فصل: سورة الطارق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


سورة الطارق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ‏(‏2‏)‏ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والسماء والطارق‏}‏ قيل نزلت في أبي طالب وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذ انحط نجم فامتلأ ماء ثم ناراً ففزع أبو طالب، وقال‏:‏ أي شيء هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هذا نجم رمي به، وهو آية من آيات الله»، فعجب أبو طالب فأنزل الله والسماء والطارق يعني النجم يظهر بالليل، وكل ما أتاك بالليل فهو طارق، ولا يسمى ذلك بالنهار، وسمي النجم طارقاً لأنه يطرق بالليل قالت هند‏:‏

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

تريد أن أباها نجم في علوه وشرفه‏.‏ ‏{‏وما أدراك ما الطارق‏}‏ قيل لم يكن صلى الله عليه وسلم يعرفه، حتى بينه الله له بقوله ‏{‏النجم الثاقب‏}‏، أي المضيء المنير، وقيل المتوهج، وقيل المرتفع العالي، وقيل هو الذي يرمى به الشيطان فيثقبه أي ينفذه، وقيل النجم الثاقب هو الثريا لأن العرب تسميها النجم، وقيل هو زحل سمي بذلك لارتفاعه، وقيل هو كل نجم يرمى به الشيطان لأنه يثقبه فينفذه، وهذه أقسام أقسم الله بها، وقيل تقديره ورب هذه الأشياء وجواب القسم

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ‏(‏4‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ‏(‏5‏)‏ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ‏(‏6‏)‏ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إن كل نفس لما عليها حافظ‏}‏، يعني أن كل نفس عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، قال ابن عباس‏:‏ هم الحفظة من الملائكة، وقيل حافظ من الله تعالى يحفظها، ويحفظ قولها، وفعلها، حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير، ثم يحل عنها، وقيل يحفظها من المهالك والمعاطب إلا ما قدر لها‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فلينظر الإنسان‏}‏ يعني نظر تفكر واعتبار ‏{‏مم خلق‏}‏ أي من أيّ شيءٍ خلقه ربه، ثم بيّن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏خلق من ماء‏}‏ يعني من مني ‏{‏دافق‏}‏، أي مدفوق مصبوب في الرحم، وأراد به ماء الرجل، وماء المرأة، لأن الولد مخلوق منهما وإنما جعله واحداً لامتزاجهما ‏{‏يخرج‏}‏ يعني ذلك الماء وهو المني، ‏{‏من بين الصلب والترائب‏}‏ يعني صلب الرجل، وترائب المرأة، وهي عظام الصدر والنحر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي موضع القلادة من الصدر، وعنه أنها بين ثديي المرأة، قيل إن المني، يخرج من جميع أعضاء الإنسان، وأكثر ما يخرج من الدماغ، فينصب في عرق في ظهر الرجل، وينزل في عروق كثيرة من مقدم بدن المرأة، وهي الترائب، فلهذا السبب خصَّ الله تعالى، هذين العضوين بالذكر ‏{‏إنه على رجعه لقادر‏}‏ يعني إن الله تعالى قادر على أن يرد النطفة في الإحليل، وقيل قادر على رد الماء في الصلب الذي خرج منه، وقيل قادر على رد الإنسان ماء كما كان من قبل، وقيل معناه إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا ومن الصبا، إلى النطفة وقيل إنَّه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر، وقيل معناه إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء قادر على إعادته حياً بعد موته، وهو أهون عليه، وهذا القول هو الأصح، والأولى بمعنى الآية لقوله تعالى بعده ‏{‏يوم تبلى السرائر‏}‏ وذلك يوم القيامة‏.‏ قيل معناه تظهر الخبايا‏.‏ وقيل معنى تبلى تختبر، وقيل السرائر هي فرائض الأعمال كالصوم، والصلاة، والوضوء، والغسل من الجنابة، فكل هذه سرائر بين العبد وبين ربّه عزّ وجلّ وذلك لأن العبد قد يقول صليت ولم يصلِّ، وصمت ولم يصم، واغتسلت ولم يغتسل، فإذا كان يوم القيامة يختبر حتى يظهر من أداها ومن ضيعها‏.‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ يبدي الله تعالى يوم القيامة كل سر، فيكون زيناً في وجوه وشيناً في وجوه، يعني من أدى الفرائض كما أمر كان وجهه مشرقاً، مستنيراً يوم القيامة، ومن ضيعها أو انتقص منها كان وجهه أغبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 17‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ‏(‏10‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ‏(‏11‏)‏ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ‏(‏12‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ‏(‏13‏)‏ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ‏(‏14‏)‏ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ‏(‏15‏)‏ وَأَكِيدُ كَيْدًا ‏(‏16‏)‏ فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏فما له‏}‏ أي لهذا الإنسان المنكر البعث‏.‏ ‏{‏من قوة‏}‏ أي يمتنع بها من عذاب الله ‏{‏ولا ناصر‏}‏ أي ينصره من الله، ثم ذكر قسماً آخر فقال تعالى ‏{‏والسماء ذات الرجع‏}‏ أي ذات المطر، سمي به لأنه يجيء ويرجع ويتكرر ‏{‏والأرض ذات الصدع‏}‏ أي تتصدع وتنبثق عن النبات، والشجر، والأنهار، وجواب القسم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّه‏}‏ يعني القرآن ‏{‏لقول فصل‏}‏ أي إنه لحق وجد يفصل بين الحق والباطل‏.‏ ‏{‏وما هو بالهزل‏}‏ أي باللعب والباطل‏.‏ ‏{‏إنهم‏}‏ يعني مشركي مكة، ‏{‏يكيدون كيداً‏}‏ يعني يحتالون بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة وتشاوروا فيه‏.‏ ‏{‏وأكيد كيداً‏}‏ يعني أجازيهم على كيدهم بأن استدرجهم من حيث لا يعلمون فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار ‏{‏فمهل الكافرين‏}‏ أي لا تستعجل ولا تدع بهلاكهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا وعيد لهم من الله عز وجل، ثم لمَّا أمره بإمهالهم بيّن أن ذلك الإمهال قليل‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أمهلهم رويداً‏}‏ يعني قليلاً، فأخذهم الله يوم بدر ونسخ الإمهال بآية السيف، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده‏.‏

سورة الأعلى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ‏(‏3‏)‏ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ أي قل سبحان ربي الأعلى، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين يدل عليه ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ‏{‏سبّح اسم ربك الأعلى‏}‏، فقال سبحان ربي الأعلى»، ذكره البغوي بإسناد الثعلبي، وقيل معناه نزه ربك الأعلى عما يصفه الملحدون، فعلى هذا يكون الاسم صلة، وقيل معناه نزه تسمية ربك الأعلى بأن تذكره وأنت له معظم، ولذكره محترم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ سبّح أي صل بأمر ربك الأعلى‏.‏ عن عقبة بن عامر، قال‏:‏ «لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت ‏{‏سبّح اسم ربك الأعلى‏}‏ قال‏:‏ اجعلوها في سجودكم» أخرجه أبو داود ‏{‏الذي خلق فسوى‏}‏ أي خلق كل ذي روح فسوى اليدين والرجلين والعينين، وقيل خلق الإنسان مستوياً معتدل القامة‏.‏ ‏{‏والذي قدر فهدى‏}‏ قيل قدر الأرزاق وهدى لاكتسابها، وقيل قدر لكل شيء شكله فهدى، أي فعرف كيف يأتي الذكر الأنثى وقيل قدر مدة الجنين في الرحم وهداه إلى الخروج منه، وقيل قدر السعادة لأقوام، والشقاوة لأقوام، ثم هدى كل فريق من الطائفتين لسلوك سبيل ما قدر له، وعليه، وقيل قدر الخير والشر، وهدى إليهما، وقيل قدر أي أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه، وهدى الأنعام وسائر الحيوانات لمراعيها، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي أخرج المرعى‏}‏ أي أنبت العشب وما ترعاه الأنعام من أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وغير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 14‏]‏

