فصل: تفسير الآيات رقم (17- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد فتنا قبلهم‏}‏ أي قبل هؤلاء ‏{‏قوم فرعون وجاءهم رسول كريم‏}‏ يعني على الله وهو موسى بن عمران عليه السلام ‏{‏أن أدوا إليّ عباد الله‏}‏ يعني أطلقوا إلي بني إسرائيل ولا تعذبوهم ‏{‏إني لكم رسول أمين‏}‏ يعني على الوحي ‏{‏وأن لا تعلوا على الله‏}‏ يعني لا تتجبروا عليه بترك طاعته ‏{‏إني آتيكم بسلطان مبين‏}‏ يعني ببرهان بيِّن على صدق قولي فلما قال ذلك توعده بالقتل فقال ‏{‏وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون‏}‏ أن تقتلون وقال ابن عباس‏:‏ تشتمون وتقولوا هو ساحر وقيل ترجموني بالحجارة ‏{‏وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏}‏ أي فاتركون لا معي ولا عليّ، وقال ابن عباس‏:‏ اعتزلوا أذاي باليد واللسان فلم يؤمنوا ‏{‏فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون‏}‏ أي مشركون ‏{‏فأسر بعبادي ليلاً‏}‏ أي أجاب الله دعاءه وأمره أن يسري ببني إسرائيل بالليل ‏{‏إنكم متبعون‏}‏ أي يتبعكم فرعون وقومه ‏{‏واترك البحر‏}‏ أي إذا قطعته أنت وأصحابك ‏{‏رهواً‏}‏ أي ساكناً والمعنى لا تأمره أن يرجع بل اتركه على حالته حتى يدخله فرعون وقومه، وقيل اتركه طريقاً يابساً وذلك أنه لما قطع موسى البحر رجع ليضربه بعصاه ليلتئم وخاف أن يتبعه فرعون بجنوده فقيل لموسى اترك البحر كما هو ‏{‏إنهم جند مغرقون‏}‏ يعني أخبر موسى بإغراقهم ليطمئن قلبه في تركه البحر كما هو ‏{‏كم تركوا‏}‏ أي بعد الغرق ‏{‏من جنات وعيون وزروع ومقام كريم‏}‏ أي مجلس شريف حسن ‏{‏ونعمة‏}‏ أي وعيش لين رغد ‏{‏كانوا فيها‏}‏ أي في تلك النعمة ‏{‏فاكهين‏}‏ أي ناعمين وقرئ فكهين أي أشرين بطرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 37‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي أفعل بمن عصاني ‏{‏وأورثناها قوماً آخرين‏}‏ يعني بني إسرائيل ‏{‏فما بكت عليهم السماء والأرض‏}‏ وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح فتبكي السماء على فقده ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه‏.‏

عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ما من مؤمن إلا وله بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه» فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين‏}‏ «أخرجه الترمذي وقال حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، قيل‏:‏ بكاء السماء حمرة أطرافها، وقال مجاهد‏:‏ ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً فقيل‏:‏ أوتبكي، فقال‏:‏ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل وقيل المراد أهل السماء وأهل الأرض ‏{‏وما كانوا منظرين‏}‏ أي لم يمهلوا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين‏}‏ أي من قتل الأبناء واستحياء النساء والتعب في العمل ‏{‏من فرعون إنه كان عالياً‏}‏ أي جباراً ‏{‏من المسرفين ولقد اخترناهم على علم‏}‏ أي علمه الله تعالى فيهم ‏{‏على العالمين‏}‏ أي عالمي زمانهم ‏{‏وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين‏}‏ أي نعمة بينة من فلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى والنعم التي أنعمنا بها عليهم وقيل ابتلاؤهم بالرخاء والشدة ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى‏}‏ أي لا موتة لنا إلا هذه التي نموتها في الدنيا ولا بعث بعدها وهو قوله ‏{‏وما نحن بمنشرين‏}‏ أي بمبعوثين بعد موتتنا هذه ‏{‏فأتوا بآبائنا‏}‏ أي الذين ماتوا قبل ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي إنا نبعث أحياء بعد الموت قيل طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يحيي لهم قصي بن كلاب ثم خوفهم مثل عذاب الأمم الخالية فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أهم خير أم قوم تبع‏}‏ أم ليسوا خيراً من قوم تبع يعني في الشدة والقوة والكثرة قيل هو تبع الحميري وكان من ملوك اليمن سمي تبعاً لكثرة أتباعه وقيل كل واحد من ملوك اليمن يسمى تبعاً لأنه يتبع صاحبه الذي قبله كما يسمى في الإسلام خليفة وكان تبع هذا يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم حمير إلى الإسلام فكذبوه‏.‏

عن سهل بن سعد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول» لا تسبوا تبعاً فإنه كان قد أسلم «

أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وعن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أدري أكان تبع نبياً أو غير نبي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «لا تسبوا تبعاً فإنه كان رجلاً صالحاً» وكان من قصته على ما ذكر محمد بن إسحاق وغيره، وذكر عكرمة عن ابن عباس قالوا‏:‏ كان تبع الآخر وهو أبو كرب أسعد بن مليك وكان سار بالجيوش نحو المشرق حتى حير الحيرة وبنى سمرقند ورجع من قبل المشرق فجعل طريقه على المدينة وقد كان حين مر بها خلف بين أظهرهم ابناً له فقتل غيلة فقدمها وهو مجمع على خرابها واستئصال أهلها، فجمع له هذا الحي من الأنصار حين سمعوا بذلك من أمره فخرجوا لقتاله فكان الأنصار يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك وقال‏:‏ إن هؤلاء لكرام فبينا هو كذلك إذ جاءه حبران عالمان من أحبار بني قريظة وكانا ابني عم اسم أحدهما كعب والآخر أسد حين سمعا ما يريد من إهلاك المدينة وأهلها فقالا له‏:‏ أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة فإن هذه المدينة مهاجر نبي يخرج من هذا الحي من قريش اسمه محمد مولده بمكة وهذه دار هجرته ومنزلك الذي أنت فيه يكون به من القتل والجراح أمر كبير في أصحابه وفي عدوهم، قال تبع ومن يقاتله وهو نبي قالا يسير إليه قومه فيقتتلون ها هنا فتناهى لقولهما عما كان يريد بالمدينة ثم إنهما دعواه إلى دينهما فأجابهما واتبعهما على دينهما وأكرمهما وانصرف عن المدينة، وخرج بهما ونفر من اليهود عامدين إلى اليمن فأتاه في الطريق نفر من هذيل وقالوا له إنا ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة قال أي بيت هذا قالوا بيت بمكة وإنما أراد هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك فذكر الملك ذلك للأحبار، فقالوا‏:‏ ما نعلم لله في الأرض بيتاً غير هذا البيت الذي بمكة فاتخذه مسجداً وانسك عنده وانحر واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك‏.‏ وما ناوأه أحد قط إلا هلك فأكرمه واصنع عنده ما يصنعه أهله فلما قالوا له ذلك أخذ أولئك النفر من هذيل فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم صلبهم فلما قدم مكة شرفها الله تعالى نزل بالشعب شعب البطائح وكسا البيت الوصائل وهي برود تصنع باليمن وهو أول من كسا البيت ونحر بالشعب ستة آلاف بدنة وأقام به ستة أيام وطاف به وحلق وانصرف، فلما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك وقالوا له لا تدخلها علينا وأنت قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه وقال‏:‏ إنه دين خير من دينكم قالوا فحاكمنا إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 46‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق‏}‏ أي بالعدل وهو الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن يوم الفصل‏}‏ أي الذي يفصل الله فيه بين العباد ‏{‏ميقاتهم أجمعين‏}‏ أي يوافي يوم القيامة الأولون والآخرون ‏{‏يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً‏}‏ أي لا ينفع قريب قريبه ولا يدفع عنه شيئاً ‏{‏ولا هم ينصرون‏}‏ أي يمنعون من عذاب الله ‏{‏إلا من رحم الله‏}‏ يعني المؤمنين فإنه يشفع بعضهم لبعض ‏{‏إنه هو العزيز‏}‏ أي في انتقامه من أعدائه ‏{‏الرحيم‏}‏ أي بأوليائه المؤمنين، قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن شجرة الزقوم طعام الأثيم‏}‏ أي ذي الإثم وهو أبو جهل ‏{‏كالمهل‏}‏ أي كدردي الزيت الأسود ‏{‏يغلي في البطون‏}‏ أي في بطون الكفار ‏{‏كغلي الحميم‏}‏ يعني كالماء الحار إذا اشتد غليانه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «في قوله كالمهل؛ قال كعكر الزيت فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه» أخرجه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من حديث رشدين سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه‏.‏

عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 56‏]‏

‏{‏خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خذوه‏}‏ أي يقال للزبانية خذوه يعني الأثيم ‏{‏فاعتلوه‏}‏ أي دافعوه وسوقوه بالعنف ‏{‏إلى سواء الجحيم‏}‏ أي إلى وسط النار ‏{‏ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم‏}‏ قيل إن خازن النار يضرب على رأسه فينقب رأسه من دماغه ثم يصب فيه ماء حميماً قد انتهى حره ثم يقال له ‏{‏ذق‏}‏ أي هذا العذاب ‏{‏إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ أي عند قومك بزعمك وذلك أن أبا جهل لعنه الله كان يقول أنا أعز أهل الوادي وأكرمهم فيقول له خزنة النار هذا على طريق الاستخفاف والتوبيخ ‏{‏إن هذا ما كنتم به تمترون‏}‏ أي تشكون فيه ولا تؤمنون به ثم ذكر مستقر المتقين ‏{‏في مقام أمين‏}‏ أي في مجلس أمنوا فيه من الغير ‏{‏في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق‏}‏ قيل السندس ما رق من الديباج والإستبرق ما غلظ منه وهو معرب إستبر‏.‏

فإن قلت كيف ساغ أن يقع في القرآن العربي المبين لفظ أعجمي‏.‏

قلت إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب ‏{‏متقابلين‏}‏ أي يقابل بعضهم بعضاً ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما أكرمناهم بما وصفنا من الجنات والعيون واللباس كذلك ‏{‏و‏}‏ أكرمناهم بأن ‏{‏زوجناهم بحور عين‏}‏ أي قرناهم بهن وليس هو من عقد التزويج وقيل جعلناهم أزواجاً لهن أي جعلناهم اثنين واثنين الحور من النساء النقيات البيض، وقيل يحار الطرف من بياضهن وصفاء لونهن وقيل الحور الشديدات بياض العينين ‏{‏يدعون فيها بكل فاكهة‏}‏ يعني أرادوها واشتهوها ‏{‏آمنين‏}‏ أي من نفادها ومن مضرتها وقيل آمنين فيها من الموت والأوصاب والشيطان ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ أي لا يذوقون في الجنة الموت سوى الموتة التي ذاقوها في الدنيا إلا وقيل إلا بمعنى لكن، وتقديره ليذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها وقيل إنما استثنى الموتة من موت الجنة لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله إلى أسباب الجنة يلقون الروح والريحان ويرون منازلهم في الجنة فكان موتهم في الدنيا كأنه في الجنة لاتصالهم بأسبابها ومشاهدتهم إياها ‏{‏ووقاهم عذاب الجحيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فضلاً من ربك‏}‏ يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص من عذاب النار والفوز بالجنة إنما حصل لهم ذلك بفضل الله تعالى وفعل ذلك بهم تفضلاً منه ‏{‏ذلك هو الفوز العظيم فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ أي سهلنا القرآن على لسانك كناية عن غير مذكور ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏ أي يتعظون ‏{‏فارتقب‏}‏ أي فانتظر النصر من ربك وقيل انتظر لهم العذاب ‏{‏إنهم مرتقبون‏}‏ أي منتظرون قهرك بزعمهم وقيل منتظرون موتك قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب وعمر بن خثعم أحد رواته وهو ضعيف، وقال البخاري‏:‏ هو منكر الحديث وعنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة غفر له» أخرجه الترمذي وقال هشام أبو المقداد أحد رواته ضعيف والله أعلم‏.‏

سورة الجاثية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السموات والأرض‏}‏ أي إن في خلق السموات والأرض وهما خلقان عظيمان يدلان على قدرة القادر المختار وهو قوله ‏{‏لآيات للمؤمنين وفي خلقكم‏}‏ أي وخلق أنفسكم من تراب ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً ذا عقل وتمييز ‏{‏وما يبث من دابة‏}‏ أي وما يفرق في الأرض من جميع الحيوانات على اختلاف أجناسها في الخلق والشكل والصورة ‏{‏آيات‏}‏ دلالات تدل على وحدانية من خلقها وأنه الإله القادر المختار ‏{‏لقوم يوقنون‏}‏ يعني أنه لا إله غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏ وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏ يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏ مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏ هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ يعني بالظلام والضياء والطول والقصر ‏{‏وما أنزل الله من السماء من رزق‏}‏ يعني المطر الذي هو سبب أرزاق العباد ‏{‏فأحيا به‏}‏ أي بالمطر ‏{‏الأرض بعد موتها‏}‏ أي بعد يبسها ‏{‏وتصريف الرياح‏}‏ أي في مهابها فمنها الصبا والدبور والشمال والجنوب ومنها الحارة والباردة وغير ذلك ‏{‏آيات لقوم يعقلون‏}‏‏.‏

