فصل: تفسير الآيات رقم (76- 88)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 88‏]‏

‏{‏قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏76‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏78‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏79‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏80‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏81‏)‏ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏82‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏83‏)‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ‏(‏84‏)‏ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏85‏)‏ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ‏(‏86‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قال أنا خير منه‏}‏ يعني لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه‏.‏ ثم بين كونه خيراً منه فقال ‏{‏خلقتني من نار وخلقته من طين‏}‏ والنار أشرف من الطين وأفضل منه وأخطأ إبليس في القياس لأن مآل النار إلى الرماد الذي لا ينتفع به والطين أصل كل ما هو نام ثابت كالإنسان والشجرة المثمرة ومعلوم أن الإنسان والشجرة المثمرة خير من الرماد وأفضل‏.‏ وقيل‏:‏ هب أن النار خير من الطين بخاصية فالطين خير منها وأفضل بخواص وذلك مثل رجل شريف نسيب لكنه عار عن كل فضيلة فإن نسبه يوجب رجحانه بوجه واحد، ورجل ليس بنسيب ولكنه فاضل عالم فيكون أفضل من ذلك النسيب بدرجات كثيرة ‏{‏قال فاخرج منها‏}‏ أي من الجنة وقيل من السماء‏.‏ وقيل من الخلقة التي كان فيها وذلك لأن إبليس تجبر وافتخر بالخلقة فغير الله تعالى خلقته فاسود وقبح بعد حسنه ونورانيته ‏{‏فإنك رجيم‏}‏ أي مطرود ‏{‏وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين‏}‏ فإن قلت إذا كان الرجم بمعنى الطرد وكذلك اللعنة لزم التكرار فما الفرق‏.‏

قلت الفرق أن يحمل الرجم على الطرد من الجنة أو السماء وتحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة فتكون أبلغ وحصل الفرق وزال التكرار‏.‏

فإن قلت كلمة إلى لانتهاء الغاية وقوله إلى يوم الدين يقتضي انقطاع اللعنة عنه عند مجيء يوم الدين‏.‏

