فصل: تفسير الآية رقم (222)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏222‏]‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ‏(‏222‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن المحيض‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اصنعوا كل شيء إلاّ النكاح» فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلاّ خالفنا فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا‏:‏ يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلتهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما الوجد الغضب، وأصل الحيض السيلان والانفجار‏.‏ يقال‏:‏ حاض الوادي إذا سال وفاض ماؤه ‏{‏قل هو أذى‏}‏ أي هو شيء قذر والأذى في اللغة ما يكره من كل شيء ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ أي فاجتنبوا مجامعتهن ‏{‏ولا تقربوهن‏}‏ يعني بالوطء والمجامعة فهو كالتوكيد لقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض حتى يطهرن‏}‏ يعني في الحيض والمعنى ولا تقربوهن حتى يزول عنهن الدم، وقرئ يطهرن بتشديد الطاء ومعناه حتى يغتسلن ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ أي اغتسلن من حيضهن ‏{‏فأتوهن من حيث أمركم الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ طؤوهن في الفرج ولا تعتدوا إلى غيره فإنه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهن إلى غير المأتي وقيل‏:‏ فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله به وهو الطهر‏.‏ وقيل‏:‏ معناه وأتوهن من حين يحل لكم غشيانهن وذلك بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات‏.‏

‏(‏فصل‏:‏ في حكم هذه الآية وفيه مسائل‏)‏

المسألة الأولى‏:‏ أجمع المسلمون على تحريم الجماع في زمن الحيض، ومستحله كافر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ إنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ ومن فعله وهو عالم بالتحريم عزره الإمام وفي وجوب الكفارة قولان أحدهما أنه يستغفر الله ويتوب إليه وكفارة عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد، والقول الثاني أنه تجب عليه الكفارة، وهو القول القديم للشافعي وبه قال أحمد بن حنبل‏:‏ لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض، قال‏:‏ يتصدق بنصف دينار وفي رواية‏.‏ قال‏:‏ إذا كان دماً أحمر فدينار وإن كان دماً فنصف دينار أخرجه الترمذي‏.‏

وقال‏:‏ رفعه بعضهم عنه ابن عباس ووقفه بعضهم‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ أجمع العلماء على جواز الاستمتاع بالمرأة الحائض بما فوق السرة ودون الركبة وجواز مضاجعتها وملامستها، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت‏:‏ كانت إحدانا إذا كانت حائضاً وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضها، ثم يباشرها وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه وفي رواية قالت‏:‏ كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض أخرجاه في الصحيحين المراد بالمباشرة الاستمتاع بما دون الفرج، وفور كل شيء أوله وابتناؤه وقولها يملك إربه يروى بسكون الراء وهو العضو وبفتحها وهو الحاجة ‏(‏م‏)‏ عن عائشة قالت‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ناوليني الخمرة من المسجد قلت‏:‏ أنا حائض‏.‏ قال إن حيضتك ليس في يدك‏.‏ الخمرة حصير صغير مضفور من سعف النخل أو غيره بقدر الكف وقولها‏:‏ من المسجد يعني ناداها من المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد، وعائشة في حجرتها فطلب منها الخمرة وهي حائض‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ يحرم على الحائض الصلاة والصوم ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحلمه، فلو أمنت الحائض من التلويث في عبور المسجد جاز في أحد الوجهين قياساً على الجنب والثاني لا لأن حدثها أغلظ، ويجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة لما روي عن معاذة العدوية، قالت‏:‏ سألت عائشة فقلت‏:‏ ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت‏:‏ أحرورية أنت‏؟‏ قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت‏:‏ كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة أخرجاه في الصحيحين‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ لا يرتفع شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل، أو تتيمم عند عدم الماء إلا الصوم، فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فإنه يصح، وإن اغتسلت في النهار وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز للزوج غشيانها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض، وهو عشرة أيام عنده قبل الغسل، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يجوز للزوج غشيانها ما لم تغتسل من الحيض أو تتيمم عند عدم الماء لأن الله تعالىعلق جواز وطء الحائض بشرطين‏:‏ أحدهما انقطاع الدم والثاني الغسل فقال‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ يعني من الحيض ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ يعني اغتسلن ‏{‏فأتوهن من حيث أمركم الله‏}‏ فدل ذلك على أن الوطء لا يحل قبل الغسل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب التوابين‏}‏ يعني من الذنوب، والتواب الذي كلما أذنب جدد توبة، وقيل‏:‏ التواب هو الذي لا يعود إلى الذنب ‏{‏ويحب المتطهرين‏}‏ يعني من الأحداث وسائر النجاسات بالماء‏.‏ وقيل‏:‏ المتطهرين من الشرك وقيل‏:‏ هم الذين لم يصيبوا الذنوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏223‏]‏

‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏223‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ الآية ‏(‏ق‏)‏ عن جابر قال‏:‏ كانت اليهود تقول‏:‏ إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شتم‏}‏ وفي رواية للترمذي كانت اليهود تقول‏:‏ من أتى المرأة في قبلها من دبرها وذكر الحديث وعن ابن عباس قال‏:‏ جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله هلكت‏.‏ قال‏:‏ وما أهلكك قال‏:‏ حولت رحلي الليلة قال‏:‏ فلم يرد عليه شيئاً فأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فاتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏.‏ قوله‏:‏ حولت رجلي هو كناية عن الإتيان في غير المحل المعتاد هذا ظاهره، ويجوز أن يريد به أنه أتاها في المحل المعتاد لكن من جهة ظهرها‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب فكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أشق ما تكون المرأة، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً منكراً ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب أن يصنع بها ذلك فأنكرته عليه‏.‏ وقالت‏:‏ إنا كما نؤتي على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى سرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد، أخرجه أبو داود والوثن الصنم‏.‏ وقيل‏:‏ الصورة لا جثة لها‏.‏ وقوله‏:‏ على حرف، الحرف الجانب وحرف كل شيء جانبه وقوله‏:‏ يشرحون النساء‏.‏ يقال شرح فلان جاريته إذا وطئها على قفاها وأصل الشرح البسط وقوله‏:‏ سرى أمرهما أي ارتفع وعظم وتفاخم وأصله من سرى البرق إذا لج في اللمعان‏.‏ عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ في صمام واحد ويروى سمام بالسين أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حرث لكم‏}‏ معناه مزرع لكم ومنبت للولد، وهذا على سبيل التشبيه فجعل فرج المرأة كالأرض والنطفة كالبذر والولد كالنبات الخارج ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ يعني كيف شئتم وحيث شئتم، إذا كان في القبل والمعنى كيف شئتم مقبلة ومدبرة، على كل حال إذا كان في الفرج وفي الآية دليل على تحريم إتيان النساء في أدبارهن لأن محل الحرث والزرع هو القبل لا الدبر، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ملعون من أتى امرأة في دبرها» أخرجه أبو داود‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ هذا في العزل يعني إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم لا تعزلوا، وسئل ابن عباس عن العزل فقال‏:‏ حرثك إن شئت فعطش وإن شئت فارو ويروى عنه أنه قال‏:‏ تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية وبه قال أحمد‏:‏ وكره جماعة العزل وقالوا‏:‏ هو الوأد الخفي وروى نافع قال كنت أمسك على ابن عمر المصحف فقرأ هذ الآية‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ قال‏:‏ تدري فيم نزلت هذه الآية‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية وروى عبدالله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبدالله بن عمر فقال له‏:‏ يا عم ما حديث يحدثه نافع عن عبدالله أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النساء في أدبارهن فقال‏:‏ كذب العبد وأخطأ إنما قال عبدالله‏:‏ يؤتون في فروجهن من أدبارهن، ويحكى عن مالك إباحة ذلك وأنكره أصحابه، وأجمع جمهور العلماء على تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وقالوا‏:‏ لأن الله حرم الفرج في حال الحيض لأجل النجاسة العارضة وهو الدم فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة ولأن الله تعالى نص على ذكر الحرث والحرث به يكون نبات الولد فلا يحل العدول عنه إلى غيره‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدموا لأنفسكم‏}‏ يعني الولد وقيل‏:‏ قدموا التسمية والدعاء عند الجماع ‏(‏ق‏)‏ عن ابن عباس قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً» وقيل‏:‏ أراد به تقديم به تقديم الإفراط ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يموت لأحد من المسليمن ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم» قوله إلا تحلة القسم يعني قدر ما يبر الله قسمه فيه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ فإذا وردها جاوزها فقد أبر الله قسمه، وقيل‏:‏ قدموا لأنفسكم يعني من الخير والعمل الصالح بدليل سياق الآية ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي احذروا أن تأتوا شيئاً مما نهاكم الله عنه ‏{‏واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ أي صائرون إليه في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ يعني بالكرامة من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏224‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏224‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم‏}‏ نزلت في عبدالله بن رواحة كان بينه وبين ختنه بشير بن النعمان شيء، فحلف عبدالله لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصم له فكان إذا قيل له‏:‏ فيه يقول‏:‏ قد حلفت بالله أن لا أفعل فلا يحل لي إلا أن تبر يميني فأنزل الله هذه الآية، وقيل‏:‏ نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف ألا ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفك والعرضة ما يجعل معرضاً للشيء، وقيل‏:‏ العرضة الشدة والقوة وكل ما يعترض فيمنع عن الشيء، فهو عرضة، والمعنى‏:‏ ولا تجعلوا الحلف بالله سبباً مانعاً لكم من البر والتقوى يدعى أحدكم إلى بر وصلة رحم فيقول قد حلفت بالله لا أفعله فيعتل بيمينه في ترك البر والإصلاح ‏{‏أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس‏}‏ قبل معناه لا تحلفوا بالله أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس‏.‏ ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفر عن يمينه» وقيل‏:‏ معناه لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارين متقين مصلحين فإن كثرة الحلف بالله ضرب من الجراءة عليه ‏{‏والله سميع‏}‏ أي لحلفكم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بنياتكم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ اللغو كل ساقط مطرح من الكلام، وما لا يعتد به، وهو الذي يورد لا عن روية وفكر‏.‏ واللغو في اليمين هو الذي لا عقد معه كقول القائل‏:‏ لا والله بلى والله على سبق اللسان من غير قصد ونية وبه قال الشافعي‏:‏ ويعضده ما روي عن عائشة

