فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما أفاء الله على رسوله‏}‏ أي ما رد الله على رسوله ‏{‏منهم‏}‏ أي من يهود بني النضير ‏{‏فما أوجفتم عليه‏}‏ يعني أوضعتم وهو سرعة السير ‏{‏من خيل ولا ركاب‏}‏ يعني الإبل التي تحمل القوم وذلك أن بني النضير لما تركوا رباعهم وضياعهم طلب المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسمها بينهم كما فعل بغنائم خيبر فبين الله تعالى في هذه الآية أنها لم يوجف المسلمون عليها خيلاً ولا ركاباً ولم يقطعوا إليها شقة ولا نالوا مشقة وإنما كانوا يعني بني النضير على ميلين من المدينة فمشوا إليها مشياً ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جمل، ‏{‏ولكن الله يسلط رسله على من يشاء‏}‏ من أعدائه ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ أي فهي له خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهم أبو دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة ‏(‏ق‏)‏ عن مالك بن أوس النضري أن عمر دعاه إذ جاءه حاجبه يرفأ فقال هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد يستأذنون‏؟‏ قال نعم فأدخلهم فلبث قليلاً ثم جاء يرفأ فقال هل لك في عباس وعلي يستأذنان‏؟‏ قال نعم فأذن لهما فلما دخلا قال العباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا فقال القوم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال مالك بن أوس يخيل إليّ أنهم قد كانوا قدموهم لذلك فقال عمر اتئدوا أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» يريد بذلك نفسه قالوا نعم ثم أقبل عمر على العباس وعلي وقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا نورث ما تركنا صدقة» قالا نعم قال عمر إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره فقال ‏{‏وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ الآية قال فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثرها عليكم ولا أخذها دونكم فقد أعطاكموها وقسمها فيكم حتى بقي هذا المال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منه نفقة سنة ثم ما بقي يجعله مجعل مال الله فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ثم أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون ذلك‏؟‏ قالوا نعم قال ثم نشد عباساً وعلياً بمثل ما نشد القوم أتعلمان ذلك‏؟‏ قالا نعم قال فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضه أبو بكر فعمل فيه بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم حينئذ وأقبل على علي وعباس وقال تذاكران أن أبا بكر عمل فيه كما تقولان والله يعلم إنه لصادق راشد تابع للحق ثم توفى الله أبا بكر فقلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فقبضته سنتين من إمارتي أعمل فيهما بما عمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر والله يعلم إني فيه لصادق بار راشد تابع للحق ثم جئتماني كلاكما وكلمتكما واحدة وأمركما جميع فقلت لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏}‏ يعني من أموال كفار أهل القرى قال ابن عباس هي قريظة والنضير وفدك وخيبر وقرى عرينة ‏{‏فلله وللرسول ولذي القربى‏}‏ يعني بني هاشم وبني المطلب ‏{‏واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ قد تقدم تفسيره في سورة الأنفال في حكم الغنيمة وقسمتها وأما حكم الفيء فإنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياته يضعه حيث يشاء فكان ينفق على أهله منه نفقة سنتهم ويجعل ما بقي مجعل مال الله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله‏.‏

واختلف العلماء في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم هو للأئمة بعده وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه للمقاتلة والثاني هو لمصالح المسلمين ويبدأ بالمقاتلة ثم بالأهم فالأهم من المصالح‏.‏

واختلفوا في تخميس مال الفيء فذهب قوم إلى أنه يخمس فخمس لأهل خمس الغنيمة وأربعة للمقاتلة أو للمصالح وذهب الأكثرون إلى أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق قرأ عمر بن الخطاب «ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى حتى بلغ للفقراء المهاجرين إلى قوله والذين جاؤوا من بعدهم» ثم قال هذه استوعبت المسلمين عامة قال وما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم ‏{‏كيلا يكون‏}‏ الفيء ‏{‏دولة‏}‏ والدولة اسم للشيء الذي يتداوله القوم بينهم ‏{‏بين الأغنياء منكم‏}‏ يعني بين الرؤساء والأقوياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها لنفسه وهو المرباع ثم يصطفي بعده ما شاء فجعله الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمه فيما أمره به ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ أي من مال الفيء والغنيمة ‏{‏وما نهاكم عنه‏}‏ أي من الغلول وغيره ‏{‏فانتهوا‏}‏ وهذا نازل في أموال الفيء وهو عام في كل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهي عنه من قول أو عمل من واجب أو مندوب أو مستحب أو نهى عن محرم فيدخل فيه الفيء وغيره ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن مسعود أنه قال «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت ما حديث بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا وذكرته فقال عبد الله وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت المرأة لقد قرأت لوحي المصحف فما وجدته فقال إن كنت قرأته لقد وجدته قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ الوشم هو غرز العضو من الإنسان بالإبرة ثم يحشى بكحل والمستوشمة هي التي تطلب أن يفعل بها ذلك والنامصة هي التي تنتف الشعر من الوجه والمتفلجة هي التي تتكلف تفريج ما بين ثناياها بصناعة وقيل هي التي تتفلج في مشيتها فكل ذلك منهي عنه ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم‏}‏ يعني ألجأهم كفار مكة إلى الخروج ‏{‏يبتغون فضلاً من الله‏}‏ أي رزقاً وقيل ثواباً من الله ‏{‏ورضواناً‏}‏ أي أخرجوا من ديارهم طلباً لرضا الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وينصرون الله ورسوله‏}‏ أي بأنفسهم وأموالهم والمراد بنصر الله نصر دينه وإعلاء كلمته ‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏ أي في إيمانهم قال قتادة المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ما كانوا فيه من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفاً» وعن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين تبوءو الدار والإيمان‏}‏ يعني الأنصار توطنوا الدار وهي المدينة واتخذوها سكناً ‏{‏من قبلهم‏}‏ يعني أنهم أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين والمعنى والذين تبوءوا الدار من قبل المهاجرين وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان يتبوأ ‏{‏يحبون من هاجر إليهم‏}‏ وذلك أنهم أنزلوا المهاجرين في منازلهم وأشركوهم في أموالهم ‏{‏ولا يجدون في صدورهم حاجة‏}‏ أي حزازة وغيظاً وحسداً ‏{‏مما أوتوا‏}‏ أي أعطي المهاجرين من الفيء دونهم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة فطابت أنفس الأنصار بذلك ك ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم‏}‏ أي ويؤثر الأنصار المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم ‏{‏ولو كان بهم خصاصة‏}‏ أي فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء ثم أرسل به إلى أخرى فقالت مثل ذلك وقلن كلهن مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يضيفه يرحمه الله فقام رجل من الأنصار يقال له أبو طلحة فقال أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته هل عندك شيء‏؟‏ قالت لا إلا قوت صبياني قال فعلليهم بشيء ونوميهم فإذا دخل ضيفنا فأريه أنا نأكل فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه ففعلت فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد عجب الله أو ضحك الله من فلان وفلانة» زاد في رواية «فأنزل الله ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏»‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة قال «قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا فقالوا تكفونا ونشرككم في الثمر قالوا سمعنا وأطعنا» ‏(‏خ‏)‏ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال «دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها فقال أما لا فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي» وفي رواية «ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» الأثرة بفتح الهمزة والثاء والراء وضبطه بعضهم بضم الهمزة وإسكان الثاء والأول أشهر ومعناه الاستئثار وهو أن يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم بأمور الدنيا ويفضل غيركم عليكم ولا يجعل لكم في الأمر نصيب وقيل هو من آثر إذا أعطى أراد يستأثر عليكم غيركم فيفضل في نصيبه من الفيء والاستئثار الانفراد بالشيء وقيل الأثرة الشدة والأول أظهر وعن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم‏}‏ يعني من بعد المهاجرين والأنصار وهم التابعون لهم إلى يوم القيامة ‏{‏يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏ أخبر أنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان ‏{‏ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ‏}‏ أي غشاً وحسداً وبغضاً ‏{‏للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‏}‏ فكل من كان في قلبه غل أو بغض لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاث منازل المهاجرين ثم من بعدهم التابعون الموصوفون بما ذكر فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين وليس له في المسلمين نصيب وقال ابن أبي ليلى الناس على ثلاثة منازل الفقراء المهاجرون والذين تبوءوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه الثلاث منازل ‏(‏ق‏)‏ عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ‏(‏م‏)‏ عن عروة بن الزبير قال قالت عائشة «يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم» عن عبد الله بن مغفل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فبغضبي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» أخرجه الترمذي وقال مالك بن أنس‏:‏ من انتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل عليهم فليس له حق في فيء المسلمين ثم تلا هذه الآية ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏}‏- إلى- ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم‏}‏- إلى- ‏{‏رؤوف رحيم‏}‏ وقال مالك بن مغول قال الشعبي يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم‏؟‏ قالوا أصحاب موسى وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم‏؟‏ قال حواري عيسى وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم‏؟‏ فقالوا أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ولا تجمع لهم كلمة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة‏.‏

