فصل: سورة الشرح

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ استفهام بمعنى التّقرير، أي قد فعلنا ذلك ومعنى الشرح الفتح بما يصده عن الإدراك والله تعالى فتح صدر نبيه صلى الله عليه وسلم للهدى، والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصده عن إدراك الحق، وقيل معناه ألم نفتح قلبك ونوسعه ونلينه بالإيمان، والموعظة، والعلم، والنبوة، والحكمة، وقيل هو شرح صدره في صغره ‏(‏م‏)‏ عن أنس رضي الله عنه «رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السّلام وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرجه فاستخرج منه علقة فقال‏:‏ هذا حظ الشّيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره فقالوا‏:‏ إن محمداً قد قتل فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون‏.‏ قال أنس‏:‏ وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره» ‏{‏ووضعنا عنك وزرك‏}‏ أي حططنا عنك وزرك الذي سلف منك في الجاهلية فهو كقوله ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ وقيل الخطأ والسّهو وقيل ذنوب أمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها، وقيل المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى يبلغها لأن الوزر في اللغة الثقل تشبيهاً بوزر الجبل، وقيل معناه عصمناك عن الوزر الذي ينقض ظهرك لو كان ذلك الوزر حاصلاً فسمى العصمة وضعاً مجازاً‏.‏

واعلم أن القول في عصمة الأنبياء قد تقدم مستوفى في سورة طه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏ وعند قوله ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 6‏]‏

‏{‏الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏الذي أنقض ظهرك‏}‏ أي أثقله وأوهنه حتى سمع له نقيض وهو الصوت الخفي الذي يسمع من المحمل، أو الرحل فوق البعير، فمن حمل الوزر على ما قبل النّبوة قال هو اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأمور كان فعلها قبل نبوته إذ لم يرد عليه شرع بتحريمها، فلما حرمت عليه بعد النبوة عدها أوزاراً وثقلت عليه وأشفق منها فوضعها الله عنه وغفرها له ومن حمل ذلك على ما بعد النبوة قال‏:‏ هو ترك الأفضل لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ورفعنا لك ذكرك‏}‏ روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سأل جبريل عن هذه الآية، ورفعنا لك ذكرك قال‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ إذا ذكرت ذكرت معي» قال ابن عباس‏:‏ يريد الأذان، والإقامة، والتّشهد، والخطبة على المنابر، فلو أن عبداً عبد الله وصدقه في كل شيء، ولم يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ينتفع من ذلك بشيء وكان كافراً، وقال قتادة‏:‏ رفع الله ذكره في الدّنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وقال الضحاك‏:‏ لا تقبل صلاة إلا به ولا تجوز خطبة إلا به، وقال مجاهد يريد التأذين وفيه يقول حسان بن ثابت‏:‏

أغر عليه للنبوة خاتم *** من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي مع اسمه *** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقيل رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النّبيين، وإلزّامهم الإيمان به، والإقرار بفضله، وقيل رفع ذكره بأن قرن اسمه باسمه في قوله «محمد رسول الله» وفرض طاعته على الأمة بقوله‏:‏ ‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول‏}‏ ومن يطع الله ورسوله فقد فاز، ونحو ذلك مما جاء في القرآن وغيره من كتب الأنبياء ثم وعده باليسر، والرخاء بعد الشّدة والعناء، وذلك أنه كان في شدة بمكة فقال تعالى ‏{‏فإن مع اليسر يسرا‏}‏ أي مع الشدة التي أنت فيها من جهاد المشركين يسراً ورخاء بأن يظهرك عليهم حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به ‏{‏إن مع العسر يسراً‏}‏ وإنما كرره لتأكيد الوعد وتعظيم الرّجاء قال الحسن‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أبشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عسر يسرين» وقال ابن مسعود‏:‏ لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخله عليه ويخرجه إنه لن يغلب عسر يسرين قال المفسرون في معنى قوله لن يغلب عسر يسرين إن الله تعالى كرر لفظ العسر، وذكره بلفظ المعرفة، وكرر اليسر بلفظ النكرة، ومن عادة العرب‏.‏

إذا ذكرت اسماً معرفاً ثم أعادته كان الثاني هو الأول وإذا ذكرت اسماً نكرة ثم أعادته كان الثاني غير الأول كقولك كسبت درهماً فأنفقت درهماً‏.‏ فالثاني غير الأول وإذا قلت كسبت درهماً، فأنفقت الدرهم فالثاني هو الأول، فالعسر في الآية مكرر بلفظ التعريف فكان عسراً واحداً، واليسر مكرر بلفظ التنكير فكانا يسرين، فكأنه قال فإن مع العسر يسراً إن مع ذلك العسر يسراً آخر وزيف أبو على الحسن بن يحيى الجرجاني صاحب النظم هذا القول، وقال قد تكلم الناس في قوله لن يغلب عسر يسرين فلم يحصل منه غير قولهم إن العسر معرفة، واليسر نكرة، فوجب أن يكون عسر واحد ويسران وهو قول مدخول فيه إذا قال الرجل إن مع الفارس سيفاً إن مع الفارس سيفاً فهذا لا يوجب أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين فمجاز قوله لن يغلب عسر يسرين أن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم وهو مقل مخف، فكانت قريش تعيره بذلك حتى قالوا‏:‏ إن كان بك طلب الغنى جمعنا لك مالاً حتى تكون كأيسر أهل مكة فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وظن أن قومه إنما كذبوه لفقره فعدد الله نعمه عليه في هذه السّورة، ووعده الغنى ليسليه بذلك عما خامره من الغم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن مع العسر يسرا‏}‏ أي لا يحرنك الذي يقولون فإن مع العسر الذي في الدّنيا يسراً عاجلاً، ثم انجز ما وعده وفتح عليه القرى القريبة، ووسع ذات يده حتى كان يعطي المئين من الإبل، ويهب الهبة السّنية ثم ابتدأ فضلاً آخر من أمور الآخرة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن مع العسر يسراً‏}‏ والدّليل على ابتدائه تعريه من الفاء والواو، وهذا وعد لجميع المؤمنين، والمعنى أن مع العسر الذي في الدّنيا للمؤمن يسراً في الآخرة وربما اجتمع له اليسران يسر الدنيا وهو ما ذكره في الآية الأولى ويسر الآخرة وهو ما ذكره في الآية الثانية فقوله لن يغلب عسر يسرين أي إن عسر الدنيا لن يغلب اليسر الذي وعده الله للمؤمنين في الدنيا واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة، فدائم أبداً غير زائل، أي لا يجتمعان في الغلبة فهو كقوله صلى الله عليه وسلم «شهرا عيد لا ينقصان» أي لا يجتمعان في النقص قال القشيري‏:‏ كنت يوماً في البادية بحالة من الغم فألقي في روعي بيت شعر فقالت‏:‏