تفسير الآية رقم ‏[‏225‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏225‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ في قول الرجل‏:‏ لا والله وبلى والله أخرجه الترمذي‏.‏ موقوفاً ورفعه أبو داود قال‏:‏ قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هو قول الرجل في يمينه كلا والله وبلى والله» ورواه عنها أيضاً موقوفاً، وقيل‏:‏ في معنى اللغو هو أن يحلف الرجل على شيء يرى أنه صادق ثم يتبين له خلاف ذلك، وبه قال أبو حنيفة «ولا كفارة فيه ولا إثم عليه عنده، قال مالك في الموطأ‏:‏ أحسن ما سمعت في ذلك أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يتيقن أنه كذا ثم يوجد بخلافه فلا كفارة فيه‏.‏ قال‏:‏ والذي يحلف على الشيء وهو يعلم أنه فيه آثم كاذب ليرضى به أحداً ويعتذر المخلوق أو يقطع به مالاً، فهذا أعظم من أن تكون فيه كفارة وإنما الكفارة على من حلف أن لا يفعل الشيء المباح له فعله، ثم يفعله أو أن يفعله مثل أن يحلف لا يبيع ثوبه بعشرة دراهم، ثم يبيعه بذلك أو يحلف ليضربن غلامه، ثم لا يضربه، وفائدة الخلاف الذي بين الشافعي وأبي حنيفة في لغو اليمين أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل، لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن وأبو حنيفة يحكم بضد ذلك، ومذهب الشافعي هو قول‏:‏ عائشة والشعبي وعكرمة ومذهب أبي حنيفة هو قول ابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والزهري وسليمان بن يسار وقتادة ومكحول‏.‏ وقيل‏:‏ في معنى اللغو إنه اليمين في الغضب وقيل‏:‏ هو ما يقع سهواً من غير قصد البتة ومعنى لا يؤاخذكم أي لا يعاتبكم الله بلغو اليمين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم‏}‏ أي لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏ يعني لكن يؤاخذكم بما عزمتم عليه وقصدتم له، وكسب القلب هو العقد والنية‏.‏

‏(‏فصل في بيان حكم الآية‏:‏ وفيه مسائل‏)‏

المسألة الأولى‏:‏ لا تنعقد اليمين إلا بالله وبأسمائه وصفاته، فأما اليمين بالله فهو كقول الرجل‏:‏ والذي نفسي بيده والذي أعبده، ونحو ذلك، والحلف بأسمائه كقوله والله والرحمن والرحيم والمهيمن ونحو ذلك والحلف بصفاته كقوله وعزة الله، وقدرته وعظمته ونحوه، فإذا حلف بشيء من ذلك ثم حنث فعليه الكفارة‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ لا يجوز الحلف بغير الله كقوله‏:‏ والكعبة والنبي وأبي ونحو ذلك، فإذا حلف بشيء من ذلك لا تنعقد يمينه ولا كفارة عليه، ويكره الحلف به لما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» أخرجاه في الصحيحين‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ إذا حلف على أمر في المستقبل، فحنث فعليه الكفارة وإن كان على أمر ماض ولم يكن، أو على أنه لم يكن فكان فإن كان عالماً به حال حلفه بأن يقول‏:‏ والله ما فعلت وقد فعل أو لقد فعلت وما فهل فهذه اليمين الغموس، وهي من الكبائر سميت غموساً لأنهما تغمس صاحبها في الإثم وتجب فيها الكفارة عند الشافعي سواء كان عالماً أو جاهلاً، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا كفارة عليه، فإن كان عالماً فهي كبيرة، وإن كان جاهلاً فهي من لغو اليمين ‏{‏والله غفور‏}‏ يعني لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر أنه لا يؤاخذكم عليها، ولو شاء آخذهم وألزمهم للكفارة في العاجل والعقوبة عليها في الآجل ‏{‏حليم‏}‏ يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة، قال الحليمي في معنى الحليم‏:‏ إنه الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم، ولكنه يرزق العاصي كما يرزق المطيع ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقى البر المتقي وقد يقيه الآفات والبلايا، وهو غافل لا يذكره فضلاً عن أن يدعوه كما يقيها الناسك الذي يدعوه ويسأله، وقال أبو سليمان الخطابي‏:‏ الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم، إنما الحليم الصفوح مع القدرة على الانتقام المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏226‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏226‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ يؤلون أي يحلفون والألية اليمين قال كثير‏:‏

قليل الألايا حافظ ليمينه *** وإن سبقت منه الألية برت

والإيلاء في عرف الشرع، هو اليمين على ترك الوطء كما إذا قال‏:‏ والله لا أجامعك أو لا أباضعك أو لا اقربك قال ابن عباس‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً فأبت أن تعطيه حلف لا يقربها السنة والسنتين والثلاث فيدعها لا أيّماً، ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل الله ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية فكان الرجل يريد امرأته، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها أبداً فيتركها لا أيماً ولا ذات بعل، وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فجعل الله تعالى له الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية للذين يؤلون من نسائهم ‏{‏تربص‏}‏ أي اتنظار ‏{‏أربعة أشهر‏}‏ والتربص التثبت والانتظار‏.‏

‏{‏فإن فاؤوا‏}‏ أي رجعوا عن اليمين بالوطء، والمعنى فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ لزوج إذا تاب من إضراره بامرأته فإنه غفور رحيم لكل التائبين‏.‏

‏(‏فروع‏)‏ تتعلق بحكم الآية‏:‏

‏(‏الفرع الأول‏)‏‏:‏ إذا حلف أنه لا يقرب زوجته أبداً أو مدة هي أكثر من أربعة أشهر فهو مول، فإذا مضت أربعة أشهر، يوقف الزوج، ويؤمر بالفيء وهو الرجوع أو الطلاق، وذلك بعد مطالبة الزوجة فإن رجع عما قال بالوطء إن قدر عليه أو بالقول مع العجز عنه، فإن لم يفيء ولم يطلق طلق عليه الحاكم واحدة، وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وابن عمر، قال سليمان بن يسار‏:‏ أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقول‏:‏ يوقف المولي‏.‏ وذهب إليه سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد‏.‏ وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن عباس وابن مسعود‏:‏ إذا مضت مدة أربعة أشهر يقع عليها طلقة بائنة‏.‏ وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة وقال سعيد بن المسيب والزهري‏:‏ يقع عليها طلقة رجعية‏.‏

‏(‏الفرع الثاني‏)‏‏:‏ لو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر، فليس بمول بل هو حالف فإن وطئها قبل مضي المدة لزمه كفارة يمين‏.‏

‏(‏الفرع الثالث‏)‏‏:‏ لو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر، فليس بمول بعد مضي المدة عند الشافعي لأن بقاء المدة شرط للوقوف، وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق، وقد مضت المدة، وعند أبي حنيفة يكون مولياً ويقع الطلاق بمضي المدة‏.‏

‏(‏الفرع الرابع‏)‏‏:‏ مدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد، جميعاً عند الشافعي لأنها مدة ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعن مالك وأبي حنيفة تتنصف مدة الإيلاء بالرق غير أن عند أبي حنيفة تنتصف مدة الإيلاء برق المرأة، وعند مالك برق الزوج كما في الطلاق‏.‏

‏(‏الفرع الخامس‏)‏‏:‏ إذا وطئ خرج من الإيلاء ويجب عليه كفارة يمين، وهذا قول أكثر العلماء وقيل‏:‏ لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعده المغفرة فقال‏:‏ ‏{‏فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ ومن قال‏:‏ بوجوب الكفارة عليه، قال‏:‏ ذلك في إسقاط العقوبة عنه لا في الكفارة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏227- 228‏]‏