وروي عن جابر قال قيل لعائشة إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر‏.‏

وروي أن ابن عباس سمع رجلاً ينال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ من أمن المهاجرين الأولين أنت‏؟‏ قال لا قال أفمن الأنصار أنت‏؟‏ قال لا قال فأنا أشهد بأنك لست من التابعين لهم بإحسان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏11‏)‏ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏ألم تر إلى الذين نافقوا‏}‏ يعني أظهروا خلاف ما أضمروا وهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه ‏{‏يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني اليهود من بني قريظة وبني النضير وإنما جعل المنافقين إخوانهم لأنهم كفار مثلهم ‏{‏لئن أخرجتم‏}‏ أي من المدينة ‏{‏لنخرجن معكم‏}‏ أي منها ‏{‏ولا نطيع فيكم أحداً أبداً‏}‏ يعني إن سألنا أحد خلافكم وخذلانكم فلا نطيعه فيكم ‏{‏وإن قوتلتم لننصرنكم‏}‏ أي لنعيننكم ولنقاتلن معكم‏}‏ ‏{‏والله يشهد إنهم‏}‏ يعني المنافقين ‏{‏لكاذبون‏}‏ أي فيما قالوا ووعدوا ثم أخبر الله عن حال المنافقين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم‏}‏ وكان الأمر كذلك فإنهم أخرجوا ولم يخرج المنافقون معهم وقوتلوا فلم ينصروهم ‏{‏ولئن نصروهم ليولن الأدبار‏}‏ يعني لو قدروا نصرهم أو لو قصدوا نصر اليهود لولوا الأدبار منهزمين ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ يعني بني النضير لا يصيرون منصورين إذا انهزم ناصروهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 16‏]‏