‏{‏فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ‏(‏5‏)‏ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ‏(‏6‏)‏ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ‏(‏7‏)‏ وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ‏(‏8‏)‏ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ‏(‏9‏)‏ سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ‏(‏10‏)‏ وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ‏(‏11‏)‏ الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ‏(‏12‏)‏ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى ‏(‏13‏)‏ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فجعله‏}‏ يعني المرعى بعد الخضرة ‏{‏غثاء‏}‏ أي هشيماً يابساً بالياً كالغثاء الذي تراه فوق السيل‏.‏ ‏{‏أحوى‏}‏ أي أسود بعد الخضرة، وذلك أن الكلأ إذا جف ويبس سود‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏سنقرئك‏}‏ أي نعلمك القرآن بقراءة جبريل عليك‏.‏ ‏{‏فلا تنسى‏}‏ يعني ما يقرأ عليك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل جبريل بالوحي، لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأولها، مخافة أن ينساها، فأنزل الله تعالى ‏{‏سنقرئك فلا تنسى‏}‏ فلم ينس شيئاً بعد ذلك ‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ يعني أن تنساه وهو ما نسخ الله تعالى تلاوته من القرآن ورفعه من الصدور، وقيل معناه إلا ما شاء الله أن تنساه، ثم تذكره بعد ذلك، كما صح من حديث عائشة رضي الله عنها‏.‏ قال‏:‏ «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في سورة بالليل فقال يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا، آية كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا» وفي رواية «كنت أسقطتهن من سورة كذا» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هذا الاستثناء لم يقع، ولم يشأ الله أن ينسيه شيئاً‏.‏ ‏{‏إنه يعلم الجهر‏}‏ يعني من القول والفعل‏.‏ ‏{‏وما يخفى‏}‏ يعني منهما والمعنى، أنه تعالى يعلم السر والعلانية‏.‏ ‏{‏ونيسرك لليسرى‏}‏ أي نهون عليك أن تعمل خيراً ونسهله عليك حتى تعمله، وقيل نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة، وقيل هو متصل بالكلام الأول، والمعنى إنه يعلم الجهر مما تقرؤوه على جبريل إذا فرغ من التلاوة، وما يخفى مما تقرؤه في نفسك مخافة النسيان، ثم وعده فقال‏:‏ ونيسرك لليسرى أي نهون عليك الوحي حتى تحفظه، ولا تنساه‏.‏ ‏{‏فذكر‏}‏ أي فعظ بالقرآن‏.‏ ‏{‏إن نفعت الذكرى‏}‏ أي مدة نفع الموعظة، والتذكير، والمعنى عظ أنت، وذكر أن نفعت الذكرى، أو لم تنفع، إنما عليك البلاغ‏.‏ ‏{‏سيذكر من يخشى‏}‏ أي سيتعظ من يخشى الله تعالى‏.‏ ‏{‏ويتجنبها‏}‏ أي الذكرى ويتباعد عنها‏.‏ ‏{‏الأشقى‏}‏ أي في علم الله تعالى، ‏{‏الذي يصلى النار الكبرى‏}‏ أي النار العظيمة الفظيعة، وقيل النار الكبرى هي نار الآخرة، والنار الصغرى هي نار الدنيا ‏{‏ثم لا يموت فيها‏}‏ أي في النار فيستريح ‏{‏ولا يحيى‏}‏ أي حياة طيبة تنفعه‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ أي تطهّر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس‏:‏ وقيل قد أفلح من كان عمله زاكياً، وقيل هو صدقة الفطر، روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏قد أفلح من تزكى‏}‏ قال‏:‏ أعطى صدقة الفطر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 19‏]‏

‏{‏وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ‏(‏15‏)‏ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏16‏)‏ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ‏(‏17‏)‏ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ‏(‏18‏)‏ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وذكر اسم ربه فصلى‏}‏ قال‏:‏ خرج إلى العيد فصلى وكان ابن مسعود يقول‏:‏ رحم الله امرأ تصدق ثم صلى‏.‏ ثم يقرأ هذه الآية وقال نافع‏:‏ كان ابن عمر إذا صلى الغداة يعني يوم العيد قال‏:‏ يا نافع أخرجت الصدقة، فإن قلت نعم مضى إلى المصلى، وإن قلت لا قال‏:‏ فالآن فأخرج، فإنما هذه الآية في هذا قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى‏.‏

فإن قلت فما وجه هذا التأويل، وهذه السورة مكية، ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر‏.‏

قلت يجوز أن يكون النزول سابقاً على الحكم، كما قال‏:‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ وهذه السورة مكية، وظهر أثر الحل يوم الفتح، وكذا نزل بمكة ‏{‏سيهزم الجمع ويولون الدبر‏}‏، وكان ذلك يوم بدر‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ كنت لا أدري أي جمع سيهزم، فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول سيهزم الجمع ويولون الدبر‏.‏

ووجه آخر وهو أنه كان في علم الله تعالى أنه سيكون ذلك فأخبر عنه، وقيل وذكر اسم ربه فصلى يعني الصلوات الخمس، وقيل أراد بالذكر تكبيرات العيد، وبالصلاة صلاة العيد‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى‏}‏ يعني أن الدنيا فانية والآخرة باقية، والباقي خير من الفاني، وأنتم تؤثرون الفاني على الباقي قال عرفجة الأشج‏:‏ كنا عند ابن مسعود فقرأ هذه الآية فقال لنا أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة‏.‏ قلنا لا قال‏:‏ لأن الدنيا حضرت، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها، وإن الآخرة تغيبت وزويت عنا فأحببنا العاجل، وتركنا الآجل، وقيل إن أريد بذلك الكفار، فالمعنى أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، وإن أريد بذلك المسلمون بالمعنى يؤثرون الاستكثار من الدنيا على الثواب الذي يحصل في الآخرة، وهو خير وأبقى‏.‏ ‏{‏إن هذا‏}‏ أي الذي ذكر من قوله قد أفلح من تزكى إلى هنا، وهو أربع آيات‏.‏ ‏{‏لفي الصحف الأولى‏}‏ أي الكتب المتقدمة التي نزلت قبل القرآن، ذكر في تلك الصحف فلاح من تزكى والمصلي وإيثار الدنيا وإن الآخرة خير وأبقى ثم بيّن ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏صحف إبراهيم وموسى‏}‏ يعني أن هذا القدر المذكور في صحف إبراهيم وموسى، وقيل إنّه مذكور في جميع صحف الأنبياء التي منها صحف إبراهيم وموسى لأن هذا القدر المذكور في هذه الآيات لا تختلف فيه شريعة، بل جميع الشرائع متفقة عليه‏.‏

عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال «دخلت المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للمسجد تحية فقلت وما تحيته يا رسول الله، قال‏:‏ ركعتان تركعهما، قلت يا رسول الله هل أنزل الله عليك شيئاً مما كان في صحف إبراهيم وموسى‏؟‏ قال‏:‏ يا أبا ذر اقرأ ‏{‏قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى‏}‏ قلت يا رسول الله، فما صحف موسى، قال‏:‏ كانت عبراً كلها‏:‏ عجبت لمن أيقن بالموت، كيف يفرح‏؟‏‏!‏ عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك‏؟‏‏!‏ عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن‏؟‏ عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب‏!‏ عجبت لمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل»

سورة الغاشية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ‏(‏1‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ‏(‏2‏)‏ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ‏(‏3‏)‏ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ‏(‏4‏)‏ تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ ‏(‏5‏)‏ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏هل أتاك‏}‏ أي قد أتاك ‏{‏حديث الغاشية‏}‏ يعني القيامة، سمِّيت غاشية لأنها تغشى كل شيء بأهوالها، وقيل الغاشية النار، سُمِّيت بذلك لأنها تغشى وجوه الكفار ‏{‏وجوه يومئذ‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏خاشعة‏}‏ يعني ذليلة، والمراد بالوجوه أصحابها فعبر بالجزء عن الكل، ولأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان، فعبر به عنه‏.‏ ‏{‏عاملة ناصبة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام من عبدة الأوثان وكفار أهل الكتاب، مثل الرهبان وأصحاب الصوامع، لا يقبل الله منهم اجتهاداً في ضلال بل يدخلون النار يوم القيامة‏.‏ ومعنى النصب الدؤوب في العمل بالتعب‏.‏ ‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفي رواية «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»، أما الرواية فإنها تختص بمن أحدث في دين الإسلام شيئاً ابتدعه من عنده فهو مردود عليه لا يقبل منه‏.‏ وأما الرواية الثانية فإنها تشتمل على كل عامل في دين الإسلام، أو غير دين الإسلام فإنه مردود عليه إذا لم يكن تابعاً لنبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل في معنى الآية عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في الآخرة في النار‏.‏ وقيل عاملة ناصبة في النار، لأنها لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، وهي رواية عن ابن عباس قال ابن مسعود‏:‏ تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل، وقيل يجرون على وجوههم في النار، وقيل يكلفون ارتقاء جبل من حديد في النار وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تصلى ناراً حامية‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏تسقى من عين آنية‏}‏ أي متناهية في الحرارة قد أوقدت عليها جهنم مذ خلقت لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت فيدفعون إليها وروداً عطاشاً، فهذا شرابهم، ثم ذكر طعامهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليس لهم طعام إلا من ضريع‏}‏ قيل هو نبت ذو شوك لاطئ بالأرض تسميه قريش الشبرق فإذا هاج سموه الضريع، وهو أخبث طعام وأبشعه، وهي رواية عن ابن عباس، فإذا يبس لا تقربه دابة، وقيل الضريع في الدنيا هو الشوك اليابس الذي له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، وجاء في الحديث عن ابن عباس يرفعه الضريع شيء في النار يشبه الشوك، أمر من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حراً من النار، قال أبو الدرداء‏:‏ إن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون فيعطشهم ألف سنة ثم يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة، ولا مريئة، فإذا أدنوه من وجوههم سلخ جلدة وجوههم، وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم‏}‏ قال المفسرون فلما نزلت هذه الآية قال المشركون إن إبلنا لتسمن على الضريع وكذبوا في ذلك، فإن الإبل إنما ترعاه رطباً فإذا يبس لا تأكله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 17‏]‏

‏{‏لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ‏(‏7‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ‏(‏8‏)‏ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‏(‏10‏)‏ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ‏(‏11‏)‏ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ‏(‏12‏)‏ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ‏(‏13‏)‏ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ‏(‏14‏)‏ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ‏(‏15‏)‏ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ‏(‏16‏)‏ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏لا يسمن ولا يغني من جوع‏}‏ يعني إن هذا الطعام لا تقدر البهائم على أكله فكيف يقدر الإنسان على أكله، فهو إذاً لا يسمن ولا يغني من جوع‏.‏

فإن قلت قد ذكر الله تعالى في هذه الآية أنّه لا طعام لهم إلا من ضريع، وذكر في موضع آخر أنه لا طعام لهم إلا من غسلين، فكيف الجمع بينهما‏؟‏‏!‏‏.‏

قلت إن النار دركات فعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طعامه الزقوم لا غير، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين‏.‏