‏{‏وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏227‏)‏ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏228‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ أي تحققوه بالإيقاع ‏{‏فإن الله سميع‏}‏ يعني أي لأقوالهم ‏{‏عليم‏}‏ يعني بنيانهم وفيه دليل على أنها لا تطلق ما لم يطلقها زوجها، لأنه تعالى شرط فيها العزم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والمطلقات‏}‏ أي المخليات من حبال أزواجهن والمطلقة هي التي أوقع الزوج عليها الطلاق ‏{‏يتربصن بأنفسهن‏}‏ أي ينتظرن فلا يتزوجن ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏ جمع قرء والقرء اسم يقع على الحيض، والطهر، قال أبو عبيدة‏:‏ الأقراء من الأضداد كالشفق اسم للحمرة، والبياض وقيل‏:‏ إنه حقيقة في الحيض مجاز في الطهر‏.‏ وقيل‏:‏ بالعكس واختلفوا في أصله فقيل أصله الجمع من قرأ أي جمع لأن في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم وفي وقت الطهر يجتمع في البدن وقيل‏:‏ أصله الوقت‏.‏ يقال رجع فلان لقرئه أي لوقته الذي كان فيه لأن الحيض يأتي لوقت والطهر يأتي لوقت وبحسب اختلاف أهل اللغة في الأقراء اختلف الفقهاء على قولين‏:‏ أحدهما أن الأقراء هي الحيض روى ذلك عن عمرو علي وابن مسعود وابن عباس وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء، وبه قال عكرمة والضحاك والسدي والأوزاعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وقال أحمد بن حنبل‏:‏ كنت أقول إن الأقراء هي الأطهار وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض، القول الثاني أنها الأطهار، يروى ذلك عن زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة وبه قال الزهري وأبان بن عثمان ومالك والشافعي وحجة من يقول إن الأقراء هي الحيض قوله صلى الله عليه وسلم للمستحاضة دعي الصلاة أيام أقرائك يعني أيام حيضك لأن المرأة لا تدع الصلاة إلا أيام حيضها وحجة من يقول‏:‏ أنها الأطهار أن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لعمر مرة فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسكها وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة، التي أمر الله أن يطلق لها فأخبر أن زمان العدة هو الطهر لا الحيض ويعضهد من اللغة قول الأعشى‏:‏

ففي كل عام أنت جاشم غزوة *** تشد لأقصاها عزيم عرائكا

مورثة مالاً وفي الحي رفعة *** لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أراد أنه كان يخرج للغزو ولم يغش نساءه فتضيع أقراؤهن وإنما تضيع بالسفر زمان الطهر لا زمان الحيض، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر، وعند غيره أطول وذلك أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها، وحلت للأزواج ويحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءاً على قول من يجعل الأقراء الأطهار، قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج وروي عنها أنها قالت‏:‏ القرء الطهر ليس بالحيضة‏.‏

قال الشافعي‏:‏ والنساء بهذا أعلم لأن هذا مما يبتلي به النساء وإن طلقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرابعة انقضت عدتها، وعلى قول من يجعل الأقراء حيضاً وهو مذهب ابي حنيفة لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة‏.‏ إن كان وقع الطلاق في حال الطهر أو من الحيضة الرابعة، وإن وقع في حال الحيض فإن قلت ما معنى الإخبار عنهن بالتربص في قوله‏:‏ والمطلقات يتريصن بأنفسهن‏.‏ قلت‏:‏ هو خبر في صورة الأمر، وأصل الكلام وليتربص المطلقات فاخرج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يلتقي بالمسارعة إلى أمتثاله فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عن موجود ونظيره قولهم في الدعاء‏:‏ يرحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة فكأنه قال‏:‏ وجدت الرحمة فهو يخبر عنها‏.‏

فصل في أحكام العدة

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء المطلقة والمتوفى عنها زوجها، وسواء في ذلك الحرة والأمة‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ عدة المتوفى عنها سوى الحامل أربعة أشهر وعشرة ايام سواء مات عنها زوجها قبل الدخول أو بعده وسواء في ذلك الحيض والأمة والآيسة‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ عدة المطلقة المدخول بها وهي ضربان‏:‏ أحدهما الحيض بالإقراء، وهي ثلاثة أقراء الضرب الثاني الآيسات من الحيض وإما الكبر، أو تكون لم تحض قط فعدتها ثلاثة أشهر وأما المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ عدة الإماء نصف عدة الحرائر فيما له نصف وفي الأقراء قرآن لأنه لا يتنصف قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏:‏ ينكح العبد اثنتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الولد، وقيل‏:‏ الحيض؛ والمعنى أنه لا يحل للمرأة كتمان ما خلق الله في رحمها من الحيض أو الحمل لتبطل بذلك الكتمان حق الزوج من الرجعة والولد ‏{‏إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر‏}‏ هذا وعيد شديد لتأكيد تحريم الكتمان وإيجاب أداء الأمانة في الإخبار عما في الرحم من الحيض أو الولد، والمعنى أن هذا من فعل المؤمنات وإن كانت المؤمنة والكافرة فيه سواء، فهو كقولك أدِّ حقى إن كنت مؤمناً يعني أن أداء الحقوق من أفعال المؤمنين وتقول للذي يظلم‏:‏ إن كنت مؤمناً فلا تظلمني؛ والمعنى ينبغي أن يمنعك إيمانك من الظلم، وفي سبب وعيد النساء بهذا قولان أحدهما أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة‏.‏ قاله ابن عباس‏:‏ والثاني أنه لأجل إلحاق الولد بغير أبيه قاله قتادة وقيل‏:‏ كانت المرأة إذا رغبت في زوجها تقول‏:‏ إني حائض وإن كانت قد طهرت ليراجعها وإن كانت زاهدة فيه كتمت خيضها وتقول قد طهرت لتفوته فنهاهن الله عن ذلك وأمرن بأداء الأمانة ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك‏}‏ يعني أزواجهن سمي الزوج بعلاً لقيامه بأمر زوجته، وأصل البعل السيد والمالك والمعنى وأزواجهن أولى برجعتهن وردهن إليهم في ذلك أي في حال العدة فإذا انقضى وقت العدة فقد بطل حق الرد والرجعة ‏{‏إن أرادوا إصلاحاً‏}‏ يعني إن أراد الزوج بالرجعة الإصلاح وحسن العشرة لا الإضرار بهن، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يراجعون، ويريدون بذلك الإضرار فنهى الله المؤمنين عن مثل ذلك، وأمرهم بالإصلاح وحسن العشرة بعد الرجعة ‏{‏ولهن‏}‏ يعني وللنساء على الأزواج ‏{‏مثل الذي عليهن‏}‏ يعني للأزواج ‏{‏بالمعروف‏}‏ وذلك أن حق الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يراعي حق الآخر فيما له، وعليه فيجب على الزوج أن يقوم بجميع حقها، ومصالحها ويجب على الزوجة الانقياد والطاعة له، قال ابن عباس في معنى الآية‏:‏ إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله تعالى‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ ‏(‏م‏)‏ عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال‏:‏ فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانات الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف»‏.‏

قوله‏:‏ «فاتقوا الله في النساء» فيه الحث على الوصية بهن ومراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف‏.‏ قوله‏:‏ «فإنكم أخذتموهن بأمانات الله» ويروى بأمانة وقوله‏:‏ «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» معناه بإباحة الله والكلمة هي قوله‏:‏ ‏{‏فانكحوا ما طاب لكم من النساء‏}‏ وقيل‏:‏ الكلمة هي قوله ‏{‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ وقيل‏:‏ الكلمة هي كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقوله‏:‏ لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه معناه ولا يأذن لأحد أن يتحدث إليهن، وكان من عادة العرب أن يتحدث الرجال مع النساء ولا يرون ذلك عيباً ولا يعدونه ريبة إلى أن نزلت آية الحجاب فنهوا عن ذلك وليس المراد بوطء الفرش نفس الزنا فإن ذلك محرم على كل الوجوه، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان المراد من ذلك لم يكن الضرب فيه ضرباً غير مبرح إنما كان فيه الحد، والضرب المبرح هو الشديد‏.‏ وقول‏:‏ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف يعني العدل وفيه وجوب نفقة الزوجة، وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ أي منزلة ورفعة قال ابن عباس‏:‏ بما ساق إليها من المهر وأنفق عليها من المال‏.‏ وقيل‏:‏ إن فضيلة الرجال على النساء بأمور منها العقل والشهادة والميراث والدية وصلاحية الإمامة والقضاء وللرجال أن يتزوج عليها ويتسرى، وليس لها ذلك وبيد الرجل الطلاق فهو قادر على تطليقها وإذا طلقها رجعية فهو قادر على رجعتها وليس شيء من ذلك بيدها ‏{‏والله عزيز‏}‏ أي غالب لا يمتنع عليه شيء ‏{‏حكيم‏}‏ أي في جميع أفعاله وأحكامه‏.‏ روى البغوي بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ثم رجع فرأى رجالاً يسجد بعضهم لبعض فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏229‏]‏