‏{‏لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏13‏)‏ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏14‏)‏ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏15‏)‏ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏لأنتم‏}‏ يعني يا معشر المسلمين ‏{‏أشد رهبة في صدورهم من الله‏}‏ أصل الرهبة والرهب الخوف الشديد مع حزن واضطراب والمعنى أنهم يرهبون ويخافون منكم أشد من رهبتهم من الله ‏{‏ذلك‏}‏ أي الخوف منكم ‏{‏بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ يعني عظمة الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة‏}‏ أي لا يبرزون لقتالكم إنما يقاتلونكم متحصنين بالقرى والجدران وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو من وراء جدار‏}‏ وقرئ جدر ‏{‏بأسهم بينهم شديد‏}‏ أي بعضهم فظ على بعض أو عداوة بعضهم بعضاً شديدة وقيل بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديد فإذا خرجوا إليكم فهم أجبن خلق الله ‏{‏تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى‏}‏ أي متفرقة مختلفة قال قتادة أهل الباطل مختلفة أهواؤهم مختلفة أعمالهم مختلفة شهاداتهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق وقيل أراد أن دين المنافقين وآراءهم يخالف دين اليهود وآراءهم ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعقلون‏}‏ ثم ضرب لليهود مثلاً فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كمثل الذين من قبلهم قريباً‏}‏ يعني مشركي مكة ‏{‏ذاقوا وبال أمرهم‏}‏ يعني القتل ببدر وكان ذلك قبل غزوة بني النضير وقال ابن عباس «كمثل الذين من قبلهم» يعني بني قينقاع وقيل مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سنتان ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ أي في الآخرة ثم ضرب مثلاً آخر للمنافقين واليهود جميعاً في تخاذلهم وتخلى بعضهم عن بعض فقال تعالى ‏{‏كمثل الشيطان‏}‏ أي مثل المنافقين مع بني النضير وخذلانهم إياهم كمثل الشيطان ‏{‏إذ قال للإنسان اكفر‏}‏ وذلك ما روي عن عطاء وغيره عن ابن عباس قال كان راهب في الفترة يقال له برصيصا تعبد في صومعة له سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل فجمع ذات يوم مردة الشياطين وقال ألا أحد منكم يكفيني أمر برصيصا‏؟‏ فقال الأبيض وهو صاحب الأنبياء وهو الذي تصدى للنبي صلى الله عليه وسلم وجاء في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي فلحقه جبريل عليه السلام فدفعه إلى أقصى أرض الهند لإبليس أنا أكفيك أمره فانطلق فتزين بزينة الرهبان وحلق وسط رأسه وأتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه وكان لا يفتل عن صلاته إلا في كل عشرة أيام ولا يفطر إلا في كل عشرة أيام مرة فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل الصومعة فلما انفتل برصيصا من صلاته اطلع من صومعته فرأى الأبيض قائماً يصلي في هيئة حسنة على هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه أي لام نفسه حين لم يجبه فقال له إنك ناديتني وكنت مشتغلاً عنك فما حاجتك قال الأبيض حاجتي أني جئت لأكون معك فأتأدب بأدبك وأقتبس من عملك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال برصيصا إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سيجعل لك فيما للمؤمنين نصيباً إن استجاب لي ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض وأقبل الأبيض يصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً فلما انفتل بعدها رآه قائماً يصلي فلما رأى برصيصا شدة اجتهاد الأبيض قال له ما حاجتك‏؟‏ قال حاجتي أن تأذن لي فأرتفع إليك فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام حولاً يتعبد لا يفطر إلا في كل أربعين يوماً مرة ولا ينفتل عن صلاته إلا كذلك وربما مد إلى الثمانين فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه وأعجبه شأن الأبيض فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا إني منطلق فإن لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشد اجتهاداً مما رأيت وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت فدخل من ذلك على برصيصا أمر شديد وكره مفارقته لما رأى من كثرة اجتهاد ولما ودعه الأبيض قال له إن عندي دعوات أعلمكها تدعو بهن فهو خير لك مما أنت فيه يشفي الله بها السقم ويعافي بها المبتلى والمجنون قال برصيصا أنا أكره هذه المنزلة لأن لي في نفسي شغلاً وإني أخاف إن علم الناس شغلوني عن العبادة فلم يزل به الأبيض حتى علمه ثم انطلق حتى أتى إبليس فقال قد والله أهلكت الرجل فانطلق الأبيض فتعرض لرجل فخنقه ثم جاء في صورة رجل متطبب فقال لأهله إن بصاحبكم جنوناً أفأعالجه‏؟‏ قالوا نعم فعالجه فلم يفد فقال لهم إني لا أقوى على جنته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله فيعافيه انطلقوا إلى برصيصا فإن عنده الاسم الذي إذا دعا به أجيب قال انطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنه الشيطان فكان الأبيض يفعل ذلك بالناس ويرشدهم إلى برصيصا فيدعو لهم فيعافون فانطلق الأبيض فتعرض لجارية من بنات ملوك بني إسرائيل ولها ثلاثة إخوة وكان أبوهم هو الملك فلما مات استخلف أخاه فكان عم تلك الجارية ملك بني إسرائيل فخنقها وعذبها، ثم جاء إليهم كما كان يأتي الناس في صورة متطبب فقال لهم أعالجها‏؟‏ قالوا نعم فقال إن الذي عرض لها مارد لا يطاق ولكن سارشدكم إلى من تثقون به تدعونها عنده فإذا جاء شيطانها دعا لها فإذا علمتم أنها قد عوفيت تردونها صحيحة قالوا ومن هو‏؟‏ قال برصيصا قالوا وكيف لنا أن يجيبنا إلى هذا وهو أعظم شأناً من ذلك قال فانطلقوا فابنوا صومعة إلى جنب صومعته حتى تشرف عليه فإن قبلها وإلا فضعوها في صومعتها وقولوا له هذه أمانة عندك فاحتسب أمانتك قال فانطلقوا فسألوه ذلك فأبى عليهم فبنوا صومعة على ما أمرهم الأبيض ثم انطلقوا فوضعوا الجارية في صومعتها وقالوا يا برصيصا هذه أختنا أمانة عندك فاحتسب فيها ثم انصرفوا فلما انفتل برصيصا عن صلاته حتى عاين الجارية وما هي عليه من الجمال فوقعت في قلبه ودخل عليه أمر عظيم فجاءها الشيطان فخنقها فدعا برصيصا بتلك الدعوات فذهب الشيطان عنها ثم أقبل برصيصا على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها فكانت تكشف عن نفسها وتتعرض لبرصيصا فجاءه الشيطان وقال له ويحك واقعها فلم تجد مثلها وستتوب بعد ذلك فتدرك ما تريد من الأمر فلم يزل به حتى واقعها فلم يزل كذلك يأتيها حتى حملت وظهر حملها فقال له الشيطان ويحك يا برصيصا قد افتضحت فهل لك أن تقتلها وتتوب‏؟‏ فإن سألوك فقل ذهب بها شيطانها فلم أقف عليه فقتلها ثم انطلق بها فدفنها إلى جانب الجبل فجاء الشيطان وهو يدفنها بالليل فأخذ بطرف إزارها فبقي خارجاً من التراب ثم رجع برصيصا إلى صومعته وأقبل على صلاته إذ جاء إخوتها يتعاهدون أختهم وكانوا يجيئون في بعض الأيام يسألون عنها ويوصونه بها فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا قال قد جاء شيطانها فذهب بها ولم أطقه فصدقوه وانصرفوا فلما أمسوا وهم مكروبون جاء الشيطان إلى أكبرهم في منامه فقال ويحك إن برصيصا فعل فعل بأختك كذا وكذا وإنه دفنها في موضع كذا وكذا فقال هذا حلم وهو من الشيطان إن برصيصا خير من ذلك فتتابع عليه ثلاث ليال فلم يكترث به فانطلق الشيطان إلى أوسطهم فقال الأوسط مثل ما قال الأكبر ولم يخبر به أحداً فانطلق إلى أصغرهم بمثل ذلك قال الأصغر لأخويه والله لقد رأيت كذا وكذا فقال الأوسط أنا والله قد رأيت مثله فقال الأكبر أنا والله قد رأيت مثله فانطلقوا إلى برصيصا فقالوا يا برصيصا ما فعلت أختنا فقال أليس قد أعلمتكم بحالها فكأنكم قد اتهمتموني فقالوا لا والله لا نتهمك واستحيوا منه وانصرفوا فجاءهم الشيطان فقال ويحكم إنها لمدفونة في موضع كذا وكذا وإن طرف إزارها خرج من التراب فانطلقوا فرأوا أختهم على ما رأوه في النوم فمشوا في مواليهم وغلمانهم معهم الفؤوس والمساحي فهدموا صومعة برصيصا وأنزلوه منها وكتفوه ثم انطلقوا به للملك فأقر على نفسه وذلك أن الشيطان أتاه فوسوس له فقال له تقتلها ثم تكابر يجتمع عليك أمران قتل ومكابرة اعترف فلما اعترف أمر الملك بقتله وصلبه على خشبة فلما صلب أتاه الأبيض فقال يا برصيصا أتعرفني‏؟‏ قال لا فقال أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات وكنت إذا دعوت بهن يستجاب لك ويحك ما اتقيت الله في أمانتك خنت أهلها وإنك زعمت أنك أعبد بني إسرائيل أما استحيت فلم يزل يعيره ويعنفه حتى قال في آخر ذلك ألم يكفك ما صنعت حتى أقررت على نفسك وفضحت أشباهك من الناس وفضحت نفسك فإن مت على هذه الحالة لن تفلح أبداً ولن يفلح أحد من نظرائك قال فكيف أصنع‏؟‏ قال تطيعني في خصلة واحدة حتى أخلصك مما أنت فيه فآخذ بأعينهم وأخرجك من مكانك قال وما هي‏؟‏ قال تسجد لي قال ما أستطيع أفعل قال بطرفك افعل فسجد له برصيصا فقال يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربك، ‏{‏فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فكان عاقبتهما‏}‏ يعني الشيطان وذلك الإنسان ‏{‏أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين‏}‏ قال ابن عباس ضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة وذلك أن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النضير فدس المنافقون إلى اليهود وقالوا لا تجيبوا محمداً إلى ما دعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم فإنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم فأجابوهم ودربوا على حصونهم وتحصنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين فخذلوهم وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا وخذله فكان عاقبة الفريقين النار قال ابن عباس فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون في بني إسرائيل إلا بالتقية والكتمان وطمع أهل الفسق والفجور في الأحبار ورموهم بالبهتان والقبيح حتى كان من أمر جريج الراهب ما كان فلما برأه الله مما رموه به من الزنا انبسطت الرهبان بعده وظهروا للناس وكانت قصة جريج على ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصاحب جريج وصاحب يوسف وكان جريج رجلاً صالحاً عابداً فاتخذ صومعة فكان فيها فأتته أمه وهو يصلي فيها فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته فقالت يا جريج فقال يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته فقالت اللهم لا تمته حتى ينظر في وجوه المومسات فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها معهم، فقالت إن شئتم لأفتننه لكم قال فتعرضت له فلم يلتفت إليها فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت هو من جريج فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال ما شأنكم فقالوا زنيت بهذه البغيّ فولدت منك فقال أين الصبي فجاؤوا فقال دعوني حتى أصلي فصلى‏؟‏ فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه وقال يا غلام من أبوك قال فلان الراعي قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به وقالوا له نبني لك صومعتك من ذهب قال أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا‏.‏ وبينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة ذو شارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل عليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثل هذا ثم أقبل على ثديه فجعل يرضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بأصبعه السبابة في فيه فجعل يمصها قال ومر بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقالت اللهم اجعلني مثلها فهنالك تراجعا الحديث، فقالت مر رجل حسن الهيئة فقالت اللهم اجعل إبني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت وسرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها فقال إن ذلك الرجل كان جباراً فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها»