فإن قلت ما وجه هذا الترتيب في قوله ‏{‏لآيات للمؤمنين‏}‏ و‏{‏لقوم يوقنون‏}‏ ‏{‏ويعقلون‏}‏‏.‏

قلت معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في هذه الدلائل النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنه لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا أنه الإله القادر على كل شيء ثم إذا أمعنوا النظر ازدادوا إيقاناً وزال عنهم اللبس فحينئذٍ استحكم علمهم وعدوا في زمرة العقلاء الذين عقلوا عن الله مراده في أسرار كتابه ‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله‏}‏ أي بعد كتاب الله ‏{‏وآياته يؤمنون‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويل لكل أفاك أثيم‏}‏ أي كذاب صاحب إثم يعني النضر بن الحارث ‏{‏يسمع آيات الله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئاً‏}‏ يعني آيات القرآن ‏{‏اتخذها هزوا‏}‏ أي سخر منها ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى من هذه صفته ‏{‏لهم عذاب مهين‏}‏ ثم وصفهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من ورائهم جهنم‏}‏ يعني أمامهم جهنم وذلك جهنم وذلك خزيهم في الدنيا ولهم في الآخرة النار ‏{‏ولا يغني عنهم ما كسبوا‏}‏ أي من الأموال ‏{‏شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء‏}‏ أي ولا يغني عنهم ما عبدوا من دون الله من الآلهة ‏{‏ولهم عذاب عظيم هذا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏هدى‏}‏ أي هو هدى من الضلالة ‏{‏والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 17‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله‏}‏ أي بسبب التجارة واستخراج منافعه ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ نعمته على ذلك ‏{‏وسخر لكم ما في السموات والأرض‏}‏ يعني أنه تعالى خلقها ومنافعها فهي مسخرة لنا من حيث إنا ننتفع بها ‏{‏جميعاً منه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كل ذلك رحمه منه وقيل كل ذلك تفضل منه وإحسان ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله‏}‏ أي لا يخافون وقائع الله ولا يبالون بمقته، قال ابن عباس‏:‏ نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلاً من بني غفار شتمه بمكة فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله هذه الآية وأمره أن يعفو عنه وقيل نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة كانوا في أذى شديد من المشركين قبل أن يؤمروا بالقتال فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية ثم نسخها بآية القتال ‏{‏ليجزي قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ أي من الأعمال ثم فسر ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب‏}‏ يعني التوراة ‏{‏والحكم‏}‏ يعني معرفة أحكام الله ‏{‏والنبوة ورزقناهم من الطيبات‏}‏ أي الحلالات وهو ما وسع عليهم في الدنيا وأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم وأنزل عليهم المن والسلوى ‏{‏وفضلناهم على العالمين‏}‏ أي على عالمي زمانهم، قال ابن عباس‏:‏ لم يكن أحد من العالمين في زمانهم أكرم على الله ولا أحب إليه منهم ‏{‏وآتيناهم بينات من الأمر‏}‏ أي بيان الحلال والحرام وقيل العلم ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وما بين لهم من أمره ‏{‏فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم‏}‏ معناه التعجب من حالهم وذلك لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الاختلاف وهنا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف وذلك أنه لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم وإنما كان مقصودهم منه طلب الرياسة والتقدم ثم إنهم لما علموا عاندوا وأظهروا النزاع والحسد والاختلاف ‏{‏إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏19‏)‏ هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ثم جعلناك‏}‏ يا محمد ‏{‏على شريعة‏}‏ أي على طريقة ومنهاج وسنة بعد موسى ‏{‏من الأمر‏}‏ أي من الدين ‏{‏فاتبعها‏}‏ أي اتبع شريعتك الثابتة ‏{‏ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون‏}‏ يعني مراد الكافرين وذلك أنهم كانوا يقولون له أرجع إلى دين آبائك فإنهم كانوا أفضل منك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً‏}‏ أي لن يدفعوا عنك من عذاب الله شيئاً إن اتبعت أهواءهم ‏{‏وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض‏}‏ يعني إن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولأولى لهم في الآخرة ‏{‏والله ولي المتقين‏}‏ أي هو ناصرهم في الدنيا ووليهم في الآخرة ‏{‏هذا‏}‏ يعني القرآن ‏{‏بصائر للناس‏}‏ أي معالم للناس في الحدود والأحكام يبصرون به ‏{‏وهدى ورحمة لقوم يوقنون أم حسب الذين اجترحوا السيئات‏}‏ أي اكتسبوا المعاصي والكفر ‏{‏أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏ نزلت في نفر من مشركي مكة قالوا للمؤمنين لئن كان ما تقولون حقاً لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا ‏{‏سواء محياهم ومماتهم‏}‏ معناه أحسبوا أن حياة الكافرين ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم سواء كلا والمعنى أن المؤمن مؤمن في محياه ومماته في الدنيا والآخرة والكافر كافر في محياه ومماته في الدنيا والآخرة وشتان ما بين الحالين في الحال والمآل ‏{‏ساء ما يحكمون‏}‏ أي بئس ما يقضون قال مسروق قال لي رجل من أهل مكة هذا مقام أخيك تميم الداري ولقد رأيته ذات ليلة حتى أصبح أو قرب أن يصبح يقرأ آية من كتاب الله يركع بها ويسجد ويبكي ‏{‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات‏}‏ الآية ‏{‏وخلق‏}‏ الله السموات والأرض بالحق أي بالعدل ‏{‏ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون‏}‏ ومعنى الآية أن المقصود من خلق هذا العالم إظهار العدل والرحمة ذلك لا يتم إلا في القيامة ليحصل التفاوت بين المحقين والمبطلين في الدرجات والدركات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أفرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اتخذ دينه ما يهواه فلا يهوى شيئاً إلا ركبه لأنه لا يؤمن بالله ولا يخافه ولا يحرم ما حرم الله وقيل معناه اتخذ معبوده ما تهواه نفسه وذلك أن العرب كانت تعبد الحجارة والذهب والفضة فإذا رأوا شيئاً أحسن من الأول رموا بالأول وكسروه وعبدوا الآخر وقيل إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار ‏{‏وأضله الله على علم‏}‏ أي علماً منه بعاقبة أمره وقيل على ما سبق في علم الله أنه ضال قبل أن يخلقه ‏{‏وختم على سمعه وقلبه‏}‏ أي فلم يسمع الهدى ولم يعقله بقلبه ‏{‏وجعل على بصره غشاوة‏}‏ يعني ظلمة فهو لا يبصر الهدى ‏{‏فمن يهديه من بعد الله‏}‏ أي من بعد أن أضله الله ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏ قال الواحدي ليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة لأن الله صرح بمنعه إياه عن الهدى حتى أخبر أنه ختم على سمعه وقلبه وبصره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏24‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وقالوا‏}‏ يعني منكري البعث‏.‏ ‏{‏ما هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ يعني ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ‏{‏نموت ونحيا‏}‏ يعني يموت الآباء ويحيا الأبناء وقيل تقديره نحيا ونموت ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ يعني وما يفنينا إلا ممر الزمان واختلاف الليل والنهار ‏{‏وما لهم بذلك من علم‏}‏ يعني لم يقولوه عن علم علموه ‏{‏إن هم إلا يظنون‏}‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل‏:‏ «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار» وفي رواية «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقولن أحدكم يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما» وفي رواية «يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار» ومعنى هذه الأحاديث أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل لأنهم كانوا ينسبون إلى الدهر ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر كما أخبر الله عز وجل عنهم بقوله ‏{‏وما يهلكنا إلا الدهر‏}‏ فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد وسبوا فاعلها كان مرجع سبهم إلى الله تعالى إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يضيفونها إلى الدهر فنهوا عن سب الدهر قيل لهم لا تسبوا فاعل ذلك فإنه هو الله عز وجل والدهر متصرف فيه يقع به التأثير كما يقع بكم والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏}‏ معناه أن منكري البعث احتجوا بأن قالوا إن صح ذلك فأتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث ‏{‏قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولله ملك السموات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون‏}‏ يعني في ذلك اليوم يظهر خسران أصحاب الأباطيل وهم الكافرون يصيرون إلى النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 32‏]‏