أرى الموت لمن أصب *** ح مغموماً له أروح

فلما جن الليل سمعت هاتفاً يهتف في الهواء‏:‏

ألا يا أيها المرء ال *** ذي الهم به برح

وقد أنشد بيتاً لم *** يزل في فكره يسنح

إذا اشتد بك العسر فف *** كر في ألم نشرح

فعسر بين يسرين *** إذا أبصرته فافرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإذا فرغت فانصب‏}‏ لما عدد الله على نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السالفة حثه على الشكر، والاجتهاد في العبادة، والنصب فيها وأن لا يخلي وقتاً من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى، والنصب التعب قال ابن عباس‏:‏ إذا فرغت من الصّلاة المكتوبة، فانصب إلى ربك في الدعاء، وارغب إليه في المسألة وقال ابن مسعود‏:‏ إذا فرغت من الفرائض، فانصب في قيام اللّيل، وقيل إذا فرغت من التّشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقيل إذا فرغت من جهاد عدوك فانصب في عبادة ربك، وقيل إذا فرغت من تبليغ الرّسالة فانصب في الاستغفار لك وللمؤمنين‏.‏ قال عمر بن الخطاب إني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سبهللاً لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته‏.‏ السبهلل الذي لا شيء معه، وقيل السبهلل الباطل ‏{‏وإلى ربك فارغب‏}‏ أي تضرع إليه راغباً في الجنة راهباً من النار، وقيل اجعل رغبتك إلى الله تعالى في جميع أحوالك لا إلى أحد سواه والله أعلم‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت، قيل إنما خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التّنغيص، وفيه غذاء ويشبه فواكه الجنة لكونه بلا عجم‏.‏

ومن خواصه أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يخرج بطريق الرشح ويلين الطبيعة، ويقلل البلغم وأما الزيتون فإنه من شجرة مباركة فيه إدام ودهن يؤكل ويستصبح به وشجرته في أغلب البلاد ولا يحتاج إلى خدمة وتربية وينبت في الجبال التي ليست فيها دهنية ويمكث في الأرض ألوفاً من السنين، فلما كان فيهما من المنافع، والمصالح الدّالة على قدرة خالقهما لا جرم أقسم الله بهما، وقيل هما جبلان فالتين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس، واسمهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً لأنهما ينبتان التين والزيتون، وقيل هما مسجدان فالتين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وإنما حسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة، وقيل التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيلياء، وقيل التين مسجد نوح الذي بناه على الجودى والزيتون مسجد بيت المقدس ‏{‏وطور سينين‏}‏ يعني الجبل الذي كلم الله موسى عليه الصّلاة والسّلام وسينين اسم للمكان الذي فيه الجبل سمي سينين وسيناء لحسنه ولكونه مباركاً وكل جبل فيه أشجار مثمرة يسمى سينين وسيناء ‏{‏وهذا البلد الأمين‏}‏ يعني الآمن، وهو مكة حرسها الله تعالى لأنه الحرم الذي يأمن فيه الناس في الجاهلية والإسلام لا ينفر صيده ولا يعضد شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد وهذه أقسام أقسم الله بها لما فيها من المنافع والبركة وجواب القسم قوله تعالى ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏ يعني في أعدل قامة، وأحسن صورة، وذلك أنه تعالى خلق كل حيوان منكباً على وجهه يأكل بفيه إلا الإنسان فإنه خلقه مديد القامة حسن الصورة يتناول مأكوله بيده مزيناً بالعلم، والفهم، والعقل، والتّمييز، والمنطق‏.‏ ‏{‏ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ يعني إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله والسّافلون هم الضّعفاء، والزمنى والأطفال والشّيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً لأنه لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلاً لضعف بدنه وسمعه وبصره وعقله، وقيل ثم ردناه إلى النّار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض ثم استثنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات‏}‏ فإنهم لا يردون إلى النار أو إلى أسفل سافلين وعلى القول الأول يكون الاستثناء منقطعاً، والمعنى ثم رددناه أسفل سافلين فزال عقله وانقطع عمله فلا تكتب له حسنة لكن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولازموا عليها إلى أيام الشيخوخة والهرم والضّعف، فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف مثل الذي كانوا يعملون في حالة الشّباب والصّحة وقال ابن عباس‏:‏ هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم فعلى هذا القول السبب خاص وحكمه عام قال عكرمة ما يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل وروي عن ابن عباس‏:‏ قال إلا الذين قرؤوا القرآن وقال‏:‏ من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ‏{‏فلهم أجر غير ممنون‏}‏ يعني غير مقطوع لأنه يكتب له بصالح ما كان يعمل قال الضّحاك‏:‏ أجر بغير عمل ثم قال الزاماً للحجة‏.‏ ‏{‏فما يكذبك‏}‏ يعني يا أيها الإنسان وهو خطاب على طريق الالتفات ‏{‏بعد‏}‏ أي بعد هذه الحجة والبرهان ‏{‏بالدين‏}‏ أي بالحساب والجزاء، والمعنى فما الذي يلجئك أيها الناس إلى هذا الكذب ألا تتفكر في صورتك وشبابك، ومبدأ خلقك، وهرمك، فتعتبر وتقول أن الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني، فما الذي يكذبك بالمجازاة، وقيل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فمن يكذبك أيها الرّسول بعد ظهور هذه الدّلائل، والبراهين ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏ أي بأقضى القاضين يحكم بينكم وبين أهل التكذيب يوم القيامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين، فليقل بلى وأنا على ذلك من الشّاهدين» أخرجه الترمذي وعن البراء «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فصلى العشاء الأخيرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءة منه صلى الله عليه وسلم» والله تعالى أعلم‏.‏

