وجيهنة خيراً من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان قال خبوا وخسروا قال نعم» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها» زاد مسلم في رواية له‏:‏ «أما إني لم أقلها لكن الله قالها» ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله» وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ويتخذ ما ينفق قربات عند الله‏}‏ جمع قربة أي يطلب بما ينفق القربة إلى الله تعالى‏:‏ ‏{‏وصلوات الرسول‏}‏ يعني ويرغبون في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم صل على آل أبي أوفى» ‏{‏ألا إنها قربة لهم‏}‏ يحتمل أن يعود الضمير في إنها إلى صلوات الرسول ويحتمل أن يعود إلى الإنفاق وكلاهما قربة لهم عند الله وهذه شهادة من الله تعالى للمؤمن المتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات عند الله وصلوات الرسول له مقبولة عند الله لأن الله سبحانه وتعالى أكد ذلك بحرف التنبيه وهو قوله تعالى ألا وبحرف التحقيق وهو قوله تعالى إنها قربة لهم ‏{‏سيدخلهم الله في رحمته‏}‏ وهذه النعمة هي أقصى مرادهم ‏{‏إن الله غفور‏}‏ للمؤمنين المنفقين في سبيله ‏{‏رحيم‏}‏ يعني بهم حيث وفقهم لهذه الطاعة‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار‏}‏ اختلف العلماء في السابقين الأولين فقال سعيد بن المسيب وقتادة وابن سيرين وجماعة‏:‏ هم الذين صلوا إلى القبلتين‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هم أهل بدر‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ هم أهل بيعة الرضوان وكانت بيعة الرضوان بالحديبية‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي هم جميع الصحابة لأنهم حصل لهم السبق بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال حميد بن زياد‏:‏ قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بينهم وأردت الفتن فقال‏:‏ إن الله قد غفر لجميعهم محسنهم ومسيئهم وأوجب لهم الجنة في كتابه فقلت له في أي موضع أوجب لهم الجنة فقال سبحان الله ألا تقرأ والسابقون الأولون إلى آخر الآية فأوجب الله الجنة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زاد فرواية في قوله والذين اتبعوهم بإحسان قال شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أعمالهم الحسنة دون السيئة‏.‏ قال حميد‏:‏ فكأني لم أقرأ هذه الآية قط‏.‏ واختلف العلماء في أول الناس إسلاماً بعد اتفاقهم على أن خديجة أول الخلق إسلاماً وأول من صلى مع رسول الله عليه وسلم فقال بعض العلماء أول من آمن بعد خديجة علي بن أبي طالب وهذا قول جابر بن عبد الله ثم اختلفوا في سنة وقت إسلامه فقيلك كان ابن عشر سنين‏.‏ وقيل‏:‏ أقل من ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ أكثر‏.‏ وقيل‏:‏ كان بالغاً‏.‏ والصحيح، أنه لم يكن بالغاً وقت إسلامه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير‏:‏ أول من أسلم بعد خديجة أبو بكر الصديق وهذا قول ابن عباس والنخعي والشعبي وقال الزهري وعروة بن الزبير‏:‏ أول من أسلم بعد خديجة زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الروايات فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن العبيد زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهم فهؤلاء الأربعة سباق الخلق إلى الإسلام‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أسلم أبو بكر أظهر إسلامه ودعا الناس إلى الله ورسوله وكان رجلاً محبباً سهلاً وكان أنسب قريش لقريش وأعلمها بما كان فيها وكان رجلاً تاجراً وكان ذا خلق حسن ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا على يده وصلوا معه فكان هؤلاء النفر الثمانية أول من سبق الناس إلى الإسلام ثم تتابع الناس بعدهم في الدخول إلى الإسلام وأما السابقون من الأنصار فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وهي العقبة الأولى وكانوا ستة نفر أسعد بن زرارة وعوف بن مالك ورافع بن مالك بن العجلان وقطبة بن عامر وجابر بن عبد الله بن رباب ثم أصحاب العقبة الثانية من العام المقبل وكانوا اثني عشر رجلاً ثم أصحاب العقبة الثالثة وكانوا سبعين رجلاً منهم البراء بن معرور وعبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر وسعد بن عبادة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة فهؤلاء سباق الأنصار ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلمهم القرآن فأسلم على يده خلق كثير من الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة وذلك قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقيل‏:‏ إن المراد بالسابقين الأولين من سبق إلى الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أن الله سبحانه وتعالى ذكر كونهم سابقين ولم يبين بماذا سبقوا فبقي اللفظ مجملاً فلما قال تعالى من المهاجرين والأنصار ووصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً وجب صرف اللفظ المجمل إليه وهو الهجرة والنصرة والذي يدل عليه أيضاً أن الهجرة طاعة عظيمة ومرتبة عالية من حيث إن الهجرة أمر شاق على النفس لمفارقة الوطن والعشيرة وكذلك النصرة فإنها مرتبة عالية ومنقبة شريفة لأنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وآووه وواسوه وآووا أصحابه وواسوهم فلذلك أثنى الله عز وجل عليهم ومدحهم فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتبعوهم بإحسان‏}‏ قيل‏:‏ هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين فعلى هذا القول، يكون الجميع من الصحابة‏.‏ وقيل‏:‏ هم الذين سلكوا سبيل المهاجرين والأنصار في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة وقال عطاء هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار فيترحمون عليهم ويدعون لهم ويذكرون محاسنهم ‏(‏ق‏)‏ عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحداً» وفي رواية «أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه»

