فصل: تفسير الآية رقم (201)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏‏}‏

‏{‏ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏}‏ يعني المؤمنين‏.‏ واعلم أن الله تعالى قسم الداعين فريقين البعث‏:‏ فريق اقتصروا في الدعاء على طلب الدنيا وهم الكفار لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والآخرة، والفريق الثاني‏:‏ هم المؤمنون الذين جمعوا في الدعاء بين طلب الدنيا والآخرة وذلك لأن الإنسان خلق ضعيفاً محتاجاً لا طاقة له بآلام الدنيا ومتاعبها فالأولى له أن يستعيذ بالله من شرها وآلامها لأنه لو اضطرب على الإنسان عرق من عروقه، لشوش عليه حياته في الدنيا، وتعطل عن الاشتغال بطاعة الله تعالى فثبت بذلك أن طلب الدنيا في الدعاء من أمر الدين، فلذلك قال الله تعالى‏:‏ إخباراً عن المؤمنين‏:‏ ‏{‏ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة‏}‏ قيل‏:‏ إن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة والأمن والكفاية والتوفيق إلى الخير والنصر على الأعداء والولد الصالح والزوجة الصالحة ‏(‏م‏)‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» قيل‏:‏ الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة وقيل‏:‏ الحسنة في الدنيا الرزق الحلال والعمل الصالح وفي الآخره المغفرة والثواب‏.‏ وقيل‏:‏ من آتاه الله الإسلام والقرآن وأهلاً ومالاً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة يعني في الدنيا عافية وفي الآخرة عافية‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خف فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه‏؟‏ قال‏:‏ نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخره فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه أفلا قلت‏:‏ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» قال‏:‏ فدعا الله به فشفاه ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك‏.‏ قال كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار‏.‏ عن عبدالله بن السائب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين‏:‏ «ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» أخرجه أبو داود‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏202- 203‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المؤمنين الداعين بالحسنتين ووجه هذا القول أن الله ذكر حكم الفريق بكماله‏.‏ فقال‏:‏ وما له في الآخرة من خلاق وقيل‏:‏ يرجع إلى الفريقين ‏{‏لهم‏}‏ جميعاً أي لكل فريق من هؤلاء ‏{‏نصيب‏}‏ أي حظ ‏{‏مما كسبوا‏}‏ يعني من الخير والدعاء بالثواب والجزاء على الدعاء بالدنيا من جنس ما كسب ودعا ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ ذكروا في معنى الحساب أن الله تعالى يعلم العباد بما لهم وعليهم بمعنى أن الله تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها وبمقادير ما لهم من الثواب وعليهم من العقاب‏.‏ وقيل‏:‏ إن المحاسبة عبارة عن المجازاة ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً‏}‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى يكلم عباده يوم القيامة ويعرفهم أحوال أعمالهم وما لهم من الثواب والعقاب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تعالى إذا حاسب فحسابه سريع لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد ورؤية فكر وصف الله نفسه تعالى بسرعة الحساب مع كثرة الخلائق وكثرة أعمالهم ليدل بذلك على كمال قدرته لأنه تعالى لا يشغله شان عن شأن ولا يحتاج إلى آلة ولا مادة ولا مساعد، فلا جرم كان قادراً على أن يحاسب جميع الخلائق في أقل من لمح البصر، وروي أنه تعالى يحاسب الخلائق في قدر حلب شاة أو ناقة، وقيل‏:‏ في معنى كونه تعالى سريع الحساب أي سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم، وذلك أنه تعالى يسأله السائلون في الوقت الواحد كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا الآخرة فيعطي كل واحد من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك، لأنه تعالى عالم بجميع أحوال عباده وأعمالهم وقيل في معنى الآية إن إتيان القيامة قريب لأن كل ما هو كائن وآت قريب لا محالة، وفيه إشارة إلى المبادرة بالدعاء والذكر وسائر الطاعات وطلب الآخرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واذكروا الله‏}‏ يعني بالتوحيد والتعظيم والتكبير في أدبار الصلوات وعند رمي الجمرات، وذلك أنه يكبر مع كل حصاة من حصى الجمار فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مع كل حصاة ‏{‏في أيام معدودات‏}‏ يعني أيام التشريق وهي أيام منى ورمي الجمار سميت معدودات لقلتهن وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، أولها اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو قول ابن عمر وابن العباس والحسن وعطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب الشافعي‏.‏ وقيل‏:‏ إن الأيام المعدودات يوم النحر ويومان بعده‏.‏ وهو قول علي بن أبي طالب ويروى عن ابن عمر أيضاً وهو مذهب أبي حنيفة ‏(‏م‏)‏ عن نبيشة الهذلي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله» ومن الذكر في هذه الأيام التكبير ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عمر أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات، وعلى فراشه وفي فسطاطه وفي مجلسه وفي ممشاه في تلك الأيام جميعاً وفي رواية أنه كان يكبر في قبته فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج مني أخرجه البخاري بغير إسناد وأجمع العلماء على أن المراد بهذا هو التكبير عند رمي الجمار، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق، وأجمعوا أيضاً على أن التكبير في عيد الأضحى وفي هذه الأيام في إدبار الصلوات سنة واختلفوا في هذا وقت التكبير فقيل يبتدئ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة من آخر أيام التشريق فيكون التكبير على هذا القول في خمسة عشر صلاة، وهو قول ابن عباس وابن عمر، وبه قال الشافعي‏:‏ في أصح أقواله قال الشافعي‏:‏ لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج قيل‏:‏ هذا الوقت هو التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر‏.‏ وقيل‏:‏ إنه يبتدئ به من صلاة المغرب ليلة النحر ويختم بصلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو القول الثاني الشافعي فيكون التكبير على هذا القول‏:‏ في ثمانية عشر صلاة والقول الثالث للشافعي إنه يتبدئ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة، ويختم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة وهو قول علي بن أبي طالب، ومكحول وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال ابن مسعود يبتدأ به من صبح يوم عرفة ويختم بصلاة العصر من يوم النحر، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات، وبه قال أبو حنيفة وقال أحمد بن حنبل‏:‏ إذا كان حلالاً كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الصبح من يوم عرفة وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر صلاة أولها الظهر من يوم النحر وآخرها عصر أيام التشريق‏.‏ ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثاً نسقاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وهو قول أهل المدينة، قال الشافعي‏:‏ وما زاد من ذكر الله فحسن ويروى عن ابن مسعود أنه يكبر مرتين فيقول الله أكبر الله أكبر وهو قول أهل العراق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين‏}‏ أي فمن تعجل النفر الأول وهو في الثاني من أيام التشريق ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏ أي فلا حرج عليه وذلك أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمي عند كل جمرة سبع حصيات ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويدع البيتوتة الليلة الثالثة ورمى يومها فذلك واسع له لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه‏}‏ يعني فلا إثم من تعجل فنفر في اليوم الثاني في تعجيله ‏{‏ومن تأخر فلا إثم عليه‏}‏ يعني ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه في تأخره‏.‏

واعلم أنه إنما يجوز التعجيل لمن نفر بعد الزوال من اليوم الثاني من أيام التشريق وقيل غروب الشمس، من ليلة ذلك اليوم وإن غربت عليه الشمس، وهو بمنى لزمه المبيت بها لرمي اليوم الثالث، هذا مذهب الشافعي وأكثر الفقهاء وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر لأنه لم يدخل وقت الرمي، بعد ورخص لرعاة الإبل وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى‏.‏ فإن قلت‏:‏ قوله ومن تأخر فلا إثم عليه فيه إشكال وهو أن الذي أتى بأفعال الحج كاملة تامة فقد أتى بما يلزمه، فما معنى قوله فلا إثم عليه إنما يخاف من الإثم من قصر فيما يلزمه‏.‏ قلت فيه أجوبة أحدها أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة، فإنه يأثم فأزال الله تعالى هذه الشبهة وبين إنه لا إثم عليه في الأمرين فإن شاء عجل وإن شاء أخر‏.‏ الجواب الثاني أن من الناس من كان يتعجل ومنهم من كان يتأخر، وكل فريق يصوب فعله على فعل الفريق الآخر فبين الله تعالى أن كل واحد من الفريقين مصيب في فعله وأنه لا إثم عليه‏.‏ الجواب الثالث إنما قال‏:‏ ومن تأخر فلا إثم عليه لمشاكلة اللفظة الأولى فهو كقوله‏:‏ ‏{‏جزاء سيئة سيئة مثلها‏}‏ ومعلوم أن جزاء السيئة ليس بسيئة‏.‏ الجواب الرابع أن فيه دلالة على جواز الأمرين فكأنه تعالى قال‏:‏ فتعجلوا أو تأخروا فلا إثم في التعجيل ولا في التأخير ‏{‏لمن اتقى‏}‏ أي ذلك التخيير ونفي الإثم للحاج المتقي وقيل لمن اتقى أن يصيب في حجة شيئاً مما نهاه الله عنه من قتل صيد وغيره، مما هو محظور في الحج، وقيل‏:‏ معناه أنه ذهب إثمه إن اتقى فيمن بقي من عمره، وذلك أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن لا يرتكب ما نهي عنه فيما بقي من عمره وهو قوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في المستقبل والتقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات ‏{‏واعلموا أنكم إليه تحشرون‏}‏ أي فيجازيكم بأعمالكم وفيه حث على التقوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 204‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا‏}‏ نزلت في الأخنس بن شريق حليف بني زهرة، واسمه أبي وإنما سمي الأخنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بني زهرة، عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه أشار على بني زهرة الرجوع يوم بدر، وقال لهم‏:‏ إن محمداً ابن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه الناس وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا‏:‏ نعم ما رأيت قال إني سأخنس بكم فاتبعوني فخنس فسمي الأخنس بذلك وكان الأخنس حلو الكلام حلو المنظر، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويظهر الإسلام ويقول‏:‏ إني لأحبك ويحلف بالله على ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني مجلسه وكان الأخنس منافقاً فنزل فيه، ومن الناس من يعجبك قوله، أي يروقك وتستحسنه ويعظم في قلبك في الحياة الدنيا، يعني أن حلاوة كلامه فيما يتعلق بأمر الدنيا ‏{‏ويشهد الله على ما في قلبه‏}‏ يعني قوله‏:‏ والله إني بك مؤمن ولك محبّ ‏{‏وهو ألد الخصام‏}‏ أي شديد الجدال في الباطل، وقيل‏:‏ هو كاذب القول، وقيل‏:‏ هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» يعني الشديد في الخصومة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏205- 207‏]‏

‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا تولى‏}‏ أي أدبر وأعرض عنك بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ‏{‏سعى في الأرض‏}‏ أي سار ومشى في الأرض ‏{‏ليفسد فيها‏}‏ يعني بقطع الأرحام وسفك دماء المسلمين ‏{‏ويهلك الحرث والنسل‏}‏ وذلك أن الأخنس بن شريق كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً، فأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، وقيل‏:‏ خرج إلى الطائف مقتضياً ديناً كان له على غريم فأحرق له كدساً وعقر له أتاناً وقيل معناه إذا تولى أي صار والياً وملك الأمر سعى في الأرض ليفسد فيها يعني بالظلم والعدوان كما يفعله ولاة السوء والظلمة، وقيل‏:‏ يظهر ظلمه حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل بسبب منع المطر وقيل أن الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة ولا يمتنع أن تنزل في رجل واحد ثم تكون عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات ‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا يرضى بالمعاصي واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن المحبة عبارة عن الإرادة‏.‏ وأجيب عنه بأن الإرادة معنى غير المحبة، فإن الإنسان قد يريد شيئاً ولا يحبه وذلك لأنه قد يتناول الدواء المر ولا يحبه فبان الفرق بين الإرادة والمحبة، وقيل‏:‏ إن المحبة مدح الشيء وتعظيمه والإرادة بخلاف ذلك ‏{‏وإذا قيل له اتق الله‏}‏ أي خف الله في سرك وعلانيتك ‏{‏أخذته العزة بالإثم‏}‏ أي حملته العزة وحمية الجاهلية على فعل الإثم وقيل بأن يعمل الإثم وهو الظلم وترك الالتفات إلى الوعظ وعدم الإصغاء إليه‏.‏ وأصل العزة المنعة والتكبر ‏{‏فحسبه جهنم‏}‏ أي كافيه له جهنم جزاء وعذاباً، وجهنم اسم من أسماء النار التي يعذب بها الكفار في الآخرة، وقيل‏:‏ هو اسم أعجمي وقيل بل هو عربي سميت النار بذلك لبعد قعرها ‏{‏ولبئس المهاد‏}‏ أي الفراش والمهاد التوطئة أيضاً والمعنى أن العذاب بالنار يجعل تحته وفوقه قال ابن مسعود إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقال للعبد‏:‏ اتق الله فيقول‏:‏ عليك بنفسك‏.‏ وروي أنه قيل لعمر اتق الله فوضع خده على الأرض تواضعاً لله تعالى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذه تمر يثرب، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم‏.‏

فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا‏:‏ لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم‏:‏ أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق‏.‏ فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم‏:‏ هذا أول الغدر، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيراً حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها فأعارتها، فقالت‏:‏ فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى، فقال‏:‏ أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك أن شاء الله تعالى وكانت تقول‏:‏ ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذٍ تمرة، وإنه لموثق في الحديد‏.‏ وما كان إلاّ رزقاً رزقه الله خبيباً، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال‏:‏ دعوني أصلي ركعتين، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال‏:‏ لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن ركعتين عند القتل، وقال‏:‏ اللهم أحصهم عدداً وقال‏:‏

فلست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم، الفدفد‏:‏ الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع‏.‏ وقوله عالجوه‏:‏ أي مارسوه، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى‏.‏ وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة‏.‏ والقطف العنقود من العنب‏:‏ قوله على أوصال شلو‏.‏ الشلو العضو من أعضاء الإنسان‏.‏ والممزع‏:‏ المفرق‏.‏ والظلة‏:‏ الشيء الذي يظل من فوق الإنسان‏.‏ والدبر‏:‏ جماعة النحل والزنابير‏.‏ وقال أهل التفسير‏:‏ إن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلمونا دينك، وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبدالله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري، وذكر نحو حديث البخاري، زاد عليه‏:‏ فقالوا‏:‏ نصلب خبيباً حياً، فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب‏:‏ اتق الله، فما زاده ذلك إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم‏}‏ يعني سلامان‏.‏

وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب محمداً عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، فقال أبو سفيان‏:‏ ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ثم قتله نسطاس، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة فقال الزبير‏:‏ أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود، فخرجنا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلاً، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام، فأنزلاه عن خشبته، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب معهم سبعون فارساً فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال‏:‏ أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما‏.‏ فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا إلى مكة، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد أن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل في الزبير والمقداد‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله‏}‏ حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته‏.‏ وقال أكثر المفسرين‏:‏ نزلت في صهيب ابن سنان الرومي، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال‏:‏ والله لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي‏.‏