سورة العلق

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك‏}‏ قيل الباء زائدة مجازه اقرأ اسم ربك، والمعنى اذكر اسم ربك أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تأديباً، وقيل الباء على أصلها والمعنى اقرأ القرآن مفتتحاً باسم ربك أي قل بسم الله، ثم اقرأ فعلى هذا يكون في الآية دليل على استحباب البداءة بالتسمية في أول القراءة، وقيل معناه اقرأ القرآن مستعيناً باسم ربك على ما تتحمله من النبوة وأعباء الرّسالة ‏{‏الذي خلق‏}‏ يعني جميع الخلائق وقيل الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وقيل الذي خلق كل شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 10‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏خلق الإنسان‏}‏ يعني آدم وإنما خص الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لأنه أشرفها، وأحسنها خلقه ‏{‏من علق‏}‏ جمع علقة ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ولمشاكله رؤوس الآي أيضاً ‏{‏اقرأ‏}‏ كرره تأكيداً وقيل الأول اقرأ في نفسك، والثاني اقرأ للتبليغ وتعليم أمتك ثم استأنف‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وربك الأكرم‏}‏ يعني الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله في الكرم نظير وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكريم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عيناً بل المدح والثّواب عوض والله سبحانه وجلَّ جلاله وتعالى علاؤه وشأنه يتعالى عن طلب العوض ويستحيل ذلك في وصفه لأنه أكرم الأكرمين، وقيل الأكرم هو الذي له الابتداء في كل كرم وإحسان وقيل هو الحليم عن جهل العباد فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل يحتمل أن يكون هذا حثاً على القراءة، والمعنى اقرأ وربك الأكرم لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات ‏{‏الذي علم بالقلم‏}‏ أي الخط والكتابة التي بها تعرف الأمور الغائبة وفيه تنبيه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة لأن بالكتابة ضبطت العلوم، ودونت الحكم وبها عرفت أخبار الماضين، وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا قال قتادة‏:‏ القلم نعمة من الله عظيمة‏.‏ لولا القلم لم يقم دين ولم يصلح عيش، فسأل بعضهم عن الكلام، فقال ربح لا يبقى قيل له فما قيده قال الكتابة لأن القلم ينوب عن اللّسان ولا ينوب اللّسان عنه ‏{‏علم الإنسان ما لم يعلم‏}‏ قيل يحتمل أن يكون المراد علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، فيكون المراد من ذلك معنى واحداً، وقيل علمه من أنواع العلم، والهداية، والبيان، ما لم يكن يعلم، وقيل علم آدم الأسماء كلها، وقيل المراد بالإنسان هنا محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي حقاً ‏{‏إن الإنسان ليطغى‏}‏ أي يتجاوز الحد، ويستكبر على ربه ‏{‏أن‏}‏ أي لأن ‏{‏رآه استغنى‏}‏ أي رأى نفسه غنياً وقيل يرتفع عن منزلته إلى منزلة أخرى في اللّباس والطعام وغير ذلك، نزلت في أبي جهل وكان قد أصاب مالاً فزاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه ‏{‏إن إلى ربك الرجعى‏}‏ أي المرجع في الآخرة وفيه تهديد، وتحذير لهذا الإنسان من عاقبة الطغيان، ثم هو عام لكل طاغ متكبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 19‏]‏

‏{‏أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى‏}‏ نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصّلاة ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال أبو جهل هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقيل نعم فقال واللاّت والعزّى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب قال فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته قال فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له ما لك قال إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» فأنزل الله هذه الآية، لا أدري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه كلا إن الإنسان ليطغى إلى قوله كلا لا تطعه قال‏:‏ وأمره بما أمره به زاد في رواية، فليدع ناديه يعني قومه ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس قال قال أبو جهل لئن رأيت محمداً يصلي عند البيت لأطأن على عنقه‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «لو فعله لأخذته الملائكة» زاد التّرمذي عياناً ومعنى أرأيت تعجباً للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفائدة التنكير في قوله عبداً تدل على أنه كامل العبودية، والمعنى أرأيت الذي ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية، وهذا دأبه وعادته، وقيل إن هذا الوعيد يلزم لكل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى، ولا يلزم منه عدم جواز المنع من الصّلاة في الدّار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصّحيحة، ولا يلزم من ذلك أيضاً عدم جواز منع المولى عبده، والرجل زوجته عن قيام الليل، وصوم التّطوع والاعتكاف لأن ذلك استيفاء مصلحة إلا أن يأذن فيه المولى أو الزوج ‏{‏أرأيت إن كان على الهدى‏}‏ يعني العبد المنهي وهو النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏أو أمر بالتقوى‏}‏ يعني في الإخلاص والوحيد ‏{‏أرأيت إن كذب‏}‏ يعني أبا جهل ‏{‏وتولى‏}‏ أي عن الإيمان وتقدير نظم الآية أرأيت الذي ينهي عبداً إذا صلى وهو على الهدى آمر بالتّقوى والنّاهي مكذب متول عن الإيمان أي أعجب من هذا ‏{‏ألم يعلم‏}‏ يعني أبا جهل ‏{‏بأن الله يرى‏}‏ يعني يرى ذلك الفعل فيجازيه به، وفيه وعيد شديد وتهديد عظيم ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يعلم ذلك أبو جهل ‏{‏لئن لم ينته‏}‏ يعني عن إيذاء محمد صلى الله عليه وسلم وعن تكذيبه ‏{‏لنسفعاً بالناصية‏}‏ أي لنأخذن بناصيته فلنجرنه إلى النّار، يقال سفعت بالشيء إذا أخذته وجذبته جذباً شديداً والناصية شعر مقدم الرأس والسفع الضرب أي لنضربن وجهه في النار، ولنسودن وجهه ولنذلنه ثم قال على البدل ‏{‏ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ أي صاحبها كاذب خاطئ‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه‏}‏ يعني القرآن كناية عن غير مذكور ‏{‏في ليلة القدر‏}‏ وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللّوح المحفوظ إلى السّماء الدّنيا ليلة القدر فوضعه في بيت العزة، ثم نزل به جبريل عليه السّلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجوماً متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحسب الوقائع، والحاجة إليه، وقيل إنما أنزله إلى السّماء الدّنيا لشرف الملائكة بذلك ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم سكن ولنا سقف وزينة وسميت ليلة القدر لأن فيها تقدير الأمور، والأحكام، والأرزاق، والآجال، وما يكون في تلك السنة إلى مثل هذه اللّيلة من السّنة المقبلة يقدر الله ذلك في بلاده وعباده، ومعنى هذا أن الله يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من وظيفتهم بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إيّاه، وليس المراد منه أن يحدثه في تلك اللّيلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض في الأزل، قيل للحسين بن الفضل أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السّموات والأرض قال‏:‏ نعم قيل له فما معنى ليلة القدر قال سوق المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدر، وقيل سميت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها على اللّيالي من قولهم لفلان قدر عند الأمير، أي منزلة وجاه، وقيل سميت بذلك لأن العمل الصّالح يكون فيها ذا قدر عند الله لكونه مقبولاً، وقيل سميت بذلك لأن الأرض تضيق بالملائكة فيها‏.‏