أراد بالقرن في الحديث الأول أصحابه‏.‏ والقرن الأمة من الناس يقارن بعضهم بعضاً واختلفوا في مدته من الزمان‏.‏ فقيل‏:‏ من عشر سنين إلى عشرين‏.‏ وقيل‏:‏ من مائة إلى مائة وعشرين سنة‏.‏ والمد‏:‏ المذكور في الحديث الثاني هو ربع صاع‏.‏ والنصيف‏:‏ نصفه‏.‏ والمعنى‏:‏ لو أن أحداً عمل مهما قدر عليه من أعمال البر والإنفاق في الحاجة‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏ يعني رضي الله عن أعمالهم ورضوا عنه بما جازاهم عليها من الثواب وهذا اللفظ عام يدخل فيه كل الصحابة ‏{‏وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون‏}‏ ذكر جماعة من المفسرين المتأخرين كالبغوي والواحدي وابن الجوزي أنهم من أعراب مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم وكانت منازلهم حول المدينة ويعني ومن هؤلاء الأعراب منافقون وما ذكروه مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهؤلاء القبائل ومدحهم فإن صح نقل المفسرين فيحمل قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وممن حولكم من الأعراب منافقون‏}‏ على القليل لأن لفظة من للتبعيض ويحمل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم على الأكثر والأغلب وبهذا يمكن الجمع بين قول المفسرين ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم لهم‏.‏ وأما الطبري، فإنه أطلق القول ولم يعين أحداً من القبائل المذكورة بل قال في تفسير هذه الآية‏:‏ من القوم الذين حول مدينتكم أيها المؤمنون من الأعراب منافقون ومن أهل مدينتكم أيضاً أمثالهم أقوام منافقون وقال البغوي‏:‏ ‏{‏ومن أهل المدينة‏}‏ من الأوس والخزرج منافقون ‏{‏مردوا على النفاق‏}‏ فيه تقديم وتأخير تقديره وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق يعني مرنوا عليه يقال تمرد فلان على ربه إذا عتا وتجبر ومنه الشيطان المارد وتمرد في معصيته أي مرن وثبت عليها واعتادها ولم يتب منها قال ابن إسحاق‏:‏ لجوا فيه وأبو غيره‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ أقاموا عليه ولم يتوبوا منه ‏{‏لا تعلمهم‏}‏ يعني أنهم بلغوا في النفاق إلى حيث أنك لا تعلمهم يا محمد مع صفاء خاطرك واطلاعك على الأسرار ‏{‏نحن نعلمهم‏}‏ يعني لكن نحن نعلمهم لأنه لا تخفى علينا خافية وإن دقت ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ اختلف المفسرون في العذاب الأول مع اتفاقهم على العذب الثاني هو عذاب القبر بدليل قوله ‏{‏ثم يردون إلى عذاب عظيم‏}‏ وهو عذاب النار في الآخرة فثبت بهذا أنه سبحانه وتعالى يعذب المنافقين ثلاث مرات مرة في الدنيا ومرة في القبر ومرة في الآخرة أما المرة الأولى وهي التي اختلفوا فيها فقال الكلبي والسدي «قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في يوم جمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج من المسجد أناساً وفضحهم» فهذا هو العذاب الأول‏.‏