ثم وصف أهل الجنة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ أي متنعّمة ذات بهجة وحسن، ونعمة، وكرامة ‏{‏لسعيها راضية‏}‏ أي لسعيها في الدنيا راضية في الآخرة حيث أعطيت الجنة بعملها‏.‏ ‏{‏في جنة عالية‏}‏ قيل هو من العلو الذي هو الشرف، وقيل من العلو في المكان، وذلك لأن الجنة درجات بعضها أعلى من بعض، كل درجة كما بين السماء والأرض‏.‏ ‏{‏لا تسمع فيها لاغية‏}‏ أي ليس فيها لغو ولا باطل‏.‏ ‏{‏فيها عين جارية‏}‏ على وجه الأرض في غير أخدود، وقيل تجري حيث أرادوا من منازلهم، وقصورهم‏.‏ ‏{‏فيها سرر مرفوعة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ألواحها من ذهب، مكللة بالزبرجد، والياقوت، مرتفعة ما لم يجئ أهلها، فإذا أراد أهلها الجلوس عليها تواضعت لهم حتى يجلسوا عليها، ثم ترتفع إلى مواضعها ‏{‏وأكواب‏}‏ يعني الكيزان التي لا عرى لها‏.‏ ‏{‏موضوعة‏}‏ يعني عندهم بين أيديهم، وقيل موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب منها وجدوها مملوءة‏.‏ ‏{‏ونمارق مصفوفة‏}‏ يعني وسائد ومرافق مصفوفة، بعضها جنب بعض أينما أراد أن يجلس وليُّ الله جلس على واحدة، واستند إلى الأخرى‏.‏ ‏{‏وزرابي‏}‏ يعني البسط العريضة قال ابن عباس‏:‏ هي الطنافس التي لها خمل، واحدتها زربية ‏{‏مبثوثة‏}‏ أي مبسوطة، وقيل متفرقة في المجالس‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت‏}‏ قال أهل التفسير لما نعت الله عزّ وجلّ ما في هذه السورة مما في الجنة عجب من ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكرهم الله صنعه، فقال‏:‏ أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإنما بدأ بالإبل لأنها من أنفس أموال العرب، ولهم فيها منافع كثيرة والمعنى إن الذي صنع لهم هذا في الدنيا هو الذي صنع لأهل الجنة ما صنع؛ وتكلمت علماء التفسير في وجه تخصيص الإبل بالذكر من بين سائر الحيوانات، فقال‏:‏ مقاتل لأن العرب لم يروا بهيمة قط أعظم منها، ولم يشاهد الفيل إلا النادر منهم، وقال الكلبي لأنها تنهض بحملها وقد كانت باركة، وقال قتادة‏:‏ لما ذكر الله تعالى ارتفاع سرر الجنة وفرشها قالوا كيف نصعدها فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 26‏]‏

‏{‏وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ‏(‏18‏)‏ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ‏(‏19‏)‏ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ‏(‏20‏)‏ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ‏(‏21‏)‏ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ‏(‏22‏)‏ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ‏(‏23‏)‏ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ‏(‏24‏)‏ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى السماء كيف رفعت‏}‏ يعني فوق الأرض بغير عمد، ولا ينالها شيء‏.‏ ‏{‏وإلى الجبال كيف نصبت‏}‏ أي على الأرض نصباً ثابتاً راسخاً لا يزول‏.‏ ‏{‏وإلى الأرض كيف سطحت‏}‏ أي بسطت، ومهدت بحيث يستقر على ظهرها كل شيء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ المعنى هل يقدر أحد أن يخلق مثل الإبل، أو يرفع مثل السماء أو ينصب مثل الجبال، أو يسطح مثل الأرض غير الله القادر على كل شيء‏.‏ ولما ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ‏{‏فذكر إنما أنت مذكر‏}‏ أي فعظ إنما أنت واعظ ‏{‏لست عليهم بمسيطر‏}‏ أي بمسلط فتكرههم على الإيمان، وهذه الآية منسوخة نسختها آية القتال‏.‏ ‏{‏إلا من تولى وكفر‏}‏ استثناء منقطع عما قبله معناه لكن من تولى وكفر بعد التذكير ‏{‏فيعذبه الله العذاب الأكبر‏}‏ وهو أن يدخله النار، وإنما قال‏:‏ الأكبر لأنهم عذبوا في الدنيا بأنواع من العذاب مثل الجوع، والقحط والقتل، والأسر، فكانت النار أكبر من هذا كله‏.‏ ‏{‏إن إلينا إيابهم‏}‏ أي رجوعهم بعد الموت‏.‏ ‏{‏ثم إن علينا حسابهم‏}‏ يعني جزاءهم بعد الرجوع إلينا، والله أعلم‏.‏

سورة الفجر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْفَجْرِ ‏(‏1‏)‏ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ‏(‏2‏)‏ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏والفجر‏}‏ أقسم الله عزّ وجلّ بالفجر وما بعده لشرفها وما فيها من الفوائد الدينية وهي أنها دلائل باهرة، وبراهين قاطعة، على التوحيد، وفيها من الفوائد الدنيوية أنها تبعث على الشكر‏.‏

واختلفوا في معاني هذه الألفاظ، فروي عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ الفجر هو انفجار الصبح في كل يوم، أقسم الله تعالى به لما يحصل فيه من انقضاء الليل، وظهور الضوء، وانتشار الناس، وسائر الحيوانات في طلب الأرزاق، وذلك يشبه نشر الموتى من قبورهم للبعث‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً أنه صلاة الفجر، والمعنى أنه أقسم بصلاة الفجر لأنها مفتتح النهار، ولأنها مشهودة يشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار، وقيل إنه فجر معين‏.‏

واختلفوا فيه، فقيل هو فجر أول يوم من المحرم، لأن منه تنفجر السنة وقيل هو فجر ذي الحجة، لأنه قرن به الليالي العشر، وقيل هو فجر يوم النحر، لأن فيه أكثر مناسك الحج، وفيه القربات‏.‏ ‏{‏وليال عشر‏}‏ قيل إنما نكرها لما فيها من الفضل، والشرف الذي لا يحصل في غيرها‏.‏ روي عن ابن عباس أنها العشر الأول من ذي الحجة لأنها أيام الاشتغال بأعمال الحج، وأخرج الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله قال‏:‏ «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر»، وذكر الحديث، وروي عن ابن عباس قال‏:‏ هي العشر الأواخر من رمضان، لأن فيها ليلة القدر، ولأن رسول الله كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان أحيا ليله، وشد مئزره، وأيقظ أهله، يعني للعبادة؛ وقيل هي العشر الأول من المحرم، وهو تنبيه على شرفه، ولأن فيه يوم عاشوراء‏.‏ ‏{‏والشفع والوتر‏}‏ قيل الشفع هو الخلق، والوتر هو الله تعالى يروى ذلك عن أبي سعيد الخدري، وقيل الشفع هو الخلق كالإيمان والكفر، والهدى، والضلالة، والسعادة، والشقاوة، والليل، والنهار، والأرض، والسماء، والشمس، والقمر، والبر، والبحر، والنور، والظلمة، والجن، والإنس‏.‏ والوتر هو الله تعالى، وقيل الخلق كله فيه شفع وفيه وتر‏.‏ وقيل هما الصلوات منها شفع ومنها وتر عن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن رسول الله سئل عن الشفع والوتر قال‏:‏ هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» أخرجه الترمذي‏.‏ وقال‏:‏ حديث غريب وعن ابن عباس قال‏:‏ الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب، وعن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ الشفع النفر الأول، والوتر النفر الأخير، وروي أن رجلاً سأله عن الشفع، والوتر، والليالي العشر فقال‏:‏ أما الشفع والوتر فقول الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه‏}‏ فهما الشفع والوتر، وأما الليالي العشر فالثمان، وعرفة والنحر، وقيل الشفع الأيام، والليالي؛ والوتر اليوم الذي لا ليلة معه، وهو يوم القيامة، وقيل الشفع درجات الجنة لأنها ثمان، والوتر دركات النار لأنها سبع، فكأنه أقسم بالجنة، والنار‏.‏ وقيل الشفع أوصاف المخلوقين المتضادة، مثل العز، والذل، والقدرة، والعجز، والقوة، والضعف، والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، والبصر، والعمى، والموت، والحياة، والوتر، صفات الله تعالى التي تفرد بها عزّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وغنى بلا فقر، وعلم بلا جهل، وحياة بلا موت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 8‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ‏(‏4‏)‏ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ‏(‏6‏)‏ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ‏(‏7‏)‏ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ أي إذا سار وذهب، وقيل إذا جاء، وأقبل، وأراد به كل ليلة، وقيل هي ليلة المزدلفة، وهي ليلة النحر التي يسار فيها من عرفات إلى مزدلفة فعلى هذا يكون المعنى واليل الذي يسار فيه‏.‏ ‏{‏هل في ذلك‏}‏ أي فيما ذكرت ‏{‏قسم‏}‏ مقنع ومكتفي في القسم فهو استفهام بمعنى التأكيد‏.‏ ‏{‏لذي حجر‏}‏ أي لذي عقل سمي بذلك لأنه يحجر صاحبه عما لا يحل له، ولا ينبغي كما سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن القبائح، وسمي نهيه لأنه ينهى عما لا يحل، ولا ينبغي وأصل الحجر المنع، ولا يقال ذو حجر إلا لمن هو قاهر لنفسه ضابط لها عما لا يليق، كأنه حجر على نفسه ومنعها ما تريد، والمعنى إن من كان ذا لب، وعقل علم أن ما أقسم الله عزّ وجلّ به من هذه الأشياء فيه عجائب، ودلائل تدل على توحيده، وربوبيته‏.‏ فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه‏.‏ قيل جواب القسم قوله تعالى ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ واعترض بين القسم وجوابه قوله تعالى ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏، وقيل جواب القسم محذوف وتقديره ورب هذه الأشياء ليعذبن الكافر يدل عليه قوله تعالى ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بعاد‏}‏‏؟‏ إلى قوله ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ وقوله عزّ وجلّ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك‏}‏‏؟‏ أي ألم تعلم وإنما أطلق لفظ الرؤية على العلم لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت معلومة عندهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ خطاب للنبي ولكنه عام لكل أحد‏.‏ ‏{‏كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد‏}‏ المقصود من ذلك تخويف أهل مكة وكيف أهلكهم وهم كانوا أطول أعماراً، وأشد قوة، من هؤلاء فأما عاد فهو عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح، ومنهم من يجعل عاداً اسماً للقبيلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنه أهلك عاداً الأولى‏}‏ وإرم هو جد عاد على ما ذكر في نسبه عاد‏.‏ وقيل إن المتقدمين من قوم عاد كانوا يسمون بإرم اسم جدهم‏.‏ وقيل إرم هم قبيلة من عاد، وكان فيهم الملك، وكانوا بمهرة اسم موضع باليمن وكان عاد أباهم فنسبوا إليه وهو إرم بن عاد بن شيم بن سام بن نوح؛ وقال الكلبي‏:‏ إرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود أهل السواد، وأهل الجزيرة، وكان يقال عاد إرم وثمود إرم فأهلك عاد وثمود، وأبقى أهل السواد، وأهل الجزيرة؛ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ إرم ذات العماد دمشق وقيل الإسكندرية، وفيه ضعف لأن منازل عاد كانت من عمان إلى حضرموت، وهي بلاد الرمال والأحقاف‏.‏ وقيل إن عاداً كانوا أهل عمد وخيام وماشية سيارة في الربيع فإذا هاج العود ويبس رجعوا إلى منازلهم، وكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم بوادي القرى، وهي التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏التي لم يخلق مثلها في البلاد‏}‏ وسموا ذات العماد لأنهم كانوا أهل عمد سيارة، وهو قول قتادة ومجاهد والكلبي، ورواية ابن عباس‏.‏