فصل في فضل ليلة القدر وما ورد فيها

‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، واختلف العلماء في وقتها فقال بعضهم إنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رفعت لقوله صلى الله عليه وسلم حين تلاحى الرجلان «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم» وهذا غلط ممن قال بهذا القول لأن آخر الحديث يرد عليهم فإنه صلى الله عليه وسلم قال في آخره «فالتمسوها في العشر الأواخر في التاسعة والسابعة والخامسة»، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها وعامة الصّحابة والعلماء فمن بعدهم على أنها باقية إلى يوم القيامة، روي عن عبد الله بن خنيس مولى معاوية قال قلت لأبي هريرة زعموا أن ليلة القدر رفعت قال كذب من قال ذلك قلت هي في كل شهر رمضان استقبله قال نعم‏.‏

ومن قال ببقائها ووجودها اختلفوا في محلها، فقيل هي متنقلة تكون في سنة في ليلة وفي سنة أخرى في ليلة أخرى هكذا أبداً قالوا‏:‏ وبهذا يجمع بين الأحاديث الواردة في أوقاتها المختلفة وقال‏:‏ مالك والثّوري وأحمد، وإسحاق وأبو ثور، إنها تنتقل في العشر الأواخر من رمضان، وقيل بل تنتقل في رمضان كله، وقيل إنها في ليلة معينة لا تنتقل عنها أبداً في جميع السنين لا تفارقها، فعلى هذا هي في ليلة من السّنة كلها وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة، وصاحبيه وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ من يقم الحول يصبها فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن‏.‏

أما إنه علم أنها في شهر رمضان ولكن أراد أن لا يتكل الناس وقال جمهور العلماء‏:‏ إنها في شهر رمضان، واختلفوا في تلك الليلة فقال أبو رزين العقيلي‏:‏ في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل هي ليلة سبعة عشر وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر يحكى هذا عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضاً، والحسن والصّحيح الذي عليه الأكثرون أنها في العشر الأواخر من رمضان والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏(‏ذكر الأحاديث الواردة في ذلك‏)‏

‏(‏ق‏)‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» وذهب الشّافعي إلى أنها ليلة إحدى وعشرين ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن أبا سعيد قال «اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط فلما كانت صبيحة عشرين نقلنا متاعنا فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال من كان اعتكف فليرجع إلى معتكفه، وأنا رأيت هذه الليلة، ورأيتني أسجد في ماء وطين، فلما رجع إلى معتكفه هاجت السماء فمطرنا فوالذي بعثه بالحق لقد هاجت السماء من آخر ذلك اليوم، وكان المسجد على عريش، ولقد رأيت على أنفه وأرنبته أثر الماء والطين»، وفي رواية نحوه إلا أنه قال «حتى إذا كانت ليلة أحدى وعشرين وهي اللّيلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه قال من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر» وورد في فضل ليلة القدر اثنان وعشرون حديثاً عن عبد الله بن أنيس قال‏:‏ «كنت في مجلس لبني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وذلك في صبيحة إحدى وعشرين من رمضان فخرجت فوافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر، فقال كم اللّيلة فقلت اثنتان وعشرون فقال هي اللّيلة، ثم رجع فقال أو القابلة يريد ثلاثاً وعشرين»

أخرجه أبو داود‏.‏

وذهب جماعة من الصّحابة وغيرهم أن ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين ومال إليه الشّافعي أيضاً ‏(‏خ‏)‏ عن الصّنابحي، أنه سأل رجلاً هل سمعت في ليلة القدر شيئاً قال، أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها في أول السبع من العشر الأواخر، وهذا اللفظ مختصر عن عبد الله بن أنيس قال‏:‏ «قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين قيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال‏:‏ كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج إلا لحاجة حتى يصلي الصبح، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته» أخرجه أبو داود ولمسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد صبيحتها في ماء وطين» قال فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه، ويحكى عن بلال وابن عباس والحسن أنها ليلة أربع وعشرين ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس قال التمسوها في أربع وعشرين، وقيل في ليلة خمس وعشرين دليله قوله صلى الله عليه وسلم «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»، وقيل هي ليلة سبع وعشرين يحكى ذلك عن جماعة من الصحابة منهم أبي بن كعب وابن عباس وإليه ذهب أحمد ‏(‏م‏)‏ عن زر بن حبيش قال سمعت أبي بن كعب يقول وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول من قام السنة أصاب ليلة القدر قال أبيّ‏:‏ والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف، ولا يستثني، فوالله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، وهي ليلة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشّمس من صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها عن معاوية عن النبي صلى الله عليه وسلم «في ليلة القدر، قال ليلة سبع وعشرين» أخرجه أبو داود، وقيل هي ليلة تسع وعشرين دليله قوله «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وقيل هي ليلة آخر الشهر، عن ابن عمر قال‏:‏ «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر وأنا أسمع، فقال هي في كل رمضان» أخرجه أبو داود قال ويروى موقوفاً عليه‏.‏