‏{‏الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏229‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ عن عروة بن الزبير قال‏:‏ كان الرجل إذا طلق زوجته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها، كان له ذلك وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم قال‏:‏ والله لا آويك إليّ ولا تحلين أبداً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ فاستقبل الناس الطلاق جديداً من ذلك اليوم من كان طلق أو لم يطلق أخرجه الترمذي‏.‏ وله عن عائشة قالت‏:‏ كان الناس والرجل يطلق امرأته ما شاء الله أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة أو أكثر حتى قال رجل لامرأته‏:‏ والله لا أطلقك فتبيني مني ولا آويك أبداً‏.‏ قالت‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ قالت عائشة‏:‏ فاستأنف الطلاق مستقبلاً من كان قد طلق ومن لم يطلق، ومعنى الآية أن الطلاق الرجعي مرتان ولا رجعة بعد الثالثة إلا أن تنكح زوجاً أخر، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الطلاق الثلاث في دفعة واحدة وهو الشافعي، وقيل في معنى الآية‏:‏ إن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة وهذا التفسير هو قول من قال‏:‏ إن الجمع بين الثلاثة حرام إلا أن أبا حنيفة قال‏:‏ يقع الثلاث وإن كان حراماً وقيل‏:‏ إن الآية دالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته والعدد الذي تبين به زوجته منه، والمعنى أن عدد الطلاق الذي لكم فيه رجعة على أزواجكم إذا كن مدخولاً بهن تطليقتان، وأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة ‏{‏فإمساك بمعروف‏}‏ يعني بعد الرجعة وذلك أنه إذا راجعها بعد التطليقة الثانية فعليه أن يمسكها بالمعروف وهو كل ما عرف في الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة ‏{‏أو تسريح بإحسان‏}‏ يعني أنه يتركها بعد الطلاق حتى تنقضي عدتها من غير مضارة‏.‏ وقيل هو أنه إذا طلقها أدى إليها جميع حقوقها المالية ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها‏.‏

‏(‏فروع‏)‏‏:‏ تتعلق بأحكام الطلاق‏:‏

‏(‏الفرع الأول‏)‏‏:‏ صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق، من غير نية ثلاث الطلاق والفراق والسراح، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط‏.‏

‏(‏الفرع الثاني‏)‏‏:‏ الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها فله مراجعتها من غير رضاها ما دامت في العدة فإذا لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها، فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها‏.‏

‏(‏الفرع الثالث‏)‏‏:‏ العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين‏.‏ واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حراً فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة فالعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث تطليقات، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن‏}‏ يعني أعطيتموهن شيئاً يعني من مهر أو غيره، ثم استثنى الخلع فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله‏}‏ نزلت في جميلة بنت عبدالله بن أبي أوفى ويقال حبيبة بنت سهل الأنصاري كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها، وكان بينهما كلام فأتت أباها تشكو إليه زوجها وقالت‏:‏ إنه يسب أبي ويضربني فقال‏:‏ ارجعي إلى زوجك فإنى أكره للمرأة أن لا تزال رافعة يديها تشكو زوجها قال‏:‏ فرجعت إليه الثالثة وبها أثر الضرب فقال‏:‏ ارجعي إلى زوجك فما رأت إن أباها لا يشكيها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه زوجها وأرته أثاراً بها من ضربه وقالت‏:‏ يا رسول الله لا أنا ولا هو فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال‏:‏ مالك ولأهلك فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً ما على وجه الأرض أحب إلى منها غيرك فقال‏:‏ لها ما تقولين‏؟‏ فكرهت أن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سألها فقالت‏:‏ صدق يا رسول الله ولكني خشيت أن يهلكني فأخرجني منه‏.‏ وقالت‏:‏ يا رسول الله ما كنت أحدثك حديثاً ينزل عليك خلافه هو أكرم الناس حباً لزوجته ولكني أبغضه فلا أنا ولا هو قال ثابت أعطيتها حديقة نخل فقل لها فلتردها علي، وأخلى سبيلها، فقال لها‏:‏ تردين عليه حديقته وتملكين أمرك قالت‏:‏ نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ثابت خذ منها ما أعطيتها وخلِّ سبيلها ففعل‏.‏ ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس «أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا مال ولكني أكره الكفر في الإسلام‏.‏ قال أبو عبدالله‏:‏ يعني تبغضه‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تردين عليه حديقته‏؟‏ قالت‏:‏ نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» قوله‏:‏ ما أعتب عليه يعني ما أجد عليه والعتبى الموجدة والحديقة البستان من البخل إذا كان عليه الحائط ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أن يخافا‏}‏ أي يعلما الزوجان من أنفسهما أن لا يقيما حدود الله والمعنى تخاف المرأة ان تعصي الله في أمور زوجها، ويخاف الزوج أنه إذا لم تطعه أن يعتدي عليها، فنهى الله الرجل أن يأخذ من امرأته شيئاً مما أعطاها إلا أن يكون النشوز من قبلها، وذلك أن تقول لا أطيع لك أمراً ولا أطأ لك مضجعاً، ونحو ذلك، وقرئ يخافا بضم الياء، ومعناه إلا أن يعلم ذلك من حالهما يعني يعلم القاضي والوالي ‏{‏فإن خفتم‏}‏ يعني فإن خشيتم وأشفقتم، وقيل‏:‏ معناه فإن ظننتم ‏{‏ألا يقيما حدود الله‏}‏ يعني ما أوجب الله على كل واحد منهما من طاعته فيما أمره به من حسن الصحبة، والمعاشرة بالمعروف وقيل‏:‏ هو يرجع إلى المرأة وهو سوء خلقها واستخفافها بحق زوجها ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ أي لا جناح على المرأة في النشوز إذا خشيت الهلاك، والمعصية فيما افتدت به نفسها أو أعطت من المال لأنها ممنوعة من إتلاف المال بغير حق، ولا على الزوج فيما أخذ من المال إذا أعطته المرأة طائعة راضية‏.‏

فصل في حكم الخلع

وفيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ قال الزهري والنخعي وداود‏:‏ لا يباح الخلع إلا عند الغضب والخوف من أن لا يقيما حدود الله فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فهو فاسد، وحجة هذا القول‏:‏ أن الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة شيئاً عند طلاقها، ثم استثنى الله تعالى حالة مخصوصة فقال‏:‏ ‏{‏إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله‏}‏ فكانت هذه صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الغضب، والخوف من أن لا يقيما حدود الله، وذهب جمهور العلماء إلى أنه يجوز الخلع من غير نشوز ولا غضب، غير أنه يكره لما فيه من قطع الوصلة بلا سبب عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة» أخرجه أبو داود والترمذي‏.‏ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» أخرجه أبو داود ودليل الجمهور على جواز الخلع من غير نشوز قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن يحصل لها شيء فإذا بذلت كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة أمر نفسها أولى‏.‏ وأجيب عن الاستثناء المذكور في هذه الآية أنه محمول على الاستثناء المنقطع‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ الخلع جائز على أكثر مما أعطاها وبه قال أكثر العلماء، وقال بعضهم‏:‏ لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهو قول علي، وبه قال الزهري والشعبي والحسن وعطاء وطاووس وقال سعيد بن المسيب‏:‏ بل يأخذ دون ما أعطاها حتى يكون الفضل فيه وحجة الجمهور أن الخلع عقد على معاوضة، فوجب أن لا يقيد بمقدار معين كما أن للمرأة أن لا ترضى عند عقد النكاح إلا بالكثير فكذلك للزوج أن لا يرضى عند الخلع إلا بالبذل الكثير، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج حيث أظهرت بغضه وكراهته‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ اختلف العلماء في الخلع هل هو فسخ أو طلاق‏؟‏ فقال الشافعي في القديم‏:‏ إنه فسخ وهو قول ابن عباس وطاوس وعكرمة‏.‏ وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وقال الشافعي في الجديد‏:‏ إنه طلاق وهو الأظهر وهو قول عثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب ومجاهد ومكحول والزهري، وبه قال أبو حنيفة ومالك وسفيان الثوري‏.‏ وحجة القول القديم أن الله تعالى ذكر الطلاق مرتين ثم ذكر بعده الخلع ثم ذكر الطلقة الثالثة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏230‏]‏