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏19‏)‏ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏22‏)‏ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ أي لينظر أحدكم إلى شيء قدم لنفسه من الأعمال عملاً صالحاً ينجيه أم سيئاً يوبقه والمراد بالغد يوم القيامة وقربه على الناس كان يوم القيامة يأتي غداً وكل ما هو آت فهو قريب، ‏{‏واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون‏}‏ قيل كرر الأمر بالتقوى تأكيداً وقيل معنى الأول اتقوا الله في أداء الواجبات ومعنى الثاني واتقوا الله فلا تأتوا المنهيات ‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله‏}‏ أي تركوا أمر الله ‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ أي أنساهم حظوظ أنفسهم حتى لم يقدموا لها خيراً ينفعها وعنده ‏{‏أولئك هم الفاسقون لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏ لما أرشد المؤمنين إلى ما يصلحهم بقوله «ولتنظر نفس ما قدمت لغد هدد الكافرين بقوله نسوا الله فأنساهم أنفسهم بين الفرق بين الفريقين بقوله لا يستوي أصحاب النار يعني الذين هم في العذاب الدائم وأصحاب الجنة يعني الذين هم في النعيم المقيم ثم أتبعه بقوله أصحاب الجنة هم الفائزون ومعلوم أن من جعل له النعيم المقيم فقد فاز فوزاً عظيماً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله‏}‏ قيل معناه أنه لو جعل في الجبل تمييزاً وعقلاً كما جعل فيكم وأنزل عليه القرآن لخشع أي تطأطأ وخضع وتشقق وتصدع من خشية الله والمعنى أن الجبل مع صلابته ورزانته مشقق من خشية الله، وحذر من أن لا يؤدي حق الله تعالى في تعظيم القرآن والكافر مستخف بحقه معرض عما فيه من العبر والأحكام كأنه لم يسمعها‏.‏

وصفه بقساوة القلب فهو غافل عما يتضمنه القرآن من المواعظ والأمثال والوعيد وتمييز الحق من الباطل والواجب مما لا يجب بأحسن بيان وأوضح برهان ومن وقف على هذا وفهمه أوجب له الخشوع والخشية وهذا تمثيل لأن الجبل لا يتصور منه الخشوع والخشية إلا أن يخلق الله تعالى له تمييزاً وعقلاً يدل على أنه تمثيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون‏}‏ أي الغرض من هذا التمثيل التنبيه على فساد قلوب هؤلاء الكفار وقساوتها وغلظ طباعهم‏.‏

ولما وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمته فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني أنه تعالى أعلم بما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه وعلم ما شاهدوه وما علموه وقيل استوى في علمه تعالى السر والعلانية والموجود والمعدوم وقيل علم حال الدنيا والآخرة ‏{‏هو الرحمن الرحيم‏}‏ اسمان مشتقان اشتقاقهما من الرحمة وهما صفتان لله تعالى ومعناهما ذو الرحة ورحمة الله إرادته الخير والنعمة والإحسان إلى خلقه وقيل إن الرحمن أشد مبالغة من الرحيم ولهذا قيل هو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لأن إحسانه تعالى في الدنيا يعم المؤمن والكافر وفي الآخرة يختص إحسانه وإنعامه بالمؤمنين ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك‏}‏ أي المتصرف بالأمر والنهي في جميع خلقه المالك لهم فهم تحت ملكه وقهره وإرادته ‏{‏القدوس‏}‏ أي الطاهر عن كل عيب المنزه عما لا يليق به وقيل هو الذي كثرت بركته ‏{‏السلام‏}‏ أي الذي سلم من النقائص وكل آفة تلحق الخلق‏.‏

فإن قلت على هذا التفسير لا يبقى بين القدوس والسلام فرق فيكون كالتكرار وذلك لا يليق بفصاحة القرآن‏.‏

قلت الفرق بينهما أن القدوس إشارة إلى براءته عن جميع العيوب والنقائص في الماضي والحاضر والسلام إشارة إلى أنه لا يطرأ عليه شيء من العيوب والنقائص في المستقبل فإن الذي يطرأ عليه شيء من ذلك تزول سلامته ولا يبقى سليماً وقيل السلام أي سلم خلقه ممن ظلمه، ‏{‏المؤمن‏}‏ قال ابن عباس هو الذي أمن الناس من ظلمه وأمن من آمن به من عذابه وقيل هو المصدق لرسله بإظهار المعجزات لهم والمصدق للمؤمنين بما وعدهم من الثواب وبما أوعد الكافرين من العذاب ‏{‏المهيمن‏}‏ قال ابن عباس أي الشهيد على عباده بأعمالهم الذي لا يغيب عنه شيء وقيل هو القائم على خلقه برزقه وأنشد في معناه‏:‏

ألا إن خير الناس بعد نبيه *** مهيمنه التاليه في العرب والنكر

أي القائم على الناس بعده وقيل هو الرقيب الحافظ، وقيل هو المصدق وقيل هو القاضي وقيل هو بمعنى الأمين والمؤتمن وقيل بمعنى العلي ومنه قول العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم في أبيات منها‏:‏