‏(‏ذكر ليال مشتركة‏)‏

عن ابن مسعود قال‏:‏ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما ليلة القدر‏}‏ أي شيء يبلغ درايتك قدرها ومبلغ فضلها، وهذا على سبيل التعظيم لها، والتَّشويق إلى خيرها ثم ذكر فضلها من ثلاثة أوجه‏:‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليلة القدر خير من ألف شهر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السّلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك، وتمنى ذلك لأمته فقال‏:‏ يا رب جعلت أمتي أقصر الأمم أعماراً، وأقلها أعمالاً، فأعطاه الله تبارك وتعالى ليلة القدر، فقال ليلة القدر خير من ألف شهر التي حمل فيها الإسرائيلي السّلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة، وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أن النّبي صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الناس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أي لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خير من ألف شهر أخرجه مالك في الموطأ قال المفسرون‏:‏ معناه العمل الصّالح في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير والبركة‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ من فضلها قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏تنزل الملائكة‏}‏ يعني إلى الأرض وسبب هذا أنهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها وظهر أن الأمر بخلاف ما قالوه وتبين حال المؤمنين وما هم عليه من الطاعة، والعبادة، والجد، والاجتهاد نزلوا إليهم ليسلموا عليها ويعتذروا مما قالوه، ويستغفروا لهم لما يرون من تقصير قد يقع من بعضهم ‏{‏والروح‏}‏ يعني جبريل عليه الصّلاة والسّلام قاله أكثر المفسرين‏:‏ وفي حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون، ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ» ذكره ابن الجوزي، وقيل إن الرّوح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ‏{‏فيها‏}‏ أي في ليلة القدر ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ أي بأمر ربهم ‏{‏من كل أمر‏}‏ أي بكل أمر من الخير والبركة، وقيل بكل ما أمر به وقضاه من كل أمر‏.‏

الوجه الثالث‏:‏ من فضلها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ أي سلام على أولياء الله وأهل طاعته قال الشّعبي‏:‏ هو تسليم الملائكة في ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، وقيل الملائكة ينزلون فيها كلما لقوا مؤمناً أو مؤمنة يسلمون عليه من ربه عزّ وجلّ، وقيل تم الكلام عند قوله ‏{‏من كل أمر‏}‏ ثم ابتدأ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سلام هي‏}‏ يعني القدر سلامة وخير ليس فيها شر، وقيل لا يقدر الله في تلك اللّيلة ولا يقضي إلا السلامة، وقيل إن ليلة القدر سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً أو يحدث فيها أذى ‏{‏حتى مطلع الفجر‏}‏ أي أن ذلك السّلام أو السّلامة تدوم إلى مطلع الفجر، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني اليهود والنّصارى ‏{‏والمشركين‏}‏ أي ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان، وذلك أن الكفار كانوا جنسين أحدهما أهل كتاب وسبب كفرهم ما أحدثوه في دينهم، أما اليهود فقولهم عزير ابن الله وتشبيههم الله بخلقه، وأما النّصارى فقولهم المسيح ابن الله وثالث ثلاثة وغير ذلك، والثاني المشركون أهل الأوثان الذين لا ينتسبون إلى كتاب الله، فذكر الله الجنسين في قوله‏:‏ ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين‏}‏ أي منتهين عن كفرهم وشركهم وقيل معناه زائلين ‏{‏حتى تأتيهم‏}‏ أي حتى أتتهم لفظه مضارع ومعناه الماضي ‏{‏البينة‏}‏ أي الحجة الواضحة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم، وشركهم وما كانوا عليه من الجاهلية، ودعاهم إلى الإيمان، فآمنوا فأنقذهم الله من الجهالة والضّلالة ولم يكونوا منفصلين عن كفرهم قبل بعثه إليهم، والآية فيمن آمن من الفريقين، قال الواحدي في بسيطة‏:‏ وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً، وتفسيراً وقد تخبط فيها الكبار من العلماء‏.‏

قال الإمام فخر الدين في تفسيره إنه لم يلخص كيفية الأشكال فيها وأنا أقول وجه الإشكال أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرّسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذاً لكنه معلوم إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرّسول ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرّسول، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والثانية مناقضة في الظاهر، وهذا منتهى الإشكال في ظني قال والجواب عنه من وجوه‏:‏