‏{‏فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏230‏)‏‏}‏

‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ ولو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً وحجة القول الجديد أنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى كالإقالة في البيع وأيضاً لو كان الخلع فسخاً فإذا خالعها ولم يذكر مهراً وجب أن يجب المهر عليها كالإقالة، فإن الثمن يجب رده وإن لم يذكره فثبت أن الخلع ليس بفسخ وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق وأيضاً فإن الطلقة الثالثة قوله‏:‏ أو تسريح بإحسان‏.‏ وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه طلاقاً ينقص به عدد الطلاق فإن تزوجها بعده كانت معه على طلقتين وإن جعلناه فسخاً بانت منه بثلاث‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ يعني هذه أوامر الله ونواهيه وهو ما تقدم من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وحدود الله ما منع من مجاوزتها وهو قوله‏:‏ ‏{‏فلا تعتدوها‏}‏ أي فلا تجاوزها ‏{‏ومن يتعد حدود الله‏}‏ أي يجاوزها ‏{‏فأولئك هم الظالمون‏}‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن طلقها‏}‏ يعني الطلقة الثالثة ‏{‏فلا تحل له من بعد‏}‏ أي لا تحل له رجعتها بعد الثلاث ‏{‏حتى تنكح زوجاً غيره‏}‏ يعني حتى تتزوج زوجاً آخر غير المطلق فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعاً والمراد هنا الوطء، نزلت في تميمة وقيل‏:‏ عائشة بنت عبدالرحمن بن عتيك القرظي وكانت تحت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثاً ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة قالت‏:‏ «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏» أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته «قولها‏:‏ فبت طلاقي أي قطعة والبت القطع وقولها‏:‏ مثل هدبة الثوب أي طرفة وهو كناية عن استرخاء الذكر قوله‏:‏ حتى يذوق عسيلتك بضم العين تصغير العسل شبة لذة الجماع بالعسل وهو كناية عنه وإنما أنث العسل لأن من العرب من يؤنثه، وقيل‏:‏ أنثه حملاً له على المعنى، لأن المراد منه النطفة، وعبدالرحمن المذكور هو عبدالرحمن بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء مشددة، وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن زوجي قد مسني فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏» كذبت بقولك الأول فلن أصدقك في الآخر «، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى زوجي الأول فإن زوجي الآخر قد مسني وطلقني، فقال لها أبو بكر‏:‏ قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال له ما قالت لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر أتت عمر وقالت له ما قالت لأبي بكر فقال لها‏:‏ لئن رجعت إليه لأرجمنك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها‏}‏ يعني الزوج الثاني بعد وطئها ‏{‏فلا جناح عليهما‏}‏ يعني على المرأة والزوج الأول ‏{‏أن يتراجعا‏}‏ يعني بنكاح جديد ‏{‏إن ظنا‏}‏ أي علما وأيقنا وقيل‏:‏ إن رجوا لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلاّ الله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يقيما حدود الله‏}‏ يعني يقيما بينهما الصلاح وحسن العشرة والصحبة وقيل‏:‏ معناه إن علما أن نكاحها على غير دلسة، والمراد بالدلسة التحليل‏.‏

فرعان‏:‏ الأول‏:‏ مذهب جمهور العلماء أن المطلقة بالثلاث لا تحل للزوج المطلقة منه بالثلاث إلاّ بشرائط، وهي أن تعتد منه ثم تتزوج بزوج آخر ويطأها، ثم يطلقها، ثم تعتد منه، فإذا حصلت هذه الشرائط فقد حلت للأول وإلاّ فلا، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب‏:‏ تحل بمجرد العقد والمذهب الأول هو الأصح، واختلف العلماء في اشتراط الوطء هل ثبت بالكتاب أو بالسنة‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏:‏ الثالث وهو المختار أنه ثبت بهما ‏(‏الثاني‏)‏ إذا تزوج بالمطلقة ثلاثة ليحلها للأول فهذا نكاح باطل وعقد فاسد وبه قال‏:‏ مالك وأحمد لما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنه لعن المحلل والمحلل له» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وروي أنه قال هو التيس المستعار ولو تزوجها ولم يشترط في النكاح أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل إذا طلقها وانقضت العدة غير أنه يكره إذا كان في عزمها ذلك، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، ودليل ذلك أن الآية دلت على أن الحرمة تنتهي بوطء مسبوق بعقد وقد وجد ذلك فوجب القول بانتهاء الحرمة، وقال نافع‏:‏ «أتى رجل إلى ابن عمر فقال‏:‏ إن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فانطلق أخ له من غير مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول فقال‏:‏ لا إلاّ نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون‏}‏ يعني يعلمون ما أمرهم به ونهاهم عنه، وإنما خص العلماء لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك البيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏231‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏231‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء‏}‏ نزلت في ثابت بن يسار رجل من الأنصار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها يقصد بذلك مضارَّتها ‏{‏فبلغن أجلهن‏}‏ أي قاربن انقضاء عدتهن وشارفن منتهاها، ولم يرد انقضاء العدة لأنه لو انقضت عدتها لم يكن للزوج إمساكها فالبلوغ هنا بلوغ مقاربة كما يقال‏:‏ بلغ فلان البلد إذا قاربه وشارفه، فهذا من باب المجاز الذي يطلق اسم الكل فيه على الأكثر‏.‏ وقيل إن الأجل اسم للزمان فيحمل على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة، فيه بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة إلى الرجعة وعلى هذا التأويل فلا حاجة لنا إلى المجاز ‏{‏فأمسكوهن‏}‏ أي راجعوهن ‏{‏بمعروف‏}‏ وهو أن يشهد على رجعتها وأن يراجعها بالقول لا بالوطء ‏{‏أو سرحوهن بمعروف‏}‏ أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهم فيملكن أنفسهن ‏{‏ولا تمسكوهن ضراراً‏}‏ أي لا تقصدوا بالرجعة المضارة بتطويل الحبس‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يضاروهن لتفتدي المرأة منه بمالها ‏{‏لتعتدوا‏}‏ أي لتظلموهن بمجاوزتكم في أمورهن حدود الله التي بينها لكم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن ‏{‏ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه‏}‏ أي ضر نفسه بمخالفة أمر الله وتعريضها عذاب الله ‏{‏ولا تتخذوا آيات الله هزواً‏}‏ يعني بذلك ما بين من حلاله وحرامه وأمره ونهيه في وحيه وتنزيله، فلا تتخذوا ذلك استهزاءً ولعباً، فمن وجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ثم وصل إليه هذه الأحكام التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتخذها هزواً، ففيه تهديد عظيم ووعيد شديد، وقيل‏:‏ هو راجع إلى قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فكل من خالف أمراً من أمور الشرع فهو متخذ آيات الله هزواً‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوج ويقول كنت لاعباً فنهوا عن ذلك‏.‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد‏:‏ النكاح والطلاق والرجعة» أخرجه أبو داود والترمذي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ يعني بالإيمان الذي أنعم به الله عليكم فهداكم له وسائر نعمه التي أنعم بها عليكم ‏{‏وما أنزل عليكم‏}‏ أي واذكروا نعمته فيما أنزله عليكم ‏{‏من الكتاب‏}‏ يعني القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني السنة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لكم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالحكمة مواعظ القرآن ‏{‏يعظكم به‏}‏ أي بالكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ يعني خافوا الله فيما أمركم ونهاكم عنه ‏{‏واعلموا أن الله بكل شيء عليم‏}‏ يعني أن الله تعالى يعلم ما أخفيتم من طاعة ومعصية في سر وعلن لا يخفى عليه شيء من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏232‏]‏

‏{‏وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏232‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن‏}‏ نزلت في معقل بن يسار المزني عضل أخته جميلة، وكانت تحت أبي القداح عاصم بن عدي فطلقها معقل بن يسار قال‏:‏ كانت لي أخت تخطب إلي وأمنعها من الناس فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقاً له رجعة ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له‏:‏ خطبت إلي فمنعتها الناس وآثرتك بها فزوجتك ثم طلقتها طلاقاً لك فيه رجعة، ثم تركتها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتيتني تخطبها مع الخطاب والله لا أنكحها لك أبداً، ففي ذلك نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏ الآية، فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه أخرجه البخاري، وقيل إن جابر بن عبدالله كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فلما انقضت عدتها أراد أن يرتجعها فأبى جابر وقال‏:‏ طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها قد رضيته فنزلت هذه الآية‏:‏ وأراد ببلوغ الأجل في قوله ‏{‏فبلغن أجلهن‏}‏ انقضاء العدة بخلاف الآية التي قبل هذه الآية‏.‏ قال الشافعي‏:‏ دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين ‏{‏فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن‏}‏ خطاب للأولياء، والمعنى لا تضيقوا عليهن أيها الأولياء، فتمنعوهن من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد تبتغون بذلك مضارتهن فهو خطاب عام لجميع الأولياء، وإن كان سبب الآية خاصاً‏.‏ وأصل العضل المنع والتضييق ومنه قول أوس بن حجر‏:‏

وليس أخوك الدائم العهد بالذي *** يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا

ولكنه النائي إذا كنت آمناً *** وصاحبك الأدنى إذا الأمر اعضلا

يعني إذا أضاق الأمر، وفي الآية دليل للشافعي ومن وافقه في أن المرأة لا تلي عقد النكاح ولا تأذن فيه إذ لو كانت تملك ذلك لم يكن عضل ولا لنهي الولي عن العضل معنى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا تراضوا بينهم بالمعروف‏}‏ يعني إذا تراضى الخطاب والنساء، والمعروف هنا ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز‏.‏ وقيل هو أن يرضى كل واحد منهما بما التزمه لصاحبه بحق العقد حتى تحصل الصحبة الحسنة والعشرة الجميلة ‏{‏ذلك‏}‏ أي ذلك الذي ذكر من النهي ‏{‏يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ يعني أن المؤمن هو الذي ينتفع بالوعظ دون غيره ‏{‏ذلكم أزكى لكم وأطهر‏}‏ يعني أنه خير لكم وأطهر لقلوبكم وأطيب عند الله ‏{‏والله يعلم‏}‏ يعني ما في ذلك من الزكاة والتطهير ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏ يعني ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏233‏]‏

‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏233‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والوالدات‏}‏ يعني المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن وقيل المراد بهن جميع الوالدت سواء كن مطلقات أو متزوجات، ويدل عليه أن اللفظ عام، وما قام على دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه، ولأنه ظاهر اللفظ فوجب حمله عليه ‏{‏يرضعن أولادهن‏}‏ هذا خبر بمعنى الأمر، والتقدير والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر ندب واستحباب لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها ولكمال شفقتها عليه ويدل على أنه لا يجب على الوالدة إرضاع الولد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهن‏}‏ ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏}‏ هذا نص صريح في ذلك، فإن لم يوجد من يرضع الطفل أو لم يقبل غير لبن أمه وجب عليها إرضاعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر، فإن رغبت الأم في إرضاع ولدها، فهي أولى به من غيرها ‏{‏حولين كاملين‏}‏ الحول السنة، وأصله من حال يحول إذا انقلب، وإنما قال كاملين للتوكيد لأنه مما يتسامح فيه، تقول‏:‏ أقمت عند فلان حولاً وإن لم تستكمله، فبين الله أنهما حولان كاملان للتوكيد أربعة وعشرون شهراً، وهذا التحديد بالحولين ليس تحديد إيجاب، ويدل على ذلك قوله بعده‏:‏ ‏{‏لمن أراد أن يتم الرضاعة‏}‏ فلما علق الإتمام بإرادتنا علمنا أن هذا الإتمام غير واجب، فثبت أن المقصود من هذا التجديد قطع النزاع بين الزوجين في مقدار زمن الرضاعة فقدر الله تعالى ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند التنازع، قال ابن عباس في رواية عكرمة‏:‏ إذا وضعت الولد لستة أشهر أرضعته حولين وإن وضعته لسبعة أشهر أرضعته ثلاثاً وعشرين شهراً، وإن وضعته لتسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً، كل ذلك ثلاثون شهراً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏ وقال في رواية الوالي عنه‏:‏ هو حد لكل مولود في أي وقت ولد لا ينقص رضاعه عن حولين إلاّ باتفاق من الأبوين، فأيهما أراد فطام الولد قبل الحولين فليس له ذلك إلاّ إذا اتفقا عليه يدل على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما‏}‏ وقيل‏:‏ فرض الله على الوالدات إرضاع الولد حولين ثم أنزل التخفيف فقال‏:‏ لمن أراد أن يتم الرضاعة، أي هذا منتهى الرضاع لمن أراد إتمام الرضاعة، وليس فيما دون ذلك حد محدود، وإنما هو على مقدار إصلاح الطفل وما يعيش به ‏{‏وعلى المولود له‏}‏ يعني الأب، وإنما عبر عنه بهذا لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم قال بعضهم‏:‏

وإنما أمهات الناس أوعية *** مستودعات وللآباء أبناء

وقيل‏:‏ إن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولود على فراشه‏؟‏ فكأنه قال‏:‏ إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرجل وعلى فراشه وجب عليه رعاية مصالحه ‏{‏رزقهن‏}‏ أي طعامهن ‏{‏وكسوتهن‏}‏ أي لباسهن ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي على قدر الميسرة ‏{‏لا تكلف نفس إلاّ وسعها‏}‏ يعني طاقتها، والمعنى أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمة إلاّ قدر ما تتسع به مقدرته ولا يبلغ إسراف القدرة ‏{‏لا تضار والدة بولدها‏}‏ يعني لا ينزع الولد من أمه بعد أن رضيت بإرضاعه ولا يدفع إلى غيرها وقيل معناه لا تكره الأم على إرضاع الولد إذا قبل الصبي لبن غيرها لأن ذلك ليس بواجب عليها ‏{‏ولا مولود له بولده‏}‏ يعني لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها تضاره بذلك، وقيل معناه لا يلزم الأب أن يعطي أم الولد أكثر مما يجب عليه لها إذا لم يرضع الولد من غير أمه، فعلى هذا يرجع الضرار إلى الوالدين فيكون المعنى‏:‏ لا يضار كل واحد منهما صاحبه بسبب الولد‏.‏ وقيل يحتمل أن يكون الضرر راجعاً إلى الولد‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يضار لكل واحد من الأبوين الولد فلا ترضعه حتى يموت فيتضرر بذلك ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه فيضره بذلك، فعلى هذا تكون الباء صلة، والمعنى لا تضار والدة ولدها ولا أب ولده ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏ يعني وعلى وارث أبي الولد إذا مات مثل ما كان يجب عليه من النفقة والكسوة فيلزم وارث الأب أن يقوم مقامه في القيام بحق الولد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالوارث وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه فعلى هذا الوارث مثل ما كان على أبي الصبي في حال حياته، واختلف في أي وارث هو فقيل هم عصبة الصبي كالجد والأخ والعم وابنه‏.‏ وقيل‏:‏ هو كل وارث له من الرجال والنساء، وبه قال أحمد‏:‏ فيجبرون على نفقة الصبي كل على قدر سهمه منه‏.‏ وقيل هو من كان ذا رحم محرم منه وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقيل المراد بالوارث الصبي نفسه، فعلى هذا تكون أجرة رضاع الصبي في ماله فإن لم يكن له مال فعلى الأم ولا يجبر على نفقة الصبي غير الأبوين، به قال مالك والشافعي‏.‏ وقيل معناه على الوارث ترك المضارة ‏{‏فإن أرادا‏}‏ يعني الوالدين ‏{‏فصالاً‏}‏ يعني فطام الولد قبل الحولين ‏{‏عن تراض منهما‏}‏ أي على اتفاق من الوالدين في ذلك ‏{‏وتشاور‏}‏ أي يشاورون أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد، والمشاورة استخراج الرأي بما فيه مصلحة ‏{‏فلا جناح عليهما‏}‏ أي فلا حرج ولا إثم على الوالدين في الفطام قبل الحولين إذا لم يضر بالولد ‏{‏وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم‏}‏ أي لأولادكم مراضع غير أمهاتهم إذا أبت أمهاتهم إرضاعهم أو تعذر ذلك لعلة بهن من انقطاع لبن أو غير ذلك أو أردن التزويج ‏{‏فلا جناح عليكم إذا سلمتم‏}‏ يعني إلى المراضع ‏{‏ما آتيتم‏}‏ يعني لهن من أجرة الرضاع وقيل إذا سلمتم إلى أمهاتهم من أجرة الرضاع بقدر ما أرضعن ‏{‏بالمعروف‏}‏ أي بالإحسان والإجمال أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن حتى يؤمن من تفريطهن بقطع معاذيرهن ‏{‏واتقوا الله‏}‏ يعني وخافوا الله فيما فرض عليكم من الحقوق وفيما أوجب عليكم لأولادكم ‏{‏واعلموا أن الله بما تعملون بصير‏}‏ يعني لا يخفى عليه خافية من جميع أعمالكم سرها وعلانيتها، فإنه تعالى يراها ويعلمها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏234‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏234‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين يتوفون‏}‏ يعني يموتون ‏{‏منكم‏}‏ وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً، فمن مات فقد استوفى عمره كاملاً، ويقال توفي فلان يعني قبض وأخذ ‏{‏ويذرون‏}‏ أي ويتركون ‏{‏أزواجهن‏}‏ والمراد بالأزواج هنا النساء لأن العرب تطلق اسم الزوج على الرجل والمرأة ‏{‏ويتربص‏}‏ أي ينتظرن ‏{‏بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً‏}‏ يعني قدر هذه المدة وإنما قال عشراً بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى إن أحدهم ليقول‏:‏ صمت عشراً من الشهر لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام وقيل إن هذه الأيام أيام حزن ولبس إحداد فشبهها بالليالي على سبيل الاستعارة ووجه الحكمة في أن الله تعالى حد العدة بهذا القدر لأن الولد يركض في بطن أمه لنصف مدة الحمل، يعني يتحرك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الروح ينفخ في الولد في هذه العشرة أيام، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق‏:‏ «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» أخرجاه في الصحيحين بزيادة، فدل هذا الحديث على أن خلق الولد يجتمع في مدة أربعة أشهر ويتكامل خلقه بنفخ الروح فيه في هذه الأيام الزائدة‏.‏