‏{‏وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ‏(‏30‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وترى كل أمة جاثية‏}‏ أي باركة على الركب وهي جلسة المخاصم بين يدي الحاكم ينتظر القضاء قال سلمان الفارسي إن في القيامة ساعة هي عشر سنين يخر الناس فيها جثاة على الركب حتى إبراهيم ينادي ربه لا أسألك إلا نفسي ‏{‏كل أمة تدعى إلى كتابها‏}‏ أي الذي فيه أعمالها ويقال لهم ‏{‏اليوم تجزون ما كنتم تعملون‏}‏ أي من خير وشر ‏{‏هذا كتابنا‏}‏ يعني ديوان الحفظة‏.‏

فإن قلت كيف أضاف الكتاب إليهم أولاً بقوله ‏{‏تدعى إلى كتابها‏}‏ وإليه ثانياً بقوله ‏{‏هذا كتابنا‏}‏‏.‏

قلت لا منافاة بينهما فإضافته إليهم لأنه كتاب أعمالهم وإضافته إليه لأنه تعالى هو آمر الحفظة بكتبه ‏{‏ينطق عليكم بالحق‏}‏ أي يشهد عليكم ببيان شاف كأنه ينطق وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ‏{‏إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون‏}‏ أي نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم وقيل نستنسخ أي نأخذ نسخته وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله منه ما كان له ثواب وعليه عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب، وقيل الاستنساخ من اللوح المحفوظ تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل فينسخ كتاب من كتاب ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته‏}‏ أي جنته ‏{‏ذلك هو الفوز المبين‏}‏ أي الظفر الظاهر ‏{‏وأما الذين كفروا‏}‏ أي يقال لهم ‏{‏أفلم تكن آياتي تتلى عليكم‏}‏ يعني آيات القرآن ‏{‏فاستكبرتم‏}‏ أي عن الإيمان بها ‏{‏وكنتم قوماً مجرمين‏}‏ يعني كافرين منكرين قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا قيل إن وعد الله حق‏}‏ أي البعث كائن ‏{‏والساعة لا ريب فيها‏}‏ أي لا شك في أنها كائنة ‏{‏قلتم ما ندري ما الساعة‏}‏ أي أنكرتموها وقلتم ‏{‏إن نظن إلا ظناً‏}‏ أي ما نعلم ذلك إلا حدساً وتوهماً ‏{‏وما نحن بمستيقنين‏}‏ أي إنها كائنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 37‏]‏

‏{‏وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏33‏)‏ وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏34‏)‏ ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏35‏)‏ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وبدا لهم‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏سيئات ما عملوا‏}‏ أي في الدنيا والمعنى بدا لهم جزاء سيئاتهم ‏{‏وحاق بهم‏}‏ أي نزل بهم ‏{‏ما كانوا به يستهزئون وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا‏}‏ أي تركتم الإيمان والعمل للقاء هذا اليوم ‏{‏ومأواكم النار وما لكم من ناصرين‏}‏ أي ما لكم من مانعين يمنعونكم من العذاب ‏{‏ذلكم‏}‏ أي هذا الجزاء ‏{‏بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا‏}‏ يعني حين قلتم لا بعث ولا حساب ‏{‏فاليوم لا يخرجون منها‏}‏ أي من النار ‏{‏ولا هم يستعتبون‏}‏ أي لا يطلب منهم أن يرجعوا إلى طاعة الله والإيمان به لأنه لا يقبل ذلك اليوم عذر ولا توبة ‏{‏فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين‏}‏ معناه فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السموات والأرض والعالمين فإن مثل الربوبية والعامة توجب الحمد والثناء على كل حال ‏{‏وله الكبرياء‏}‏ أي وكبروه فإن له الكبرياء والعظمة ‏{‏في السموات والأرض‏}‏ وحق لمثله أن يكبر ويعظم ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العز إزاره والكبرياء رداؤه» قال الله تعالى‏:‏ «فمن ينازعني عذبته» لفظ مسلم وأخرجه البرقاني وأبو مسعود رضي الله عنهما يقول الله عز وجل‏:‏ «العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني شيئاً منهما عذبته» ولأبي داود عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى‏:‏ «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار»‏.‏