والثاني‏:‏ هو عذاب القبر لإن صح هذا القول فيحتمل أن يكون بعد أن أعلمه الله حالهم وسماهم له لأن الله سبحانه وتعالى قال لا تعلمهم نحن نعلمهم ثم بعد ذلك أعمله بهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هذا العذاب الأول هو القتل والسبي وهذا القول ضعيف، لأن أحكام الإسلام في الظاهر كانت جارية على المنافقين فلم يقتلوا ولم يسبوا وعن مجاهد رواية أخرى أنهم عذبوا بالجوع مرتين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ المرة الأولى هي الدبيلة في الدنيا وقد جاء تفسيرها في الحديث بأنها خراج من نار تظهر في أكتافهم حتى تنجم من صدورهم يعني تخرج من صدورهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الأولى هي المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا والأخرى عذاب القبر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الأولى إقامة الحدود عليهم في الدنيا والأخرى عذاب القبر‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ الأولى هي ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه كرهاً غير حسبة والأخرى عذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنم وهو قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ثم يردون إلى عذاب جهنم يخلدون فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم قوم من المنافقين تابوا من نفاقهم وأخلصوا وحجة هذا القول أن قوله تعالى وآخرون عطف على قوله وممن حولكم من الأعراب منافقون والعطف موهم ويعضده ما نقله الطبري‏.‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هم الأعراب‏.‏ والقول الثاني‏:‏ وهو قول جمهور المفسرين إنها نزلت في جماعة من المسلمين من أهل المدينة تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا على ذلك‏.‏

واختلف المفسرون في عددهم فروي عن ابن عباس أنهم كانوا عشرة منهم أبو لبابة وروي أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم كانوا ثمانية أحدهم أبو لبابة وثقال وقال قتادة والضحاك‏:‏ كانوا سبعة أحدهم أبو لبابة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ثلاثة‏:‏ أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن حزام، وذلك أنهم كانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ثم ندموا بعد ذلك وتابوا وقالوا أنكون في الظلال ومع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء‏؟‏ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره وقرب من المدينة قالوا‏:‏ والله لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا فربطوا أنفسهم في سواري المسجد فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال‏:‏ «من هؤلاء»‏؟‏ فقالوا‏:‏ هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم»، ورغبوا عني وتخلفوا عن الغزوة مع المسلمين‏.‏ فأنزل الله عز وجل هذه الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فأطلقهم وعذرهم فلما أطلقوا قالوا‏:‏ يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك خذها فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً» فأنزل الله‏:‏ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية‏.‏ وقال قوم‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي لبابة خاصة واختلفوا في ذنبه الذي تاب منه فقال مجاهد‏:‏ نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة‏:‏ إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه فندم على ذلك وربط نفسه بسارية‏.‏ وقال‏:‏ والله لا أحل نفسي ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه، فإنزل الله هذه الآية فقيل له قد تيب عليك فقال‏:‏ والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحله بيده فقال أبو لبابة‏:‏ يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال يجزيك الثلث يا أبا لبابة‏.‏

قالوا جميعاً فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم وترك لهم الثلثين لأن الله سبحانه وتعالى قال‏:‏ خذ من أموالهم ولم يقل خذ أموالهم‏.‏ لأن لفظة «من» تقتضي التبعيض‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ وهؤلاء سوى الثلاثة الذين تخلفوا وسيأتي خبرهم‏.‏

أما تفسير الآية‏:‏ فقوله تعالى‏:‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم قال أهل المعاني‏:‏ الاعتراف عبارة عن الإقرار بالشيء ومعناه أنهم أقروا بذنبهم وفيه دقيقة وهي أنهم لم يعتذروا عن تخلفهم بأعذار باطلة كغيرهم من المنافقين ولكن اعترفوا على أنفسهم بذنوبهم وندموا على ما فعلوا‏.‏

فإن قلت‏:‏ الاعتراف بالذنب هل يكون توبة أم لا‏؟‏

قلت‏:‏ مجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة فإذا اقترن الاعتراف بالندم على الماضي من الذنب والعزم على تركه في المستقبل يكون ذلك الاعتراف والندم توبة‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالعمل الصالح إقرارهم بالذنب وتوبتهم منه والعمل السيئ هو تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ العمل الصالح هو خروجهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سائر الغزوات والسيئ هو تخلفهم عنه في غزوة تبوك‏.‏ وقيل‏:‏ إن العمل الصالح يعم جميع أعمال البر والطاعة والسيئ ما كان ضده فعلى هذا تكون الآية في حق جميع المسلمين والحمل على العموم أولى وإن كان السبب مخصوصاً بمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك‏.‏