فقالوا نعم، ففعل، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله‏}‏ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ربح البيع أبا يحيى، وتلا عليه هذه الآية‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أتدرون فيم نزلت هذه الآية‏؟‏ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل‏:‏ لا إله إلاّ الله فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل، نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال ابن عباس‏:‏ رضي الله عنهما‏:‏ أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله، وكان علي كرم الله وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة‏.‏ وسمع عمر رجلاً يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله‏}‏ فقال عمر‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل‏.‏ عن أبي سعيد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب‏.‏ وأما تفسير الآية فذكر المفسرون أن المراد بهذا الشراء البيع ومنه قوله‏:‏ ‏{‏وشروه بثمن‏}‏ أي باعوه والمعنى أن المسلم باع نفسه بثواب الله تعالى في الدار الآخرة، وهذا البيع هو أن يبذل نفسه في طاعة الله من صلاة وصيام، وحج وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة فصار كالبائع، والله تعالى المشتري، والثمن هو ثواب الله تعالى في الآخرة ابتغاء مرضاة الله أي طلب رضا الله ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ أي من رأفة الله بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏208- 209‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة‏}‏ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبدالله بن سلام وأصحابه، وذلك لما أسلموا قاموا على تعظيم شرائع موسى فعظموا السبت وكرهوا لحوم الإبل وألبانها، وقالوا‏:‏ إن ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام وواجب في التوراة، وقالوا أيضاً‏:‏ يا رسول الله أن التوراة كتاب الله دعنا فلنقم به في صلاتنا بالليل، فأنزل الله هذه الآية وأمرهم أن يدخلوا في السلم أي في شرائع الإسلام ولا يتمسكوا بالتوراة فإنها منسوخة‏.‏ والمعنى استسلموا لله وأطيعوه فيما أمركم به وقيل هو خطاب لمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب‏.‏ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في السلم كافة أي في الإسلام‏.‏ وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتاه عمر فقال إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا فنرى أن نكتب بعضها فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أتتهوكون كما تهوكت اليهود والنصارى، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو أن موسى حي ما وسعه إلاّ اتباعي» قوله أتتهوكون أي تتحيرون أنتم في دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى، وقوله لقد جئتكم بها يعني بالملة الحنيفية بيضاء نقية، أي لا تحتاج إلى شيء، وقيل يحتمل أن يكون خطاباً للمنافقين من المؤمنين، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا في السلم أي الانقياد والطاعة لأن أصل السلم الاستسلام، وهو الانقياد كافة، أي بأجمعكم ولا تتفرقوا، وقيل يحتمل أن يرجع إلى الإسلام والمعنى ادخلوا في أحكام الإسلام وشرائعه كافة وهذا المعنى أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها‏.‏ قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية‏:‏ للإسلام ثمانية أسهم فعل الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ قال‏:‏ وقد خاب من لا سهم له ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ يعني آثاره فيما زين لكم من تحريم السبت ولحوم الإبل وغير ذلك، وقيل‏:‏ لا تلتفتوا إلى الشبهات التي يلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية والأهواء المضلة لأن من اتبع سنة إنسان فقد تبع آثره ‏{‏إنّه لكم عدو مبين‏}‏ يعني الشيطان‏.‏ فإن قلت عداوته بإيصال الضرر وإلقاء الوسوسة فكيف يصح ذلك مع الاعتقاد، فإن الله هو الفاعل لجميع الأشياء، قلت‏:‏ إنه يحاول إيصال الضرر والبلاء إلينا، ولكن الله منعه عن ذلك وأما معنى الوسوسة فمعلوم أنه يزين المعاصي وإلقاء الشبهات، وكل سبب لوقوع الإنسان في مخالفة الله تعالى فيصده بذلك عن الثواب، فهذا من أعظم جهات العداوة‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف يصح وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نراه‏؟‏ قلت‏:‏ إن الله تعالى بين عداوته ما هي فكأنه بين وإن لم يشاهد ‏{‏فإن زللتم‏}‏ أي ملتم وضللتم وقال ابن عباس أشركتم ‏{‏من بعد ما جاءتكم البينات‏}‏ أي الدلالات الواضحات ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز‏}‏ أي في نقمته ممن خالفه غالب لا يعجزه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ يعني أنه لا ينتقم إلاّ بحق والحيكم ذو الإصابة في الأمور كلها وفي الآية وعيد وتهديد لمن في قلبه شك ونفاق، أو عنده شبهة في الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏210- 211‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هل ينظرون‏}‏ أي ينتظرون التاركون الدخول في السلم والمتبعون خطوات الشيطان ‏{‏إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل‏}‏ جمع ظلة ‏{‏من الغمام‏}‏ يعني السحاب الأبيض الرقيق سمي غماماً لأنهم يغم ويستر وقيل هو شيء غير السحاب ولم يكن إلاّ لبني إسرائيل في تيههم وهو كهيئة الضباب الأبيض ‏{‏والملائكة‏}‏ أي وتأتيهم الملائكة‏.‏ وروى الطبري في تفسيره بسند متصل عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من الغمام طاقات يأتي الله عزّ وجل فيها محفوفاً»، وذلك قوله تعالى ‏{‏هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة وقضي الأمر‏}‏ قال عكرمة‏:‏ والملائكة حوله وقيل معناه حول الغمام وقيل حول الرب تبارك وتعالى‏.‏ واعلم أن هذه الآية من آيات الصفات للعلماء في آيات الصفات وأحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة‏:‏ الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديث الصفات، وأنه يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مع الإيمان، والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث وعن الحركة والسكون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هذا من الذي لا يفسر وقال سفيان بن عيينة‏:‏ كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلاّ الله ورسوله‏.‏ وكان الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرؤوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل هذا مذهب أهل السنة ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى‏:‏

عقيدتنا أن ليس مثل صفاته *** لا ذاته شيء عقيدة صائب

نسلم آيات الصفات بأسرها *** وأخبارها للظاهر المتقارب

ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا *** وتأويلنا فعل اللبيب المغالب

ونركب للتسليم سفناً فإنها *** لتسليم دين المرء خير المراكب

‏(‏المذهب الثاني‏)‏ وهو قول جمهور علماء المتكلمين، وذلك أنه أجمع المتكلمين من العقلاء والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء والذهاب، ويدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، والله تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مراداً، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئاً لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات وقيل معناه إلاّ أن يأتيهم أمر الله ووجه هذا التأويل أن الله تعالى فسره في آية أخرى فقال‏:‏ هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، فصار هذا الحكم مفسراً لهذا المجمل في هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ معناه يأتيهم الله بما أوعد من الحساب والعقاب فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ وقيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة، وقيل معناه ما ينظرون إلاّ أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم كان إتيان العذاب في الغمام‏؟‏ قلت‏:‏ لأن الغمام مظنة الرحمة ومنه ينزل المطر، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم وأفظع وقيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة وأهوالها ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ أي وجب العذاب وفرغ من الحساب، وذلك فصل الله القضاء بين العباد يوم القيامة ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ أي إلى الله تصير أمور العباد في الآخره‏.‏ فإن قلت‏:‏ هل كانت ترجع إلى غيره‏؟‏ قلت‏:‏ إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة، ولكن المراد من هذا إعلام الخلق إنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، وجواب آخر وهو أنه لما عبد قوم غيره في الدنيا أضافوا أفعاله إلى سواه ثم فإذا كان يوم القيامة وانكشف الغطاء ردوا إلى الله ما أضافوه إلى غيره في الدنيا‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سل بني إسرائيل‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يسأل يهود المدينة، وليس المراد بهذا السؤال العلم بالآيات لأنه كان صلى الله عليه وسلم قد علمها بإعلام الله إياه، ولكن المراد بهذا السؤال التقريع والتوبيخ والمبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله وترك الشكر، وقيل المراد بهذا السؤال التقرير وتذكير النعم التي أنعم بها على سلفهم ‏{‏كم آتيناهم من آية بينة‏}‏ أي من دلالة واضحة على نبوة موسى عليه السلام مثل العصا واليد البيضاء وفلق البحر وإنزال المن والسلوى ‏{‏ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته‏}‏ يعني يغير الآية التي جاءته من الله لأنها هي سبب الهدى والنجاة من الضلالة، وقيل هي حجج الله الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم أنكروها وبدلوها، وقيل المراد بنعم الله عهده الذي عهد إليهم فلم يفوا به ‏{‏فإن الله شديد العقاب‏}‏ يعني لمن بدل نعمة الله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏زين للذين كفروا الحياة الدنيا‏}‏ نزلت في مشركي العرب أبي جهل وأصحابه لأنهم كانوا يتنعمون بما بسط لهم في الدنيا من المال ويكذبون بالمعاد، وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين عبدالله بن أبيّ وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في رؤساء اليهود‏.‏ ويحتمل أنها نزلت في الكلّ‏.‏ والمزين هو الله تعالى بدليل قراءة من قرأ زين بفتح الزاي وذلك أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو المزين لهم بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة وخلق الأشياء العجيبة والمناظر الحسنة، وإنما فعل ذلك ابتلاء العبادة وذلك أنه جعل دار الدنيا ابتلاء وامتحان وركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء والقسر الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبب الذي تميل النفس إليه مع إمكان‏.‏ ردها عنه فنظر الخلق إلى الدنيا أكثر من قدرها فأعجبهم حسنها وزهرتها وزينتها فأحبوها وفتنوا بها‏.‏ وقيل‏:‏ إن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا حتى أقبلوا عليها وأحبوها، فكان هذا الإمهال هو التزين‏.‏ وقيل‏:‏ إن المزين هو الشيطان وغواة الجن والإنس، وذلك أنهم زينوا للكفار الحرص على الدنيا وطلبها وقبحوا لهم أمر الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ أوهموهم أن لا آخرة ليقبلوا على لذات الدنيا وطلب الحرص عليها، وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تعالى زين الذين كفروا يتناول جميع الكفار فيدخل فيه الشيطان وغواة الجن والإنس وأن كلهم مزين لهم وهذا المزين لا بد وأن يكون مغايراً لهم فثبت بهذا ضعف قول المعتزلة ‏{‏ويسخرون من الذين آمنوا‏}‏ يعني أن الكفار يستهزئون بفقراء المؤمنين، قال ابن عباس‏:‏ مثل عبدالله بن مسعود وعمار بن ياسر وصهيب وبلال ونظرائهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم ‏{‏والذين اتقوا‏}‏ يعني الفقراء من المؤمنين ‏{‏فوقهم‏}‏ أي فوق الكفار ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأن الفقراء في عليين والكفار والمنافقين في أسفل السافلين ‏(‏ق‏)‏ عن حارثة بن وهب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جوّاظ جعظري مستكبر» العتل الفظ الغليظ الشديد في الخصومة الذي لا ينقاد لخير‏.‏ والجواظ الفاخر المختال في مشيئته، وقيل هو القصير البطين‏.‏ والجعظري الفظ الغليظ، وقيل هو الذي يتمدح بما ليس فيه أو عنده ‏(‏ق‏)‏ عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء»