‏(‏شرح غريب ألفاظ الحديث‏)‏

قيل هذا الكلام خرج على ما تعتاده العرب في بديع استعاراتهم وذلك أنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثياب يقولون شعار فلان الزهد ولباسه التقوى فضرب الله عز وجل الإزار والرداء مثلاً له في انفراده سبحانه وتعالى بصفة الكبرياء والعظمة، والمعنى أنهما ليسا كسائر الصفات التي يتصف بها بعض المخلوقين مجازاً كالرحمة والكرم وغيرهما وشبههما بالإزار والرداء لأن المتصف بهما يشملانه كما يشمل الرداء الإنسان ولأنه لا يشاركه في إزاره وردائه أحد فكذلك الله تعالى لا ينبغي أن يشاركه فيهما أحد لأنهما من صفاته اللازمة له المختصة به التي لا تليق بغيره والله أعلم‏.‏

سورة الأحقاف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ أي بالعدل ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا‏}‏ أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب ‏{‏معرضون‏}‏ أي لا يؤمنون به ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ يعني الأصنام ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا‏}‏ أي بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون ‏{‏أو أثارة من علم‏}‏ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم وقيل برواية عن علم الأنبياء وقيل علامة من علم وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي في أن لله شريكاً ‏{‏ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له‏}‏ يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ يعني لا تجيب أبداً ما دامت الدنيا ‏{‏وهم من دعائهم غافلون‏}‏ يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم ‏{‏وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏ أي جاحدين ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين‏}‏ سموا القرآن سحراً ‏{‏أم يقولون افتراه‏}‏ أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال الله عز وجل ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على الله من أجلكم ‏{‏هو أعلم‏}‏ أي الله أعلم ‏{‏بما تفيضون فيه‏}‏ أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن والقول فيه أنه سحر ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ أي إن القرآن جاء من عنده ‏{‏وهو الغفور الرحيم‏}‏ أي في تأخير العذاب عنكم وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ يا محمد ‏{‏ما كنت بدعاً‏}‏ أي بديعاً ‏{‏من الرسل‏}‏ أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند الله إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ فقالت الصحابة هنيئاً لك يا نبي الله قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ الآية وأنزل ‏{‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً‏}‏ فبين الله ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا‏:‏ إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك ‏(‏خ‏)‏ «عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما يدريك أن الله أكرمه، فقلت‏:‏ بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت فوالله لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عيناً تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله» وفي رواية غير البخاري قالت «لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار» فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل الله هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي وقيل» لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره الله عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال تعالى

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏قل أرأيتم‏}‏ أي أخبروني ماذا تقولون ‏{‏إن كان من عند الله‏}‏ يعني القرآن ‏{‏وكفرتم به‏}‏ أيها المشركون ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ أي أنه من عند الله ‏{‏فآمن‏}‏ يعني الشاهد ‏{‏واستكبرتم‏}‏ أي عن الإيمان به والمعنى إذا كان الأمر كذلك أليس قد ظلمتم وتعديتم ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ واختلفوا في هذا الشاهد فقيل هو عبد الله بن سلام آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وشهد بصحة نبوته واستكبر اليهود فلم يؤمنو يدل عليه ما روى عن أنس بن مالك قال‏:‏ «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو في أرض يخترف النخل فأتاه وقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام يأكله أهل الجنة ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن آنفاً جبريل قال فقال عبد الله ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية ‏{‏من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك‏}‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها قال أشهد أنك رسول الله ثم قال يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي رجل فيكم عبد الله بن سلام فقالوا أعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أفرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك زاد في رواية فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه» زاد في رواية «فقال يعني عبد الله بن سلام هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله» أخرجه البخاري في صحيحه ‏(‏ق‏)‏‏.‏ «عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحي يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال وفيه نزلت وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله» قال الراوي لا أدري قال مالك الآية أو في الحديث وقيل الشاهد هو موسى بن عمران عليه السلام قال مسروق في هذه الآية والله ما نزلت في عبد الله بن سلام لأن آل حم نزلت بمكة وإنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة ونزلت الآية في محاجة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه ومثل القرآن التوراة فشهد موسى على التوراة ومحمد على القرآن وكل يصدق الآخر فيكون المعنى وشهد موسى على التوراة التي هي مثل القرآن إنها من عند الله كما شهد محمد صلى الله على القرآن أنه كلام الله فآمن من آمن بموسى والتوراة واستكبرتم أنتم يا معشر العرب أن تؤمنوا بمحمد والقرآن إن لا يهدي القوم الظالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ يعني من اليهود ‏{‏للذين آمنوا لو كان خيراً‏}‏ يعني دين محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ما سبقونا إليه‏}‏ يعنون عبد الله بن سلام وأصحابه، وقيل نزلت في مشركي مكة قالوا لو كان ما يدعونا إليه محمد خيراً ما سبقنا إليه فلان وقيل الذين كفروا أسد وغطفان قالوا للذين آمنوا يعني جهينة ومزينة لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا إليه رعاء البهم قال الله تعالى ‏{‏وإذ لم يهتدوا به‏}‏ يعني بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان ‏{‏فسيقولون هذا إفك قديم‏}‏ يعني كذب متقدم ‏{‏ومن قبله‏}‏ يعني من قبل القرآن ‏{‏كتاب موسى‏}‏ يعني التوراة ‏{‏إماماً‏}‏ يعني جعلناه إماماً يقتدى به ‏{‏ورحمة‏}‏ يعني من الله لمن آمن به ‏{‏وهذا كتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏مصدق‏}‏ يعني للكتب التي قبله ‏{‏لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏وبشرى للمحسنين إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ تقدم تفسيره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حسناً‏}‏ أي يوصل إليهما إحساناً وهو ضد الإساءة ‏{‏حملته أمه كرهاً‏}‏ يعني حين أثقلت وثقل عليها الولد ‏{‏ووضعته كرهاً‏}‏ يريد شدة الطلق ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏ يعني ومدة حمله إلى أن ينفصل من الرضاع وهو الفطام ثلاثون شهراً‏.‏ فأقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثر مدة الرضاع أربعة وعشرون شهراً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إذا حملت المرأة تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً وإذا حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً ‏{‏حتى إذا بلغ أشده‏}‏ أي نهاية قوته وغاية شبابه واستوائه وهو ما بين ثمان عشرة سنة إلى أربعين سنة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ قيل‏:‏ نزلت هذه الآية في سعد بن أبي وقاص وقد تقدمت القصة‏.‏ وقيل إنها على العموم والأصح أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وذلك أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة في تجارة إلى الشام فنزلوا منزلاً فيه سدرة فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال له الراهب من الرجل الذي في ظل السدرة فقال هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال الراهب‏:‏ هذا والله نبي وما استظل تحتها بعد عيسى أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ولا حضر، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة أكرمه الله تعالى بنبوته واختصه برسالته فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل‏:‏ ‏{‏قال رب أوزعني‏}‏ أي ألهمني ‏{‏أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي‏}‏ أي بالإيمان والهداية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 17‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا‏}‏ يعني أعمالهم الصالحة التي عملوها في الدنيا وكلها حسن فالأحسن بمعنى الحسن فيثيبهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم فلا يؤاخذهم بها ‏{‏في أصحاب الجنة‏}‏ أي مع أصحاب الجنة ‏{‏وعد الصدق‏}‏ يعني الذي وعدهم بأن يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ووعده صدق وقيل‏:‏ وعدهم بأن يدخلهم الجنة ‏{‏الذي كانوا يوعدون‏}‏ يعني في الدنيا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه‏}‏ يعني إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث بعد الموت ‏{‏أفٍّ لكما‏}‏ وهي كلمة كراهية ‏{‏أتعدانني أن أخرج‏}‏ يعني من قبري حياً ‏{‏وقد خلت القرون من قبلي‏}‏ يعني فلم يبعث منهم أحد ‏{‏وهما يستغيثان الله‏}‏ يعني يستصرخان بالله عليه ويقولان له ‏{‏ويلك آمن إن وعد الله حق‏}‏ يعني بالبعث ‏{‏فيقول ما هذا‏}‏ يعني الذي تدعونني إليه ‏{‏إلا أساطير الأولين‏}‏ قال ابن عباس نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وكان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ويقول أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون‏.‏ وأنكرت عائشة أن يكون قد نزل هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر ‏(‏خ‏)‏‏.‏ عن يوسف بن ماهك قال‏:‏ كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال‏:‏ خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال له مروان‏:‏ هذا الذي أنزل الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما فقالت عائشة من وراء الحجاب‏:‏ ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا ما أنزل الله في سورة النور من براءتي والقول الصحيح أنه ليس المراد من الآية شخص معين بل المراد كل شخص كان موصوفاً بهذه الصفة وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث فأبى وأنكر‏.‏ وقيل نزلت في كل كافر عاقٍّ لوالديه قال الزجاج‏:‏ قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ أعلم الله أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المؤمنين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب أي وجب عليهم العذاب ‏{‏في أمم‏}‏ أي مع أمم ‏{‏قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ولكل درجات مما عملوا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد من سبق إلى الإسلام فهو أفضل ممن تخلف عنه ولو ساعة وقيل لكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين والبار والعاق درجات يعني منازل ومراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم فيجازيهم عليها قيل درجات الجنة تذهب إلى علو ودرجات النار تذهب إلى أسفل ‏{‏وليوفيهم أعمالهم‏}‏ يعني جزاء أعمالهم ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويوم يعرض الذين كفروا على النار‏}‏ يعني يجاء بهم فيكشف لهم عنها ويقال لهم ‏{‏أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها‏}‏ يعني أن كل ما قدر لكم من الطيبات واللذات فقد أفنيتموه في الدنيا وتمتعتم به فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم منها شيء ‏{‏فاليوم تجزون عذاب الهون‏}‏ أي الذي فيه ذل وخزي ‏{‏بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون‏}‏ علق هذا العذاب بأمرين، أحدهما‏:‏ الاستكبار وهو الترفع، ويحتمل أن يكون عن الإيمان، والثاني‏:‏ الفسق وهو المعاصي، والأول من عمل القلوب، والثاني من عمل الجوارح‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