وقيل سموا ذات العماد لطول قامتهم يعني طولهم، مثل العماد في الشبه، قال مقاتل‏:‏ كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً، وقوله ‏{‏التي لم يخلق مثلها في البلاد‏}‏ يعني لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول، والقوة، وهم الذين قالوا ‏{‏من أشد منا قوة‏}‏ وقيل سموا ذات العماد لبناء بناه بعضهم، فشيد عمده ورفع بناءه، وقيل كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا بعده، وقهرا البلاد والعباد فمات شديد وخلص الملك لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها وكان يحب قراءة الكتب القديمة فسمع بذكر الجنة وصفتها فدعته نفسه إلى بناء مثلها عتواً على الله وتجبراً؛ روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فبينما هو يسير في صحارى عدن إذ وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن وحول الحصن قصور كثيرة فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله فلم ير خارجاً ولا داخلاً فنزل عن دابته وعقلها، وسل سيفه ودخل من باب المدينة فإذا هو ببابين عظيمين وهما مرصعان بالياقوت الأحمر فلما رأى ذلك دهش، ففتح الباب ودخل، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا فيها قصور في كل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب، والفضة، وأحجار اللؤلؤ والياقوت؛ وإذا أبواب تلك القصور مثل مصاريع باب المدينة يقابل بعضها بعضاً وهي مفروشة كلها باللؤلؤ وبنادق المسك والزعفران، فلما عاين ذلك ولم ير أحداً هاله ذلك ثم نظر إلى الأزقة فإذا في تلك الأزقة أشجار مثمرة، وتحت تلك الأشجار أنهار مطردة يجري ماؤها في قنوات من فضة فقال الرجل في نفسه هذه الجنة وحمل معه من لؤلؤ ترابها ومن بنادق مسكها وزعفرانها، ورجع إلى اليمن وأظهر ما كان معه وحدّث بما رأى فبلغ ذلك معاوية، فأرسل إليه فقدم عليه فسأله عن ذلك فقص عليه ما رأى فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار فلما أتاه قال له‏:‏ يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة قال نعم هي إرم ذات العماد بناها شداد بن عاد قال‏:‏ فحدثني حديثها فقال لما أراد شداد بن عاد عملها أمر عليها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدوه بما في بلادهم من الجواهر فخرجت القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا أرضاً موافقة فوقفوا على صحراء نقية من التلال وإذا فيها عيون ماء ومروج فقالوا هذه الأرض التي أمر الملك أن نبني فيها فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وقد فرغوا منها قال‏:‏ انطلقوا فاجعلوا حصناً يعني سوراً واجعلوا حوله ألف قصر وعند كل قصر ألف علم ليكون في كل قصر وزير من وزرائي ففعلوا وأمر الملك وزراءه وهم ألف وزير أن يتهيؤا للنقلة إلى إرم ذات العماد، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين ثم ساروا إليها فلما كانوا من المدينة على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يبق منهم أحد ثم قال كعب‏:‏ وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال، وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت فأبصر عبد الله بن قلابة فقال‏:‏ هذا والله ذلك الرجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 10‏]‏

‏{‏وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ‏(‏9‏)‏ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وثمود‏}‏ أي وفعل بثمود مثل ما فعل بعاد ‏{‏الذين جابوا‏}‏ أي قطعوا ‏{‏الصخر‏}‏ أي الحجر ‏{‏بالواد‏}‏ يعني بوادي القرى وكانت ثمود أول من قطّع الصخر ونحته واتخذوا مساكن في الجبال وبيوتاً‏.‏ ‏{‏وفرعون ذي الأوتاد‏}‏ سمي بذلك لكثرة جنوده وكثرة مضاربهم وخيامهم التي كانوا يضربونها، إذا نزلوا، وقيل معناه ذي الملك كما قيل في ظل ملك راسخ الأوتاد‏.‏

وقيل سمي بذلك لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس أن فرعون إنما سمي ذا الأوتاد لأنه كانت عنده امرأة مؤمنة وهي امرأة خازنة حزقيل وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت بنت فرعون وهل لك من إله غير أبي فقالت إلهي وإله أبيك وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فقامت ودخلت على أبيها وهي تبكي فقال لها ما يبكيك قالت الماشطة امرأة خازنك تزعم أن إلهك وإلهنا وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فأرسل إليها فسألها عن ذلك فقالت صدقت فقال لها‏:‏ ويحك اكفري بإلهك وقري أني إلهك قالت لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب وقال لها‏:‏ اكفري بالله وإلا عذبتك بهذا العذاب شهرين فقالت لو عذبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله وكان لها ابنتان فجاء فابنتها الكبرى فذبحها على قلبها ثم قال اكفري بالله وإلا ذبحت الصغرى على فيك وكانت رضيعاً فقالت لو ذبحت من في الأرض على فيّ ما كفرت بالله عزّ وجلّ فأتى بابنتها فلما اضطجعت على صدرها وأراد ذبحها جزعت المرأة فأطلق الله لسان ابنتها فتكلمت وهي من الأربعة الذين تكلموا في المهد صغاراً أطفالاً وقالت يا أماه لا تجزعي فإن الله قد بنى لك بيتاً في الجنة فاصبري فإنك تفضين إلى رحمة الله وكرامته فذبحت فلم تلبث الأم أن ماتت فأسكنها الله الجنة قال‏:‏ وبعث في طلب زوجها حزقيل فلم يقدروا عليه فقيل لفرعون إنه قد رؤي في موضع كذا في جبل كذا فبعث رجلين في طلبه فانتهى إليه الرجلان، وهو يصلي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلون فلما رأوا ذلك انصرفوا فقال، حزقيل‏:‏ اللّهم إنك تعلم أني كتمت إيماني مائة سنة ولم يظهر عليّ أحد فأيما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤاله وأيما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجل عقوبته في الدنيا واجعل مصيره في الآخرة إلى النار فانصرف الرجلان إلى فرعون فأما أحدهما فاعتبر وآمن وأما الآخر فأخبر فرعون بالقصة على رؤوس الملأ فقال له فرعون وهل معك غيرك قال نعم فلان فدعا به فقال أحق ما يقول هذا قال ما رأيت مما يقول شيئاً فأعطاه فرعون وأجزل وأما الآخر فقتله ثم صلبه قال‏:‏ وكان فرعون قد تزوج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسية بنت مزاحم، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة، فقالت وكيف يسعني أن أصبر على ما يأتي فرعون وأنا مسلمة وفرعون كافر‏؟‏ فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها، فقالت يا فرعون أنت أشر الخلق وأخبثهم، عمدت إلى الماشطة فقتلتها قال فلعل بك الجنون الذي كان بها، قالت‏:‏ ما بي جنون وإن إلهها وإلهك وإلهي وإله السموات والأرض واحد لا شريك له فبصق عليها وضربها، وأرسل إلى أبيها وأمها فدعاهما وقال لهما‏:‏ إن الجنون الذي كان بالماشطة أصابها، قالت‏:‏ أعوذ بالله من ذلك، إني أشهد أن ربي وربك ورب السموات والأرض واحد لا شريك له، فقال لها أبوها‏:‏ يا آسية ألست من خير نساء العماليق، وزوجك إله العماليق قالت‏:‏ أعوذ بالله من ذلك إن كان ما يقول حقاً فقولا له أي يتوجني تاجاً تكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 15‏]‏