قلت معناه أن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا كان يوم القيامة زيد له مع اللعنة من أنواع العذاب ما ينسى بذلك اللعنة فكأنها انقطعت عنه ‏{‏قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم‏}‏ يعني النفخة الأولى ‏{‏قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول‏}‏ أي أنا أقول الحق وقيل الأول قسم يعني فبالحق وهو الله تعالى أقسم بنفسه ‏{‏لأملأن جهنم منك‏}‏ أي بنفسك وذريتك ‏{‏وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ يعني من بني آدم ‏{‏قل ما أسألكم عليه‏}‏ أي على تبليغ الرسالة ‏{‏من أجر‏}‏ أي جعل ‏{‏وما أنا من المتكلفين‏}‏ أي المتقولين القرآن من تلقاء نفسي وكل من قال شيئاً من تلقاء نفسه فقد تكلف له ‏(‏ق‏)‏ عن مسروق قال‏:‏ دخلنا على ابن مسعود فقال يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏}‏ لفظ البخاري ‏{‏إن هو‏}‏ يعني القرآن ‏{‏إلا ذكر‏}‏ أي موعظة ‏{‏للعالمين‏}‏ أي للخلق أجمعين ‏{‏ولتعلمن‏}‏ يعني أنتم يا أهل مكة ‏{‏نبأه‏}‏ أي خبر صدقه ‏{‏بعد حين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بعد الموت، وقيل يوم القيامة وقيل من بقي علم بذلك إذا ظهر أمره وعلا ومن مات علمه بعد الموت‏.‏ وقال الحسن بن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة الزمر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏2‏)‏ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ‏(‏3‏)‏ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب‏}‏ أي هذا الكتاب وهو القرآن تنزيل ‏{‏من الله العزيز الحكيم‏}‏ أي لا من غيره ‏{‏إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق‏}‏ أي لم ننزله باطلاً لغير شيء ‏{‏فاعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ أي الطاعة ‏{‏ألا لله الدين الخالص‏}‏ أي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل لا يستحق الدين الخالص إلا الله وقيل يعني الخالص من الشرك وما سوى الخالص ليس بدين الله الذي أمر به لأن رأس العبادات الإخلاص في التوحيد واتباع الأوامر واجتناب النواهي ‏{‏والذين اتخذوا من دونه‏}‏ أي من دون الله ‏{‏أولياء‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏ما نعبدهم‏}‏ أي قالوا ما نعبدهم ‏{‏إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏ يعني قربة وذلك أنهم كانوا إذا قيل لهم من خلقكم وخلق السموات والأرض ومن ربكم قالوا الله فقيل لهم فما معنى عبادتكم الأصنام فقالوا ليقربونا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده ‏{‏إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون‏}‏ أي من أمر الدين ‏{‏إن الله لا يهدي‏}‏ أي لا يرشد لدينه ‏{‏من هو كاذب‏}‏ أي من قال إن الآلهة تشفع له ‏{‏كفار‏}‏ أي باتخاذه الآلهة دون الله تعالى ‏{‏لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى‏}‏ أي لاختار ‏{‏مما يخلق ما يشاء‏}‏ يعني الملائكة ثم نزه نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارة قلبه ‏{‏وهو الواحد‏}‏ أي في ملكه الذي لا شريك له ولا ولد ‏{‏القهار‏}‏ أي الغالب الكامل القدرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 7‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ‏(‏5‏)‏ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السموات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل‏}‏ يعني يغشى هذا هذا، وقيل يدخل أحدهما على الآخر وقيل ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر فما نقص من الليل زاد في النهار وما نقص من النهار زاد في الليل ومنتهى النقصان تسع ساعات ومنتهى الزيادة خمس عشرة ساعة وقيل الليل والنهار عسكران عظيمان يكرّ أحدهما على الآخر وذلك بقدرة قادر عليهما قاهر لهما ‏{‏وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى‏}‏ يعني إلى يوم القيامة ‏{‏ألا هو العزيز الغفار‏}‏ معناه أن خلق هذه الأشياء العظيمة يدل على كونه سبحانه وتعالى عزيزاً كامل القدرة مع أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان ‏{‏خلقكم من نفس واحدة‏}‏ يعني آدم ‏{‏ثم جعل منها زوجها‏}‏ يعني حواء، ولما ذكر الله تعالى قدرته في خلق السموات والأرض وتكوير الليل على النهار ثم أتبعه بذكر خلق الإنسان عقبه بذكر خلق الحيوان فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج‏}‏ يعني الإبل والبقر والغنم والمعز والمراد بالأزواج الذكر والأنثى من هذه الأصناف، وفي تفسير الإنزال وجوه‏.‏ قيل إنه هنا بمعنى الإحداث والإنشاء وقيل إن الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء وهو ينزل من السماء فكان التقدير أنزل الماء الذي تعيش به الأنعام وقيل إن أصول هذه الأصناف خلقت في الجنة ثم أنزلت إلى الأرض ‏{‏يخلقكم في بطون أمهاتكم‏}‏ لما ذكر الله تعالى أصل خلق الإنسان ثم أتبعه بذكر الأنعام عقبه بذكر حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات وإنما قال في بطون أمهاتكم لتغليب من يعقل ولشرف الإنسان على سائر الخلق ‏{‏خلقاً من بعد خلق‏}‏ يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة ‏{‏في ظلمات ثلاث‏}‏ قال ابن عباس ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة وقيل ظلمة الصلب وظلمة الرحم وظلمة البطن ‏{‏ذلكم الله ربكم‏}‏ أي الذي خلق هذه الأشياء ربكم ‏{‏له الملك‏}‏ أي لا لغيره ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي لا خالق لهذا الخلق ولا معبود لهم إلا الله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنى تصرفون‏}‏ أي عن طريق الحق بعد هذا البيان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن تكفروا فإن الله غني عنكم‏}‏ يعني أنه تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه نفعاً أو ليدفع عن نفسه ضرراً وذلك لأنه تعالى غني عن الخلق على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ولأنه لو كان محتاجاً لكان ذلك نقصاناً والله تعالى منزه عن النقصان فثبت بما ذكرنا أنه غني عن جميع العالمين فلو كفروا وأصروا عليه فإن الله تعالى غني عنهم ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يرضى لعباده الكفر‏}‏ يعني أنه تعالى وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفر إلا أنه لا يرضى لعباده الكفر قال ابن عباس لا يرضى لعباده المؤمنين بالكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا مس الإنسان ضر‏}‏ أي بلاء وشدة ‏{‏دعا ربه منيباً‏}‏ أي راجعاً ‏{‏إليه‏}‏ مستغيثاً به ‏{‏ثم إذا خوله‏}‏ أي أعطاه ‏{‏نعمة منه نسي‏}‏ أي ترك ‏{‏ما كان يدعو إليه من قبل‏}‏ والمعنى نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه ‏{‏وجعل لله أنداداً‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏ليضل عن سبيله‏}‏ أي ليرد عن دين الله تعالى ‏{‏قل‏}‏ أي لهذا الكافر ‏{‏تمتع بكفرك قليلاً‏}‏ أي في الدنيا إلى انقضاء أجلك ‏{‏إنك من أصحاب النار‏}‏ قيل نزلت في عتبة بن ربيعة وقيل في أبي حذيفة المخزومي وقيل هو عام في كل كافر ‏{‏أمن هو قانت‏}‏ قيل فيه حذف مجازه كمن هو غير قانت، وقيل مجازه الذي جعل لله أنداداً أخير أم من هو قانت‏.‏ وقيل معنى الآية تمتع بكفرك إنك من أصحاب النار ويا من هو قانت أنت من أصحاب الجنة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي بكر وعمر‏.‏ وعن ابن عمر‏:‏ أنها نزلت في عثمان‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان وقيل‏:‏ الآية عامة في كل قانت وهو المقيم على الطاعة، وقال ابن عمر‏:‏ القنوت قراءة القرآن وطول القيام، وقيل‏:‏ القانت القائم بما يجب عليه ‏{‏آناء الليل‏}‏ أي ساعات الليل أوله ووسطه وآخره ‏{‏ساجداً وقائماً‏}‏ أي في الصلاة وفيه دليل على ترجيح قيام الليل على النهار وأنه أفضل منه وذلك لأن الليل أستر فيكون أبعد عن الرياء ولأن ظلمة الليل تجمع الهم وتمنع البصر عن النظر إلى الأشياء، وإذا صار القلب فارغاً عن الاشتغال بالأحوال الخارجية رجع إلى المطلوب الأصلي وهو الخشوع في الصلاة ومعرفة من يصلى له، وقيل لأن الليل وقت النوم ومظنَّة الراحة فيكون قيامه أشقّ على النفس فيكون الثواب فيه أكثر ‏{‏يحذر‏}‏ أي يخاف ‏{‏الآخرة ويرجوا رحمة ربه‏}‏ قيل المغفرة وقيل الجنة وفيه فائدة وهي أنه قال في مقام الخوف يحذر الآخرة فلم يضف الحذر إليه تعالى، وقال في مقام الرجاء ويرجو رحمة ربه وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأولى أن ينسب إلى الله تعالى ويعضد‏.‏ هذا ما روي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له كيف نجدك قال أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجو منه وآمنه مما يخاف» أخرجه الترمذي ‏{‏قل هل يستوي الذين يعلمون‏}‏ أي ما عند الله من الثواب والعقاب ‏{‏والذين لا يعلمون‏}‏ ذلك، وقيل‏:‏ الذين يعلمون عمار وأصحابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 16‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ أي مخلصاً له التوحيد أي لا أشرك به شيئاً ‏{‏وأمرت لأن أكون أول المسلمين‏}‏ أي من هذه الأمة قيل أمره أولاً بالإخلاص وهو من عمل القلب ثم أمره ثانياً بعمل الجوارح لأن شرائع الله تعالى لا تستفاد إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ فكان هو أول الناس شروعاً فيها فخص الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر لينبه على أن غيره أحق بذلك فهو كالترغيب لغيره ‏{‏قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏}‏ وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما حملك على هذا الذي أتيتنا به ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وقومك فتأخذ بها فأنزل الله تعالى هذه الآيات ومعنى الآية زجر الغير عن المعاصي لأنه مع جلالة قدره وشرف طهارته ونزاهته ومنصب نبوته إذا كان خائفاً حذراً من المعاصي فغيره أولى بذلك ‏{‏قل الله أعبد مخلصاً له ديني‏}‏ فإن قلت ما معنى التكرار في قوله ‏{‏قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين‏}‏ وفي قوله ‏{‏قل الله أعبد مخلصاً له ديني‏}‏‏.‏ قلت هذا ليس بتكرار لأن الأول الإخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإتيان بالعبادة والإخلاص، والثاني أنه إخبار بأنه أمر أن يخص الله تعالى وحده بالعبادة ولا يعبد أحداً غيره مخلصاً له دينه، لأن قوله ‏{‏أمرت أن أعبد الله‏}‏ لا يفيد الحصر وقوله‏:‏ ‏{‏الله أعبد‏}‏ يفيد الحضر والمعنى الله أعبد ولا أعبد أحداً غيره ثم أتبعه بقوله ‏{‏فاعبدوا ما شئتم من دونه‏}‏ ليس أمراً بل المراد منه الزجر والتهديد والتوبيخ ثم بين كمال الزجر بقوله ‏{‏قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم‏}‏ يعني أزواجهم وخدمهم ‏{‏يوم القيامة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن الله تعالى جعل لكل إنسان منزلاً وأهلاً في الجنة فمن عمل بطاعة الله تعالى كان ذلك المنزل والأهل ومن عمل بمعصية الله تعالى دخل النار وكان ذلك المنزل والأهل لغيره ممن عمل بطاعة الله تعالى فخسر نفسه وأهله ومنزله وقيل خسران النفس بدخول النار وخسران الأهل بأن يفرق بينه وبين أهله ‏{‏ألا ذلك هو الخسران المبين لهم من فوقهم ظلل من النار‏}‏ أي أطباق وسرادقات ‏{‏ومن تحتهم ظلل‏}‏ أي فراش ومهاد وقيل أحاطت النار بهم من جميع الجهات والجوانب‏.‏