لما وبخ الله تعالى الكافرين بالتمتع بالطيبات، آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة ‏(‏ق‏)‏ «عن عمر بن الخطاب قال‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فقلت‏:‏ أستأنس يا رسول الله‏.‏ قال‏:‏ نعم فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت‏:‏ ادع الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم ولا يعبدون الله فاستوى جالساً ثم قال‏:‏ أفي شك أنت يا ابن الخطاب‏؟‏ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت استغفر لي يا رسول الله» ‏(‏ق‏)‏‏.‏ «عن عائشة قالت‏:‏ ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم» ‏(‏ق‏)‏ «عنها قالت‏:‏ كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو الأسودان التمر والماء إلا أن نؤتى باللحيم» وفي رواية أخرى قالت‏:‏ «إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار‏.‏ قال عروة‏:‏ قلت‏:‏ يا خالة فما كان يعيشكم‏؟‏ قالت‏:‏ الأسودان التمر والماء إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح فكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا» عن ابن عباس قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير» أخرجه الترمذي وله عن أنس قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏22‏)‏ قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏23‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏24‏)‏ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر أخا عاد‏}‏ يعني هوداً عليه السلام ‏{‏إذ أنذر قومه بالأحقاف‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة‏.‏ وقيل‏:‏ كانت منازل عاد باليمن في حضرموت بموضع يقال له مهرة‏.‏ وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج العود، رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة إرم‏.‏ وقيل‏:‏ إن عاداً كانوا أحياء باليمن وكانوا أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر‏.‏ والأحقاف‏:‏ جمع حقف وهو المستطيل من الرمل فيه اعوجاج كهيئة الجبل ولم يبلغ أن يكون جبلاً‏.‏ وقيل‏:‏ الأحقاف ما استدار من الرمل ‏{‏وقد خلت النذر‏}‏ أي مضت الرسل ‏{‏من بين يديه‏}‏ أي من قبل هود ‏{‏ومن خلفه‏}‏ أي من بعده ‏{‏ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏}‏ والمعنى‏:‏ أن هوداً قد أنذرهم بذلك وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره ‏{‏قالوا أجئتنا لتأفكنا‏}‏ أي لتصرفنا ‏{‏عن آلهتنا‏}‏ أي عبادتها ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ أي من العذاب ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ يعني أن العذاب نازل بنا ‏{‏قال‏}‏ يعني هوداً ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ يعني هو يعلم متى يأتيكم العذاب ‏{‏وأبلغكم ما أرسلت به‏}‏ يعني من الوحي الذي أنزله الله عليّ وأمرني بتبليغه إليكم ‏{‏ولكني أراكم قوماً تجهلون‏}‏ يعني قدر العذاب الذي ينزل بكم ‏{‏فلما رأوه‏}‏ يعني رأوا ما يوعدون به من العذاب ثم بينه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عارضاً‏}‏ يعني رأوا سحاباً عارضاً وهو السحاب الذي يعرض في ناحية السماء ثم يطبق السماء ‏{‏مستقبل أوديتهم‏}‏ وذلك أنه خرجت عليهم سحابة سوداء من ناحية وادٍ يقال له المغيث وكان قد حبس عنهم المطر مدة طويلة فلما رأوا تلك السحابة استبشروا بها ثم ‏{‏قالوا هذا عارض ممطرنا‏}‏ قال الله رداً عليهم ‏{‏بل هو ما استعجلتم به‏}‏ يعني من العذاب ثم بين ماهية ذلك العذاب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ريح فيها عذاب أليم‏}‏ ثم وصف تلك الريح فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تدمر كل شيء بأمر ربها‏}‏ يعني تهلك كل شيء مرت به من رجال عاد وأموالهم يقال‏:‏ إن تلك الريح كانت تحمل الفسطاط وتحمل الظعينة حتى ترى كأنها جرادة فلما رأوا ذلك، دخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح فقلعت الأبواب وصرعتهم‏.‏ وأمر الله الريح، فأهالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين‏.‏ ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل واحتملتهم فرمت بهم في البحر‏.‏ وقيل‏:‏ إن هوداً عليه السلام لما أحس بالريح، خط على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطاً فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آَلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ولقد مكنّاهم فيما إن مكناكم فيه‏}‏ الخطاب لأهل مكة يعني مكناهم فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول الأعمار وكثرة الأموال ‏{‏وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة‏}‏ يعني إنا أعطيناهم هذه الحواس ليستعملوها فيما ينفعهم في أمر الدين فما استعملوها إلا في طلب الدنيا ولذاتها فلا جرم ‏{‏فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء‏}‏ يعني أنه لما أنزل بهم العذاب ما أغنى ذلك عنهم شيئاً ‏{‏إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏ يعني ونزل بهم العذاب الذي كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء ‏{‏ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى‏}‏ الخطاب لأهل مكة يعني أهلكنا قرى ديار ثمود وهي الحجر وسدوم وهي قرى قوم لوط بالشام وقرى قوم عاد باليمن يخوف أهل مكة بذلك ‏{‏وصرفنا الآيات‏}‏ يعني وبينا لهم الحجج والدلائل الدالة على التوحيد ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ يعني عن كفرهم فلم يرجعوا فأهلكناهم بسبب كفرهم وتماديهم في الكفر ‏{‏فلولا‏}‏ يعني فهلا ‏{‏نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة‏}‏ يعني أنهم اتخذوا الأغنام آلهة يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى والقربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى‏:‏ ‏{‏بل ضلوا عنهم‏}‏ يعني بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ‏{‏وذلك إفكهم‏}‏ يعني كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله تعالى وتشفع لهم عنده ‏{‏وما كانوا يفترون‏}‏ يعني يكذبون بقولهم إنها آلهة وإنها تشفع لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن‏}‏ الآية‏.‏