‏{‏الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ‏(‏11‏)‏ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ‏(‏12‏)‏ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ‏(‏13‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الذين طغوا في البلاد‏}‏ يعني عاداً وثموداً وفرعون عملوا بالمعاصي، وتجبروا، ثم فسر ذلك الطغيان بقوله ‏{‏فأكثروا فيها الفساد‏}‏ يعني القتل والفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر فكذلك الفساد يتناول جميع أقسام الإثم‏.‏ ‏{‏فصب عليهم ربك سوط عذاب‏}‏ يعني لوناً من العذاب صبّه عليهم، وقيل هو تشبيه بما يكون في الدنيا من العذاب بالسوط، وقيل هو إشارة إلى ما خلط لهم من العذاب، لأن أصل السوط خلط الشيء بعضه ببعض؛ وقيل هذا على الاستعارة، لأن السوط غاية العذاب فجرى ذلك لكل نوع منه‏.‏ وقيل جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية يقول إن عند الله أسواطاً كثيرة، فأخذهم بسوط منها‏.‏ ‏{‏إن ربك لبالمرصاد‏}‏ قال ابن عباس يعني بحيث يرى ويسمع، وقيل عليه طريق العباد، لا يفوته أحد وقيل عليه ممر الناس لأن الرصد والمرصاد الطريق‏.‏ وقيل ترجع الخلق إلى حكمه وأمره وإليه مصيرهم، وقيل إنه يرصد أعمال بني آدم‏.‏ والمعنى أنه لا يفوته شيء من أعمال العباد، كما لا يفوت من المرصاد، وقد قيل أرصد النار على طريقهم حتى تهلكهم‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فأما الإنسان إذا ما ابتلاه‏}‏ أي امتحنه ‏{‏ربه‏}‏ أي بالنعمة ‏{‏فأكرمه‏}‏ أي بالمال ‏{‏ونعمه‏}‏ أي بما يوسع عليه ‏{‏فيقول ربي أكرمن‏}‏ أي بما أعطاني من المال والنعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ‏(‏16‏)‏ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ‏(‏18‏)‏ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ‏(‏19‏)‏ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ‏(‏20‏)‏ كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وأما إذا ما ابتلاه‏}‏ يعني بالفقر ‏{‏فقدر عليه‏}‏ أي فضيق عليه، وقيل قتر‏.‏ ‏{‏رزقه‏}‏ أي وقد أعطاه ما يكفيه‏.‏ ‏{‏فيقول ربي أهانن‏}‏ أي أذلني بالفقر، قيل نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر، وقيل ليس المراد به واحداً بعينه، بل المراد جنس الكافر، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته فرد الله تعالى على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي ليس الأمر كذلك، أي لم أبتله بالغنى لكرامته، ولم أبتله بالفقر لهوانه، فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال، وسعة الرزق وقلته، ولكن الغنى والفقر بتقدير الله جلّ جلاله وحكمته فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويضيق على المؤمن لا لهوانه، لكن لأمر اقتضته حكمة الله تعالى، وإنما يكرم المرء بطاعته، ويهينه بمعصيته، وقد يوسع على الإنسان من أصناف المال ليختبره، أيشكر أم يكفر، ويضيق عليه ليختبره، أيصبر أم يضجر، ويقلق‏.‏ ‏{‏بل لا تكرمون اليتيم‏}‏ أي لا يعطونه حقه الثابت له في الميراث قال مقاتل‏:‏ كان قدامة بن مظعون يتيماً في حجر أمية بن خلف، فكان يدفعه عن حقه‏.‏ ‏{‏ولا تحضون على طعام المسكين‏}‏ أي لا يطعمون مسكيناً، ولا يأمرون بإطعامه، وقرئ ولا يحاضون ومعناه، ولا يحض بعضهم بعضاً على ذلك‏.‏ ‏{‏وتأكلون التراث‏}‏ أي الميراث ‏{‏أكلاً لمّاً‏}‏ أي شديداً، والمعنى أنه يأكل نصيبه ونصيب غيره، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء، ولا الصبيان، ويأكلون نصيبهم، وقيل الآكل اللم الذي يأكل كل شيء يجده لا يسأل أحلال أم حرام، فيأكل الذي له ولغيره‏.‏ ‏{‏وتحبون المال حباً جمّاً‏}‏ أي كثيراً والمعنى يحبون جمع المال، ويولعون به، وبحبه‏.‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا، من الحرص على جمع المال وحبه‏.‏ وقيل معناه لا يفعلون ما أمروا به من إكرام اليتيم وغيره من المسلمين، ثم أخبر عن تلهّفهم على ما سلف منهم، وذلك حين لا ينفعهم الندم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا دكت الأرض دكاً دكاً‏}‏ أي دقت وكسرت مرة بعد مرة، وكسر كل شيء عليها من جبل وبناء وغيره، حتى لا يبقى على ظهرها شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 28‏]‏

‏{‏وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ‏(‏22‏)‏ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ‏(‏23‏)‏ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وجاء ربك‏}‏ اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات التي سكت عنها وعن مثلها عامة السلف وبعض الخلف، فلم يتكلموا فيها وأجروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تأويل، وقالوا يلزمنا الإيمان بها وأجراؤها على ظاهرها، وتأولها بعض المتأخرين، وغالب المتكلمين فقالوا ثبت بالدليل العقلي، أن الحركة على الله محال، فلا بد من تأويل الآية‏.‏ فقيل في تأويلها وجاء أمر ربك بالمحاسبة والجزاء‏.‏ وقيل جاء أمر ربك وقضاؤه‏.‏ وقيل وجاء دلائل آيات ربك فجعل مجيئها مجيئاً له تفخيماً لتلك الآيات‏.‏ ‏{‏والملك صفاً صفاً‏}‏ أي تنزل ملائكة كل سماء صفاً صفاً على حدة، فيصطفون صفاً بعد صف، محدقين بالجن والإنس، فيكونون سبع صفوف‏.‏ ‏{‏وجيء يومئذ‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏بجهنم‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ في هذه الآية تقاد جهنم بسبعين ألف زمام، كل زمام بيد سبعين ألف ملك، لها تغيط وزفير حتى تنصب عن يسار العرش ‏{‏يومئذ‏}‏ يعني يوم يجاء بجهنم ‏{‏يتذكر الإنسان‏}‏ أي يتعظ الكافر ويتوب‏.‏ ‏{‏وأنى له الذكرى‏}‏ يعني أنه يظهر التوبة، ومن أين له التوبة‏.‏ ‏{‏يقول يا ليتني قدمت لحياتي‏}‏ أي قدمت الخير، والعمل الصالح لحياتي في الآخرة التي لا موت فيها‏.‏ ‏{‏فيومئذ لا يعذب عذابه أحد‏}‏ أي لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله الكافر يومئذ‏.‏ ‏{‏ولا يوثق وثاقه أحد‏}‏ يعني لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب، والوثاق هو الأسر في السلاسل، والأغلال، وقرئ لا يعذب، ولا يوثق بفتح الذال والثاء، ومعناه لا يعذب عذاب هذا الكافر أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، وهو أمية بن خلف، وذلك لشدة كفره وعتوه‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة‏}‏ أي الثابتة على الإيمان، والإيقان، المصدقة بما قال الله تعالى، الموقنة التي قد أيقنت بالله تعالى، وبأن الله ربها، وخضعت لأمره، وطاعته، وقيل المطمئنة المؤمنة، الموقنة، وقيل هي الراضية بقضاء الله، وقيل هي الآمنة من عذاب الله، وقيل هي المطمئنة بذكر الله؛ قيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب حين استشهد بأُحُد، وقيل في حبيب بن عدي الأنصاري، وقيل في عثمان حين اشترى بئر رومة وسبلها وقيل في أبي بكر الصديق؛ والأصح أن الآية عامة في كل نفس مؤمنة مطمئنة، لأن هذه السورة مكية ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏ أي إلى ما وعد ربك من الجزاء والثواب، قيل يقال لها ذلك عند خروجها من الدنيا‏.‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله عزّ وجلّ إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال اخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى روح وريحان، وربك عنك راض، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في أنفه، والملائكة على أرجاء السماء يقولون قد جاء من الأرض روح طيبة ونسمة طيبة فلا تمر بباب إلا فتح لها، ولا بملك، إلا صلى عليها حتى يؤتى بها الرحمن جل جلاله، فتسجد له ثم يقال لميكائيل اذهب بهذه النفس فاجعلها مع أنفس المؤمنين، ثم يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه، وسبعون ذراعاً، طوله وينبذ له فيه الروح والريحان، فإن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره، وإن لم يكن جعل له نور مثل الشمس في قبره، ويكن مثله مثل العروس ينام فلا يوقظه إلا أحب أهله إليه، وإذا توفي الكافر أرسل الله إليه ملكين، وأرسل قطعة من بجاد أي من كساء أنتن من كل نتن، وأخشن من كل خشن، فيقال أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى جهنم وعذاب أليم، وربك عليك غضبان وقيل في معنى قوله ‏{‏ارجعي إلى ربك‏}‏ أي إلى صاحبك وهو الجسد، وإنما يقال لا ذلك عند البعث فيأمر الله الأرواح أن ترجع إلى أجسادها، وهو قول عكرمة وعطاء والضحاك ورواية عن ابن عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

فإذا كان يوم القيامة قيل لها‏.‏

‏{‏فادخلي في عبادي‏}‏ أي في جملة عبادي، الصالحين المصطفين ‏{‏وادخلي جنتي‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ مات ابن عباس بالطائف فشهدت جنازته، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدرى من تلاها ‏{‏يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية وادخلي في عبادي وادخلي جنتي‏}‏، وقال‏:‏ بعض أهل الإشارة في تفسير هذه الآية يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا، ارجعي إلى ربك بتركها، والرجوع إليه هو سلوك سبيل الآخرة والله أعلم‏.‏