فصل في حكم عدة المتوفي عنها زوجها والإحداد

وفيه مسائل‏:‏

المسألة الأولى‏:‏ عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر وعدة الأمة على نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام، وبه قال جمهور العلماء، وقال أبو بكر الأصم‏:‏ عدة الأمة كعدة الحرائر وتمسك بظاهر هذه الآية، وعدة الحامل بوضع الحمل سواء فيه الحرة والأمة، ولو وضعت بعد وفاة زوجها بلحظة حل لها أن تتزوج، ويدل على هذا ما روي عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال‏:‏ ما لي أراك تجملت للخطاب لعلك ترجين النكاح وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر‏.‏ قالت سبيعة‏:‏ فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي، أخرجاه في الصحيحين، وفيه قال ابن شهاب‏:‏ ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها حتى تطهر، فعلى هذا حكم الآية عام في كل من توفي عنها زوجها بأن تعتد أربعة أشهر وعشراً، ثم خصص من هذا العموم أولات الأحمال بهذا الحديث وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن‏}‏‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ يجب على من توفي عنها زوجها الإحداد، وهو ترك الزينة والطيب ودهن الرأس بكل دهن والحكل المطيب، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فيرخص لها، وبه قال مالك وأبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تكتحل به بالليل وتمسحه بالنهار‏.‏ عن أم سلمة قالت‏:‏ «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت عليّ صبراً فقال‏:‏ ما هذا يا أم سلمة‏؟‏ قلت‏:‏ إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب، فقال‏:‏ إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلاّ بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب‏.‏ قلت‏:‏ بأي شيء أمتشط يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ بالسدر تغلفين به رأسك» أخرجه أبو داود وللنسائي نحوه‏.‏ قوله «فإنه يشب الوجه» أي يوقده ويحسنه وبنوره من شب النار إذا أوقدها‏.‏ قوله «تغلفين به رأسك» أي تلطخين به رأسك والتغلف هو الغمرة على وجه المرأة وكذا رأسها إذا لطخته بشيء فأكثرت منه‏.‏ ولا يجوز لها لبس الديباج والحرير والحلي والمصبوغ للزينة كالأحمر والأصفر ويجوز لها لبس ما صبغ لغير الزينة كالأسود والأزرق، ويجوز لها أن تلبس البياض من الثياب والصوف والوبر ‏(‏ق‏)‏ عن زينب بنت أبي سلمة قالت‏:‏ دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت‏:‏ والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً» قالت زينب‏:‏ ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت‏:‏ والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة عشر شهراً» ‏(‏م‏)‏ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوجها أربعة أشهر وعشراً»

ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضتها في نبذة من كست أظفار «قولها‏:‏ إلاّ ثوب عصب العصب بالعين واصاد المهملتين من البرود الذي صبغ غزله قبل النسج‏.‏ قولها‏:‏ نبذة من كست‏.‏ النبذة الشيء اليسير‏.‏ والكست لغة في القسط وهو شيء معروف يتبخر به‏.‏ عن أم سلمة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏» لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب «أخرجه أبو داود‏.‏ قولها‏:‏ ولا الممشقة الثياب‏.‏ الممشقة هي المصبوغة بالمشق وهي المغرة، عن نافع‏:‏» أن صفية بنت عبدالله اشتكت عينها وهي حادٌّ على زوجها ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمضان «أخرجه مالك في الموطأ‏.‏

المسألة الثالثة‏:‏ اختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة، فقال بعضهم‏:‏ ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏يتربصن بأنفسهن‏}‏ وذلك لا يحل إلاّ بالقصد إلى التربص ولا يحل ذلك إلاّ مع العلم‏.‏ قال الجمهور‏:‏ السبب هو الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها أو بعضها ثم بلغها خبر موت الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ويدل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة‏.‏

المسألة الرابعة‏:‏ أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول وإن كانت هذا الآية متقدمة في التلاوة وسنذكر تمام الكلام عليه بعد في موضعه إن شاء الله تعالى، والله أعلم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا بلغن أجلهن‏}‏ أي انقضت عدتهن ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ خطاب للأولياء لأنهم هم الذين يتولون العقد ‏{‏فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف‏}‏ يعني من التزين والتطيب والنقلة من المسكن الذي كانت معتدة فيه نكاح من يجوز لها نكاحه وقيل إنما عنى بذلك النكاح خاصة، وقيل معنى قوله‏:‏ ‏{‏بالمعروف‏}‏ هو النكاح الحلال الطيب‏.‏ واحتج أصحاب أبي حنيفة على جواز النكاح بغير ولي بهذه الاية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة، وأجاب أصحاب الشافعي أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليكم‏}‏ للأولياء ولو صح العقد بغير ولي لما كان مخاطباً‏.‏ وأجيب على قوله فيما فعلن في أنفسهن إنما هو التزين والتطيب بعد انقضاء العدة لأنها تزوج نفسها ‏{‏والله بما تعملون خبير‏}‏ يعني أنه تعالى لا يخفى عليه خافية‏.‏ والخبير في صفة الله تعالى هو العالم بكنه الشيء وحقيقته من غير شك والخبير في صفة المخلوقين إنما يستعمل في نوع من العلم وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد والفكر، والله تعالى منزه عن ذلك كله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏235‏]‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏235‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ولا جناح‏}‏ أي لا حرج ‏{‏عليكم فيما عرضتم به‏}‏ أي لوحتم وأشرتم به والتعريض ضد التصريح ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وقيل هو الإشارة إلى الشيء بما يفهم السامع مقصوده من غير تصريح به وقيل التعريض من الكلام ما له ظاهر وباطن ‏{‏من خطبة النساء‏}‏ يعني المعتدات في عدتهن والخطبة بالكسر طلب النكاح والتماسه وقيل هو ذكر النساء والخطبة بالضم كلام منظوم له أول وآخر، ومعنى الآية فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن‏.‏ والتعريض بالخطبة في العدة مباح وهو أن يقول‏:‏ إنك لجميلة، وإنك لصالحة وإن غرضي التزويج وإني فيك لراغب وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ونحو ذلك، من الكلام الموهم من غير تصريح لأن يقول إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك ونحو ذلك ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيما عرضتم به من خطبة النساء‏}‏ هو أن يقول‏:‏ إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن تيسر لي امرأة صالحة، أخرجه البخاري‏.‏ وروي أن سكينة بنت حنظلة تأيمت فدخل عليها أبو جعفر محمد بن علي الباقر في عدتها فقال‏:‏ قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام‏.‏ فقالت سكينة‏:‏ غفر الله لك أتخطبني في العدة وأنت يؤخذ عنك‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي في عدة زوجها أبي سلمة فذكر لها منزلته من الله عز وجل وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده صلى الله عليه وسلم من شدة تحامله عليها فما كانت تلك خطبة ‏{‏أو أكننتم‏}‏ يعني أضمرتم ‏{‏في أنفسكم‏}‏ يعني من نكاحهن وقيل هو أن يدخل ويسلم ويهدي إن شاء ولا يتكلم بشيء، والمقصود أنه لا حرج عليكم في التعريض للمرأة في عدة الوفاة، ولا فيما يضمر الرجل في نفسه من الرغبة فيها ‏{‏علم الله أنكم ستذكرونهن‏}‏ يعني بقلوبكم لأن شهوة النفس والتمني لا يخلو منه أحد، فلما كان هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط عنه الحرج ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سراً‏}‏ اختلفوا في معنى هذا السر المنهيّ عنه فقيل هو الزنا كان الرجل يدخل على المرأة يعرض بالنكاح ومراده الزنا ويقول لها‏:‏ دعيني فإذا وفيت عدتك أظهرت نكاحك، فنهوا عن ذلك‏.‏ وقيل هو قول بالرجل للمرأة لا تفوتيني نفسك فإني ناكحك‏.‏ وقيل‏:‏ هو أن يأخذ عليها العهد والميثاق أن لا تتزوج غيره وقيل هو أن يخطبها في العدة وقال الشافعي‏:‏ السر الجماع، وهو رواية عن ابن عباس‏.‏

قال الكلبي‏:‏ لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع، ويدل على أن لفظ السر كناية عن الجماع قول امرئ القيس‏:‏

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني *** كبرت وألا يحسن السر أمثالي