‏(‏ذكر القصة في ذلك‏)‏

قال المفسرون‏:‏ لما مات أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في حياته يحوطه وينصره ويمنعه ممن يؤذيه، فلما مات وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحشة من قومه، فخرج إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة له والمنعة من قومه فروى محمد بن إسحاق عن زيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة‏:‏ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمير‏.‏ وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم‏:‏ هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك‏.‏ وقال الآخر‏:‏ ما وجد الله أحداً يرسله غيرك وقال الثالث‏:‏ لا أكلمك كلمة أبداً لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيد ذلك في تجرئهم عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فجعلوا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع إليه الناس وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه منهم، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح فقال لها‏:‏ ماذا لقينا من أحمائك‏؟‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين، وأنت رب المستضعفين، وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي‏.‏ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك» فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عداس فقالا له‏:‏ خذ قطفاً من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل وقل له يأكل منه‏.‏

ففعل عداس ذلك ثم أقبل بالطبق حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ كل‏.‏ فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال‏:‏ بسم الله ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك‏؟‏ فقال‏:‏ أنا نصراني وأنا رجل من أهل نينوى‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى‏؟‏ فقال له عداس‏:‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي‏.‏ فأكبَّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه قال فقال أحد ابني ربيعة‏:‏ أما غلامك، فقد أفسده عليك‏.‏ فلما جاءهم عداس قال له‏:‏ ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه‏؟‏ قال‏:‏ يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل‏.‏ لقد أخبرني بأمرٍ ما يعلمه إلا نبي‏.‏ فقال له‏:‏ ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف حتى إذا كان ببطن نخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن نصيبين كانوا قاصدين اليمن وذلك حين منعوا من استراق السمع من السماء ورموا بالشهب فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين وقد آمنوا به وأجابوا لما سمعوا القرآن فقص الله خبرهم عليه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن‏}‏ وفي الآية قول آخر وسيأتي في سورة الجن وهو حديث مخرج في الصحيحين من حديث ابن عباس‏.‏ وروي أن الجن لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه ليعرف الخبر فكان أول بعث بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن وساداتهم فبعثهم إلى تهامة‏.‏ وقال أبو حمزة‏:‏ بلغنا أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس فلما رجعوا إلى قومهم قالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً وقال جماعة‏:‏ بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله ويقرأ عليهم القرآن فصرف الله عز وجل إليه نفراً من الجن وهم من أهل نينوى وجمعهم له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فأيكم يتبعني فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فتبعه عبد الله بن مسعود قال عبد الله بن مسعود لم يحضر معه أحد غيري قال‏:‏ فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له شعب الحجون وخط لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه وقال‏:‏ لا تخرج منه حتى أعود إليك فانطلق حتى قام عليهم فافتتح القرآن فجعلت أرى مثال النسور تهوي وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى لا أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مع الفجر فانطلق إليّ فقال لي نمت فقلت‏:‏ لا والله يا رسول الله لقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول لهم اجلسوا فقال‏:‏ لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ثم قال‏:‏ هل رأيت شيئاً‏؟‏ قلت‏:‏ نعم رأيت رجالاً سوداً عليهم ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فقالوا يا رسول الله يقذرها الناس علينا فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث قال‏:‏ فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم‏؟‏ فقال‏:‏ إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فقلت‏:‏ يا رسول الله سمعت لغطاً شديداً فقال إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحق قال ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاني فقال لهم معك ماء‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله معي أداوة فيها شيء من نبيذ التمر فاستدعاه فصببت على يديه فتوضأ وقال‏:‏ تمرة طيبة وماء طهور‏.‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فأفزعوه حين رآهم ثم قال اظهروا‏؟‏ فقيل له‏:‏ إن هؤلاء قوم من الزط‏.‏ فقال‏:‏ ما أشبههم بالنفر‏.‏ الذين صرفوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن قلت حديث التوضؤ بنبيذ التمر ضعيف ذكره البيهقي في كتابه الخلافيات بأسانيده وأجاب عنها كلها‏.‏