حتى احتوى بينك المهيمن من *** خندف علياً زانها النطق

وقيل‏:‏ المهيمن اسم من أسماء الله تعالى هو أعلم بتأويله وأنشدوا في معناه‏:‏

جل المهيمن عن صفات عبيده *** ولقد تعالى عن عقول أولي النهى

راموا بزعمهم صفات مليكهم *** والوصف يعجز عن مليك لا يرى

‏{‏العزيز‏}‏ أي الذي لا يوجد له نظير وقيل الغالب القاهر ‏{‏الجبار‏}‏ قال ابن عباس الجبار هو العظيم وجبروت الله عظمته فعلى هذا هو صفة ذات وقيل هو من الجبر يعني الذي يغني الفقير ويجبر الكسير فعلى هذا هو صفة فعل وهو سبحانه وتعالى كذلك يجبر كل كسير ويغني كل فقير وقيل هو الذي يجبر الخلق ويقهرهم على ما أراد‏:‏ وسئل بعضهم عن معنى الجبار فقال هو القهار الذي إذا أراد أمراً فعله لا يحجزه عنه حاجز وقيل الجبار هو الذي لا ينال ولا يداني والجبار في صفة الله تعالى صفة مدح وفي صفة الناس ذم وكذلك ‏{‏المتكبر‏}‏ في صفة الناس صفة ذم لأن المتكبر هو الذي يظهر من نفسه الكبر وذلك نقص في حقه لأنه ليس له كبر ولا علو بل له الحقارة والذلة فإذا أظهر الكبر كان كذاباً في فعله فكان مذموماً في حق الناس وأما المتكبر في صفة الله تعالى فهو صفة مدح لأن له جميع صفات العلو والعظمة ولهذا قال في آخر الآية ‏{‏سبحان الله عما يشركون‏}‏ كأنه قيل إن بعض الخلق يتكبر فيكون ذلك نقصاً في حقه أما الله تعالى فله العلو والعظمة والعزة والكبرياء فإن أظهر ذلك كان ضم كمال إلى كمال قال ابن عباس المتكبر هو الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله وقيل هو الذي تكبر عن كل سوء وقيل هو المتعظم عما لا يليق بجماله وجلاله وقيل هو المتكبر عن ظلم عباده وقيل الكبر والكبرياء الامتناع، وقيل هو ذو الكبرياء وهو الملك سبحان الله عما يشركون أي من ادعاء الكبر لأنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏هو الله الخالق‏}‏ أي المقدر لما يوجده فهو سبحانه وتعالى قدر أفعاله على وجوه مخصوصة فهو راجع إلى الإرادة، وقيل المقدر لقلب الشيء بالتدبير إلى غيره ‏{‏البارئ‏}‏ أي المخترع المنشئ للأعيان من العدم إلى الوجود ‏{‏المصور‏}‏ أي الذي يخلق صورة الخلق على ما يريده وقيل معناه الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بعضها عن بعض وقيل الخالق المبدئ للخلق المخترع له على غير مثال سبق البارئ المنشئ لما يريد بخلقه فيظهره من العدم إلى الوجود المصور لما خلقه وأنشأه على صور مختلفة وأشكال متباينة وقيل معنى التصوير التخطيط والتشكيل فأولاً يكون خلقاً ثم برءاً ثم تصويراً وإنما قدم الخالق على البارئ لأن تأثير الإرادة مقدم على تأثير القدرة وقدم البارئ على المصور لأن إيجاد الذات مقدم على إيجاد الصفات ‏{‏له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم‏}‏ عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ الثلاث الآيات من آخر سورة الحشر وكل به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ومن قالها حين يمسي كان كذلك» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب والله أعلم‏.‏

سورة الممتحنة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء‏}‏ الآية ‏(‏ق‏)‏ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، قال فانطلقنا تتعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجي الكتاب فقالت ما معي من كتاب فقلنا لتخرجي الكتاب أو لنلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا حاطب ما هذا فقال يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امراً ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي وما فعلته كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد صدقكم فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» فأنزل الله عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إلى قوله سواء السبيل‏}‏ روضة خاخ موضع بقرب حمراء الأسد من المدينة وقيل إنه موضع قريب من مكة والأول أصح والظعينة المرأة المسافرة سميت بذلك لملازمتها الهودج والعقاص الشعر المضفور قال المفسرون نزلت هذه الآية في حاطب بن أبي بلتعة كما جاء في الحديث «وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة من مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسلمة جئت‏؟‏ قالت لا قال أمهاجرة جئت‏؟‏ قالت لا قال فما جاء بك‏؟‏ قالت كنتم الأهل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها وأين أنت من شباب مكة وكانت مغنية نائحة قالت ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر فحث عليها بني عبد المطلب فأعطوها نفقة وكسوها وحملوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً على أن توصل الكتاب إلى أهل مكة وكتب في الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد فرساناً فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها وإن لم تدفعه لكم فاضربوا عنقها فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لها أين الكتاب‏؟‏ فحلفت بالله ما معها من كتاب فبحثوا وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال علي والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل السيف وقال أخرجي الكتاب وإلا لأجردنك ولأضربن عنقك فلما رأت الجد أخرجته من ذوائبها وكانت قد خبأته في شعرها فخلوا سبيلها ولم يتعرضوا لها ولا لما معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فأتاه فقال له هل تعرف الكتاب قال نعم قال فما حملك على ما صنعت‏؟‏ فقال والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته وكنت غريباً منهم وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ لي عندهم يداً وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذره فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريك يا عمل لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ‏(‏2‏)‏ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏3‏)‏ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ‏(‏4‏)‏ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إن يثقفوكم‏}‏ أي يظفروا بكم ويروكم ‏{‏يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء‏}‏ أي بالضرب والقتل والشم والسب ‏{‏وودوا‏}‏ أي تمنوا ‏{‏لو تكفرون‏}‏ أي ترجعون إلى دينهم كما كفروا والمعنى أن أعداء الله لا يخلصون المودة لأولياء الله ولا يناصحونهم لما بينهم من الخلاف فلا تناصحوهم أنتم ولا توادوهم ‏{‏لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم‏}‏ أي لا يدعونكم ولا يحملنكم ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم الذين بمكة إلى خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وترك مناصحتهم ونقل أخبارهم وموالاة أعدائهم فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين عصيتم الله لأجلهم ‏{‏يوم القيامة يفصل بينكم‏}‏ أي يدخل أهل طاعته الجنة وأهل معصيته النار ‏{‏والله بما تعملون بصير‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم‏}‏ يخاطب حاطباً ولامؤمنين ويأمرهم بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، ‏{‏والذين معه‏}‏ أي من أهل الإيمان ‏{‏إذ قالوا لقومهم‏}‏ يعني المشركين ‏{‏إنا برآء منكم‏}‏ جمع بريء ‏{‏ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم‏}‏ أي جحدناكم وأنكرنا دينكم ‏{‏وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده‏}‏ والمعنى أن إبراهيم عليه السلام وأصحابه تبرؤوا من قومهم وعادوهم لكفرهم فأمر حاطباً والمؤمنين أن يتأسوا بهم ‏{‏إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك‏}‏ يعني لكم أن تتأسوا بإبراهيم في جميع أموره إلا في الاستغفار لأبيه المشرك فلا تتأسوا به فإن إبراهيم كان قد قال لأبيه لأستغفرن لك فلما تبين له إقامته على الكفر تبرأ منه ‏{‏وما أملك لك من الله من شيء‏}‏ هذا من قول إبراهيم لأبيه يعني ما أغني عنك ولا أدفع عنك عذاب الله إن عصيته وأشركت به وإنما وعده بالاستغفار رجاء إسلامه وكان من دعاء إبراهيم ومن معه من المؤمنين ‏{‏ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا‏}‏ أي لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق، وقيل معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق ما أصابهم ذلك ‏{‏واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏6‏)‏ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏لقد كان لكم فيهم‏}‏ يعني في إبراهيم ومن معه ‏{‏أسوة حسنة‏}‏ أي اقتداء حسن ‏{‏لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر‏}‏ أي إن هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ‏{‏ومن يتول‏}‏ أي يعرض عن الإيمان ويوالي الكفار ‏{‏فإن الله هو الغني‏}‏ أي عن خلقه ‏{‏الحميد‏}‏ أي إلى أهل طاعته وأوليائه فلما أمر الله المؤمنين بعداوة الكفار عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين وأظهروا لهم العداوة والبراءة وعلم الله شدة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله تعالى ‏{‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم‏}‏ أي من كفار مكة ‏{‏مودة‏}‏ ففعل الله تعالى ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخواناً وخالطوهم وناكحوهم وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ولان لهم أبو سفيان ‏{‏والله قدير‏}‏ أي علي جعل المودة بينكم ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏ أي لمن تاب منهم وأسلم ثم رخص في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم‏}‏ أي لا ينهاكم الله عن بر الذين لم يقاتلوكم ‏{‏وتقسطوا إليهم‏}‏ أي وتعدلوا فيهم بالإحسان إليهم والبر ‏{‏إن الله يحب المقسطين‏}‏ أي العادلين قال ابن عباس نزلت في خزاعة وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً فرخص الله في برهم وقال عبد الله بن الزبير نزلت في أمه وهي أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها قتيلة بنت عبد العزى قدمت عليها المدينة بهدايا ضباباً وأقطاً وسمناً وهي مشركة فقالت أسماء لا أقبل منك هدية ولا تدخلي عليّ بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها «، ‏(‏ق‏)‏ عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قالت» قدمت على أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدتهم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي راغبة أفأصلها قال نعم صليها «، زاد في رواية قال ابن عيينة فأنزل الله فيها ‏{‏لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين‏}‏ ثم ذكر الله الذي نهى عن صلتهم وبرهم