وروى الطبري عن أبي عثمان قال ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله وآخرون اعترفوا بذنوبهم‏.‏

فإن قلت قد جعل كل واحد من العمل الصالح والسيئ مخلوطاً فما المخلوط به‏.‏

قلت‏:‏ إن الخلط عبارة عن الجمع المطلق فأما قولك خلطته فإنما يحسن في الموضع الذي يمتزج كل واحد من الخليطين بالآخر ويتغير به عن صفته الأصلية كقولك خلطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن فتنوب الواو عن الباء فيكون معنى الآية على هذا خلطوا عملاً صالحاً بآخر ذكره غالب المفسرين وأنكره الإمام فخر الدين الرازي‏.‏ وقال‏:‏ اللائق بهذا الموضع الجمع المطلق لأن العمل الصالح والعمل السيئ إذا حصلا معاً بقي كل واحد منهما على حاله كما هو مذهبنا فإن عندنا القول بالإحباط باطل فالطاعة تبقى موجبة للمدح والثواب والمعصية تبقى موبجة للذم والعقاب فقوله سبحانه وتعالى خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيه تنبيه على نفي القول بالمحابطة وأنه بقي كل واحد منهما كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر فليس إلا الجمع الملطق‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ العرب تقول خالطت الماء باللبن وخلطت الماء واللبن كما تقول جمعت زيداً وعمراً‏.‏ والواو في الآية أحسن من الباء لأنه أريد معنى الجمع لا حقيقة الخلط‏.‏ ألا ترى أن العمل الصالح لا يختلط بالسيئ كما يختلط الماء باللبن لكن قد يجمع بينهما وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عسى الله أن يتوب عليهم‏}‏ قال ابن عباس وجمهور المفسرين‏:‏ عسى من الله واجب والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى‏:‏ فعسى الله أن يأتي بالفتح وقد فعل ذلك‏.‏ وقال أهل المعاني‏:‏ لفظة عسى هنا تفيد الطمع والإشفاق لأنه أبعد من الاتكال والإهمال‏.‏

وقيل‏:‏ إن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بل كل ما يفعله على سبيل التفضل والتطول والإحسان فذكر لفظة عسى التي هي للترجي والطمع حتى يكون العبد بين الترجي والإشفاق ولكن هو إلى نيل ما يرجوه منه أقرب لأنه ختم الآية بقوله ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ وهذا يفيد إنجاز الوعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه انطلق أبو لبابة وصاحبة فأتوا بأموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ خذ أموالنا وتصدق بها عنا وصل علينا يريدون استغفر لنا وطهرنا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا آخذ شيئاً منها حتى أومر به»، فأنزل الله عز وجل‏:‏ خذ من أموالهم صدقة الآية، وهذا قول زيد بن أسلم وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك‏.‏ ثم اختلف العلماء في المراد بهذه الصدقة فقال بعضهم‏:‏ هو راجع إلى هؤلاء الذين تابوا وذلك أنهم بذلوا أموالهم صدقة فأوجب الله سبحانه وتعالى أخذها وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم لتكون جارية مجرى الكفارة‏.‏ وأصحاب هذا القول يقولون ليس المراد بها الصدقة الوجبة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الزكاة كانت واجبة عليهم فلما تابوا من تخلفهم عن الغزوة وحسن إسلامهم وبذلوا الزكاة أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منهم وقال بعضهم إن الآية كلام مبتدأ والمقصود منها إيجاب أخذها من الأغنياء ودفعها إلى الفقراء وهذا قول أكثر الفقهاء واستدلوا بها على إيجاب أخذ الزكاة‏.‏