والذي صح عن علقمة قال‏:‏ قلت لابن مسعود‏:‏ هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد‏؟‏ قال‏:‏ ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا ليلة بات قوم قال أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال‏:‏ فانطلق بنا فأرنا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم الجن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 33‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآَمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً‏}‏ قال عطاء‏:‏ كان دينهم اليهودية ولذلك ‏{‏قالوا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه‏}‏ يعني من الكتب الإلهية المنزلة من السماء وذلك أن كتب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد وتصديق الأنبياء والإيمان بالمعاد والحشر والنشر وجاء هذا الكتاب وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم كذلك فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتب ‏{‏يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم‏}‏ يعني‏:‏ يهدي إلى دين الحق وهو دين الإسلام ويهدي إلى طريق الجنة ‏{‏يا قومنا أجيبوا داعي الله‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه لا يوصف بهذا غيره وفي الآية دليل على أنه مبعوث إلى الإنس والجن جميعاً قال مقاتل لم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله ‏{‏وآمنوا به‏}‏‏.‏

فإن قلت قوله تعالى ‏{‏أجيبوا داعي الله‏}‏ أمر بإجابته في كل ما أمر به فيدخل فيه الأمر بالإيمان فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين‏.‏

قلت‏:‏ إنما أعاده لأن الإيمان أهم أقسام المأمور به وأشرفها فلذلك ذكره على التعيين فهو من باب ذكر العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه ‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم‏}‏ قال بعضهم‏:‏ لفظة من هنا زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم وقيل‏:‏ هي على أصلها وذلك أن الله يغفر من الذنوب ما كان قبل الإسلام فإذا أسلموا جرت عليهم أحكام الإسلام فمن أتى بذنب أخذ به ما لم يتب منه أو يبقى تحت خطر المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء آخذه بذنبه واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن، فقال قوم‏:‏ ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار‏.‏ وتأولوا قوله‏:‏ ‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم‏}‏‏.‏ وإليه ذهب أبو حنيفة‏.‏ وحكي عن الليث قال‏:‏ ثوابهم أن يجاروا من النار ثم يقال لهم‏:‏ كونوا تراباً مثل البهائم‏.‏ وعن أبي الزناد قال‏:‏ إذا قضى بين الناس، قيل لمؤمني الجن‏:‏ عودوا تراباً، فيعودون، تراباً‏.‏ فعند ذلك يقول الكافر‏:‏ يا ليتني كنت تراباً‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس وهذا هو الصحيح وهو قول ابن عباس وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى‏.‏ قال الضحاك‏:‏ الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون‏.‏ وقال أرطأة بن المنذر‏:‏ سألت ضمرة بن حبيب‏:‏ هل للجن ثواب‏؟‏ قال‏:‏ نعم وقرأ ‏{‏لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‏}‏ قال‏:‏ فالإنسيات للإنس والجنيات للجن وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض ورحاب وليسوا فيها يعني في الجنة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض‏}‏ يعني لا يعجز الله فيفوته ‏{‏وليس له من دونه أولياء‏}‏ يعني أنصاراً يمنعونه من الله ‏{‏أولئك‏}‏ يعني الذين لم يجيبوا داعي الله ‏{‏في ضلال مبين‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن‏}‏ يعني أنه تعالى خلق هذا الخلق العظيم ولم يعجز عن إبداعه واختراعه وتكوينه ‏{‏بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ يعني أن إعادة الخلق وإحياءه بعد الموت أهون عليه من إبداعه وخلقه فالكل عليه هين إبداع الخلق وإعادته بعد الموت وهو قوله ‏{‏بلى إنه على كل شيء قدير‏}‏ يعني من إماتة الخلق وإحيائهم لأنه قادر على كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏ويوم يعرض الذين كفروا على النار‏}‏ فيه إضمار تقديره فيقال لهم ‏{‏أليس هذا بالحق‏}‏ يعني هذا العذاب هو الذي وعدكم به الرسل وهو الحق ‏{‏قالوا بلى وربنا‏}‏ هذا اعتراف منهم على أنفسهم بعد ما كانوا منكرين لذلك وفيه توبيخ وتقريع لهم فعند ذلك ‏{‏قال‏}‏ لهم ‏{‏فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بالاقتداء بأولي العزم من الرسل في الصبر على أذى قومه قال ابن عباس ذوو الحزم وقال الضحاك ذوو الجد والصبر‏.‏

واختلفوا في أولي العزم من الرسل من هم فقال ابن زيد‏:‏ كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبياً إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل‏.‏ وهذا القول هو اختيار الإمام فخر الدين الرازي‏.‏ قال‏:‏ لأن لفظة من في قوله ‏{‏من الرسل‏}‏ للتبين لا للتبعيض كما تقول‏:‏ ثوب من خز كأنه قيل له اصبر كما صبر الرسل من قبلك على أذى قومهم وصفهم بالعزم لقوة صبرهم وثباتهم وقال بعضهم‏:‏ الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس لعجلة كانت فيه ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏ وقال قوم‏:‏ أولي العزم هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر نبياً لقوله بعد ذكرهم ‏{‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏}‏ وقال الكلبي‏:‏ هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشرة لأعداء الله‏.‏ وقيل‏:‏ هم ستة‏:‏ نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هم ستة‏:‏ نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، في قول، ويعقوب صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف صبر على الجب والسجن، وأيوب صبر على الضر‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هم‏:‏ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، أصحاب الشرائع فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين وخمسة قد ذكرهم الله على التخصيص والتعيين في قوله ‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً‏}‏ الآية روى البغوي بسنده عن عائشة قالت‏:‏ «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال‏:‏ ‏{‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل‏}‏ وإني والله لا بد لي من طاعته والله لأصبرن كما صبروا ولأجهدن كما جهدوا ولا قوة إلا بالله»‏.‏