الجد بفتح الجيم هو الحظ والغنى وكثرة المال ‏{‏والله يرزق من يشاء بغير حساب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعطي كثيراً بغير مقدار لأن كل ما يدخل عليه الحساب فهو قليل، والمعنى أنه يوسع لمن يشاء من عباده وقيل يرزقه في الدنيا ولا يحاسبه في الآخرة، وقيل معناه أنه يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب وقيل معناه أنه يرزقه بغير استحقاق وقيل معناه أنه تعالى لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها لأن الحساب إنما يكون ليعلم قدر ما يعطي والله غني عالم بما يعطي ولا يخاف نفاد خزائنه لأنها بين الكاف والنون وقيل معناه إن الله يقتر الرزق على ما يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء، ولا يعطي كل واحد على قدر حاجته، بل يعطي الكثير لمن لا يحتاج إليه، ولا معارض له في حكمه، ويحاسب فيما رزق، ولا يقال له لم أعطيت هذا وحرمت هذا، ولا لم أعطيت هذا أكثر من ذاك‏؟‏ لأنه تعالى لا شريك له في ملكه ينازعه ولا يسأل عما يفعل‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب والكرامة بغير محاسبة منه لهم على ما من به عليهم وذلك أن نعيم الجنة لا نفاد له ولا انقطاع‏.‏ وقيل‏:‏ إنه تعالى يعطي أهل الجنة الثواب والأجر بقدر أعمالهم ثم يتفضل عليهم فذلك الفضل منه إليهم بغير حساب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كان الناس أمة واحدة‏}‏ أي على دين واحد‏.‏ وقيل هو آدم وذريته كانوا مسلمين على دين واحد إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا‏.‏ وقيل كان الناس على شريعة واحدة من الحق والهدى من وقت آدم إلى مبعث نوح ثم اختفلوا، فبعث الله نوحاً، وهو أول رسول بعث، ثم بعث بعده الرسل‏.‏ وقيل هم أهل السفينة الذين كانوا مع نوح وكانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاته‏.‏ وقيل إن العرب كانت على دين إبراهيم عليه السلام إلى أن غيره عمرو بن لحي‏.‏ وقيل كانت الناس أمة واحدة حين أخرجوا من ظهر آدم لأخذ الميثاق فقال‏:‏ ألست بربكم‏؟‏ قالوا بلى، فاعترفوا بالعبودية ولم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم، ثم لما ظهروا إلى الوجود اختلفوا بسبب البغي والحسد‏.‏ وقيل إن آدم وحده كان أمة واحدة يعني إماماً وقدوة يقتدى به وإنما ظهر الاختلاف بعده‏.‏ وقيل كان الناس أمة واحدة على الكفر والباطل بدليل قوله ‏{‏فبعث الله النبيين‏}‏ فإن قيل‏:‏ أليس قد كان فيهم من هو مسلم نحو هابيل وشيث وإدريس ونحوهم‏؟‏ فالجواب أن الغالب في ذلك الزمان كان الكفر والحكم للغالب‏.‏ وقيل إن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة وليس فيها ما يدل على كانوا على إيمان أو كفر فهو موقوف على دليل من خارج ‏{‏فبعث الله النبيين‏}‏ وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر المذكورون منهم في القرآن بأسماء الأعلام ثمانية وعشرون نبياً ‏{‏مبشرين‏}‏ بالثواب لمن آمن وأطاع ‏{‏ومنذرين‏}‏ يعني مخوفين بالعقاب لمن كفر وعصى، وإنما قدم البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة للأبدان والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود هو الأول فكان أولى بالتقديم ‏{‏وأنزل معهم الكتاب‏}‏ أي الكتب أو يكون التقدير وأنزل مع كل واحد الكتاب ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالعدل والصدق وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم القرآن ‏{‏ليحكم بين الناس‏}‏ يعني الكتاب وإنما أضيف الحكم إلى الكتاب وإن كان الحاكم هو الله تعالى لأنه أنزله‏.‏ والمعنى ليحكم الله بالكتاب الذي أنزله وقيل معناه ليحكم بين الناس كل نبي بكتابة المنزل عليه فإسناد الحكم إلى الكتاب أو للنبي مجاز والله هو الحاكم في الحقيقة ‏{‏فيما اختلفوا فيه‏}‏ أي في الحق الذي اختلفوا فيه من بعد ما كانوا متفقين عليه ‏{‏وما اختلف فيه‏}‏ أي في الحق ‏{‏إلاّ الذين أوتوه‏}‏ أي أعطوا الكتاب والمراد به التوراة والإنجيل والذين أوتوه اليهود والنصارى واختلافهم هو تكفير بعضهم بعضاً بغياً وحسداً‏.‏

وقيل اختلافهم هو تحريفهم وتبديلهم‏.‏ وقيل الكناية فيه راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى وما اختلف في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بعد وضوح الدلالات على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم إلاّ اليهود الذين أوتوا الكتبا بغياً منهم وحسداً ‏{‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي الدلالات الواضحات على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏بغياً بينهم‏}‏ أي إنهم لم يبق لم عذر في العدول عنه وترك ما جاء وإنما تركوا إتباعه بغياً وحسداً، وهو طلب الدنيا وطلب الرياسة ‏{‏فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه‏}‏ أي إلى ما اختلفوا فيه ‏{‏من الحق‏}‏ والمعنى فهدى الله الذين آمنوا لمعرفة ما اختلفوا فيه من الحق وقيل هو من المقلوب والمعنى فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلفوا فيه وكان اختلافهم الذي اختلفوا فيه الجمعة فهدى الله تعالى هذه الآمة الإسلامية إليها ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نحن الآخرون السابقون يقوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغداً لليهود بعد غد للنصارى» وفي رواية قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له» زاد النسائي‏:‏ يعني يوم الجمعة، ثم اتفقا فالناس لنا تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد ‏(‏م‏)‏ عن حذيفة قال‏:‏ قال رسول الله صلىلله عليه وسلم‏:‏ «أضل الله عن يوم الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الله الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضي لهم يوم القيامة قبل الخلائق» وقيل اختلفوا في شأن القبلة فصلت اليهود نحو المغرب إلى بيت المقدس، وصلت النصارى إلى المشرق، وهدانا الله إلى الكعبة‏.‏ وقيل اختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان، واختلفوا في إبراهيم فقالت اليهود كان يهودياً، وقالت النصارى كان نصرانياً، فهدانا إلى الحق فقلنا‏:‏ كان حنيفاً مسلماً‏.‏ واختلفوا في عيسى ابن مريم فاليهود فرطوا فيه والنصارى أفرطوا فيه، فهدانا الله في ذلك كله للحق‏.‏ والمعنى فهدى الله الذين آمنوا إلى الحق الذي اختلف فيه من اختلف ‏{‏بإذنه‏}‏ يعني بعلمه وأمره وإرادته ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة‏}‏ نزلت في غزوة الأحزاب وهي غزوة الخندق، وذلك أن المسلمين أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذٍ‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في غزوة أحد‏.‏ وقيل‏:‏ لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة في أول الهجرة اشتد عليهم الضر لأنهم خرجوا بلا مال وتركوا أموالهم وديارهم بأيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسوله الله صلى الله عليه وسلم وآثر قوم النفاق فأنزل الله هذه الآية تطييباً لقلوبهم‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أحسبتم والميم صلة‏.‏ وقيلك هل حسبتم والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان ولم يصبكم مثل ما أصاب من كان قبلكم من إتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والابتلاء والاختبار وهو قوله‏:‏ ‏{‏ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم‏}‏ أي شبه الذين مضوا قبلكم من النبيين وأتباعهم من المؤمنين ومثل محنتهم ‏{‏مستهم البأساء‏}‏ أي أصابهم الفقر والشدة والمسكنة وهو أسم من البؤس ‏{‏والضراء‏}‏ يعني المرض والزمانة وضروب الخوف ‏{‏وزلزلوا‏}‏ أي وحركوا بأنواع البلايا والرزايا وأصل الزلزلة الحركة وذلك لأن الخائف لا يستقر بل لا يزال يضطرب ويتحرك لقلقه ‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله‏}‏ وذلك لأن الرسل أثبت من غيرهم وأصبر وأضبط للنفس عند نزول البلاء وكذا أتباعهم من المؤمنين‏.‏ والمعنى أنه بلغ بهم الجهد والشدة والبلاء ولم يبق لهم صبر وذلك هو الغاية القصوى في الشدة فلما بلغ بهم الحال في الشدة إلى هذه الغاية واستبطؤا النصر قيل لهم ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏ إجابه لهم في طلبهم‏.‏ والمعنى‏:‏ هكذا كان حالهم لم يغيرهم طول البلاء والشدة عن دينهم إلى أن يأتيهم نصر الله فكونوا يا معشر المؤمنين كذلك وتحملوا الأذى والشدة والمشقة في طلب الحق فإن نصر الله قريب ‏(‏خ‏)‏ عن خباب بن الأرت قال‏:‏ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تنصر لنا ألا تدعو لنا فقال‏:‏ «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون»