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآَتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم‏}‏ وهم مشركو مكة ‏{‏أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن‏}‏ الآية ‏(‏خ‏)‏ عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وكره المؤمنون ذلك وأبي سهيل إلا ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً وجاءت المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها حتى أنزل الله فيهن ‏{‏إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن- إلى- ولا هم يحلون لهن‏}‏ قال عروة فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية ‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات‏}‏- إلى قوله ‏{‏غفور رحيم‏}‏ قال عروة قالت عائشة فمن أقرت بهذا الشرط منهن‏؟‏ قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم «قد بايعتك» كلاماً يكلمها والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ولا بايعهن إلا بقوله وقال ابن عباس «أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحة مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى مكة من أصحابه لم يردوه إليه وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد فراغ الكتاب وأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقيل هو صيفي بن الراهب في طلبها وهو كافر فقال يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله‏:‏ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات أي من دار الكفر إلى دار الإسلام فامتحنوهن قال ابن عباس امتحانها أن تستحلف ما خرجت من بغض زوج ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فإذا حلفت على ذلك لم يردها فاستحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيعة فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها فتزوجها عمر بن الخطاب قال المفسرون المراد بقوله يا أيها الذين آمنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي تولى امتحانهن بنفسه فكان يمسك من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن ويرد من جاء من الرجال‏.‏

واختلف العلماء هل دخل رد النساء في عقد الهدنة لفظاً أو عموماً فقيل قد كان شرط ردهن في عقد الهدنة لفظاً صريحاً فنسخ الله تعالى ردهن من العقد ومنع منه وأبقاه في الرجال على ما كان في العقد وقيل لم يشترط ردهن في العقد لفظاً صريحاً وإنما أطلق العهد فكان ظاهره العموم لاشتماله على النساء وعلى الرجال فبين الله تعالى خروجهن من عموم العقد وفرق بينهن وبين الرجال في الحكم، ‏{‏الله أعلم بإيمانهن‏}‏ أي هذا الامتحان لكم والله أعلم بإيمانهن ‏{‏فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ إي إذا أقررن بالإيمان فلا تردوهن إلى الكفار لأن الله لم يبح مؤمنة لكفار ‏{‏وآتوهم‏}‏ يعني أزواجهن ‏{‏ما أنفقوا‏}‏ أي عليهن من المهر الذي دفعوه إليهن، ‏{‏ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن‏}‏ أي مهورهن أباح الله للمسلمين نكاح المهاجرات من دار الحرب إلى دار الإسلام وإن كان لهن أزواج كفار في دار الحرب لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ووقفت الفرقة بانقضاء عدتها فإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدتها فهي زوجته وبه قال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة تقع الفرقة باختلاف الدارين، ‏{‏ولا تمسكوا بعصم الكوافر‏}‏ جمع عصمة وهي ما اعتصم به من العقد‏:‏ والسبب نهى الله تعالى المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات يقول الله تعالى وإن كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما‏.‏

قال الزهري لما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم ابنه عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غنم وهما على شركهما‏.‏

وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة بن عبيد الله فهاجر طلحة وبقيت هي على دين قومها ففرق الإسلام بينهما فتزوجها بعده في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية قال الشعبي وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت وهاجرت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏واسألوا‏}‏ أي أيها المؤمنون ‏{‏ما أنفقتم‏}‏ يعني إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاطلبوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ‏{‏وليسألوا‏}‏ يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ‏{‏ما أنفقوا‏}‏ من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ‏{‏وليسألوا‏}‏ يعني المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم ‏{‏ما أنفقوا‏}‏ من المهر ممن تزوجها منكم ‏{‏ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم‏}‏ قال الزهري ولولا الهدنة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش لأمسك النساء ولم يرد الصداق وكذلك صنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد فلما نزلت هذه الآية أقر المؤمنون بحكم الله تعالى وأدوا ما أمروا به من أداء نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآَتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وإن فاتكم‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏شيء من أزواجكم إلى الكفار‏}‏ أي فلحقن بهم مرتدات ‏{‏فعاقبتم‏}‏ معناه غزوتم فغنمتم وأصبتم من الكفار عقبي وهي الغنيمة وقيل معناه ظهرتم وكانت العاقبة لكم ‏{‏فآتوا الذين ذهبت أزواجهم‏}‏ أي إلى الكفار ‏{‏مثل ما أنفقوا‏}‏ معناه أعطوا الذين ذهبت أزواجهم منكم إلى الكفار مرتدات مثل ما أنفقوا عليها من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار قال ابن عباس لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان وكان تحت عياض بن شداد الفهري وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة وكانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر بها أبت وارتدت وبروع بنت عقبة وكانت تحت شماس بن عثمان وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة وتزوجها عمرو بن عبد ود وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل وأم كلثوم وكانت تحت عمر بن الخطاب فكلهن رجعن عن الإسلام فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة واختلف القول في رد مهر من أسلمت من النساء إلى زوجها هل كان واجباً أو مندوباً وأصل هذه المسألة أن الصلح هل كان وقع على رد النساء أم لا فيه قولان أحدهما أنه وقع على رد الرجال والنساء جميعاً لما روي أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله تعالى ‏{‏فلا ترجعوهن إلى الكفار‏}‏ فعلى هذا كان رد المهر واجباً‏.‏ والقول الثاني أن الصلح لم يقع على رد النساء لأنه روي عن علي أنه قال لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته وذلك لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت وأكرهت عليها لضعف قلبها وقلة هدايتها إلى المخرج من الكفر بإظهار كلمة الكفر مع التورية وإضمار كلمة الإيمان وطمأنينة القلب عليه ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته وهدايته إلى التقية فعلى هذا كان المهر مندوباً‏.‏