فإن قلت الظلة ما فوق الإنسان فكيف سمي ما تحته بالظلة، قلت فيه وجوه الأول أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر‏.‏ الثاني أن الذي تحته من النار يكون ظلة لآخر تحته في النار لأنها دركات‏.‏ الثالث أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الإيذاء والحرارة سميت باسمها لأجل المماثلة والمشابهة ‏{‏ذلك يخوف الله به عباده‏}‏ أي المؤمنين لأنهم إذا سمعوا حال الكفار في الآخرة خافوا فأخلصوا التوحيد والطاعة لله عز وجل وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا عباد فاتقون‏}‏ أي فخافون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 21‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت‏}‏ يعني الأوثان ‏{‏أن يعبدوها وأنابوا إلى الله‏}‏ أي رجعوا إلى عبادة الله تعالى بالكلية وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ‏{‏لهم البشرى‏}‏ أي في الدنيا وفي الآخرة أما في الدنيا فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة فعند الخروج من القبر وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة وفي الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان ‏{‏فبشر عبادي الذين يستمعون القول‏}‏ يعني القرآن ‏{‏فيتبعون أحسنه‏}‏ أي أحسن ما يؤمرون به فيعملون به وهو أن الله تعالى ذكر في القرآن الانتصار من الظالم وذكر العفو عنه والعفو أحسن الأمرين وقيل ذكر العزائم والرخص فيتبعون الأحسن وهو العزائم وقيل يستمعون القرآن وغيره من الكلام فيتبعون القرآن لأنه كله حسن وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أسلم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزلت فيهم ‏{‏فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه‏}‏ وقيل نزلت هذه الآية في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله وهم زيد بن عمرو وأبو ذر وسلمان الفارسي ‏{‏أولئك الذين هداهم الله‏}‏ أي إلى عبادته وتوحيده ‏{‏وأولئك هم أولوا الألباب أفمن حق عليه كلمة العذاب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ سبق في علم الله تعالى أنه في النار وقيل كلمة العذاب قوله ‏{‏لأملأن جهنم‏}‏ وقيل قوله هؤلاء في النار ولا أبالي ‏{‏أفأنت تنقذ من في النار‏}‏ أي لا تقدر عليه، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريد أبا لهب وولده ‏{‏لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية‏}‏ أي منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل هي أرفع منها ‏{‏تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد‏}‏ أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعداً لا يخلفه ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم فقالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» قوله الغابر أي الباقي في الأفق أي في ناحية المشرق أو المغرب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه‏}‏ أي أدخل ذلك الماء ‏{‏ينابيع في الأرض‏}‏ أي عيوناً وركايا ومسالك ومجاري في الأرض كالعروق في الجسد قال الشعبي كل ماء في الأرض فمن السماء نزل ‏{‏ثم يخرج به‏}‏ أي بالماء ‏{‏زرعاً مختلفاً ألوانه‏}‏ أي مثل أصفر وأخضر وأحمر وأبيض وقيل أصنافه مثل البر والشعير وسائر أنواع الحبوب ‏{‏ثم يهيج‏}‏ أي ييبس ‏{‏فتراه‏}‏ أي بعد خضرته ونضرته ‏{‏مصفراً ثم يجعله حطاماً‏}‏ أي فتاتاً متكسراً ‏{‏إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أَفمن شرح الله صدره‏}‏ أي وسعه ‏{‏للإسلام‏}‏ وقبول الحق كمن طبع الله تعالى على قلبه فلم يهتد ‏{‏فهو على نور من ربه‏}‏ أي على يقين وبيان وهداية‏.‏

روى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن مسعود قال «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه قلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا يا رسول الله فما علامات ذلك قال الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزول الموت» ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله‏}‏ القسوة جمودة وصلابة تحصل في القلب‏.‏

فإن قلت كيف يقسو القلب عن ذكر الله وهو سبب لحصول النور والهداية‏؟‏

قلت إنهم كلما تلي ذكر الله على الذين يكذبون به قست قلوبهم عن الإيمان به وقيل إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن قبول الحق فإن سماعها لذكر الله لا يزيدها إلا قسوة، وكدورة كحر الشمس يلين الشمع ويعقد الملح فكذلك القرآن يلين قلوب المؤمنين عن سماعه ولا يزيد الكافرين إلا قسوة قال مالك بن ديار ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة ‏{‏أولئك في ضلال مبين‏}‏ قيل‏:‏ نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفي أبي بن خلف، وقيل‏:‏ في علي وحمزة وفي أبي لهب وولده وقيل في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏ يعني القرآن وكونه أحسن الحديث لوجهين أحدهما من جهة اللفظ والآخر من جهة المعنى، أما الأول فلأن القرآن من أفصح الكلام وأجزله وأبلغه وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب والرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه، وأما الوجه الثاني وهو كون القرآن من أحسن الحديث لأجل المعنى فلأنه كتاب منزه عن التناقض والاختلاف مشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار ‏{‏كتاباً متشابهاً‏}‏ أي يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً ‏{‏مثاني‏}‏ أي يثني فيه ذكر الوعد والوعيد والأمر والنهي والأخبار والأحكام ‏{‏تقشعر‏}‏ أي تضطرب وتشمئز ‏{‏منه جلود الذين يخشون ربهم‏}‏ والمعنى تأخذهم قشعريرة وهي تغيير يحدث في جلد الإنسان عند ذكر الوعيد والوجل والخوف‏.‏ وقيل المراد من الجلود القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم ‏{‏ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله‏}‏ أي لذكر الله تعالى قيل إذا ذكرت آيات الوعيد والعذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرعد والرحمة لانت جلودهم وسكنت قلوبهم وقيل حقيقة المعنى أن جلودهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب‏}‏ أي شدته ‏{‏يوم القيامة‏}‏ قيل يجر على وجه في النار وقيل يرمى به في النار منكوساً فأول شيء تمسه النار وجهه، وقيل هو الكافر يرمى به منكوساً في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة من كبريت مثل الجبل العظيم فتشعل النار في تلك الصخرة وهي في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عنه للأغلال التي في يديه وعنقه ومعنى الآية أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن العذاب ‏{‏وقيل للظالمين‏}‏ أي تقول لهم الخزنة ‏{‏ذوقوا ما‏}‏ أي وبال ما ‏{‏كنتم تكسبون‏}‏ أي في الدنيا من المعاصي ‏{‏كذب الذين من قبلهم‏}‏ أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل ‏{‏فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون‏}‏ يعني وهم غافلون آمنون من العذاب ‏{‏فأذاقهم الله الخزي‏}‏ أي العذاب والهوان ‏{‏في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 31‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون‏}‏ أي يتعظون ‏{‏قرآناً عربياً‏}‏ أي فصيحاً أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته ‏{‏غير ذي عوج‏}‏ أي منزهاً عن التناقض، وقال ابن عباس‏:‏ غير مختلف‏.‏ وقيل‏:‏ غير ذي لبس وقيل‏:‏ غير مخلوق ويروى ذلك عن مالك بن أنس وحكي عن سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ‏{‏لعلهم يتقون‏}‏ أي الكفر والتكذيب

فإن قلت ما الحكمة في تقديم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية‏.‏

قلت سبب تقديم التذكر أن الإنسان إذا تذكر وعرف ووقف على فحوى الشيء واختلط بمعناه واتقاه واحترز منه‏.‏ قوله تعالى‏:‏

‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون‏}‏ أي متنازعون مختلفون سيئة أخلاقهم والشكس السيء الخلق المخالف للناس لا يرضى بالإنصاف ‏{‏ورجلاً سلماً لرجل‏}‏ أي خالصاً له فيه ولا منازع؛ والمعنى واضرب يا محمد لقومك مثلاً وقل لهم ما تقولون في رجل مملوك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع كل واحد يدعي أنه عبده وهم يتجاذبونه في مهن شتى فإذا عنت لهم حاجة يتدافعونه فهو متحير في أمره لا يدري أيهم يرضي بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته وفي رجل آخر مملوك قد سلم لمالك واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك السيد يعين خادمه في حاجاته فأي هذين العبدين أحسن حالاً وأحمد شأناً، وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى والمؤمن الذي يعبد الله وحده فكان حال المؤمن الذي يعبد إلهاً واحداً أحسن وأصلح من حال الكافر الذي يعبد آلهة شتى وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستويان مثلاً‏}‏ وهذا استفهام إنكار أي لا يستويان في الحال والصفة قال تعالى‏:‏ ‏{‏الحمد لله‏}‏ أي لله الحمد كله وحده دون غيره من المعبودين، وقيل لما ثبت أن لا إله إلا الله الواحد الأحد الحق بالدلائل الظاهرة والأمثال الباهرة قال‏:‏ الحمد لله على حصول هذه البينات وظهور هذه الدلالات ‏{‏بل أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أي المستحق للعبادة هو الله تعالى وحده لا شريك له‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك ميت‏}‏ أي ستموت ‏{‏وإنهم ميتون‏}‏ أي سيموتون وذلك أنهم كانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته فأخبر الله تعالى أن الموت يعمهم جميعاً فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني وقيل نعى إلى نبيه نفسه وإليكم أنفسكم والمعنى أنك ميت وإنهم ميتون وإن كنتم أحياء فإنكم في عداد الموتى ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏ قال ابن عباس يعني المحق والمبطل والظالم والمظلوم عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏

«لما نزلت ‏{‏ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون‏}‏، قال الزبير‏:‏ يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال‏:‏ نعم، فقال‏:‏ إن الأمر إذاً لشديد»

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 36‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فمن أظلم ممن كذب على الله‏}‏ فزعم أن له ولداً أو شريكاً ‏{‏وكذب بالصدق إذ جاءه‏}‏ أي بالقرآن وقيل بالرسالة إليه ‏{‏أليس في جهنم مثوى‏}‏ أي منزلة ومقام ‏{‏للكافرين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي جاء بالصدق وصدق به‏}‏ أي والذي صدق به، قال ابن عباس‏:‏ الذي جاء بالصدق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلا إله إلا الله وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً بلغه إلى الخلق، وقيل‏:‏ الذي جاء بالصدق هو جبريل عليه الصلاة والسلام جاء بالقرآن وصدق به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق به أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقيل وصدق به المؤمنون وقيل الذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع‏.‏ وقيل‏:‏ الذي جاء بالصدق أهل القرآن وهو الصدق يجيئون به يوم القيامة وقد أدوا حقه فهم الذين صدقوا به ‏{‏أولئك هم المتقون‏}‏ أي الذين اتقوا الشرك ‏{‏لهم ما يشاؤون عند ربهم‏}‏ أي من الجزاء والكرامة ‏{‏ذلك جزاء المحسنين‏}‏ أي في أقوالهم وأفعالهم ‏{‏ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا‏}‏ أي يستره عليهم بالمغفرة ‏{‏ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون‏}‏ أي يجزيهم بمحاسن أفعالهم ولا يجزيهم بمساويها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أليس لله بكاف عبده‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقرئ عباده يعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قصدهم قومهم بالسوء فكفاهم الله تعالى شر من عاداهم ‏{‏ويخوفونك بالذين من دونه‏}‏ وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ‏{‏ومن يضلل الله فما له من هاد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 42‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏ اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز‏}‏ أي منيع في ملكه ‏{‏ذي انتقام‏}‏ أي منتقم من أعدائه ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله‏}‏ يعني أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم، وذلك متفق عليه عند جمهور الخلائق فإن فطرة الخلق شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل عجائب السموات والأرض وما فيها من أنواع الموجودات علم بذلك أنها من ابتداع قادر حكيم ثم أمره الله تعالى أن يحتج عليهم بأن ما يعبدون من دون الله لا قدرة لها على جلب خير أو دفع ضر وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏إن أرادني الله بضر‏}‏ أي بشدة وبلاء ‏{‏هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة‏}‏ أي بنعمة وخير وبركة ‏{‏هل هن ممسكات رحمته‏}‏ فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسكتوا فقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل حسبي الله‏}‏ أي هو ثقتي وعليه اعتمادي ‏{‏عليه يتوكل المتوكلون‏}‏ أي عليه يثق الواثقون ‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏ أي اجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم وهو أمر تهديد وتقريع ‏{‏إني عامل‏}‏ أي بما أمرت به من إقامة الدين ‏{‏فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ أي أنا وأنتم ‏{‏ويحل عليه عذاب مقيم‏}‏ أي دائم وهو تهديد وتخويف ‏{‏إنا أنزلنا عليك الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏للناس بالحق‏}‏ أي ليهتدي به كافة الخلق ‏{‏فمن اهتدى فلنفسه‏}‏ أي ترجع فائدة هدايته إليه ‏{‏ومن ضل فإنما يضل عليها‏}‏ أي يرجع وبال ضلالته عليه ‏{‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ أي لم توكل بهم ولا تؤاخذ عنهم قيل هذا منسوخ بآية القتال‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس‏}‏ أي الأرواح ‏{‏حين موتها‏}‏ أي فيقبضها عند فناء أكلها وانقضاء أجلها وهو موت الأجساد ‏{‏والتي لم تمت في منامها‏}‏ والنفس التي يتوفاها عند النوم وهي التي يكون بها العقل والتمييز، ولكل إنسان نفسان نفس هي التي تكون بها الحياة وتفارقه عند الموت وتزول بزوالها الحياة والنفس الأخرى هي التي يكون بها التمييز وهي التي تفارقه عند النوم ولا يزول بزوالها التنفس ‏{‏فيمسك التي قضى عليها الموت‏}‏ أي فلا يردها إلى جسدها ‏{‏ويرسل الأخرى‏}‏ أي يرد النفس التي لم يقض عليها الموت إلى جسدها ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ أي إلى أن يأتي وقت موتها، وقيل إن للإنسان نفساً وروحاً فعند النوم تخرج النفس وتبقى الروح وقال علي بن أبي طالب‏:‏ تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعها في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عادت الروح إلى الجسد بأسرع من لحظة‏.‏ وقيل‏:‏ إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله تعالى فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها إلى حين انقضاء مدة آجالها ‏(‏ق‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 45‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏أم اتخذوا من دون الله شفعاء‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏أولو كانوا‏}‏ يعني الآلهة ‏{‏لا يملكون شيئاً‏}‏ أي من الشفاعة ‏{‏ولا يعقلون‏}‏ أي إنكم تعبدونهم وإن كانوا بهذه الصفة ‏{‏قل لله الشفاعة جميعاً‏}‏ أي لا يشفع أحد إلا بإذنه فكان الاشتغال بعبادته أولى لأنه هو الشفيع في الحقيقة وهو يأذن في الشفاعة لمن يشاء من عباده ‏{‏له ملك السموات والأرض‏}‏ أي لا ملك لأحد فيهما سواه ‏{‏ثم إليه ترجعون‏}‏ أي في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ذكر الله وحده اشمأزت‏}‏ أي نفرت وقال ابن عباس انقبضت عن التوحيد وقيل استكبرت ‏{‏قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ قيل إذا اشمأز القلب من عظم غمه وغيظه انقبض الروح إلى داخله فيظهر على الوجه أثر ذلك مثل الغبرة والظلمة ‏{‏وإذا ذكر الذين من دونه‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏إذا هم يستبشرون‏}‏ أي يفرحون والاستبشار أن يمتلئ القلب سروراً حتى يظهر على الوجه فيتهلل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 50‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ‏(‏47‏)‏ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏48‏)‏ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏49‏)‏ قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة‏}‏ وصف نفسه بكمال القدرة وكمال العلم ‏{‏أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏ أي من أمر الدنيا ‏(‏م‏)‏ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال «سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل‏؟‏ قالت كان إذا قام من الليل افتتح صلاته قال اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏ يعني ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتسبوا أنه نازل بهم في الآخرة، وقيل ظنوا أن لهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا، وروي أن محمد بن المنكدر جزع عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب ‏{‏وبدا لهم سيئات ما كسبوا‏}‏ يعني مساوي أعمالهم من الشرك والظلم أولياء الله تعالى‏:‏ ‏{‏وحاق‏}‏ يعني نزل ‏{‏بهم ما كانوا به يستهزئون فإذا مس الإنسان ضر‏}‏ يعني شدة ‏{‏دعانا ثم إذا خولناه‏}‏ يعني أعطيناه ‏{‏نعمة منا قال إنما أوتيته على علم‏}‏ يعني من الله تعالى علم أني له أهل وقيل على خير علمه الله عنده ‏{‏بل هي فتنة‏}‏ يعني تلك النعمة استدراج من الله تعالى وامتحان وبلية ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ يعني أنها استدراج من الله تعالى‏:‏ ‏{‏قد قالها الذين من قبلهم‏}‏ يعني قارون فإنه قال إنما أوتيته على علم عندي ‏{‏فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏}‏ يعني فما أغنى الكفر من العذاب شيئاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏51‏)‏ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فأصابهم سيئات ما كسبوا‏}‏ أي جزاؤها وهو العذاب ثم أوعد كفار مكة فقال تعالى ‏{‏والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين‏}‏ أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء‏}‏ أي يوسع الرزق لمن يشاء ‏{‏ويقدر‏}‏ أي يقتر ويقبض على من يشاء ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏ أي يصدقون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول هذه الآية «أن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا وانتهكوا الحرمات فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزلت والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر إلى قوله فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات قال يبدل شركهم إيماناً وزناهم إحصاناً ونزلت ‏{‏قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏» أخرجه النسائي‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً قال «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وحشي يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلق أثاماً يضاعف له العذاب وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله تعالى ‏{‏إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً‏}‏ فقال‏:‏ وحشي هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ فقال وحشي أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ فقال وحشي نعم هذا فجاء فأسلم» وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قوم أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا به فأنزل الله تعالى هذه الآية فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيده ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا جميعاً وهاجروا‏.‏ وعن ابن عمر أيضاً قال كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم‏}‏ فلما نزلت هذه الآية قلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقلنا الكبائر والفواحش قال فكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها قلنا هلك فنزلت هذه الآية فكففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا من أصحابنا من أصاب شيئاً من ذلك خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئاً رجونا له وقوله ‏{‏أسرفوا على أنفسهم‏}‏ أي تجاوزوا الحد في كل فعل مذموم قيل هو ارتكاب الكبائر وغيرها من الفواحش ‏{‏لا تقنطوا من رحمة الله‏}‏ أي لا تيأسوا من رحمة الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله من الكبائر ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم‏}‏ فإن قلت حمل هذه الآية على ظاهرها يكون إغراء بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يمكن‏.‏