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 216‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يسألونك ماذا ينفقون‏}‏ نزلت في عمرو بن الجموح، وكان شيخاً كبيراً ذا مال، فقال يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق‏؟‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير‏}‏ أي مال والمعنى‏:‏ وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر ‏{‏فللوالدين‏}‏ وإنما قدم الإنفاق على الوالدين لوجوب حقهما على الولد لأنهما كانا السبب في إخراجه من العدم إلى الوجود ‏{‏والأقربين‏}‏ وإنما ذكر بعد الوالدين الأقربين لأن الإنسان لا يقدر أن يقوم بمصالح جميع الفقراء فتقديم القرابة أولى من غيرهم ‏{‏واليتامى‏}‏ وإنما ذكر بعد الأقربين اليتامى لصغرهم، ولأنهم لا يقدرون على الاكتساب، ولا لهم أحد ينفق عليهم ‏{‏والمساكين‏}‏ وإنما أخرهم لأن حاجتهم أقل من حاجة غيرهم ‏{‏وابن السبيل‏}‏ يعني المسافر فإنه بسبب انقطاعه عن بلده قد يقع في الحاجة والفقر فانظر إلى هذا الترتيب الحسن العجيب في كيفية الإنفاق‏.‏ ثم لما فصل الله هذا التفصيل الحسن الكامل أتبعه بالإجمال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم‏}‏ وما تفعلوا من خير مع هؤلاء أو غيرهم طلباً لوجه الله تعالى ورضوانه فإن الله به عليم فيجازيكم عليه وذكر علماء التفسير أن هذه الاية منسوخة قال ابن مسعود نسختها آية الزكاة وقال الحسن إنها محكمة ووجه إحكامها أن الله ذكر فيها من تجب النفقة عليه مع فقره وهما الوالدان‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هذا في النفل، وهو ظاهر الآية فمن أجب التقرب إلى الله تعالى بالإنفاق فالأولى به أن ينفق في الوجوه المذكورة في الآية، فيقدم الأول فالأول‏.‏ ‏(‏بقي في الآية سؤال‏:‏ وهو أنه كيف طابق السؤال الجواب وهو أنهم سألوا عن بيان ما ينفق فأجيبوا ببيان المصرف، وأجيب عن هذا السؤال بأنه قد تضمن قوله‏:‏ ما أنفقتم من خير بيان ما ينفقونه وهو المال ثم ضم إلى جواب السؤال ما يكمل به المقصود، وهو بيان المصرف لأن النفقة لا تعد نفقة إلاّ أن تقع موقعها‏)‏ قال الشاعر‏:‏

إن الصنيعة لا تعد صنيعة *** حتى يصاب بها طريق المصنع

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كتب عليكم القتال‏}‏ أي فرض عليكم الجهاد‏.‏ واختلف العلماء في حكم الآية فقال عطاء الجهاد تطوع والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم وإليه ذهب الثوري وحكى عن الأوزاعي نحوه، وحجة هذا القول أن قوله كتب يقتضي الإيجاب ويكفي العمل به مرة واحدة وحجة من أوجبه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله عليكم يقضتى تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، وقيل‏:‏ بل الآية على ظاهرها والجهاد فرض على كل مسلم ويدل على ذلك ما روي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً» أخرجه أبو داود بزيادة فيه ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح‏:‏ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» وقيل‏:‏ إن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين وهذا القول‏:‏ هو المختار الذي عليه جمهور العلماء‏.‏ قال الزهري كتب الله القتال على الناس جاهدوا أو لم يجاهدوا فمن غزا فيها ونعمت ومن قعد عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغنى عنه قعد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاًّ وعد الله الحسنى‏}‏ ولو كان القاعد تاركاً فرضاً لم يعده بالحسنى، واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين‏.‏ القول الثاني‏:‏ إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏ القول الثالث‏:‏ إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو كره لكم‏}‏ أي القتال شاق عليكم وهذا الكره إنما حصل من حيث نفور الطبع عن القتال، لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح والخوف لا أنهم كرهوا أمر الله قيل‏:‏ نسخ هذا الكره بقوله تعالى إخباراً عنهم‏:‏ ‏{‏وقالوا سمعنا وأطعنا‏}‏ وقيل‏:‏ إنما كان كراهتهم القتال قبل أن يفرض عليهم لما فيه من الخوف والشدة وكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذين تكرهون من القتال هو خير لكم من تركه لئلا يكرهونه بعد أن فرض عليهم ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم‏}‏ لفظة عسى توهم الشك مثل لعل، وهي من الله يقين‏.‏ وقيل‏:‏ إنها كلمة مطمعة فهي لا تدل على حصول الشك للقائل وتدل على حصول الشك للمستمتع، والمعنى أن الغزو فيه إحدى الحسنيين إما الظفر والغنيمة وإما الشهادة والجنة وقيل‏:‏ ربما كان الشيء شاقاً في الحال وهو سبب المنافع الجليلة في المستقبل، ومثله شرب الدواء المر فإنه ينفر عنه الطبع في الحال ويكرهه لكن يتحمل هذه الكراهة والمشقة لتوقع حصول الصحة في المستقبل ‏{‏وعسى أن تحبوا شيئاً‏}‏ يعني القعود عن الغزو ‏{‏وهو شر لكم‏}‏ يعني لما فيه من فوت الغنيمة والأجر وطمع العدو فيكم، لأنه إذا علم ميلكم إلى الراحة والدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتالكم وإذا علم أن فيكم شهامة وجلادة على القتال كف عنكم ‏{‏والله يعلم‏}‏ يعني ما في الجهاد من الغنيمة والأجر والخير ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ يعني ذلك والمعنى أن العبد إذا علم قصور علمه وكمال علم الله ثم إن الله تعالى أمره بأمر كان الأمر فيه مصلحة عظيمة فيجب على العبد امتثال أمر الله تعالى وإن كان يشق على النفس في الحال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏217- 218‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه‏}‏ سبب نزول هذه الآية‏.‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن جحش وهو ابن عمته في سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين وأمره على السرية وكتب له كتاباً، وقال‏:‏ سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلت فافتح الكتاب فاقرأه على أصحابك ثم امض لما أمرتك به، ولا تستكرهنَّ أحداً منهم على السير معك فسار عبدالله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، فإذا فيه‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فسر على بركة الله تعالى، بمن معك من أصحابك ذلك حتى تنزل بطن نخلة فارصد بها عيراً لقريش لعلك تأتينا منها بخير‏.‏ فقال‏:‏ سمعاً وطاعة ثم قال لأصحابه ذلك وقال أنه نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كان يكره فليرجع، ثم مضى ومضى أصحابه معه وكانوا ثمانية رهط، ولم يتخلف عنه أحد منهم حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع بموضع من الحجاز، يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا في طلبه، ومضى عبدالله ببقية أصحابه حتى نزل في بطن نخلة بين مكة والطائف فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً، وتجارة من تجارة الطائف وفي العير عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ونوفل بن عبدالله بن المخزوميان فلما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم فقال عبدالله بن جحش‏:‏ إن القوم قد ذعروا منكم، فاحلقوا رأس رجل منكم وليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقاً أمنوا، فحلقوا رأس عكاشة بن محصن، ثم أشرف عليهم فلما رأوه آمنوا وقالوا‏:‏ قوم عمار فلابأس علينا وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنه من رجب فتشاور القوم فيهم، وقالوا‏:‏ متى تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم وليمتنعن منكم فأجمعوا أمرهم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبدالله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم، فقتله فكان أول قتيل من المشركين وأسر الحكم بن كيسان وعثمان وكانا أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل فأعجزهم واستاق المسلمون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت قريش‏:‏ قد استحل محمد الشهر الحرام وسفك الدماء وأخذ الحرائب يعني المال، وعير بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين‏.‏ قالوا‏:‏ يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعبدالله بن جحش وأصحابه‏:‏ ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ شيئاً من ذلك وعنف المسلمون أصحاب السرية فيما صنعوا، وقالوا لم صنعتم ما لم تؤمروا به، فعظم ذلك على أصحاب السرية وظنوا أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم‏.‏