أولها‏:‏ وأحسنها الوجه، الذي لخصه صاحب الكشاف وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب، وعبدة الأوثان كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التّوراة والإنجيل وهو محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى عنهم ما كانوا يقولونه، ثم قال ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏، أي أنهم كانوا يعدلون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام ما يقول الفاسق الفقير لمن يعظه لست بمنفك مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى فيرزقه الله الغنى فيزداد فسقاً، فيقول واعظه لم تكن منفكاً عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار فيذكره ما كان يقول توبيخاً، وإلزاماً قال الإمام فخر الدين‏:‏ وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد وهو أن قوله تعالى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة مذكور حكاية عنهم، وقوله وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان بخلاف ما ادعوا أو ثانيها أن تقدير الآية لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وعلى هذا التقدير يزول الإشكال إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وذكر وجوهاً أخر قال‏:‏ والمختار هو الأول ثم فسر البينة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏رسول من الله‏}‏ أي تلك البينة رسول من الله ‏{‏يتلوا‏}‏ أي يقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏صحفاً‏}‏ أي كتباً يريد ما تضمنه المصحف من المكتوب فيه وهو القرآن لأنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ عن ظهر قلبه لا عن كتاب ‏{‏مطهرة‏}‏ أي من الباطل والكذب والزّور، والمعنى أنها مطهرة من القبيح، وقيل معنى مطهرة معظمة، وقيل مطهرة أي لا ينبغي أن يمسها إلا المطهرون ‏{‏فيها‏}‏ أي في الصحف ‏{‏كتب‏}‏ أي الآيات المكتوبة وقيل الكتب بمعنى الأحكام ‏{‏قيمة‏}‏ أي عادلة مستقيمة غير ذات عوج، وقيل قيمة بمعنى قائمة مستقلة بالحجة من قولهم قام بالأمر إذا أجراه على وجهه، ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏}‏ يعني جاءتهم البينة في كتبهم أنه نبي مرسل قال المفسرون لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تعالى فلما بعث تفرقوا في أمره، واختلفوا فيه، فآمن به بعضهم وكفر به آخرون، ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وما أمروا‏}‏ يعني هؤلاء الكفار ‏{‏إلا ليعبدوا الله‏}‏ أي وما أمروا إلا أن يعبدوا الله قال ابن عباس‏:‏ ما أمروا في التوراة، والإنجيل، إلا بإخلاص العبادة لله موحدين له ‏{‏مخلصين له الدين‏}‏ الإخلاص عبارة عن النّية الخالصة، وتجريدها عن شوائب الرّياء، وهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه والواجب لوجوبه والنّية الخالصة لما كانت معتبرة‏.‏ كانت النية معتبرة فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوياً فلا بد من اعتبار النية في جميع المأمورات، قال أصحاب الشّافعي‏:‏ الوضوء مأمور به ودلت هذه الآية على أن كل مأمور به يجب أن يكون منوياً، فتجب النية في الوضوء، وقيل الإخلاص محله القلب وهو أن يأتي بالفعل لوجه الله تعالى مخلصاً له، ولا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا غرضاً آخر حتى قالوا في ذلك لا يجعل طلب الجنة مقصوداً ولا النجاة من النار مطلوباً، وإن كان لا بد من ذلك بل يجعل العبد عبادته لمحض العبودية واعترافاً لربه عزّ وجلّ بالرّبوبية، وقيل في معنى مخلصين له الدّين مقرين له بالعبودية، وقيل قاصدين بقلوبهم رضا الله تعالى بالعبادة ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى لا ينظر إلى أجسامكم، ولا صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» ‏{‏حنفاء‏}‏ أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام، وقيل متبعين ملة إبراهيم عليه الصّلاة والسّلام، وقيل حنفاء أي حجاجاً وإنما قدمه على الصّلاة والزّكاة لأن فيه صلاة وإنفاق مال، وقيل حنفاء أي مختونين محرمين لنكاح المحارم، وقيل الحنيف الذي آمن بجميع الأنبياء والرّسل، ولا يفرق بين أحد منهم فمن لم يؤمن بأشرف الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلم فليس بحنيف ‏{‏ويقيموا الصلاة‏}‏ أي المكتوبة في أوقاتها ‏{‏ويؤتوا الزكاة‏}‏ أي المفروضة عند محلها ‏{‏وذلك‏}‏ أي الذي أمروا به ‏{‏دين القيمة‏}‏ أي الملة المستقيمة والشّريعة المتبوعة، وإنما أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته لاختلاف اللفظين وأنث القيمة رداً إلى الملة، وقيل الهاء في القيمة للمبالغة كعلامة، وقيل القيمة الكتب التي جرى ذكرها، أي وذلك دين أصحاب الكتب القيمة، وقيل القيمة جمع القيم، والقيم، والقائم واحد والمعنى وذلك دين القائمين لله بالتوحيد واستدل بهذه الآية من يقول إن الإيمان قول وعمل لأن الله تعالى ذكر الاعتقاد أولاً وأتبعه بالعمل ثانياً ثم قال وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان بدليل قوله ‏{‏فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين‏}‏

ثم ذكر ما للفريقين فقال تعالى ‏{‏إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين‏}‏ فإن قلت لم قدم أهل الكتاب على المشركين‏.‏

قلت لأن جنايتهم أعظم في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنهم كانوا يستفتحون به قبل بعثته ويقرون بنبوته، فلما بعث أنكروه وكذبوه وصدوه مع العلم به فكانت جنايتهم أعظم من المشركين فلهذا قدمهم عليهم‏.‏

فإن قلت إن المشركين أعظم جناية من أهل الكتاب لأن المشركين أنكروا الصانع والنّبوة، والقيامة وأهل الكتاب اعترفوا بذلك غير أنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان كذلك كان كفرهم أخف فلم سوى بين الفريقين في العذاب‏.‏

قلت لما أراد أهل الكتاب الرّفعة في الدّنيا بإنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أذلهم الله في الدّنيا، وأدخلهم أسفل سافلين في الآخرة ولا يمنع من دخولهم النّار مع المشركين أن تتفاوت مراتبهم في العذاب‏.‏ ‏{‏في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية‏}‏ أي هم شر الخلق والمعنى أنهم لما استحقوا النار بسبب كفرهم قالوا‏:‏ فهل إلى خروج من سبيل فقال بل تبقون خالدين فيها، فكأنهم قالوا لم ذلك قال لأنكم شر البرية‏.‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك هم خير البرية‏}‏ يعني أنهم بسبب أعمالهم الصّالحة واجتنابهم الشرك استحقوا هذا الاسم ‏{‏جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه‏}‏ قيل الرّضا ينقسم إلى قسمين‏:‏ رضا به ورضا عنه، فالرضا به أن يكون ربا ومدبراً، والرّضا عنه فيما يقضي ويدبر قال السري‏:‏ إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك، وقيل‏:‏ رضي الله أعمالهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخير والكرامة ‏{‏ذلك‏}‏ أي هذا الجزاء والرضا ‏{‏لمن خشي ربه‏}‏ أي لمن خاف ربه في الدّنيا وانتهى عن المعاصي ‏(‏ق‏)‏ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب «إن الله أمرني أن أقرأ عليك ‏{‏لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ قال وسماني قال نعم فبكى» وفي رواية البخاري «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، قال الله سماني لك، قال نعم قال وقد ذكرت عند رب العالمين قال نعم قيل فذرفت عيناه»