سورة البلد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين‏.‏ ‏{‏وأنت حل بهذا البلد‏}‏ أي مقيم به، نازل فيه، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلى الله عليه وسلم مقيم بها وقيل حل أي حلال، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل، والأسر، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها، أحل الله عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل، وأمر بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم آخرين، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ثم قال بعد ذلك إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، والمعنى أن الله تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها، وشرفها، وحرمتها، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من الله تعالى في الماضي، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة، وخروجه منها، فكان كما وعده، وقيل في معنى قوله ‏{‏وأنت حلّ بهذا البلد‏}‏، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيداً، ويستحلون قتلك فيه، وإخراجك منه‏.‏ ‏{‏ووالد وما ولد‏}‏ يعني آدم وذريته أقسم الله تعالى بمكة لشرفها، وحرمتها، وبآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به، وجواب القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في نصب، وقيل يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وعنه أيضاً قال‏:‏ في شدة من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، وفصاله، ومعاشه، وحياته، وموته وأصل الكبد الشدة، وقيل لم يخلق الله خلقاً يكابد، ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن ابن عباس أيضاً قال‏:‏ الكبد الاستواء، والاستقامة، فعلى هذا يكون المعنى، خلقنا الإنسان منتصباً معتدل القامة، وكل شيء من الحيوان يمشيء منكباً، وقيل منتصباً، رأسه في بطن أمه فإذا أذن الله في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديداً قوياً يضع الأديم العكاظي تحت قدميه، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعاً، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏ أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏أيحسب‏}‏ أبو الأشد من قوته ‏{‏أن لن يقدر عليه أحد‏}‏ يعني أيظن لشدته في نفسه، أنه لا يقدر عليه الله، وقيل هو الوليد بن المغيرة المخزومي‏.‏ ‏{‏يقول‏}‏ يعني هذا الكافر ‏{‏أهلكت‏}‏ أي أنفقت ‏{‏مالاً لبداً‏}‏ أي كثيراً من التلبيد الذي يكون بعضه فوق بعض‏.‏ يعني في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أيحسب أن لم يره أحد‏}‏ يعني أيظن أن الله لم يره، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وقيل كان كاذباً في قوله، إنه أنفق ولم ينفق جميع ما قال والمعنى أيظن أن الله لم ير ذلك منه فيعلم مقدار نفقته‏.‏ ثم ذكره نعمه عليه ليعتبر فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين‏}‏ يعني أن نعم الله على عبده متظاهرة، يقروه بها كي يشكره، وجاءه في الحديث «إن الله عزّ وجلّ يقول‏:‏ ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك بصرك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه، وإن نازعك فرجك فيما حرمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقتين فأطبق عليه» ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ قال أكثر المفسرين طريق الخير والشر والحق، والباطل، والهدى، والضلالة، وقال ابن عباس‏:‏ الثديين ‏{‏فلا أقتحم العقبة‏}‏ أي فهلا أنفق ماله فيما يجوز به العقبة من فك الرقاب وإطعام المساكين يكون ذلك خيراً له من إنفاقه في عداوة من أرسله الله إليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل معناه لم يقتحمها ولا جاوزها والاقتحام الدّخول في الأمر الشّديد، وذكر العقبة مثل ضربه الله تعالى‏:‏ لمجاهدة النّفس، والهوى، والشّيطان في أعمال الخير، والبر، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة يقول الله عزّ وجلّ‏:‏ لم يحمل على نفسه المشقة بعتق الرّقبة، والإطعام، وقيل إنه شبه ثقل الذنوب على مرتكبها بالعقبة، فإذا أعتق رقبة وأطعم المساكين‏.‏ كان كمن اقتحم العقبة وجاوزها، وروي عن ابن عمر أن هذه العقبة جبل في جهنم، وقيل هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله ومجاهدة النفس، وقيل هي الصّراط يضرب على متن جهنم كحد السّيف مسيرة ثلاثة آلاف سنة سهلاً وصعوداً وهبوطاً، وأن بجنبيه كلاليب وخطاطيف، كأنها شوك السّعدان فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في الناس منكوس، فمن الناس من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفارس، ومنهم من يمر كالرّجل يعدو، ومنهم من يمر كالرجل يسير، ومنهم من يزحف زحفاً ومنهم الزّالون ومنهم من يكردس في النار، وقيل معنى الآية‏:‏ فهلا سلك طريق النجاة ثم بين ما هي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 17‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏ فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وما أدراك ما العقبة‏}‏ أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ‏{‏فك رقبة‏}‏ يعني عتق الرقبة وهو إيجاب الحرية لها، وإبطال الرق، والعبودية عنها، وذلك بأن يعتق الرجل الرّقبة التي في ملكه، أو يعطي مكاتباً ما يصرفه في فكاك رقبته ومن أعتق رقبة كانت فداءه من النار ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى فرجه بفرجه» وروى البغوي بسنده عن البراء بن عازب قال‏:‏ «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسالة أعتق النّسمة، وفك الرّقبة قال أوليسا واحداً قال لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظّالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظّمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير» وقيل في معنى الآية وفك رقبة من رق الذّنوب بالتّوبة وبما يتكلفه من العبادات، والطاعات التي يصير بها إلى رضوان الله، والجنة فهي الحرية الكبرى ويتخلص بها من النار ‏{‏أو إطعام في يوم ذي مسغبة‏}‏ أي في يوم ذي مجاعة والسغب الجوع ‏{‏يتيماً ذا مقربة‏}‏ أي ذا قرابة يريد يتيماً بينك وبينه قرابة ‏{‏أو مسكيناً ذا متربة‏}‏ يعني قد لصق بالتراب من فقره وضره وقال ابن عباس‏:‏ هو المطروح في التّراب لا يقيه شيء والمتربة الفقر، ثم بين أن هذه القرب لا تنفع إلا مع الإيمان بقوله ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ والمعنى أنه كان مؤمناً تنفعه هذه القرب، وكان مقتحماً العقبة، وإن لم يكن مؤمناً لا تنفعه هذه القرب ولا يقتحم العقبة ‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏ يعني وصى بعضهم بعضاً على الصبر على أداء الفرائض، وجميع أوامر الله ونواهيه‏.‏ ‏{‏وتواصوا بالمرحمة‏}‏ أي برحمة الناس وفيه الإشارة إلى تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 20‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ يعني أهل هذه الخصال ‏{‏أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة‏}‏ يعني مطبقة عليهم أبوابها لا يدخل فيها روح ولا يخرج منها غم‏.‏

والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده‏.‏

سورة الشمس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏والشّمس وضحاها‏}‏ أي إذا بدا ضوءها والضّحى حين ترتفع الشّمس، ويصفو ضوءها، وقيل الضّحى النهار كله لأن الضحى هو نور الشمس، وهو حاصل في النهار كله، وقيل الضحى هو حر الشمس لأن حرها ونورها متلازمان، فإذا اشتد نورها قوى حرها وهذا أضعف الأقوال‏.‏ ‏{‏والقمر إذا تلاها‏}‏ أي تبعها وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور، وقيل تلاها في الاستدارة وذلك حين يكمل ضوءه، ويستدير وذلك في اللّيالي البيض، وقيل تلاها تبعها في الطلوع، وذلك في أول ليلة من الشّهر إذا غربت الشمس ظهر الهلال فكأنه تبعها‏.‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها‏}‏ يعني جلا ظلمة الليل بضيائه وكشفها بنوره، وهو كناية عن غير مذكور لكونه معروفاً ‏{‏والليل إذا يغشاها‏}‏ أي يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة‏.‏ لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏ وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء وما بناها‏}‏ أي ومن بناها، وقيل والذي بناها فعلى هذا كأنه أقسم به وبأعظم مخلوقاته، ومعنى بناها خلقها، وقيل ما بمعنى المصدر أي والسماء وبنائها ‏{‏والأرض وما طحاها‏}‏ أي بسطها وسطحها على الماء ‏{‏ونفس وما سواها‏}‏ أي عدل خلقها وسوى أعضاءها هذا إن أريد بالنّفس الجسد وإن أريد بها المعنى القائم بالجسد فيكون معنى سواها أعطاها القوى الكثيرة كالقوة الناطقة، والسامعة والباصرة، والمفكرة، والمخيلة وغير ذلك من العلم، والفهم، وقيل إنما نكرها لأنه أراد بها النّفس الشّريفة المكلفة التي تفهم عنه خطابه، وهي نفس جميع من خلق من الإنس والجن ‏{‏فألهمها فجورها وتقواها‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بين لها الخير والشّر وعنه علمها الطّاعة والمعصية، وعنه عرفها ما تأتي وما تتقي، وقيل ألزمها فجورها، وتقواها، وقيل وجعل فيها ذلك بتوفيقه إيّاها للتّقوى، وخذلانه إياها للفجور، وذلك لأن الله تعالى خلق في المؤمن التّقوى، وفي الكافر الفجور ‏(‏م‏)‏ عن أبي الأسود الديلي قال‏:‏ قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلونه مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم، فقلت بل شيء قضى عليهم ومضى عليهم، فقال أفلا يكون ظلماً قال ففزعت من ذلك فزعاً شديداً، وقلت كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل، وهم يسألون فقال لي يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأختبر عقلك «إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم، ومضى عليهم، من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها» ‏(‏م‏)‏ عن جابر قال‏:‏ «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال‏:‏ يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير أو فيما يستقبل قال‏:‏ لا بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير قال‏:‏ ففيم العمل‏؟‏ فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له» وهذه أقسام أقسم الله تعالى بالشمس وضحاها وما بعدها لشرفها ومصالح العالم بها، وقيل فيه إضمار تقديره ورب الشمس وما بعدها‏.‏