وقالوا يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى وأكثر الناس في ذلك فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم العير فعزل منها الخمس، وكان أول خمس في الإسلام وأول غنيمة قسمت فقسم الباقي على أصحاب السرية وبعث أهل مكة في فداء أسيريهم‏.‏ فقال بل نبقيهما حتى يقدم سعد وعقبة، وإن لم يقدما قتلناهما بهما‏.‏ فلما قدما فاداهما فأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيداً وأما عثمان بن عبدالله فرجع إلى مكة فمات بها كافراً‏.‏ وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعاً، وقتله الله، فطلب المشركون جيفته بالثمن‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خذوه فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية» وأما تفسير الآية فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك‏}‏ يعني يا محمد عن الشهر الحرام يعني رجباً وسمي بذلك لتحريم القتال فيه وفي السائلين رسول الله صلى الله عليه وسلم قولان‏:‏ أحدهما أنهم المسلمون سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أخطؤوا أم أصابوا وقيل‏:‏ إن المسلمين كانوا يعلمون أن القتال في الحرم وفي الشهر الحرام لا يحل فلما كتب عليهم القتال سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية‏:‏ والقول الثاني أن السائلين هم المشركون وإنما سألوه على وجه العيب على المسلمين فنزلت هذه الآية ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل‏}‏ أي قل لهم يا محمد ‏{‏قتال فيه كبير‏}‏ أي عظيم مستكبر واختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين أحدهما أنها محكمة وأنه لا يجوز الغزو في الشهر الحرام إلاّ أن يقاتلوا فيه فيقاتلوا على سبيل الدفع‏.‏ روي عن عطاء أنه كان يحلف بالله ما يحل للناس، أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه وما نسخت‏.‏ والقول الثاني الذي عليه جمهور العلماء وهو الصحيح أنها منسوخة‏.‏ قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار‏.‏ القتال جائز في الشهر الحرام وهذه الآية منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافة‏}‏ يعني في الأشهر الحرم وغيرها ‏{‏وصد عن سبيل الله‏}‏ هذا ابتداء كلام والمعنى وصدكم المسلمين عن الحج أو وصدكم عن الإسلام من يريده ‏{‏وكفر به‏}‏ أي بالله ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ أي وصدكم عن المسجد الحرام ‏{‏وإخراج أهله منه‏}‏ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين آذوهم حتى هاجروا وتركوا مكة، وإنما جعلهم الله أهله لأنهم كانوا هم القائمين بحقوق المسجد الحرام دون المشركين ‏{‏أكبر عند الله‏}‏ أي أعظم وزراً عند الله من القتال في الشهر الحرام ‏{‏والفتنة‏}‏ أي الشرك الذي أنتم عليه ‏{‏أكبر من القتل‏}‏ يعني قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام فلما نزلت هذه الآية كتب عبدالله بن أنيس وقيل‏:‏ عبدالله بن جحش إلى مؤمني مكة إن عيركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيروهم أنتم بالكفر وبإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة والمسلمين، ومنعهم إياهم من البيت ‏{‏ولا يزالون‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏يقاتلونكم‏}‏ يعني يا معشر المؤمنين ‏{‏حتى يردوكم عن دينكم‏}‏ يعني إلى دينهم وهو الكفر ‏{‏إن استطاعوا‏}‏ يعني إن قدروا على ذلك وفيه استبعاد لاستطاعتهم فهو كقول الرجل لعدوه إن ظفرت بي فلا تبق علي وهو واثق أنه لا يظفر به ‏{‏ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر‏}‏ يعني ومن يطاوعهم منكم فيرجع إلى دينهم فيمت على ردته قبل أن يتوب ‏{‏فأولئك حبطت أعمالهم‏}‏ أي بطلت أعمالهم ‏{‏في الدنيا والآخرة‏}‏ وهو أن المرتد يقتل وتبين زوجته منه، ولا يستحق الميراث من أقاربه المؤمنين ولا ينصر إن استنصر ولا يمدح ولا يثنى عليه ويكون ماله فيئاً للمسلمين هذا في الدنيا، ولا يستحق الثواب على أعماله ويحبط أجرها في الآخرة وظاهر الآية يقتضي أن الارتداد إنما تتفرع عليه الأحكام إذا مات المرتد على الكفر، أما إذا أسلم بعد الردة لم يثبت عليه شيء من أحكام الردة وفيه دليل للشافعي أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت المرتد على ردته‏.‏

وعند أبي حنيفة أن الردة تحبط العمل وإن أسلم ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ يعني الذين ماتوا على الردة والكفر هم أصحاب النار ‏{‏هم فيها خالدون أي لا يخرجون منها أبداً ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله‏}‏ نزلت في عبدالله بن جحش وأصحابه وذلك أن أصحاب السرية قالوا‏:‏ يا رسول الله هل نؤجر على وجهنا هذا نطمع أن يكون لنا غزو‏.‏ فأنزل الله هذه الآية، وعن جندب بن عبدالله قال‏:‏ لما كان من أمر الله عبدالله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان قال بعض المسلمين‏:‏ إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم وزراً فليس لهم فيه أجر فأنزل الله هذه الاية ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا‏}‏ أي فارقوا مساكنهم وعشائرهم وأموالهم وفارقوا مساكنة المشركين في أمصارهم، ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عن المشركين وعن بلادهم إلى غيرها، وجاهدوا يعني المشركين في سبيل الله أي في طاعة الله فجعل الله لأصحاب هذه السرية جهاداً ‏{‏أولئك يرجون رحمة الله‏}‏ أي يطمعون في نيل رحمة الله أخبر أنهم على رجاء الرحمة‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من الرجاء هنا القطع في أصل الثواب وإنما دخل الظن في كميته ووقته‏.‏ قال قتادة‏:‏ أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله‏}‏ هؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب ‏{‏والله غفور‏}‏ أي لذنوب عباده ‏{‏رحيم‏}‏ بهم والمعنى أنه تعالى غفر لعبدالله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏219‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏‏}‏

‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر‏}‏ الآية نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله أفتنا في الخمر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال فأنزل الله هذه الآية‏:‏ وأصل الخمر في اللغة الستر والتغطية وسميت الخمر خمراً لأنها تخامر العقل أي تخالطه‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها تستره وتغطيه وجملة القول في تحريم الخمر أن الله عز وجل أنزل في الخمر أربع آيات نزلت بمكة‏:‏ ‏{‏ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً‏}‏ سلمون يشربونها في أول الإسلام، وهي لهم حلال ثم نزل بالمدينة في جواب سؤال عمر ومعاذ‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير‏}‏ فتركها قوم لقوله، إثم كبير وشربها قوم لقوله ومنافع للناس ثم إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، ودعا إليه ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ‏:‏ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف حرف لا إلى آخر السورة فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ فحرم الله السكر في أوقات الصلوات فكان الرجل يشربها بعد صلاة العشاء، فيصبح وقد زال سكره فيصلي الصبح، ويشربها بعد صلاة الصبح، فيصحو وقت الظهر ثم إن عتبان بن مالك اتخذ صنيعاً يعني وليمة ودعا رجالاً من المسلمين، وفيهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم فافتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال عمر‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، ويروى أن حمزة بن عبدالمطلب، شرب الخمر يوماً وخرج فلقي رجلاً من الأنصار وبيده ناضح له والأنصاري يتمثل ببيتين لكعب بن مالك يمدح قومه وهما‏:‏

جمعنا مع الإيواء نصراً وهجرة *** فلم ير حيّ مثلنا في المعاشر

فأحياؤنا من خير أحياء من مضى *** وأمواتنا من خير أهل المقابر

فقال حمزة‏:‏ أولئك المهاجرون وقال الأنصاري، بل نحن الأنصار فتنازعنا فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصاري فهرب الأنصاري وترك ناضحه فقطعه حمزة فجاء الأنصاري مستعدياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعل حمزة فغرم له رسول الله صلى الله عليه وسلم ناضحاً فقال عمر‏:‏ اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فأنزل الله تعالى الآية التي في المائدة إلى قوله ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏

فقال عمر‏:‏ اللهم بين يا رب، وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر وكان انتفاعهم بذلك كثيراً فعلم أنه لو منعهم من الخمر دفعه واحدة لشق ذلك عليهم فلا جرم استعمل هذا التدريج وهذا الرفق‏.‏ قال أنس‏:‏ حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها وما حرم عليهم شيء أشد من الخمر ‏(‏ق‏)‏ عن أنس قال‏:‏ ما كان لنا خمر غير فضيخكم وإني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل، فقال‏:‏ حرمت الخمر فقالوا‏:‏ أهرق هذه القلال يا أنس فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر هذا الرجل‏.‏ الفضيخ بالضاد والخاء المعجمتين شراب يتخذ من بسر مطبوخ والمفضوخ المشدوخ والمكسور والإهراق الصب والقلال جمع قلة وهي الجرة الكبيرة‏.‏

فصل في تحريم الخمر ووعيد من شربها

أجمعت الأمة على تحريم الخمر، وأنه يحد شاربها ويفسق بذلك مع اعتقاد تحريمها فإن استحل كفر بذلك ويجب قتله ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا، ومات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة» لفظ مسلم ‏(‏م‏)‏ عن جابر‏:‏ «أن رجلاً قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه وسلم يشربونه بأرضهم من الذرة يقاله له‏:‏ المزر‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو مسكر هو‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» كل مسكر حرام وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال‏.‏ قالوا‏:‏ وما طينة الخبال يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ عرق أهل النار أو عصارة أهل النار «وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينه الخبال‏.‏ قيل‏:‏ وما طينة الخبال يا رسول الله قال‏:‏ صديد أهل النار «أخرجه أبو داود‏.‏ عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏» من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعاً وإن مات فيها مات كافراً فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض‏.‏ وفي رواية عن القرآن لم تقبل صلاته أربعين يوماً وإن مات فيها مات كافراً «أخرجه النسائي‏.‏ عن عثمان بن عفان قال‏:‏ اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلاّ يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه أخرجه النسائي موقوفاً عليه وفيه قصة عن أنس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها أخرجه الترمذي‏.‏