أما حجة أصحاب القول الأول، فإنهم قالوا‏:‏ إن الآيات لا بد وأن تكون منتظمة متناسبة فلو حملناها على أخذ الزكاة الواجبة، لم يبق لهذه الآية تعلق بما قبلها ولا بما بعدها‏.‏ ولأن جمهور المفسرين ذكروا في سبب نزولها أنها نزلت في شأن التائبين وأما أصحاب القول الأخير فإنهم قالوا‏:‏ المناسبة حاصلة أيضاً على هذا التقدير وذلك أنهم لما تابوا وأخلصوا وأقروا أن السبب الموجبة للتخلف وحب المال أمروا بإخراج الزكاة التي هي طهرة فلما أخرجوها علمت صحة قولهم وصحة توبتهم‏.‏ ولا يمنع من خصوص السبب عموم الحكم فإن قالوا‏:‏ إن الزكاة قدر معلوم لا يبلغ ثلث المال وقد أخذ منهم ثلث أموالهم قلنا‏:‏ لا يمنع هذا صحة ما قلناه لأنهم رضوا ببذل الثلث من أموالهم فلأن يكونوا راضين بإخراج الزكاة أولى‏.‏ ثم في هذه الآية أحكام‏:‏ الأول قوله سبحانه وتعالى‏:‏ خذ من أموالهم صدقة، الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم أي خذ يا محمد من أموالهم صدقة فكان النبي صلى الله عليه وسلم وتعالى‏:‏ يأخذها منهم أيام حياته ثم أخذها من بعده الأئمة فيجوز للإمام أو نائبه أن يأخذ الزكاة من الأغنياء ويدفعها إلى الفقراء‏.‏

الحكم الثاني‏:‏ قوله من أموالهم، ولفظة «من» تقتضي التبعيض وهذا البعض المأخوذ غير معلوم ولا مقدر بنص القرآن فلم يبق إلا الصدقة التي بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرها وصفتها في أخذ الزكاة‏.‏

الحكم الثالث‏:‏ ظاهر قوله خذ من أموالهم صدقة يفيد العموم فتجب الزكاة في جميع المال حتى في الديون وفي مال الركاز‏.‏

الحكم الرابع‏:‏ ظاهر قوله تطهرهم، أن الزكاة إنما وجبت لكونها طهرة من الآثام وصدور الآثام لا يمكن حصولها إلا من البالغ دون الصبي فوجب أن تجب الزكاة في مال البالغ دون الصبي وهذا قول أبي حنيفة ثم أجاب أصحاب الشافعي‏:‏ بأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً

وللعلماء في قوله سبحانه وتعالى تطهرهم أقوال‏:‏

الأول‏:‏ أن معناه خذ يا محمد من أموالهم صدقة فإنك تطهرهم بأخذها من دنس الآثام‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن يكون تطهرم متعلقاً بالصدقة تقديره خذ من أموالهم صدقة فإنها طهرة لهم وإنما حسن جعل الصدقة مطهرة لما جاء أن الصدقة من أوساخ الناس فإذا أخذ الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخ وكان ذلك الاندفاع جارياً مجرى التطيهر‏:‏ فعلى هذا القول يكون قوله سبحانه وتعالى وتزكيهم بها متقطعاً عن قوله تطهرهم ويكون التقدير‏:‏ خذ يا محمد من أموالهم صدقة تطهرهم تلك الصدقة وتزكيهم أنت بها‏.‏

القول الثالث‏:‏ أن تجعل التاء في قوله تطهرهم وتزكيهم ضمير المخاطب ويكون المعنى تطهرهم أنت يا محمد بأخذها منهم وتزكيهم أنت بواسطة تلك الصدقة‏.‏

القول الرابع‏:‏ أن معناه تطهرهم من ذنوبهم وتزكيهم يعني ترفع منازلهم عن منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين وقيل معنى وتزكيهم أي تنمي أموالهم ببركة أخذها منهم‏.‏

الحكم الخامس‏:‏ قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وصل عليهم‏}‏ يعني ادع لهم واستغفر لهم لأن أصل الصلاة في اللغة الدعاء‏.‏ قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه‏:‏ السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق فيقول‏:‏ آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يجب على الإمام أن يدعو للمتصدق‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يستحب ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع‏.‏ وقيل‏:‏ يجب على الإمام ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يستحب أن يقول اللهم صلِّ على فلان‏.‏ ويدل عليه ما روي عن بعد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقة قال‏:‏ «اللهم صلِّ عليهم» فأتاه أبي بصدقته فقال «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى» أخرجاه في الصحيحين‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن صلاتك‏}‏ وقرئ‏:‏ صلواتك على الجمع ‏{‏سكن لهم‏}‏ يعني إن دعاءك رحمة لهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طمأنينة لهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله قد قبل منهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تثبيت لقلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن السكن ما سكنت إليه النفس والمعنى إن صلواتك توجب سكون نفوسهم إليها والمعنى أن الله قد قبل توبتهم أو قبل زكاتهم ‏{‏والله سميع‏}‏ يعني لأقوالهم أو لدعائك لهم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بنياتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 106‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏ هذه صيغة استفهام إلا أن المقصود منه التقرير فبشر الله عز وجل هؤلاء التائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم ومعنى الآية ألم يعلم الذين تابوا أن الله تعالى يقبل التوبة الصادقة والصدقة الخالصة‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد بهذه الآية غير التائبين ترغيباً لهم في التوبة وبذل الصدقات وذلك أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين‏:‏ هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما بالهم اليوم فأنزل الله هذه الآية ترغيباً لهم في التوبة‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى عن عباده قيل‏:‏ لا فرق بين عن عباده ومن عباده إذا لا فرق بين قولك أخذت هذا العلم عنك أو منك‏.‏ وقيل‏:‏ بينهما فرق ولعل عن في هذا الموضع أبلغ لأن فيه تبشيراً بقبول التوبة مع تسهيل سبيلها وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ويأخذ الصدقات‏}‏ يعني يقبلها ويثيب عليها وإنما ذكر لفظ الأخذ ترغيباً في بذل الصفقة وإعطائها الفقراء وقيل معنى أخذ الله الصدقات تضمنه الجزاء عليها‏.‏