‏(‏شرح غريب الحديث‏)‏

أما بكاء أبي فإنه بكى سروراً، واستصغاراً لنفسه عن تأهله لهذه النّعمة العظيمة وإعطائه تلك المنزلة الكريمة، والنعمة عليه فيها من وجهين أحدهما‏:‏ كونه منصوصاً عليه بعينه والثاني قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها منقبة عظيمة لم يشاركه فيها أحد من الصّحابة، وقيل إنما بكى خوفاً من تقصيره في شكره هذه النعمة‏.‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إذا زلزلت الأرض زلزالها‏}‏ أي تحركت حركة شديدة، واضطربت، وذلك عند قيام الساعة، وقيل تزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى ينكسر كل ما عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل، وشجر، وبناء وفي وقت هذه الزّلزلة قولان أحدهما‏:‏ وهو قول الأكثرين، أنها في الدّنيا، وهي من أشراط السّاعة والثاني أنها زلزلت يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ فمن قال إن الزّلزلة تكون في الدّنيا قال أثقالها كنوزها، وما في بطنها من الدّفائن، والأموال فتلقيها على ظهرها يدل على صحة هذا القول، ما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانة من الذهب، والفضة، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ويجيء القاطع، فيقول في هذا قطعت رحمي، ويجيء السّارق فيقول في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً» أخرجه مسلم والأفلاذ جمع فلذة وهي القطعة المستطيلة شبه ما يخرج من باطنها بأقطاع كبدها، لأن الكبد مستور في الجوف، وإنما خص الكبد لأنها من أطيب ما يشوى عند العرب من الجزور، واستعار القيء للإخراج، ومن قال بأن الزّلزلة تكون يوم القيامة، قال أثقالها الموتى فتخرجهم إلى ظهرها قيل إن الميت إذا كان في بطن الأرض، فهو ثقل لها وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها، ومنه سميت الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم أحياء وأمواتاً‏.‏ ‏{‏وقال الإنسان ما لها‏}‏ يعني ما لها تزلزلت هذه الزلزلة العظيمة، ولفظت ما في بطنها وفي الإنسان وجهان‏.‏ أحدهما أنه اسم جنس يعم المؤمن والكافر، وهذا على قول من جعل الزّلزلة من أشراط السّاعة، والمعنى أنها حين وقعت لم يعلم الكل أنها من أشراط السّاعة، فيسأل بعضهم بعضاً عن ذلك، والثاني أنه اسم للكافر خاصة وهذا على قول من جعلها زلزلة القيامة لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها، والكافر جاحد لها، فإذا وقعت سأل عنها، وقيل مجاز الآية ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ فيقول الإنسان ما لها، والمعنى أن الأرض تحدث بكل ما عمل على ظهرها من خير أو شر، فتشكوا العاصي، وتشهد عليه وتشكر الطّائع وتشهد له «» عن أبي هريرة قال‏:‏ قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏يومئذ تحدث أخبارها‏}‏ قال أتدرون ما أخبارها قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا وكذا فهذه أخبارها «أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن صحيح ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ أي أمرها بالكلام وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها قال ابن عباس‏:‏ أوحى إليها قيل إن الله تعالى يخلق في الأرض الحياة، والعقل، والنطق حتى تخبر بما أمر الله به وهذا مذهب أهل السنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يصدر النّاس‏}‏ أي عن موقف الحساب بعد العرض ‏{‏أشتاتاً‏}‏ أي متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار ‏{‏ليروا أعمالهم‏}‏ قال ابن عباس ليروا جزاء أعمالهم، وقيل معناه ليروا صحائف أعمالهم التي فيها الخير والشّر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة‏}‏ قال وزن نملة صغيرة وقيل هو ما لصق من التراب باليد ‏{‏خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً أو شراً في الدّنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله له سيئاته، ويثيبه بحسناته، وأما الكافر، فيرد حسناته ويعذبه بسيئاته، وقال محمد بن كعب القرظي فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره من كافر يرى ثوابه في الدّنيا في نفسه وولده وأهله وماله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله خير ومن يعلم مثقال ذرة شراً يره من مؤمن يرى عقوبته في الدّنيا في نفسه، وماله، وولده وأهله حتى يخرج من الدّنيا وليس له عند الله شر قيل نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزلت ‏{‏ويطعمون الطعام على حبه‏}‏ وكان أحدهما يأتيه السائل، فيستقل أن يطعمه التّمرة والكسرة، والجوزة ونحو ذلك ويقول هذا ليس بشيء يؤجر عليه إنما يؤجر على ما يعطي ونحن نحبه، وكان الآخر يتهاون بالذّنب الصّغير مثل الكذبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول إنما وعد الله النار على الكبائر وليس في هذا، إثم فأنزل الله هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه فإنه يوشك أن يكثر ويحذرهم من اليسير من الذّنب، فإنه يوشك أن يكبر والإثم الصغير في عين صاحبه يصير مثل الجبل العظيم يوم القيامة قال ابن مسعود‏:‏ أحكم آية في القرآن ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية الجامعة الفاذة حين سأل عن زكاة الحمير، فقال «ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة»، ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ وتصدق عمر بن الخطاب وعائشة كل واحد منهما بحبة عنب، وقالا فيها مثاقيل كثيرة، قلت إنما كان غرضهما تعليم الغير وإلا فهما من كرماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقال الربيع بن خيثم‏:‏ مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السّورة فلما بلغ آخرها قال حسبي الله قد انتهت الموعظة، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏والعاديات ضبحاً‏}‏ فيه قولان أحدهما، أنها الإبل في الحج قال عليّ كرم الله وجهه‏:‏ هي الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى، وعنه قال كانت أول غزاة في الإسلام بدراً، وما كان معنا إلا فرسان فرس للزّبير، وفرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات‏؟‏ فعلى هذا القول يكون معنى ضبحها مد أعناقها في السير وأصله من حركة النار في العود‏.