وأورد على هذا القول أنه قد دخل في جملة هذا القسم قوله، ‏{‏والسّماء وما بناها‏}‏ وذلك هو الله تعالى، فيكون التقدير رب السماء، ورب من بناها، وهذا خطأ لا يجوز وأجيب عنه بأن ما إن فسرت بالمصدرية فلا إشكال وإن فسرت بمعنى من فيكون التقدير ورب السّماء الذي بناها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ‏(‏10‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ‏(‏11‏)‏ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا ‏(‏12‏)‏ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ‏(‏13‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا ‏(‏14‏)‏ وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ المعنى لقد أفلح من زكاها أي فازت وسعدت نفس زكاها الله أي أصلحها وطهرها من الذّنوب، ووفقها للطاعة‏.‏ ‏{‏وقد خاب من دساها‏}‏ أي خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى، وأفسدها، وأصله من دس الشّيء إذا أخفاه فكأنه سبحانه وتعالى أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره، وزكاه، وخسارة من خذله، وأضله حتى لا يظن أحد أنه يتولى تطهير نفسه، أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق ‏(‏م‏)‏ عن زيد بن أرقم قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «اللّهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللّهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها، ومولاها، اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها»‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏كذبت ثمود‏}‏ وهم قوم صالح عليه الصّلاة والسّلام ‏{‏بطغواها‏}‏ أي بطغيانها وعدوانها، والمعنى أن الطغيان حملهم على التكذيب حتى كذبوا ‏{‏إذا انبعث أشقاها‏}‏ أي قام وأسرع وذلك أنهم لما كذبوا بالعذاب، وكذبوا صالحاً انبعث أشقى القوم وهو قدار بن سالف، وكان رجلاً أشقر أزرق العين قصيراً فعقر الناقة ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن زمعة «أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يخطب وذكر الناقة، والذي عقرها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا انبعث أشقاها انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في أهله مثل أبي زمعة» لفظ البخاري قوله عارم أي شديد ممتنع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال لهم رسول الله‏}‏ يعني صالحاً عليه الصّلاة والسّلام ‏{‏ناقة الله‏}‏ أي ذروا ناقة الله وإنما قال لهم ذلك لما عرف منهم أنهم قد عزموا على عقرها وإنما أضافها إلى الله تعالى لشرفها كبيت الله‏.‏ ‏{‏وسقياها‏}‏ أي وشربها ولا تتعرضوا للماء يوم شربها ‏{‏فكذبوه‏}‏ يعني صالحاً ‏{‏فعقروها‏}‏ يعني الناقة ‏{‏فدمدم عليهم ربهم‏}‏ أي فدمر عليهم ربهم وأهلكهم والدمدمة هلاك استئصال، وقيل دمدم أي أطبق عليهم العذاب طبقاً حتى لم ينفلت منهم أحد ‏{‏بذنبهم‏}‏ أي فعلنا ذلك بهم بسبب ذنبهم، وهو تكذيبهم صالحاً عليه الصّلاة والسّلام وعقرهم الناقة ‏{‏فسواها‏}‏ أي فسوى الدّمدمة عليهم جميعاً وعمهم بها، وقيل معناه فسوى بين الأمة وأنزل بصغيرهم، وكبيرهم، وغنيهم وفقيرهم العذاب، ‏{‏ولا يخاف عقباها‏}‏ أي لا يخاف الله تبعة من أحد في هلاكهم كذا قال ابن عباس‏:‏ وقيل هو راجع إلى العاقر والمعنى لا يخاف العاقر عقبى ما قدم عليه من عقر الناقة، وقيل هو راجع إلى صالح عليه الصّلاة والسّلام والمعنى لا يخاف صالح عاقبة ما أنزل الله بهم من العذاب أن يؤذيه أحد بسبب ذلك والله أعلم‏.‏

سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واللّيل إذا يغشى‏}‏ أي يغشى النّهار بظلمته فيذهب الله بضوئه‏.‏ أقسم الله تعالى بالليل لأنه سكن لكافة الخلق يأوى فيه كل حيوان إلى مأواه، ويسكن عن الاضطراب، والحركة، ثم أقسم بالنهار بقوله ‏{‏والنهار إذا تجلى‏}‏ أي بان وظهر بعد الظلمة لأن فيه حركة الخلق في طلب الرزق ‏{‏وما خلق الذكر والأنثى‏}‏ أي ومن خلق فعلى هذا يكون أقسم بنفسه تعالى، والمعنى والقادر العظيم الذي قدر على خلق الذكر، والأنثى من ماء واحد إن أريد به جنس الذكر والأنثى، وقيل هما آدم وحواء، وإنما أقسم بهما لأنه تعالى ابتدأ خلق آدم من طين وخلق منه حواء من غير أم وجواب القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ أي إن أعمالكم لمختلفة فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها روى أبو مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» قوله موبقها أي مهلكها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ أي أنفق ماله في سبيل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتقى‏}‏ أي ربه، وفيه إشارة إلى الاحتراز عن كل ما لا ينبغي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وصدق بالحسنى‏}‏ قال ابن عباس صدق بقول لا إله إلا الله وعنه صدق بالخلف به، أي أيقن أن الله سيخلف عليه ما أنفقه في طاعته، وقيل صدق بالجنة، وقيل صدق بموعد الله عز وجل الذي وعده أنه يثيبه ‏{‏فسنيسره‏}‏ فسنهيئه في الدنيا ‏{‏لليسرى‏}‏ أي للخلة والفعلة اليسرى، وهو العمل بما يرضاه الله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأما من بخل‏}‏ أي بالنّفقة في الخير والطاعة ‏{‏واستغنى‏}‏ أي عن ثواب الله تعالى فلم يرغب فيه ‏{‏وكذب بالحسنى‏}‏ أي بلا إله إلا الله أو كذب بما وعده الله عز وجل من الجنة والثواب ‏{‏فسنيسره للعسرى‏}‏ أي فسنيهئه للشّر بأن نجريه على يديه حتى يعمل بما لا يرضى الله تعالى فيستوجب بذلك النار، وقيل نعسر عليه أن يأتي خيراً وفي الآية دليل لأهل السّنة وصحة قولهم في القدر وأن التّوفيق والخذلان والسّعادة والشّقاوة بيد الله تعالى، ووجوب العمل بما سبق له في الأزل ‏(‏ق‏)‏ عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس، وجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة» زاد مسلم «وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة فقالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السّعادة فيصير لعمل أهل السّعادة وأما من كان من أهل الشّقاوة، فيصير لعمل أهل الشّقاوة ثم قرأ ‏{‏فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى‏}‏» المخصرة بكسر الميم كالسّوط والعصا، ونحو ذلك مما يمسكه الإنسان بيده، والنكت بالتاء المثناة فوق ضرب الأرض بذلك أو غيرها مما يؤثر فيه الضرب، وهذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، وذلك أنه اشترى بلالاً من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه، فأنزل الله تعالى ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ يعني سعي أبي بكر وأمية بن خلف، وقيل كان لرجل من الأنصار نخلة وفرعها في دار رجل فقير وله عيال، فكان صاحب النخلة إذا طلع نخلته ليأخذ منها التمر فربما سقطت التمرة، فيأخذها صبيان ذلك الفقير، فينزل الرجل عن نخلته حتى يأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه في فيه حتى يخرجها فشكا ذلك الرّجل الفقير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقي النّبي صلى الله عليه وسلم صاحب النّخلة فقال له‏:‏ «تعطيني نخلتك التي فرعها في دار فلان، ولك بها نخلة في الجنة»