ولما كان هو المجازي عليها والمثيب بها، أسند الأخذ إلى نفسه وإن كان الفقير أو السائل هو الآخر لها وفي هذا تعظيم أمر الصدقات وتشريفها وأن الله تعالى يقبلها من عبده المتصدق ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما تصدق أحدكم بصدقة من كسب حلال طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا اخذها الرحمن بيمينه وإن كان تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه أو فصيله» لفظ مسلم‏.‏ وفي البخاري‏:‏ «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب» وفي رواية‏:‏ «ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرجه الترمذي ولفظه‏:‏ «إن الله سبحانه وتعالى يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه حتى اللقمة لتصير مثل جبل أحد» وتصديق ذلك في كتاب الله سبحانه وتعالى‏:‏ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ويمحق الله الربا ويربى الصدقات‏.‏ وقوله‏:‏ من كسب طيب‏.‏ أي‏:‏ حلال‏.‏ وذكر اليمين والكف في الحديث كناية عن قبول الصدقة وأن الله سبحانه وتعالى قد قبلها من المعطي، لأن من عادة الفقير أو السائل، أخذ الصدقة بكفه اليمين، فكأن المتصدق قد وضع صدقته في القبول والإثابة‏.‏ وقوله‏:‏ فتربو أي تكبر‏.‏ يقال‏:‏ ربا الشيء يربو إذا زاد وكبر‏.‏ والفُلوا‏:‏ بضم الفاء وفتحها لغتان المهر أول ما يولد والفصيل ولد الناقة إلى أن ينفصل عنها‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وأن الله هو التواب الرحيم‏}‏ تأكيد لقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده‏}‏ وتبشير لهم بأن الله هو التواب الرحيم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء التائبين ‏{‏اعملوا‏}‏ يعني لله بطاعته وأداء فرائضه ‏{‏فسيرى الله عملكم‏}‏ فيه ترغيب عظيم للمطيعين ووعيد عظيم للمذنبين فكأنه قال اجتهدوا في العمل في المستقبل فإن الله تعالى يرى أعمالكم ويجازيكم عليها ‏{‏ورسوله والمؤمنون‏}‏ يعني ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون أعمالكم أيضاً‏.‏

أما رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطلاع الله إياه على أعمالكم‏.‏ وأما رؤية المؤمنين، فبما يقذف الله عز وجل في قلوبهم من محبة الصالحين وبغض المذنبين ‏{‏وستردون إلى عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني‏:‏ وسترجعون يوم القيامة إلى من يعلم سركم وعلانيتكم ولا يخفى عليه شيء من بواطنكم وظواهركم ‏{‏فينبئكم‏}‏ أي فيخبركم ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ يعني في الدنيا من خير أو شر فيجازيكم عن أعمالكم‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وآخرون مرجون‏}‏ أي مؤخرون والإرجاء التأخير ‏{‏لأمر الله‏}‏ يعني لحكم الله فيهم قال بعضهم إن الله سبحانه وتعالى قسم المتخلفين على ثلاثة أقسام‏:‏

أولهم‏:‏ المنافقون وهم الذين مردوا على النفاق واستمروا عليه‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ التائبون وهم الذين سارعوا إلى التوبة بعد ما اعترفوا بذنوبهم وهم أبو لبابة وأصحابه فقبل الله توبته‏.‏