بسباسة اسم امرأة‏.‏ وإنما وقع الكناية عن الجماع بالسر لأنه مما يسر والله تعالى حييّ كريم فكنى به عن لفظ الجماع الصريح‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ لا تواعدوهن مواعدة سرية أو لا تواعدوهن بالشيء الموصوف بالسرّ وقيل في معنى الآية أن الله تعالى أن أذن في أول الآية في التعريض بالخطبة ومنع في آخرها عن التصريح بالخطبة ‏{‏إلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً‏}‏ يعني هو ما ذكر من التعريض بالخطبة‏.‏ وقيل‏:‏ هو إعلام ولي المرأة أنه راغب في نكاحها ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله‏}‏ أي لا تحققوا العزم على عقدة النكاح في العدة حتى تنقضي وإنما سماها الله كتاباً لأنها فرضت به ‏{‏واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه‏}‏ أي فخافوه ‏{‏واعلموا أن الله غفور حليم‏}‏ لا يعجل بالعقوبة على من جاهره بالمعصية بل يستر عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏236‏]‏

‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ‏(‏236‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة‏}‏ أي ولم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة يعني ولم تعينوا لهن صداقاً ولم توجبوه عليكم‏.‏ نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها صداقاً، ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمتعها ولو بقلنسوتك» فإن قلت‏:‏ هل على من طلق امرأته جناح بعد المسيس حتى يوضع عنه الجناح قبل المسيس فما وجه نفي الحرج والجناح عنه‏؟‏ قلت، فيه سبب قطع الوصلة‏:‏ وما جاء في الحديث‏:‏ «إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فنفى الله الجناح عنه إذا كان الفراق أروح من الإمساك، وقيل معناه لا حرج عليكم في تطليقهن قبل المسيس في أي وقت شئتم حائضاً كانت المرأة أو طاهراً، لأنه لا سنة في طلاقهن قبل الدخول ‏{‏ومتعوهن‏}‏ أي أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به والمتعة والمتاع ما يتبلغ به من الزاد ‏{‏على الموسع‏}‏ أي الغنى الذي يكون في سعة من غناه ‏{‏قدره‏}‏ أي قدر إمكانه وطاقته ‏{‏وعلى المقتر‏}‏ أي الفقير الذي هو في ضيق من فقره ‏{‏قدره‏}‏ أي قدر إمكانه وطاقته ‏{‏متاعاً بالمعروف‏}‏ يعني متعوهن تمتيعاً بالمعروف يعني من غير ظلم ولا حيف ‏{‏حقاً‏}‏ أي حق ذلك التمتع حقاً واجباً لازماً ‏{‏على المحسنين‏}‏ يعني إلى المطلقات بالتمتع، وإنما خص المحسنين بالذكر لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان‏.‏ وقيل‏:‏ معناه من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه وطريقه‏.‏ والمحسن هو المؤمن‏.‏

فصل في بيان حكم الآية

وفيه فروع‏:‏

الفرع الأول‏:‏ إذا تزوج امرأة ولم يفرض لها مهراً ثم طلقها قبل المسيس يجب لها عليه المتعة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد‏.‏ وقال مالك‏:‏ المتعة مستحبة ولو طلقها قبل الدخول، وقد فرض لها مهراً وجب لها عليه نصف المهر المفروض ولا متعة لها عليه‏.‏

الفرع الثاني المطلقة المدخول بها‏:‏ فيها قولان قال في القديم‏:‏ لا متعة لها لأنها تستحق المهر كاملاً، وبه قال أبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد‏.‏ وقال في الجديد‏:‏ لها المتعة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف‏}‏ وهو الرواية الأخرى عن أحمد قال ابن عمر‏:‏ لكل مطلقة متعة إلاّ التي فرض لها المهر ولم يدخل بها زوجها فحسبها نصف المهر‏.‏

الفرع الثالث في قدر المتعة‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ أعلاها خادم، وأوسطها ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار، وأقلها دون ذلك وقاية أو مقنعة أو شيء من الورق وهو مذهب الشافعي لأنه قال أعلاها على الموسع خادم وأوسطها ثوب وأقلها ما له ثمن وحسن ثلاثون درهماً‏.‏

وروي أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته وحممها، يعني متعها جارية سوداء، ومتع الحسن بن علي زوجته بعشرة آلاف درهم فقالت‏.‏ متاع قليل من حبيب مفارق‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ مبلغها إذا اختلف الزوجان قدر نصف مهر مثلها لا يجاوز وقال أحمد في إحدى الروايتين عنه تتقدر بما تجزي فيه الصلاة وقال في الرواية الأخرى تتقدر بتقدير الحاكم، والآية تدل على أن المتعة تعتبر بحال الزوج في اليسر والعسر وأنه مفوض إلى الاجتهاد لأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات، وبين أن حال الموسر مخالف حال المعسر في ذلك‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ ومن حكم الآية أن من تزوج امرأة بالغة برضاها على غير مهر صح النكاح، ولها مطالبته بأن يفرض لها صداقاً، فإن دخل بها قبل الفرض فلها عليه مهر مثلها وإن طلقها قبل الفرض والدخول فلها المتعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏237‏]‏

‏{‏وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏237‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ يعني تجامعوهن وهذا في المطلقة بعد تسمية المهر وقبل الدخول حكم الله لها بنصف المهر ولا عدة عليها وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقد فرضتم لهن فريضة‏}‏ أي سميتم لهن مهراً ‏{‏فنصف ما فرضتم‏}‏ أي فلهن نصف المهر المسمى، ومذهب الشافعي أن الخلوة من غير مسيس لا توجب إلا نصف المهر المسمى لأن المسيس إما حقيقة في المس باليد أو جعل كناية عن الجماع وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الخلوة الصحيحة تقرر المهر ومعنى الخلوة الصحيحة أن يخلو بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي، فالحسي نحو الرتق والقرن أو يكون معهما ثالث، والشرعي نحو الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام سواء كان فرضاً أو نفلاً، والآية حجة لمذهب الشافعي، قال شريح‏:‏ لم أسمع الله ذكر في كتابه باباً ولا ستراً إن زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق، وقال ابن عباس‏:‏ إذا خلا بها ولم يمسها فلها نصف المهر‏.‏

فرع‏:‏ لو مات أحد الزوجين بعد التسمية وقبل المسيس فلها المهر كاملاً وعليها العدة إن كان الزوج هو الميت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلاّ أن يعفون‏}‏ يعني النساء المطلقات والمعنى إلاّ أن لا تترك المرأة نصيبها من الصداق فتهبه للزوج فيعود جميع الصداق إلى الزوج ‏{‏أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما أنه الولي وهو قول ابن عباس في رواية عنه والحسن وعلقمة وطاوس والشعبي والنخعي والزهري والسدي به قال الشافعي في القديم ومالك‏.‏ والقول الثاني أنه الزوج، وهو قول علي وابن عباس في الرواية الأخرى وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وابن جبير ومجاهد والربيع وقتادة ومقاتل والضحاك وحمد بن كعب القرظي وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد وأحمد وجمهور الفقهاء فعلى القول الأول يكون معنى الآية إلاّ أن تعفو المرأة إذا كانت ثيباً بالغة من أهل العفو عن نصيبها للزوج أو يعفو وليها إذا كانت المرأة بكراً صغيرة أو غير جائزة التصرف فيجوز عفو وليها فيترك نصيبها للزوج وإنما يجوز عفو الولي بشروط وهي أن تكون بكراً صغيرة ويكون الولي أباً أو جداً لأن غيرهما لا يزوج الصغيرة وعلى القول الثاني أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج وصحح هذا القول الطبري والواحدي فيكون معنى الآية أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعني الزوج فيعطي المرأة الصداق كاملاً لأن الله تعالى لما ذكر عفو المرأة عن النصف الواجب لها ذكر عفو الزوج عن النصف الساقط عنه فيحسن للمرأة أن تعفو ولا تطالب بشيء من الصداق وللرجل أن يعفو فيوفي لها المهر كاملاً‏.‏

وروي أن جبير بن مطعم تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها فأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو، ولأن المهر حق المرأة فليس لوليها أن يهب من مالها شيئاً، فكذلك المهر لأنه مال لها ‏{‏وأن تعفوا أقرب للتقوى‏}‏ هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً وإنما غلب جانب التذكير لأن الذكورة هي الاصل والتأنيث فرع عنها والمعنى وعفو بعضكم عن بعض أيها الرجال والنساء أقرب إلى حصول التقوى وقيل هو خطاب للزوج والمعنى وليعف الزوج فيترك حقه الذي ساق من المهر إليها قل الطلاق فهو أقرب للتقوى ‏{‏ولا تنسوا الفضل بينكم‏}‏ يعني ليتفضل بعضكم على بعض فيعطي الرجل الصداق كاملاً أو يترك المرأة نصيبها من الصداق حثهما جميعاً على الإحسان ومكارم الأخلاق ‏{‏إن الله بما تعملون‏}‏ يعني من عفو بعضكم لبعض عما وجب له عليه من حق ‏{‏بصير‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء من ذلك‏.‏