قلت المراد منها التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب، فإن اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله إذ لا أحد من العصاة إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة فمعنى قوله ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ أي إذا تاب وصحت التوبة غفرت ذنوبه ومن مات قبل أن يتوب فهو موكول إلى مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم يدخله الجنة بفضله ورحمته فالتوبة واجبة على كل أحد وخوف العقاب مطلوب فلعل الله تعالى يغفر مطلقاً ولعله يعذب ثم يعفو بعد ذلك والله أعلم‏.‏

‏(‏فصل في ذكر أحاديث تتعلق بالآية‏)‏

روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا قاصّ يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال لم تقنط الناس ثم قرأ ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً‏}‏ ولا يبالي أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل هل له توبة فأتى راهباً فسأله فقال هل لي من توبة قال لا فقتله وجعل يسأل فقال له رجل ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فضرب صدره تخوفاً فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينها فوجد أقرب إلى هذه بشبر فغفر له» لفظ البخاري ولمسلم قال «فدل على راهب فأتاه فقال له إن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة فقال لا فقتله فكمل به مائة، ثم سال عن أعلم أهل الأرض فدلَّ على رجل عالم فقال إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة قال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء فانطلق حتى إذا كان نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو له فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض الذي أراد فقبضته ملائكة الرحمة» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏54‏)‏ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وأنيبوا إلى ربكم‏}‏ أي ارجعوا إليه بالتوبة والطاعة ‏{‏وأسلموا له‏}‏ أي أخلصوا له التوحيد ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون‏}‏ أي لا تمنعون منه ‏{‏واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ يعني القرآن لأنه كله حسن ومعنى الآية على ما قاله الحسن الزموا طاعة الله واجتنبوا معصيته فإنه أنزل في القرآن ذكر القبيح ليجتنب وذكر الأدون لئلا يرغب فيه وذكر الأحسن لتؤثره وتأخذ به وقيل الأحسن إتباع الناسخ وترك العمل بالمنسوخ ‏{‏من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون‏}‏ يعني غافلين عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏57‏)‏ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏أن تقول نفس‏}‏ أي لئلا تقول وقيل معناه بادروا واحذروا أن تقول وقيل خوف أن تصيروا إلى حال أن تقول نفس ‏{‏يا حسرتى‏}‏ أي يا ندمي ويا حزني والتحسر الاغتمام والحزن على ما فات ‏{‏على ما فرطت في جنب الله‏}‏ أي على ما قصرت في طاعة الله، وقيل في أمر الله وقيل في حق الله وقيل على ما ضيعت في ذات الله وقيل معناه على ما قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كنت لمن الساخرين‏}‏ أي المستهزئين بدين الله وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين قيل لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر بأهلها ‏{‏أو تقول لو أن الله هداني‏}‏ أي أرشدني إلى دينه وطاعته ‏{‏لكنت من المتقين‏}‏ أي الشرك ‏{‏أو تقول حين ترى العذاب‏}‏ أي عياناً ‏{‏لو أن لي كرة‏}‏ أي رجعة إلى الدنيا ‏{‏فأكون من المحسنين‏}‏ أي الموحدين ثم أجاب الله تعالى هذا التأويل بأن الأعذار زائلة والتعليل باطل