والقسم الثالث‏:‏ موقوفون ومؤخرون إلى أن يحكم الله تعالى فيهم وهم المراد بقوله‏:‏ وآخرون مرجون لأمر الله‏.‏ والفرق بين القسم الثاني والقسم الثالث، أن القسم الثاني سارعوا إلى التوبة فقبل الله توبتهم، والقسم الثالث توقفوا ولم يسارعوا إلى التوبة فأخر الله أمرهم‏.‏

نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين تخلفوا وهم‏:‏ كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وستأتي قصتهم عند قوله تعالى‏:‏ وعلى الثلاثة الذين خلفوا وذلك أنهم لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن كلامهم وكانوا من أهل بدر، فجعل بعض الناس يقول هلكوا وبعضهم يقول‏:‏ عسى الله أن يتوب عليهم ويغفر لهم وهو قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إما يعذبهم وإما يتوب عليهم‏}‏ يعني أن أمرهم إلى الله تعالى إن شاء عذبهم بسبب تخلفهم وإن شاء غفر لهم وعفا عنهم ‏{‏والله عليم‏}‏ يعني بما في قلوبهم ‏{‏حكيم‏}‏ يعني بما يقضي عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً‏}‏ نزلت في جماعة من المنافقين بنوا مسجداً يضارّون به مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلاً من أهل النفاق وديعة بن ثابت وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد وثعلبة بن حاطب وجارية بن عمرو وابناه مجمع وزيد ومعتب بن قشير وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف وأبو حبيبة بن الأزعر ونبتل بن الحرث وبجاد بن عثمان وبحزج بنوا هذا المسجد ضراراً يعني مضارة للمؤمنين وكفراً يعني ليكفروا فيه بالله ورسوله ‏{‏وتفريقاً بين المؤمنين‏}‏ لأنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة وكان يصلي بهم فيه مجمع بن جارية وكان شاباً يقرأ القرآن ولم يدر ما أرادوا ببنائه، فلما فرغوا من بنائه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني على جناح سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا فيه»

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله‏}‏ يعني أنهم بنوا هذا المسجد للضرار والكفر وبنوه إرصاداً يعني انتظاراً وإعداداً لمن حارب الله ورسوله ‏{‏من قبل‏}‏ يعني من قبل بناء هذا المسجد وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة غسيل الملائكة وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسموح وتنصر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر ما هذا الدين الذي جئت به‏؟‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جئت بالحنيفية دين إبراهيم»‏.‏ فقال أبو عامر‏:‏ فأنا عليها‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك لست عليها‏.‏ قال أبو عامر‏:‏ بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية‏.‏ فقال أبو عامر‏:‏ أمات الله الكاذب منا طويداً وحيداً غريباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ آمين «وسماه الناس‏:‏ أبا عامر الفاسق‏.‏ فلما كان يوم أحد، قال أبو عامر الفاسق للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن، يئس أبو عامر وخرج هارباً إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا ما استطعتم من قوة وسلاح وابنوا لي مسجداً فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك وقوله‏:‏ سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإرصاداً‏}‏ يعني انتظاراً لمن حارب الله ورسوله يعني أبا عامر الفاسق ليصلي فيه إذا رجع من الشام من قبل يعني أن أبا عامر الفاسق حارب الله ورسوله من قبل مسجد الضرار ‏{‏وليحلفن‏}‏ يعني الذين بنوا المسجد ‏{‏إن أردنا‏}‏ يعني ما أردنا ببنائه ‏{‏إلا الحسنى‏}‏ يعني إلا الفعلة الحسنى وهي‏:‏ الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن الصلاة في مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ يعني في قيلهم وحلفهم‏.‏

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من تبوك راجعاً نزل بذي أوان وهو موضع قريب من المدينة فأتاه المنافقون وسألوه أن يأتي مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم فأنزل الله هذه الآية خبر مسجد الضرار وما هموا به فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشياً فقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك أنظروني حتى أخرج إليكم بنار، فدخل أهله فأخذ من سعف النخل فأشعله ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فأحرقوه وهدموه وتفرق عنه أهله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك الموضع كناسة تلقى فيها الجيف والنتن والقمامة‏.‏