فصل في أحكام تتعلق بالخمر

وفيه مسائل‏:‏ الأولى في ماهيتها‏:‏ قال الشافعي‏:‏ الخمرة عبارة عن عصير العنب النيء الشديد الذي قذف بالزبد وكذلك نقيع الزبيب والتمر المتخذ من العسل والحنطة والشعير والأرز والذرة، وكل ما أسكر فهو خمر، وقال أبو حنيفة‏:‏ الخمر من العنب والرطب ونقيع التمر والزبيب فإن طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه والمسكر منه حرام واحتج على ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى بعض عماله أن ارزق المسلمين من الطلاء، ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وفي رواية‏:‏ أما بعد فاطبخوا شرابكم حتى يذهب منه نصيب الشيطان فإن له اثنين ولكم واحد أخرجه النسائي‏.‏ الطلاء بكسر الطاء والمد الشراب المطبوخ من عصير العنب الذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، واحتج أيضاً بما روي عن ابن عباس قال‏:‏ حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب أخرجه النسائي‏.‏ واستدل ايضاً على أن السكر حرام لما روي عن أبي الأحوص عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي بردة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اشربوا ولا تسكروا» وعن عائشة نحوه أخرجه النسائي‏.‏ وقال هذا حديث غير ثابت، واستدل الشافعي على ان الخمر في عدة أشياء بما روي عن ابن عمر أن عمر قال على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما بعد أيها الناس أنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل ثلاث، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا أخرجه البخاري ومسلم ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام‏.‏ البتع شراب يتخذ من العسل كان أهل اليمن يشربونه‏.‏ عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن من العنب خمراً وإن من البر خمراً وإن من الشعير خمراً وإن من التمر خمراً» أخرجه أبو داود‏.‏ وزاد في رواية والذرة وإني أنهاكم عن كل مسكر وللترمذي نحوه وزاد وإن من العسل خمراً ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس أنه سئل عن الباذق فقال‏:‏ سبق حكم محمد في الباذق، فما أسكر فهو حرام عليك والشراب الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب ليس بعد الحلال الطيب إلاّ الحرام الخبيث قال صاحب المطالع‏:‏ الباذق بفتح الذال المعجمة هو الظلاء المطبوخ من عصير العنب كان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر، وكل ما أسكر فهو خمر لأن الاسم لا ينقله عن معناه الموجودة فيه‏.‏

وقال ابن الأثير في النهاية الباذق الخمر تعريب باذه وهو اسم للخمر بالفارسية أي لم يكن في زمانه أو سبق‏.‏ قوله‏:‏ فيها وفي غيرها من جنسها‏.‏ وقيل معناه سبق حكم محمد صلى الله عليه وسلم إن ما اسكر فهو حرام‏.‏ عن أم سلمة قالت‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر أخرجه أبو داود‏:‏ والمفتر كل شراب أحمى الجسد وصار فيه فتور وضعف وانكسار واستدل الشافعي على ما أسكر فقليله حرام، مما روي عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما أسكر كثيره فقليله حرام» أخرجه الترمذي وأبو داود‏.‏ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام» أخرجه أبو داود والنسائي‏.‏ وفي رواية له «والحسوة منه حرام» الفرق بالتحريك مكيال يسع تسعة عشر رطلاً بالبغدادي، وأجيب عن حديث عمر في الطلاء بأنه معارض بما روي عن السائب يزيد أن عمر قال‏:‏ وجدت من فلان ريح شراب وزعم أنه شرب الطلاق وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته فسأل عنه فقيل له‏:‏ إنه يسكر فجلده عمر الحد تاماً أخرجه مالك في الموطأ‏.‏ وأما حديث ابن عباس، فموقوف عليه ومعارض بما روي عنه في الباذق، قوله‏:‏ والسكر من كل شراب قد رواه الحفاظ السكر بفتح السين‏.‏ قال صاحب الغريبين‏:‏ السكر خمر الأعاجم، ويقال لهم يسكر السكر وروى هذا الحديث ابن حنبل وقال فيه‏:‏ والمسكر من كل شراب، وقال موسى بن هارون‏:‏ وهو الصواب، وأما حديث أبي الأحوص ففيه وهمان‏:‏ أحدهما في سنده حيث قال‏:‏ عن أبي بردة، وإنما يرويه سماك عن القاسم عن ابن بريدة عن أبيه والوهم الثاني في متنه حيث قال‏:‏ اشربوا ولا تسكروا، وإنما يرويه الناس ولا تشربوا مسكراً، ويدل على صحة هذا ما روى مسلم في صحيحه عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكراً» وقال النسائي‏:‏ في حديث أبي الأحوص هذا حديث منكر غلط فيه أبو الأحوص سلام بن سليم لا يعلم أن أحداً تابعه عليه من أصحاب سماك، وأما حديث عائشة فيه فهو غير ثابت كما تقدم في قول النسائي‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ في الحكم بنجاسة الخمر‏:‏ الخمر وما يلحق بها نجسه العين ويدل على نجاستها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيكان فاجتنبوه‏}‏ والرجس في اللغة النجس والشيء المستقذر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ فأمر باجتنابها فكانت نجسة العين ويدل على نجاستها أيضاً أنها محرمة التناول لا للاحترام، ولأن الناس مشغوفون بها فينبغي أن يحكم بنجاستها تأكيداً للزجر عنها‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ في تحريم بيعها والانتفاع بها‏.‏ أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام فتح مكة‏:‏ «إن الله تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير والأصنام» أخرجاه في الصحيحين مع زيادة اللفظ ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «حرمت التجارة في الخمر» ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلاناً باع خمراً فقال قاتل الله فلاناً ألم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها» عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من باع الخمر فليشقص الخنازير» أخرجه أبو داود‏.‏ وقوله فليشقص الخنازير أي فليقطعها قطعاً كما تقطع الشاة للبيع والمعنى من استحل بيع الخمر فلستحل بيع الخنازير فإنهما في التحريم سواء‏.‏ عن أبي طلحة قال يا نبي الله إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري‏.‏ فقال‏:‏ اهرق الخمر واكسر الدنان أخرجة الترمذي‏.‏ وقال وقد روي عن أنس إن أبا طلحة كان عنده خمر لأيتام وهو أصح‏.‏ فإن قلت فما وجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ قلت‏:‏ منافعها اللذة التي توجد عند شربها والفرح والطرب معها وما كانوا يصيبون من الربح في ثمنها، وذلك قبل التحريم فلما حرمت حرم ذلك كله‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

وأما الميسر فهو القمار واشتقاقه من اليسر لأنه أخذ مال بسهولة من غير تعب، وكذا قال ابن عباس كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وأصل الميسر أن أهل الثروة من العرب في الجاهلية كانوا يشترون جزوراً فينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين جزءاً، ثم يسهمون عليها بعشرة قداح لها بعشرة قداح يقال لها‏:‏ الأزلام والأقلام وأسماؤها الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد وكانوا يسهمون لسبعة منها أنصاب فللفذ سهماً وللتوأم سهمين وللرقيب ثلاثة أسهم وللحلس أربعة وللنافس خمسة، وللمبسل ستة وللمعلى سبعة وثلاثة من القداح لا أنصباء لها وهي المنيح والسفيح والوغد قال بعضهم‏:‏

فلي في الدنيا سهام *** ليس فيهن وبيح

إنما سهمي وغد *** ومنيح وسفيح

ثم يجمعون القداح في خريطة الريابة، ويضعونها على يد رجل عدل عندهم يسمونه المحيل والمفيض فيحيلها في الخريطة، ويخرج منها قدحاً باسم رجل منهم فأيهم خرج اسمه أخذ نصيبه على قدر ما يخرج من القداح، وإن خرج له قدح من الثلاثة التي لا أنصباء لها لم يأخذ شيئاً وغم ثمن الجزور كله وقيل‏:‏ لا يأخذ ولا يغرم ويسمون ذلك القدح لغواً ثم يدفعون ذلك الجزور إلى الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لا يفعله ويسمونه البرم يعني البخيل الذي لا يخرج شيئاً بين الأصحاب لبخله‏.‏