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 18‏]‏

‏{‏وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وما يغني عنه ماله‏}‏ أي الذي بخل به ‏{‏إذا تردى‏}‏ أي إذا مات، وقيل هوى في جهنم ‏{‏إن علينا للهدى‏}‏ أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضّلالة وذلك أنه لما عرفهم ما للمحسن من اليسرى، وما للمسيء من العسرى أخبرهم أن بيده الإرشاد والهداية وعليه تبيين طريقها، وقيل معناه إن علينا للهدى والإضّلال فاكتفى بذكر أحدهما، والمعنى أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأصرف أعدائي عن العمل بطاعتي، وقيل معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله سبيله‏.‏ ‏{‏وإن لنا للآخرة والأولى‏}‏ أي لنا ما في الدّنيا والآخرة فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق ‏{‏فأنذرتكم‏}‏ أي يا أهل مكة ‏{‏ناراً تلظى‏}‏ أي تتوقد وتتوهج ‏{‏لا يصلاها إلا الأشقى‏}‏ يعني الشّقي ‏{‏الذي كذب‏}‏ يعني الرّسل ‏{‏وتولى‏}‏ أي عن الإيمان ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ يعني التّقي ‏{‏الذي يؤتي‏}‏ أي يعطي ‏{‏ماله يتزكى‏}‏ أي يطلب عند الله أن يكون زاكياً لا يطلب بما ينفقه رياء ولا سمعة وهو أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين قال ابن الزبير‏:‏ كان يبتاع الضعفاء فيعتقهم، فقال له أبوه أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال منع ظهري أريد فأنزل الله ‏{‏وسيجنبها الأتقى‏}‏ إلى آخر السّورة، وذكر محمد ابن إسحاق قال‏:‏ كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشّمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول وهو في ذلك أحد أحد قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ مر به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال لأمية‏:‏ ألا تتقي الله في هذا المسكين قال‏:‏ أنت أفسدته فأنقذه مما ترى فقال أبو بكر أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وأقوى، وهو على دينك أعطيكه قال قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه، وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر بلال سابعهم، وهم عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأم عميس وزهرة فأصيب بصرها حين أعتقها أبو بكر فقالت قريش‏:‏ ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى فقالت‏:‏ كذبوا ورب البيت ما تضر اللاّت، والعزى، ولا تنفعان فرد الله تعالى‏:‏ عليها بصرها وأعتق النّهدية وابنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، فرآهما أبو بكر وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول والله لا أعتقهما أبداً فقال أبو بكر كلا يا أم فلان فقالت كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال فبكم قالت بكذا وكذا قال أخذتهما وهما حرتا ومر بجارية من بني المؤمل وهي تعذب فابتاعها وأعتقها فقال عمار بن ياسر‏:‏ يذكر بلالاً وأصحابه وما كانوا فيه من البلاء وإعتاق أبي بكر إيّاهم وكان اسم أبي بكر عتيقاً فقال في ذلك‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وما لأحد عنده‏}‏ أي عند أبي بكر ‏{‏من نعمة تجزى‏}‏ أي من يد يكافئه عليها ‏{‏إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى‏}‏ أي لم يفعل ذلك مجازاة لأحد ولا ليد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى وطلب مرضاته ‏{‏ولسوف يرضى‏}‏ أي بما يعطيه الله عز وجل في الآخرة من الجنة والخير والكرامة جزاء على ما فعل، والله أعلم‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والضّحى‏}‏ اختلفوا في سبب نزول هذه السّورة على ثلاثة أقوال‏:‏ القول الأول ‏(‏ق‏)‏ «عن جندب بن سفيان البجلي قال‏:‏ اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءت امرأة فقالت‏:‏ يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك ليلتين أو ثلاثاً فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والضّحى واللّيل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى‏}‏» وأخرجه الترمذي عن جندب قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت أصبعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت

قال‏:‏ فأبطأ عليه جبريل فقال المشركون قد ودع محمداً ربه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏ وقيل إن المرأة المذكورة في الحديث المتفق عليه هي أم جميل امرأة أبي لهب‏.‏

القول الثاني‏:‏ قال المفسرون‏:‏ سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرّوح، وعن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، فقال سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عليه‏.‏

القول الثالث‏:‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ كان سبب احتباس الوحي، وجبريل عنه أن جروا كان في بيته، فلما نزل عليه عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبطائه فقال إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة‏.‏

واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه، فقيل اثنا عشر يوماً وقال ابن عباس‏:‏ خمسة عشر يوماً، وقيل أربعون يوماً فلما نزل جبريل عليه الصلاة والسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم «يا جبريل ما جئت حتى اشتقت إليك» فقال جبريل‏:‏ إني كنت إليك أشد شوقاً، ولكني عبد مأمور‏.‏ ونزل ‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك‏}‏ وأنزل الله هذه السّورة قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والضحى‏}‏ قيل أراد به النهار كله بدليل أنه قابله باللّيل كله في قوله، ‏{‏واللّيل إذا سجى‏}‏ وقيل وقت الضحى وهي السّاعة التي فيها ارتفاع الشّمس واعتدال النهار في الحر والبرد في الصيف والشتاء‏.‏ ‏{‏والليل إذا سجى‏}‏ قال ابن عباس أقبل بظلامه وعنه إذا ذهب وقيل معناه غطى كل شيء بظلامه، وقيل معناه سكن فاستقر ظلامه فلا يزاد بعد ذلك، وهذا قسم أقسم الله تعالى بالضحى والليل إذا سجى وجواب القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏ أي ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وإنما قال قلى ولم يقل قلاك لموافقة رؤوس الآي، وقيل معناه وما قلى أحداً من أصحابك ومن هو على دينك إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ أي الذي أعطاك ربك في الآخرة خير لك وأعظم من الذي أعطاك في الدّنيا، وروى البغوي بسنده عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدّنيا» ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏ قال ابن عباس هي الشفاعة في أمته حتى يرضى ‏(‏م‏)‏ عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه وقال‏:‏ اللّهم أمتي أمتي وبكى فقال الله عز وجل يا جبريل اذهب إلى محمد، واسأله ما يبكيك، وهو أعلم فأتى جبريل، وسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد وقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ألم يجدك يتيماً‏}‏ أي صغيراً ‏{‏فآوى‏}‏ أي ألم يعلمك الله يتيماً من الوجود الذي هو بمعنى العلم، والمعنى ألم يجدك يتيماً صغيراً حين مات أبوك، ولم يخلف لك مالاً، ولا مأوى فجعل لك مأوى تأوي إليه وضمك إلى عمك أبي طالب حتى أحسن تربيتك وكفاك المؤنة‏.‏

وذلك أن عبد الله مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل فكفله جده عبد المطلب، فلما مات عبد المطلب، كفله عمه أبو طالب إلى أن قوي، واشتد وتزوج خديجة، وقيل هو من قولهم درة يتيمة، والمعنى ألم يجدك واحداً في قريش عديم النّظير فآواك إليه وأيدك وشرفك بنبوته واصطفاك برسالته‏.‏ ‏{‏ووجدك ضالا‏}‏ أي عما أنت عليه اليوم ‏{‏فهدى‏}‏ أي فهداك إلى توحيده ونبوته، وقيل وجدك ضالاً عن معالم النّبوة وأحكام الشّريعة، فهداك إليها وقال ابن عباس‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضل في شعاب مكة وهو صبي صغير، فرآه أبو جهل منصرفاً من أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، وقال سعيد بن المسيب‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة فبينما هو راكب ذات ليلة مظلمة إذ جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق فجاء جبريل عليه السّلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القافلة فمنّ الله عليه بذلك، وقيل وجدك ضالاً نفسك لا تدري من أنت فعرفك نفسك وحالك، وقيل ووجدك بين أهل الضّلال فعصمك من ذلك وهداك إلى الإيمان وإلى إرشادهم، وقيل الضلال هنا بمعنى الحيرة وذلك لأنه كان صلى الله عليه وسلم يخلو في غار حراء في طلب ما يتوجه به إلى ربه حتى هداه الله لدينه، وقال الجنيد‏:‏ ووجدك متحيراً في بيان ما أنزل الله إليك، فهداك لبيانه فهذا ما قيل في هذه الآية ولا يلتفت إلى قول من قال إنه صلى الله عليه وسلم كان قبل النّبوة على ملة قومه، فهداه الله إلى الإسلام لأن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكذلك الأنبياء قبله منذ ولدوا نشؤوا على التّوحيد، والإيمان قبل النّبوة وبعدها، وأنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بصفات الله تعالى وتوحيده ويدل على ذلك أن قريشاً لما عابوا النبي صلى الله عليه وسلم ورموه بكل عيب سوى الشّرك وأمر الجاهلية فإنهم لم يجدوا لهم عليه سبيلاً إذ لو كان فيه لما سكتوا عنه ولنقل ذلك فبرأه الله تعالى من جميع ما قالوه فيه وعيروه به‏.‏ ويؤكد هذا ما روي في قصة بحير الرّاهب حين استحلف النبي صلى الله عليه وسلم باللاّت والعزى، وذلك حين سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فرأى بحيرا علامة النّبوة فيه وهو صبي فاختبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر‏}‏ أي لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً، وقيل لا تقهره على ماله فتذهب به لضعفه، وكذا كانت العرب في الجاهلية تفعل في أمر اليتامى يأخذون أموالهم، ويظلمونهم حقوقهم روى البغوي بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ثم قال‏:‏ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا ويشير بأصبعيه» ‏(‏خ‏)‏ عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة، والوسطى، وفرج بينهما» ‏{‏وأما السائل فلا تنهر‏}‏ يعني السائل على الباب يقول لا تزجره إذا سألك فقد كنت فقيراً فإما أن تطعمه وإما أن ترده رداً ليناً برفق ولا تكهر بوجهك في وجهه وقال إبراهيم بن أدهم‏:‏ نعم القوم السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النّخعي السّائل‏:‏ يريدنا إلى الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول هل توجهون إلى أهليكم بشيء وقيل السائل هو طالب العلم فيجب إكرامه وإسعافه بمطلوبه ولا يعبس في وجهه ولا ينهر ولا يلقى بمكروه ‏{‏وأما بنعمة ربك فحدث‏}‏ قيل أراد بالنّعمة النّبوة أي بلغ ما أرسلت به وحدث بالنبوة التي أتاك الله، وقيل النعمة هي القرآن أمره أن يقرأه ويقرئه غيره، وقيل أشكره لما ذكره نعمه عليه في هذه السّورة من جبر اليتيم والهدى بعد الضّلالة والإغناء بعد العيلة والفقر أمره أن يشكره على إنعامه عليه، والتحدث بنعمة الله تعالى شكرها‏.‏

عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أعطي عطاء فليجزه إن وجد فإن لم يجد فليثن عليه فإن من أثنى عليه فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» أخرجه التّرمذي وله عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» وله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر» وروى البغوي بإسناد الثّعلبي عن النّعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر وتركه كفر والجماعة رحمة والفرقة عذاب» والسنة في قراءة أهل مكة أن يكبر من أول سورة الضّحى على رأس كل سورة حتى يختم القرآن فيقول الله أكبر وسبب ذلك أن الوحي لما احتبس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المشركون‏:‏ هجره شيطانه، وودعه، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فلما نزلت والضّحى كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحاً بنزول الوحي، فاتخذوه سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