مات أبو عامر الراهب بالشام غريباً وحيداً‏.‏ وروي أن بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب في خلافته، فسألوه أن يأذن لمجمع بن جارية أن يؤمهم في مسجدهم‏.‏ فقال‏:‏ لا ولا نعمة عين أليس هو إمام مسجد الضرار‏؟‏ قال مجمع‏:‏ يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ فوالله لقد صليت فيه وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا شيوخاً لا يقرؤون فصليت بهم ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله ولو أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر فصدقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء‏.‏

قال عطاء‏:‏ لما فتح الله على عمر بن الخطاب الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأمرهم أن لا يبنوا في موضع واحد مسجدين يضار أحدهما الآخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏لا تقم فيه أبداً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ معناه لا تصلّ فيه أبداً منع الله عز وجل نبيه أن يصلي في مسجد الضرار ‏{‏لمسجد أسس على التقوى‏}‏ اللام فيه لام الابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ لام القسم تقديره والله مسجد أسس يعني بني أصله ووضع أساسه على التقوى يعني على تقوى الله عز وجل ‏{‏من أول يوم‏}‏ يعني من أول يوم بني ووضع أساسه كان ذلك البناء على التقوى ‏{‏أحق أن تقوم فيه‏}‏ يعني مصلياً واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى فقال عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني مسجد المدينة ويدل علي ما روي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت يا رسول الله أي المسجدين أسس على التقوى‏؟‏ قال فأخذ كفاً من حصى فضرب به الأرض ثم قال‏:‏ هو مسجدكم هذا مسجد المدينة» أخرجه مسلم ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن قوائم منبري هذا رواتب في الجنة» أخرجه النسائي قوله رواتب يعني‏:‏ ثوابت‏.‏ يقال‏:‏ رتب بالمكان إذا قام فيه وثبت‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة أنه مسجد قباء ويدل عليه سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين‏}‏ ويدل على أنهم أهل قباء ما روي عن أبي هريرة «قال‏:‏ نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم» أخرجه أبو داود والترمذي وقال‏:‏ حديث غريب‏.‏

هكذا ذكره صاحب جامع الأصول من رواية أبي داود والترمذي موقوفاً على أبي هريرة ورواه البغوي من طريق أبي داود مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نزلت هذه الآية في أهل قباء فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين» قال‏:‏ «كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية» ومما يدل على فضل مسجد قباء ما روي عن ابن عمر قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء أو يأتي قباء راكباً وماشياً» زاد في رواية فيصلي فيه ركعتين وفي رواية «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشياً وكان ابن عمر يفعله» أخرج الرواية الأولى والزيادة البخاري ومسلم وأخرج الرواية الثانية البخاري عن سهل بن حنيف قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان له كعدل عمرة» أخرجه النسائي عن أسد بن ظهير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» أخرجه الترمذي‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فيه رجال يحبون أن يتطهروا‏}‏ يعني من الأحداث والجنابات وسائر النجاسات وهذا قول أكثر المفسرين‏.‏ قال عطاء‏:‏ ولما كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة وروى الطبري بسنده عن عويمر بن ساعدة وكان من أهل بدر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء «إني أسمع الله عز وجل قد أحسن عليكم الثناء في الطهور فما هذا الطهور» قالوا‏:‏ يا رسول الله ما نعمل شيئاً إلا أن جيراناً لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط فغلسنا كما غسلوا‏.‏ وعن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء «إن الله سبحانه وتعالى قد أحسن عليكم بالثناء في الطهور فما تصنعون‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول» وقال الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ المراد من هذه الطهارة الطهارة من الذنوب والمعاصي وهذا القول متعين لوجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن التطهر من الذنوب هو المؤثر في القرب من الله عز وجل واستحقاق ثوابه ومدحه‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ أن الله سبحانه وتعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارة المسلمين والتفريق بينهم والكفر بالله وكون هؤلاء يعني أهل قباء بالضد من صفاتهم وما ذاك إلا لكونهم مبرئين من الكفر والمعاصي وهي الطهارة الباطنية‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ إن طهارة الظاهر إنما يحصل لها أثر عند الله إذا حصلت الطهارة الباطنية من الكفر والمعاصي وقيل يحتمل أنه محمول على كلا الأمرين يعني طهارة الباطن من الكفر والنفاق والمعاصي وطهارة الظاهر من الأحداث والنجاسات بالماء ‏{‏والله يحب المطهرين‏}‏ فيه مدح لهم وثناء عليهم والرضا عنهم بما اختاروه لأنفسهم من المداومة على محبة الطهارة‏.‏