وأما الحكم الآية فالمراد به جميع أنواع القمار‏.‏ فكل شيء فيه قمار فهو من الميسر روي عن ابن سيرين ومجاهد وعطاء كل شيء فيه خطر يعني الرهن فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالحوز والكعاب وأما النرد فيحرم اللعب به سواء كان بخطر أم لا يدل على تحريمه ما روي عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في دم خنزير» أخرجه مسلم‏.‏ وعن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من لعب بنرد أو نردشير فقد عصى الله ورسوله» أخرجه أبو داود‏.‏ وعن علي بن أبي طالب قال النرد والشطرنج من الميسر‏.‏ واختلفوا في الشطرنج فمذهب أبي حنفية أنه يحرم اللعب به سواء كان برهن أو بغير رهن، ومذهب الشافعي أنه مباح بشروط ذكرها الشافعي فقال‏:‏ إذا خلا الشطرنج عن الرهان واللسان عن الطغيان ويروى عن الهذيان والصلاة عن النسيان لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر لأن الميسر ما يوجب دفع مال، وأخذ مال وهذا ليس كذلك وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما‏}‏ يعني في الخمر والميسر ‏{‏إثم كبير‏}‏ أي وزر عظيم وقيل‏:‏ إن الخمر عدو للعقل فإذا غلبت على عقل الإنسان ارتكب كل قبيح ففي ذلك آثام كبيرة منها إقدامه على شرب المحرم ومنها فعل ما لا يحل فعله‏.‏ وأما الإثم الكبير في الميسر فهو أكل المال الحرام بالباطل وما يجري بينهما من الشتمّ والمخاصمة والمعاداة وكل ذلك فيه آثام كثيرة ‏{‏ومنافع للناس‏}‏ يعني أنهم كانوا يربحون في بيع الخمر قبل تحريمها‏.‏ وأما منافع الميسر فهو أخذ مال بغير كد ولا تعب‏.‏ قيل ربما أن الواحد منهم كان يقمر في المجلس الواحد مائة بعير، فيحصل له المال الكثير، وربما كان يصرفه إلى المحتاجين فيكسب بذلك الثناء والمدح، وهو المنفعة ‏{‏وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏ يعني إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل الترحيم، وقيل‏:‏ إثمهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون‏}‏ فهذه ذنوب يترتب عليها آثام كبيرة بسبب الخمر والميسر‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون‏}‏ وذلك أن رسول الله صلة الله عليه وسلم حضهم على الصدقة فقالوا ماذا ننفق فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل العفو‏}‏ يعني الفضل والعفو ما فضل عن قدر الحاجة‏.‏

فكانت الصحابة يكتسبون المال ويمسكون قدر النفقة‏.‏ ويتصدقون بالفاضل بحكم هذه الآية ثم نسخ ذلك بآية الزكاة وقيل‏:‏ هو التصدق عن ظهر غنى ‏(‏ق‏)‏ عن الزهري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» وقيل‏:‏ هو الوسط في الإنفاق من غير إسراف ولا إقتار وقيل‏:‏ هو في صدقة التطوع إذ لو كان المراد بهذا الإنفاق الواجب لبين الله قدره فلما لم يبينه دل ذلك على أن المراد به صدقة التطوع ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات‏}‏ أي يبين لكم الأمور التي سألتم عنها من وجوه الإنفاق ومصارفه ‏{‏لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏‏.‏ يعني فتأخذون ما يصلحكم في الدنيا وتنفقون الباقي فينفعكم في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ لعلكم تتفكرون في زوال الدنيا فتزهدوا فيها وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏220‏]‏

‏{‏فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن اليتامى‏}‏ قال ابن عباس لما نزلت‏:‏ ‏{‏إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً‏}‏ تخرج المسلمون من أموال اليتامى تحرجاً شديداً حتى عزموا أموالهم وتركوا مخالطتهم، وربما كان يصنع لليتيم فيفضل منه فيتركونه ولا يأكلونه، فاشتد ذلك ذلك عليهم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ويسألونك عن اليتامى ‏{‏قل إصلاح لهم خير‏}‏ أي إصلاح أموال اليتامى من غير أخذ أجرة، ولا عوض خير لكم أي أعظم أجراً‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يوسع على اليتيم من طعام نفسه ولا يوسع من طعام اليتيم ‏{‏وإن تخالطوهم‏}‏ يعني في الطعام والخدمة والسكنى وهذا فيه إباحة المخالطة أي شاركوهم في أموالهم واخلطوها بأموالكم ونفقاتكم ومساكنكم وخدمكم ودوابكم، فتصيبوا من أموالهم عوضاً من قيامكم بأمورهم أو تكافئوهم على ما تصيبون من أموالهم ‏{‏فإخوانكم‏}‏ أي فهم إخوانكم والأخوان يعين بعضهم بعضاً ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح والرضا ‏{‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏ يعني المفسد لمال اليتيم والمصلح له، ويعلم الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وأكل امل اليتيم بغير حق والذي يقصد الإصلاح‏.‏

‏{‏ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏ أي لضيق عليكم وما أباح لكم مخالطتهم وأصل العنت الشدة والمشقة والمعنى لكلفكم في كل شيء ما يشق عليكم ‏{‏إن الله عزيز حكيم‏}‏ أي غالب يقدر أن يشق على عباده ويعنتهم ولكنه حكيم لا يكلف عباده إلاّ ما تتسع فيه طاقتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ نزلت في أبي مرثد بن أبي مرثد الغنوي واسم أبي مرثد يسار بن حصين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليخرج منها ناساً من المسلمين سراً، فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلته في الجاهلية فأتته فقالت‏:‏ ألا تخلو فقال ويحك يا عناق إن الإسلام حال بيني وبين ذلك فقالت له‏:‏ هل لك أن تتزوج بي‏؟‏ قال نعم ولكن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستامره فقالت‏:‏ أبي تتبرم واستعانت عليه فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان من أمره، وأمر عناق وما لقي بسببها وقال يا رسول الله‏:‏ أيحل لي أن أتزوجها فأنزل الله تعالى هذه الآية وأصل النكاح في اللغة الوطء ثم كثر حتى قيل العقد نكاح‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ ولا تنكحوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمنّ أي يصدقن بالله ورسوله وهو الإقرار بالشهادتين والتزام أحكام المسلمين واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقيل‏:‏ إنها تدل على أن كل مشركة يحرم نكاحها على كل مسلم من أي أجناس الشرك كانت كالوثنية والمجوسية والنصرانية وغيرهن من أصناف المشركات، ثم استثنى الله تعالى من ذلك نكاح الحرائر الكتابيات بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ فأباح الله تعالى نكاحهن بهذه الآية قال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‏}‏ وقيل‏:‏ إن حكم الآية نزل في المشركات العرب الوثنيات خاصة ولم ينسخ منها شيء ولم يستثن وإنما حكمها عام مخصوص، قال قتادة‏:‏ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن يعني مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه‏.‏ وبيان هذا في مسألة وهي أن لفظ الشرك على من يطلق‏؟‏ فالأكثرون من العلماء وهو القول الصحيح المختار أن لفظ الشرك يندرج فيه أهل الكتاب من اليهود والنصارى وكذلك عبدة الأصنام والمجوس وغيرهم‏.‏ ويدل على أن اليهود والنصارى يطلق عليهم اسم الشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو سبحانه عما يشركون‏}‏ فهذه الآية صريحة في شرك اليهود والنصارى وقيل‏:‏ كل من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإن زعم أن الله تعالى واحد فهو مشرك وذلك ان من كفر بالنبي صلى الله عليه وسلم مع صحة نبوته، وظهور معجزاته فقد زعم أن ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، هو من عند غير الله فقد أشرك مع الله غيره فعلى هذا القول أيضاً يدخل فيه اليهود والنصارى لإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ إن اسم الشرك لا يتناول إلاّ عبدة الأوثان فقط والأول أصح لما تقدم من الأدلة فعلى قول من قال‏:‏ إن اسم الشرك لا يتناول إلا الوثنيات تكون الآية محكمة وعلى قول الأكثرين أن اسم الشرك يتناول الوثنيات والكتابيات وغيرهن تكون الآية محكمة في حق الوثنيات منسوخة في حق الكتابيات وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة خير‏}‏ يعني أنفع وأصلح وأفضل ‏{‏من مشركة‏}‏ يعني حرة ‏{‏ولو أعجبتكم‏}‏ يعني بجمالها ومالها ونسبها فالأمة المؤمنة خير وأفضل عند الله من الحرة المشركة، نزلت في خنساء وليدة كانت لحذيفة بن اليمان فقال‏:‏ يا خنساء قد ذكرت في الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك ثم أعتقها وتزوجها‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عبدالله بن رواحة كانت عنده أمة سوداء فغضب عليها يوماً فلطمها، ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره‏:‏ فقال‏:‏ وما هي يا عبدالله قال‏:‏ هي تشهد أن الله لا إله إلاّ وأنك رسول الله وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلي‏.‏ فقال‏:‏ هذه أمة مؤمنة‏.‏ قال عبدالله‏:‏ فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا أتنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ هذا خطاب لأولياء المرأة أي لا تزوجوا المسلمة من المشركين‏.‏ حرم على المؤمنات أن ينكحن مشركين من أي أصناف الشرك كان، وانعقد الإجماع على أنه لا يجوز للمسلمة أن تتزوج ‏{‏ولعبد مؤمن خير من مشرك‏}‏ يعني حراً ‏{‏ولو أعجبكم‏}‏ بحسنه وماله وجماله ‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ يعني يدعون إلى الشرك الذي يؤدي إلى النار ‏{‏والله يدعو إلى الجنة والمغفرة‏}‏ يعني أنه تعالى بين هذه الأحكام وأباح بعضها، وحرم بعضها، فاعملوا بما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه فإن من عمل بذلك استحق الجنة والمغفرة ‏{‏بإذنه‏}‏ أي بتسير الله وإرادته وتوفيقيه ‏{‏ويبين آياته للناس‏}‏ أي يوضح أدلته وحججه في أوامره ونواهيه وأحكامه ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏ أي فيتعظون‏.‏