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 66‏]‏

‏{‏بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ‏(‏59‏)‏ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏60‏)‏ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏61‏)‏ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏62‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ‏(‏64‏)‏ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏65‏)‏ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏بلى قد جاءتك آياتي‏}‏ يعني القرآن ‏{‏فكذبت بها‏}‏ أي قلت ليست من الله ‏{‏واستكبرت‏}‏ أي تكبرت عن الإيمان بها ‏{‏وكنت من الكافرين ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله‏}‏ أي زعموا أن له ولداً وشريكاً وقيل هم الذين يقولون الأشياء إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل ‏{‏وجوههم مسودة‏}‏ قيل هو سواد مخالف لسائر أنواع السواد ‏{‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏}‏ أي عن الإيمان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وينجي الله الذين اتقوا‏}‏ أي الشرك ‏{‏بمفازتهم‏}‏ أي الطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة وقرئ بمفازاتهم أن ينجيهم بفوزهم بالأعمال الحسنة من النار ‏{‏لا يمسهم السوء‏}‏ أي لا يصيبهم المكروه ‏{‏ولا هم يحزنون الله خالق كل شيء‏}‏ أي مما هو كائن أو يكون في الدنيا والآخرة ‏{‏وهو على كل شيء وكيل‏}‏ أي إن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها ‏{‏له مقاليد السموات والأرض‏}‏ أي مفاتيح خزائن السموات والأرض واحدها مقلاد مثل مفتاح وقيل إقليد على غير قياس قيل هو فارسي معرب قال الراجز‏:‏

لم يؤذها الديك بصوت تغريد *** ولم يعالج غلقها بإقليد

والمعنى أن الله تعالى مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الله الذي يملك مقاليدها، وقيل مقاليد السموات خزائن الرحمة والرزق والمطر ومقاليد الأرض النبات ‏{‏والذين كفروا بآيات الله‏}‏ أي جحدوا بآياته الظاهرة الباهرة ‏{‏أولئك هم الخاسرون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون‏}‏ وذلك أن كفار قريش دعوه إلى دين آبائه فوصفهم بالجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأنه هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل ‏{‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ أي الذي عملته قبل الشرك، وهذا خطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأن الله عز وجل عصم نبيه صلى الله عليه وسلم من الشرك وفيه تهديد لغيره ‏{‏ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين‏}‏ أي لإنعامه عليك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏67‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ أي ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره ثم أخبر عن عظمته فقال ‏{‏والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال «جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا محمد إن الله يضع السماء على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر والأنهار على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ وفي رواية» والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له ثم قرأ ‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ الآية ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول‏:‏ أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول‏:‏ أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها ثم يقول أنا الملك الجبارون أين المتكبرون، وفي رواية يقول‏:‏ أنا الله ويقبض أصابعه أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم» لفظ مسلم وللبخاري «أن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه ويقول أنا الملك» ‏(‏خ‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض» قال أبو سليمان الخطابي ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محمل النقص والضعف وقد روى كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة إنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي إلى حيث انتهى الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهذا مذهب أهل السنة والجماعة وقال سفيان بن عيينة كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض‏}‏ أي ماتوا من الفزع وهي النفخة الأولى ‏{‏إلا من شاء الله‏}‏ تقدم في سورة النمل تفسير هذا الاستثناء وقال الحسن إلا من يشاء الله يعني الله وحده ‏{‏ثم نفخ فيه‏}‏ أي في الصور ‏{‏أخرى‏}‏ مرة أخرى وهي النفخة الثانية ‏{‏فإذا هم قيام‏}‏ أي من قبورهم ‏{‏ينظرون‏}‏ أي ينتظرون أمر الله فيهم ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما بين النفختين أربعون قالوا أربعون يوماً، قال أبو هريرة‏:‏ أبيت، قالوا‏:‏ أربعون شهراً، قال أبو هريرة‏:‏ أبيت، قالوا‏:‏ أربعون سنة قال‏:‏ أبيت، ثم ينزل الله عز وجل من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة»

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 73‏]‏

‏{‏وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏69‏)‏ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏71‏)‏ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏72‏)‏ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها‏}‏ وذلك حين يتجلى الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء بين خلقه فما يضارون في نوره كما لا يضارون في الشمس في اليوم الصحو وقيل بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة ‏{‏ووضع الكتاب‏}‏ أي كتاب الأعمال وقيل اللوح المحفوظ لأن فيه أعمال جميع الخلق من المبدأ إلى المنتهى ‏{‏وجيء بالنبيين‏}‏ يعني ليكونوا شهداء على أممهم ‏{‏والشهداء‏}‏ قال ابن عباس يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل يعني الحفظة ‏{‏وقضي بينهم الحق‏}‏ أي بالعدل ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ‏{‏ووفيت كل نفس ما عملت‏}‏ أي ثواب ما عملت ‏{‏وهو أعلم بما يفعلون‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأفعالهم لا يحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسيق الذين كفروا إلى جهنم‏}‏ يعني سوقاً عنيفاً ‏{‏زمراً‏}‏ أفواجاً بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة وقيل جماعات متفرقة واحدتها زمرة ‏{‏حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها‏}‏ يعني السبعة وكانت قبل ذلك مغلقة ‏{‏وقال لهم خزنتها‏}‏ يعني توبيخاً وتقريعاً ‏{‏ألم يأتكم رسل منكم‏}‏ أي من أنفسكم ومن جنسكم ‏{‏يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب‏}‏ أي وجبت ‏{‏على الكافرين‏}‏ وهي قوله ‏{‏لأملأن جهنم من الجنة أجمعين‏}‏ ‏{‏قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً‏}‏ فإن قلت عبر عن الفريقين بلفظ السوق فما الفرق بينهما‏.‏

قلت المراد بسوق أهل النار طردهم إلى العذاب بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذا سيق إلى الحبس أو القتل، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنهم يذهبون إليها راكبين أو المراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان فشتان ما بين السوقين ‏{‏حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها‏}‏ فإن قلت قال في أهل النار فتحت بغير واو وهنا زاد حرف الواو فما الفرق‏.‏

قلت فيه وجوه أحدها أنها زائدة الثاني إنها واو الحال مجازه وقد فتحت أبوابها فأدخل الواو لبيان أنها كانت مفتحة قبل مجيئهم إليها وحذف الواو في الآية الأولى لبيان أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل مجيئهم إليها ووجه الحكمة في ذلك أن أهل الجنة إذا جاؤوها ووجدوا أبوابها مفتحة حصل لهم السرور والفرح بذلك وأهل النار إذا رأوها مغلقة كان ذلك نوع ذل وهوان لهم‏.‏ الثالث زيدت الواو هنا لبيان أن أبواب الجنة ثمانية ونقصت هناك لأن أبواب جهنم سبعة والعرب تعطف بالواو فيما فوق السبعة تقول سبعة وثمانية‏.‏