واختلفوا في أنه هل يجب العمل به اليوم في رد المال إذا شرط في معاقدة الكفار فقال قوم لا يجب وزعموا أن الآية منسوخة وهم عطاء ومجاهد وقتادة قال قوم الآية غير منسوخة ويرد عليهم ما أنفقوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك‏}‏ الآية قال المفسرون لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا أتته النساء يبلغنه وعمر بن الخطاب أسفل منه يبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبايعهن ‏{‏على أن لا يشركن بالله شيئاً‏}‏ فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمراً وما رأيناك أخذته على الرجال وكان قد بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا يسرقن‏}‏ فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فلا أدري يحل لي أم لا فقال أبو سفيان ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو حلال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك فقال ‏{‏ولا يزنين‏}‏ فقالت هند أو تزني الحرة‏؟‏ فقال ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏ فقالت هند ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ فقالت هند والله إن البهتان لقبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ فقالت هند ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهم من البيعة قال ابن الجوزي وجملة من أحصى من المبايعات أربعمائة وسبعة وخمسون امرأة ولم يصافح في البيعة امرأة وإنما بايعهن بالكلام، ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئاً وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة لا يملكها» وأما تفسير الآية فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يقتلن أولادهن‏}‏ أراد به وأد البنات الذي كان يفعله أهل الجاهلية ثم هو عام في كل نوع من قتل الولد ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن يعني لا تلحق المرأة بزوجها غير ولده وذلك أن المرأة كانت تلتقط المولود فتقول لزوجها هذا ولدي منك فهذا هو البهتان المفتري وليس المراد منه نهيهن عن الزنا لأن النهي عنه قد تقدم ذكره ومعنى بين أيديهن وأرجلهن أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها ولا يعصينك في معروف أي في كل ما تأمرهن به أو تنهاهن عنه وقيل في كل أمر وافق طاعة الله وكل أمر فيه رشد وقيل هو النهي عن النوح والدعاء بالويل وتمزيق الثياب وحلق الشعر ونتفه وخمش الوجه وأن لا تحدث المرأة الرجال الأجانب ولا تخلو برجل غير ذي محرم ولا تسافر مع غير ذي محرم، قال ابن عباس في قوله ‏{‏ولا يعصينك في معروف‏}‏ إنما هو شرط شرطه الله على النساء أخرجه البخاري ‏(‏ق‏)‏ عن أم عطية قالت «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا أن لا يشركن بالله شيئاً ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة منا يدها فقالت فلانة أسعدتني فأنا أريد أن أجزيها فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فانطلقت ثم رجعت فبايعها»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآَخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم‏}‏ يعني من اليهود وذلك أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين يتوصلون إليهم بذلك فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك «‏{‏قد يئسوا من الآخرة‏}‏ يعني اليهود وذلك أنهم عرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوا به فيئسوا من أن يكون لهم ثواب أو خير في الآخرة ‏{‏كما يئس الكفار من أصحاب القبور‏}‏ يعني كما يئس الذين ماتوا على الكفر وصاروا في القبور من أن يكون لهم ثواب في الآخرة وذلك أن الكفار إذا دخلوا قبورهم أيسوا من رحمة الله تعالى وقيل معناه كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم والمعنى‏:‏ أن اليهود الذين عاينوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به قد يئسوا من ثواب الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الصف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون‏}‏ قيل سبب نزولها ما روي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال «قعدنا نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا فأنزل الله تعالى سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم» أخرجه الترمذي وقال المفسرون إن المؤمنين قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعلمناه ولبذلنا فيها أموالنا وأنفسنا فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ وأنزل الله ‏{‏هل أدلكم على تجارة‏}‏ الآية فابتلوا بذلك يوم أحد فولوا مدبرين وكرهوا الموت وأحبوا الحياة فأنزل الله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقيل لما أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بثواب أهل بدر قالت الصحابة لئن لقينا قتالاً لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيرهم الله بهذه الآية وقيل نزلت في شأن القتال كان الرجل يقول قاتلت ولم يقاتل وأطعمت ولم يطعم وضربت ولم يضرب فنزلت هذه الآية وقيل نزلت في المنافقين وذلك أنهم كانوا يعدون النصر للمؤمنين وهم كاذبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ‏(‏3‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ‏(‏4‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏كبر مقتاً عند الله‏}‏ أي عظم بغضاً عند الله ‏{‏أن تقولوا ما لا تفعلون‏}‏ معناه أن يعدوا من أنفسهم شيئاً ولم يفوا به ‏{‏إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً‏}‏ أي يصفون أنفسهم عند القتال صفاً ولا يزولون عن أماكنهم ‏{‏كأنهم بنيان مرصوص‏}‏ أي قد رص بعضه ببعض وألزق بعضه إلى بعض وأحكم فليس فيه فرجة ولا خلل ومنه الحديث «تراصوا في الصف» ومعنى الآية إن الله يحب أن يثبت في الجهاد في سبيله ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قال موسى لقومه‏}‏ أي واذكر يا محمد لقومك إذ قال موسى لقومه بني إسرائيل ‏{‏يا قوم لم تؤذونني‏}‏ قيل‏:‏ إنهم كانوا يؤذونه بأنواع من الأذى التعنت منها قولهم أرنا الله جهرة وقولهم لن نصبر على طعام واحد ومنها أنهم رموه بالأدرة ‏{‏وقد تعلمون أني رسول الله إليكم‏}‏ يعني تؤذونني وأنتم عالمون علماً قطعياً أني رسول الله إليكم والرسول يعظم ويوقر ويحترم ولا يؤذي ‏{‏فلما زاغوا‏}‏ أي عدلوا ومالوا عن الحق ‏{‏أزاغ الله قلوبهم‏}‏ أي أمالها عن الحق إلى غيره ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ أي لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق خارج عن طاعته وهدايته وهذا تنبيه على عظم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى ‏{‏وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم‏}‏ أي إني رسول أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به في التوراة ‏{‏مصدقاً لما بين يدي من التوراة‏}‏ أي مقر معترف بأحكام التوراة وكتب الله وأنبيائه جميعاً ممن قد تقدم ‏{‏ومبشراً برسول يأتي من بعدي‏}‏ أي يصدق بالتوراة على مثل تصديقي فكأنه قيل ما اسمه فقال ‏{‏اسمه أحمد‏}‏ عن أبي موسى قال «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يأتوا النجاشي» وذكر الحديث، وفيه قال «سمعت النجاشي يقول أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس لأتيته حتى أحمل نعليه» أخرجه أبو داود وعن عبد الله بن سلام قال مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه فقال أبو داود المدني قد بقي في البيت موضع قبر أخرجه الترمذي عن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى صلى الله عليه وسلم يا روح الله هل بعدنا من أمة‏؟‏ قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل ‏(‏ق‏)‏ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 14‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ‏(‏9‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏10‏)‏ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب‏}‏ أي ومن أقبح ظلماً ممن بلغ افتراؤه أن يكذب على الله وذلك أنهم علموا أن ما نالوه من نعمة فمن الله ثم كفروا به ‏{‏وهو يدعى إلى الإسلام‏}‏ معنى الآية أي الناس أشد ظلماً ممن يدعوه ربه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام الذي له فيه سعادة الدارين فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله بقوله هذا سحر مبين ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يوفقهم للهداية علم من حالهم عقوبة لهم ‏{‏يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم‏}‏ يعني إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن هذا سحر ‏{‏والله متم نوره‏}‏ يعني متم للحق ومظهره ومبلغه غايته وقال ابن عباس مظهر دينه ‏{‏ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله‏}‏ أي ليعليه على الأديان المخالفة له ولقد فعل ذلك فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب ومقهور بدين الإسلام ‏{‏ولو كره المشركون‏}‏، قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم‏}‏ نزلت هذه الآية حين قالوا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه وإنما سماه تجارة لأنهم يربحون فيه رضا الله عز وجل ونيل جنته والنجاة من النار ثم بين تلك التجارة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم‏}‏ أي الذي آمركم به من الإيمان والجهاد في سبيله ‏{‏إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم‏}‏ هذا جواب قوله تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون لأن معناه معنى الأمر والمعنى آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله أي إذا فعلتم ذلك يغفر لكم ذنوبكم ‏{‏ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم‏}‏ يعني هذا الجزاء الذي ذكر هو الفوز العظيم، ‏{‏وأخرى تحبونها‏}‏ أي ولكم تجارة أخرى وقيل لكم خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة وتلك الحصلة ‏{‏نصر من الله وفتح قريب‏}‏، قيل هو النصر على قريش وفتح مكة وقيل فتح مدائن فارس والروم ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أي يا محمد بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة ثم حضهم على نصر الدين وجهاد المخالفين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله‏}‏ أي مع الله والمعنى انصروا دين الله كما نصر الحواريون دين الله لما قال لهم عيسى من أنصاري إلى الله ‏{‏قال الحواريون نحن أنصار الله‏}‏ وكانوا اثني عشر رجلاً أول من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام وحواري الرجل صفيه وخلاصته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «حواري» الزبير ‏{‏فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة‏}‏ قال ابن عباس في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق فرقة قالوا كان الله فارتفع وفرقة قالوا كان ابن الله فرفعه وفرقة قالوا كان عبد الله ورسوله فرفعه وهم المؤمنون واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين‏}‏ أي غالبين وقيل معناه فأصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم أن عيسى روح الله وكلمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة الجمعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏2‏)‏ وَآَخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين‏}‏ يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه ‏{‏رسولاً منهم‏}‏ يعني محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أمياً مثلهم وإنما كان أمياً لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه ‏{‏يتلوا عليهم آياته‏}‏ أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي يطهرهم من دنس الشرك ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ أي القرآن وقيل الفرائض ‏{‏والحكمة‏}‏ قيل هي السنة ‏{‏وإن كانوا من قبل‏}‏ أي من قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏لفي ضلال مبين وآخرين منهم‏}‏ أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى ساله ثلاثاً قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ‏{‏لما يلحقوا بهم‏}‏ لم يدركوهم ولكنهم جاؤوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة ‏{‏وهو العزيز‏}‏ أي الغالب الذي قهر الجبابرة ‏{‏الحكيم‏}‏ أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏4‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏6‏)‏ وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‏(‏7‏)‏ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‏}‏ يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏}‏ أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين حملوا التوراة‏}‏ يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل ‏{‏ثم لم يحملوها‏}‏ أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها، ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفاراً‏}‏ جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفراً لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرؤون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏بئس مثل القوم‏}‏ يعني بئس مثلاً مثل القوم ‏{‏الذين كذبوا بآيات الله‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالماً وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه ‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد ‏{‏يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس‏}‏ أي من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏فتمنوا الموت‏}‏ ادعوا على أنفسكم ‏{‏بالموت إن كنتم صادقين‏}‏ يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا ‏{‏ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم‏}‏ أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب ‏{‏والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم‏}‏ أي لا ينفعكم الفرار منه ‏{‏ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون‏}‏ فيه وعيد وتهديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة‏}‏ أي لوقت الصلاة ‏{‏من يوم الجمعة‏}‏ أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه «كان إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال» ‏(‏خ‏)‏ عن السائب بن يزيد قال «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء» زاد في رواية «فثبت الأمر على ذلك»، ولأبي داود قال «كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد وذكر نحوه» الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعاً كالمنارة‏.‏

واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها يوم العروبة، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يوماً نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة‏}‏ الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ‏؟‏ قال أربعون «أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامداً إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجداً فجمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاسعوا إلى ذكر الله‏}‏ أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع‏.‏

وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله‏:‏ ‏{‏فلما بلغ معه السعي‏}‏ بقوله فلما مشى معه ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» وفي رواية «فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة» وذكره زاد مسلم «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة» والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام ‏{‏وذروا البيع‏}‏ يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعاً وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ‏{‏ذلكم‏}‏ أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء ‏{‏خير لكم‏}‏ أي من المبايعة في ذلك الوقت ‏{‏إن كنتم تعلمون‏}‏ أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم‏.‏

‏(‏فصل في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها‏)‏

وفيه مسائل‏:‏

‏(‏المسألة الأولى‏)‏‏:‏ في فضلها ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها»، زاد في رواية «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» ‏(‏ق‏)‏ عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال‏:‏ فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئاً إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» ‏(‏ق‏)‏ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»

، وفي رواية «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر» قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلاً كغسل الجنابة ‏(‏م‏)‏ عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا» قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو ‏(‏خ‏)‏ عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه» قال كعب ذاك في كل سنة يوماً فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم «من جلس مجلساً ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي ‏(‏خ‏)‏ عن سلمان قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة»

الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده‏.‏

‏(‏المسألة الثانية‏)‏‏:‏ في إثم تاركها ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه» أخرجه أو داود والنسائي وللترمذي نحوه ‏(‏م‏)‏ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم»‏.‏

‏(‏المسألة الثالثة‏)‏‏:‏ في تأكيد وجوبها قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض»، أخرجه أبو داود وقال طارق «رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال» الجمعة على من سمع النداء «أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال» الجمعة على من آواه الليل إلى أهله «، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال» إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين «ولأبي داود نحوه فيه بجؤائى قرية من قرى البحرين‏.‏

‏(‏المسألة الرابعة‏)‏‏:‏ في تركها لعذر كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس «أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم» زاد في رواية «فتمشون في الطين والدحض والزلق»، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد‏.‏

‏(‏المسالة الخامسة‏)‏‏:‏ في العدد الذي تنعقد به الجمعة اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلاً وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحراراً بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب‏:‏ لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلاً ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع‏.‏