فإن قلت حتى إذا جاؤوها شرط فأين جوابه‏؟‏

قلت فيه وجوه أحدها أنه محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني أن الجواب هو قوله ‏{‏وقال لهم خزنتها سلام عليكم‏}‏ بغير واو الثالث تقديره فادخلوها خالدين دخلوها فحذف دخولها لدلالة الكلام عليه ‏{‏وقال لهم خزنتها سلام عليكم‏}‏ أي أبشروا بالسلامة من كل الآفات ‏{‏طبتم‏}‏ قال ابن عباس معناه طاب لكم المقام وقيل إذا قطعوا النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعض حتى إذا هذبوا وطيبوا دخلوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه ‏{‏سلام عليكم طبتم‏}‏ ‏{‏فادخلوها خالدين‏}‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرة يخرج من تحتها عينان فيغتسل المؤمن من أحداهما فيطهر ظاهره ويشرب من الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون ‏{‏سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏74‏)‏ وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده‏}‏ أي بالجنة ‏{‏وأورثنا الأرض‏}‏ أي أرض الجنة نتصرف فيها كما نشاء تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نتبوأ‏}‏ أي نزل ‏{‏من الجنة‏}‏ أي في الجنة ‏{‏حيث نشاء‏}‏ فإن قلت فما معنى قوله ‏{‏حيث نشاء‏}‏ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره‏.‏

قلت يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وحسناً وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى غيره وقيل إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة قبل الأمم فينزلون فيها حيث شاؤوا ثم تنزل الأمم بعدهم فيما فضل منها قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فنعم أجر العاملين‏}‏ أي ثواب المطيعين في الدنيا الجنة في العقبى ‏{‏وترى الملائكة حافين من حول العرش‏}‏ أي محدقين محيطين بحافته وجوانبه ‏{‏يسبحون بحمد ربهم‏}‏ وقيل هذا تسبيح تلذذ لا تسبيح تعبد لأن التكليف يزول في ذلك اليوم ‏{‏وقضي بينهم بالحق‏}‏ بين أهل الجنة وأهل النار بالعدل ‏{‏وقيل الحمد لله رب العالمين‏}‏ أي يقول أهل الجنة شكراً حين تمَّ وعد الله لهم، وقيل ابتدأ الله ذكر الخلق بالحمد في قوله ‏{‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداءة كل أمر وخاتمته والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة غافر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏2‏)‏ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ اسم الله الأعظم وعنه قال الر وحم ون حروف اسمه الرحمن مقطعة وقيل حم اسم للسورة وقيل الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان، والميم افتتاح أسمائه ملك ومجيد ومنان، وقيل معناه حم بضم الحاء أي قضى ما هو كائن ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز‏}‏ أي الغالب القادر وقيل الذي لا مثل له ‏{‏العليم‏}‏ أي بكل المعلومات ‏{‏غافر الذنب‏}‏ يعني ساتر الذنب ‏{‏وقابل التوب‏}‏ يعني التوبة قال ابن عباس غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله ‏{‏شديد العقاب‏}‏ لمن لا يقول لا إله إلا الله ‏{‏ذي الطول‏}‏ يعني السعة والغنى وقيل ذي الفضل والنعم وأصل الطول الإنعام الذي تطول مدته على صاحبه ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ يعني هو الموقوف بصفات الوحدانية التي لا يوصف بها غيره ‏{‏إليه المصير‏}‏ أي مصير العباد إليه في الآخرة

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 7‏]‏

‏{‏مَا يُجَادِلُ فِي آَيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ‏(‏4‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏5‏)‏ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏ما يجادل‏}‏ يعني ما يخاصم ويحاجج في آيات الله يعني في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا قال أبو العالية آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا‏}‏ وقوله ‏{‏وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد‏}‏ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن جدالاً في القرآن كفر» أخرجه أبو داود وقال المراد في القرآن كفر وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتمارون فقال إنما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله عز وجل بعضه ببعض وإنما أنزل الكتاب يصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال «إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» ‏{‏فلا يغررك تقلبهم‏}‏ يعني تصرفهم ‏{‏في البلاد‏}‏ للتجارات وسلامتهم فيها مع كفرهم فإن عاقبة أمرهم العذاب ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم‏}‏ يعني الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح ‏{‏وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه‏}‏ قال ابن عباس ليقتلوه ويهلكوه وقيل ليأسروه ‏{‏وجادلوا‏}‏ يعني خاصموا ‏{‏بالباطل ليدحضوا‏}‏ يعني ليبطلوا ‏{‏به الحق‏}‏ الذي جاءت به الرسل ‏{‏فأخذتهم فكيف كان عقاب‏}‏ يعني أنزلت بهم من الهلاك ما هموا هم بإنزاله بالرسل وقيل معناه فكيف كان عقابي إياهم أليس كان مهلكاً مستأصلاً ‏{‏وكذلك حقت‏}‏ أي وجبت ‏{‏كلمة ربك‏}‏ يعني كما وجبت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت ‏{‏على الذين كفروا‏}‏ يعني من قومك ‏{‏إنهم‏}‏ يعني بأنهم ‏{‏أصحاب النار‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يحملون العرش‏}‏ قيل حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أردفهم الله تعالى بأربعة أخر كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية‏}‏ وهم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عز وجل وهم على صورة الأوعال وجاء في الحديث إن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما في الهواء ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتمجيد ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء وقال ابن عباس‏:‏ حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروي أن أقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم تسبيحهم سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح وقيل إن أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها‏.‏

وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» أخرجه أبو داود وأما صفة العرش فقيل إنه جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال‏:‏ إن ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية كخفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام ويكسى العرش كل يوم ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة وقال مجاهد بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة وقيل إن العرش قبلة لأهل السماء كما أن الكعبة قبلة لأهل الأرض قوله‏:‏ ‏{‏ومن حوله‏}‏ يعني الطائفين به وهم الكروبيون وهم سادات الملائكة، قال وهب بن منبه‏:‏ إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويدبر هؤلاء فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر والخلق كلهم إليك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام واحتجب الله عز وجل من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد وما لا يعلمه إلا الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسبحون بحمد ربهم‏}‏ أي ينزهون الله تعالى عما لا يليق بجلاله والتحميد هو الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق ‏{‏ويؤمنون به‏}‏ أي يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 10‏]‏

‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏8‏)‏ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏ قيل إذا دخل المؤمن الجنة قال‏:‏ أين أبي وأين أمي وأين ولدي وأين زوجتي، فيقال‏:‏ إنهم لم يعملوا عملك، فيقول‏:‏ إني كنت أعمل لي ولهم فيقال أدخلوهم الجنة فإذا اجتمع بأهله في الجنة كان أكمل لسروره ولذته ‏{‏وقهم السيئات‏}‏ أي عقوبات السيئآت بأن تصونهم من الأعمال الفاسدة التي توجب العقاب ‏{‏ومن تق السيئات يومئذ‏}‏ يعني من تقه في الدنيا ‏{‏فقد رحمته‏}‏ يعني في القيامة ‏{‏وذلك هو الفوز العظيم‏}‏ يعني النعيم الذي لا ينقطع في جوار مليك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وجلاله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا ينادون‏}‏ يعني يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرضت عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم ‏{‏لمقت الله‏}‏ يعني إياكم في الدنيا ‏{‏أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون‏}‏ أي اليوم عند حلول العذاب بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏11‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهذه موتتان وحياتان وقيل أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في القبر للسؤال ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا للبعث في الآخرة وذلك أنهم عدوا أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ثم الحياة في القبر ثم الموتة الثانية فيه ثم الحياة للبعث فأما الحياة الأولى التي هي من الدنيا فلم يعدوها لأنها ليست من أقسام البلاء وقيل ذكر حياتين وهي حياة الدنيا وحياة القيامة وموتتين وهي الموتة الأولى في الدنيا ثم الموتة الثانية في القبر بعد حياة السؤال ولم يعدوا حياة السؤال لقصر مدتها ‏{‏فاعترفنا بذنوبنا‏}‏ يعني إنكارهم البعث بعد الموت فلما شاهدوا البعث اعترفوا بذنوبهم ثم سألوا الرجعة بقولهم ‏{‏فهل إلى خروج‏}‏ يعني من النار ‏{‏من سبيل‏}‏ والمعنى فهلاّ إلى رجوع إلى الدنيا من سبيل لنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط من الخروج وإنما قالوا ذلك تعللاً وتحيراً والمعنى فلا خروج ولا سبيل إليه ولهذا جاء الجواب على حسب ذلك وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم‏}‏ معناه فأجيبوا أن لا سبيل إلى الخروج وهذا العذاب والخلود في النار بأنكم إذا دعى الله وحده كفرتم يعني إذا قيل لا إله إلا الله أنكرتم ذلك ‏{‏وإن يشرك به‏}‏ أي غيره ‏{‏تؤمنوا‏}‏ أي تصدقوا ذلك الشرك ‏{‏فالحكم لله العلي‏}‏ أي الذي لا أعلى منه ‏{‏الكبير‏}‏ أي الذي لا أكبر منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏ رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ‏(‏16‏)‏ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏17‏)‏ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ‏(‏18‏)‏ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هو الذي يريكم آياته‏}‏ أي عجائب مصنوعاته التي تدل على كمال قدرته ‏{‏وينزل لكم من السماء رزقاً‏}‏ يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق ‏{‏وما يتذكر‏}‏ أي يتعظ بهذه الآيات ‏{‏إلا من ينيب‏}‏ أي يرجع إلى الله تعالى في جميع أموره ‏{‏فادعوا الله مخلصين له الدين‏}‏ أي الطاعة والعبادة ‏{‏ولو كره الكافرون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رفيع الدرجات‏}‏ أي رافع درجات الأنبياء والأولياء والعلماء في الجنة وقيل معناه المرتفع أي إنه سبحانه وتعالى هو المرتفع بعظمته في صفات جلاله وكماله ووحدانيته المستغني عن كل ما سواه وكل الخلق فقراء إليه ‏{‏ذو العرش‏}‏ أي خالقه ومالكه، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر لأنه أعظم الأجسام والمقصود بيان كمال التنبيه على كمال القدرة فكل ما كان أعظم كانت دلالته على كمال القدرة أقوى ‏{‏يلقي الروح‏}‏ يعني ينزل الوحي سماه روحاً لأن به تحيا الأرواح كما تحيا الأبدان بالأرواح ‏{‏من أمره‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من قضائه وقيل بأمره وقيل من قوله ‏{‏على من يشاء من عباده‏}‏ يعني الأنبياء ‏{‏لينذر يوم التلاق‏}‏ يعني لينذر النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي يوم التلاق وهو يوم القيامة لأنه يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض، وقيل يلتقي الخلق والخالق وقيل يلتقي العابدون والمعبودون وقيل يلتقي المرء مع عمله وقيل يلتقي الظالم والمظلوم ‏{‏يوم هم بارزون‏}‏ أي خارجون من قبورهم ظاهرون لا يسترهم شيء ‏{‏لا يخفى على الله منهم شيء‏}‏ أي من أعمالهم وأحوالهم، فإن قلت إن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام فما وجه تخصيص ذلك اليوم، قلت كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم وهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما كانوا يتوهمونه في الدنيا ‏{‏لمن الملك اليوم‏}‏ أي يقول الله عز وجل في ذلك اليوم بعد فناء الخلق لمن الملك فلا أحد يجيبه فيجيب نفسه تعالى فيقول ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏ أي الذي قهر الخلق بالموت وقيل إذا حضر الأولون والآخرون في يوم القيامة نادى مناد لمن الملك فيجيبه جميع الخلائق في يوم القيامة ‏{‏لله الواحد القهار‏}‏ فالمؤمنون يقولونه تلذذاً حيث كانوا يقولونه في الدنيا ونالوا به المنزلة الرفيعة في العقبى والكفار يقولونه على سبيل الذل والصغار والندامة حيث لم يقولوه في الدنيا ‏{‏اليوم تجزى كل نفس بما كسبت‏}‏ يعني يجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ‏{‏لا ظلم اليوم‏}‏ أي إن الخلق آمنون في ذلك اليوم من الظلم لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد ‏{‏إن الله سريع الحساب‏}‏ أي إنه تعالى لا يشغله حساب عن حساب بل يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 26‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏20‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏21‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏23‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ‏(‏24‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏والله يقضي بالحق‏}‏ أي يحكم بالعدل ‏{‏والذين يدعون من دونه‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏لا يقضون بشيء‏}‏ لأنها لا تعلم شيئاً ولا تقدر على شيء ‏{‏إن الله هو السميع‏}‏ أي لأقوال الخلق ‏{‏البصير‏}‏ بأفعالهم ‏{‏أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثاراً في الأرض‏}‏ أي المعنى أن العاقل من اعتبر بغيره فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء فلم تنفعهم قوتهم ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق‏}‏ أي يدفع عنهم العذاب ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك العذاب الذي نزل بهم ‏{‏بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا‏}‏ يعني فرعون وقومه ‏{‏اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه‏}‏ قيل هذا القتل غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوالدان فلما بعث موسى عليه الصلاة والسلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل ‏{‏واستحيوا نساءهم‏}‏ أي استحيوا النساء ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى عليه الصلاة والسلام ومظاهرته ‏{‏وما كيد الكافرين‏}‏ أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم ‏{‏إلا في ضلال‏}‏ أي يذهب كيدهم باطلاً ويحيق بهم ما يريده الله تعالى ‏{‏وقال فرعون‏}‏ أي لملئه ‏{‏ذروني أقتل موسى‏}‏ وإنما قال فرعون هذا لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى وإنما منعوه عن قتله لأنه كان فيهم من يعتقد بقلبه أنه كان صادقاً، وقيل قالوا لا تقتله فإنه هو ساحر ضعيف فلا يقدر أن يغلب سحرنا وإن قتلته قالت العامة كان محقاً صادقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه ‏{‏وليدع ربه‏}‏ أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا ‏{‏إني أخاف أن يبدل دينكم‏}‏ يعني يقول فرعون أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه ‏{‏أو أن يظهر في الأرض الفساد‏}‏ يعني بذاك تغيير الدين وتبديله وعبادة غيره‏.‏