‏ ‏{‏فالموريات قدحاً‏}‏ يعني أن أخفاف الإبل ترمي بالحجارة من شدة عدوها فيضرب الحجر حجراً آخر فيوري النّار، وقيل هي النيران بجمع ‏{‏فالمغيرات صبحاً‏}‏ يعني الإبل تدفع بركبانها يوم النّحر من جمع إلى منى والسنة أن لا يدفع حتى يصبح والإغارة سرعة السير، ومنه قولهم أشرق ثبير كيما نغير ‏{‏فأثرن به نقعاً‏}‏ أي هيجن بمكان سيرها غباراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فوسطن به جمعاً‏}‏ أي وسطن بالنقع جمعاً وهو مزدلفة، فوجه القسم على هذا أن الله تعالى أقسم بالإبل لما فيها من المنافع الكثيرة، وتعريضه بإبل الحج للتّرغيب وفيه تقريع لمن لم يحج بعد القدرة عليه، فإن الكنود هو الكفور، ومن لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك القول الثاني في تفسير والعاديات، قال ابن عباس وجماعة هي الخيل العادية في سبيل الله والضبح صوت أجوافها إذا غدت قال ابن عباس‏:‏ وليس شيء من الحيوانات يضبح سوى الفرس، والكلب، والثعلب، وإنما تضبح هذه الحيوانات إذا تغير حالها من فزع أو تعب، وهو من قول العرب ضبحته النّار إذا غيرت لونه، ‏{‏فالموريات قدحاً‏}‏ يعني أنها توري النّار بحوافرها إذا سارت في الحجارة، وقيل هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها وقال ابن عباس‏:‏ هي الخيل تغزو في سبيل الله ثم تأوي باللّيل فيوري أصحابها ناراً، ويصنعون طعامهم، وقيل هو مكر الرّجال في الحرب، والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه أما والله لأقدحن لك ثم لأورين لك، ‏{‏فالمغيرات صبحاً‏}‏ يعني الخيل تغير بفرسانها على العدو عند الصّباح لأن النّاس في غفلة في ذلك الوقت عن الاستعداد، ‏{‏فأثرن به‏}‏ أي بالمكان ‏{‏نقعاً‏}‏ أي غباراً ‏{‏فوسطن به جمعاً‏}‏ أي دخلن به أي بذلك النّقع وهو الغبار، وقيل صرن بعدوهن وسط جمع العدو، وهم الكتيبة وهذا القول في تفسير هذه الآيات أولى بالصّحة، وأشبه بالمعنى، لأن الضبح من صفة الخيل، وكذا إيراء النار بحوافرها، وإثارة الغبار أيضاً، وإنما أقسم الله بخيل الغزاة لما فيها من المنافع الدينية، والدنيوية، والأجر، والغنيمة، وتنبيهاً على فضلها، وفضل رباطها في سبيل الله عزّ وجلّ، ولما ذكر الله تعالى المقسم به ذكر المقسم عليه‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏ أي لكفور وهو جواب القسم قال ابن عباس‏:‏ الكنود الكفور الجحود لنعمة الله تعالى، وقيل الكنود هو العاصي، وقيل هو الذي يعد المصائب، وينسى النّعم، وقيل هو قليل الخير مأخوذ من الأرض الكنود، وهي التي لا تنبت شيئاً، وقال الفضيل بن عياض الكنود‏:‏ الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، وضده الشّكور الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة ‏{‏وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ وإن الله على كونه كنود الشّاهد، وقيل الهاء راجعة إلى الإنسان، والمعنى أنه شاهد على نفسه بما صنع ‏{‏وإنه‏}‏ يعني الإنسان ‏{‏لحب الخير‏}‏ أي المال ‏{‏لشديد‏}‏ أي لبخيل والمعنى أنه من أجل حب المال لبخيل، وقيل معناه وإنه لحب المال وإيثار الدّنيا لقوي شديد ‏{‏أفلا يعلم‏}‏ يعني هذا الإنسان ‏{‏إذا بعثر‏}‏ أي أثير وأخرج ‏{‏ما في القبور‏}‏ يعني من الموتى ‏{‏وحصل ما في الصدور‏}‏ أي ميز وأبرز ما فيها من الخير والشر ‏{‏إن ربهم بهم‏}‏ أي جمع الكناية لأن الإنسان اسم جنس ‏{‏يومئذ لخبير‏}‏ أي عالم والله تعالى خبير بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى أنه يجازيهم في ذلك اليوم على كفرهم وإنما خص أعمال القلوب بالذّكر في قوله، ‏{‏وحصل ما في الصّدور‏}‏ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات التي في القلوب لما حصلت أعمال الجوارح والله أعلم‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏القارعة‏}‏ أصل القرع الصّوت الشّديد، ومنه قوارع الدّهر أي شدائده، والقارعة من أسماء القيامة‏.‏ سميت بذلك لأنها تقرع القلوب بالفزع، والشدائد وقيل سميت قارعة بصوت إسرافيل لأنه إذا نفخ في الصور مات جميع الخلائق من شدة صوت نفخته، ‏{‏ما القارعة‏}‏ تهويل وتعظيم، والمعنى أنها فاقت القوارع في الهول والشّدة ‏{‏وما أدراك ما القارعة‏}‏ معناه لا علم لك بكنهها لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها فهم أحد وكيفما قدرت أمرها فهي أعظم من ذلك ‏{‏يوم يكون الناس كالفراش المبثوث‏}‏ الفراش هذه الطير التي تراها تتهافت في النار سميت بذلك لفرشها، وانتشارها، وإنما شبه الخلق عند البعث بالفراش، لأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة‏.‏ بل كل واحدة تذهب إلى غير جهة الأخرى، فدل بهذا التشبيه على أن الخلق في البعث يتفرقون، فيذهب كل واحد إلى غير جهة الآخر، والمبثوث المتفرق، وشبههم أيضاً بالجراد فقال‏:‏ كأنهم جراد منتشر وإنما شبههم بالجراد لكثرتهم قال الفراء‏:‏ كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضاً فشبه الناس عند البعث بالجراد لكثرتهم بموج بعضهم في بعض، ويركب بعضهم بعضاً من شدة الهول‏.‏ ‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوش‏}‏ أي كالصّوف المندوف، وذلك لأنها تتفرق أجزاؤها في ذلك اليوم حتى تصير كالصّوف المتطاير عند الندف، وإنما ضم بين حال الناس وحال الجبال، كأنه تعالى نبه على تأثير تلك القارعة في الجبال العظيمة الصّلدة الصّلبة حتى تصير كالعهن المنفوش، فكيف حال الإنسان الضّعيف عند سماع صوت القارعة ثم لما ذكر حال القيامة قسم الخلق على قسمين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما من ثقلت موازينه‏}‏ يعني رجحت موازين حسناته قيل هو جمع موزون، وهو العمل الذي له قدر وخطر عند الله تعالى، وقيل هو جمع ميزان وهو الذي له لسان وكفتان توزن فيه الأعمال فيؤتى بحسنات المؤمن في أحسن صورة فتوضع في كفة الميزان، فإن رجحت فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فتخف ميزانه، فيدخل النار، وقيل إنما توزن أعمال المؤمنين فمن ثقلت حسناته على سيئاته دخل الجنة، ومن ثقلت سيئاته على حسناته دخل النار، فيقتص منه على قدرها ثم يخرج منها، فيدخل الجنة أو يعفو الله عنه بكرمه، فيدخل الجنة بفضل الله وكرمه، ورحمته، وأما الكافرون فقد قال‏:‏ في حقهم ‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً‏}‏ روى عن أبي بكر الصّديق أنه قال‏:‏ إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الحق في دار الدّنيا، وثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غداً أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدّنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غداً أن يكون خفيفاً‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ أي شغلتكم المفاخرة، والمباهاة، والمكاثرة بكثرة المال، والعدد، والمناقب عن طاعة الله ربكم، وما ينجيكم من سخطه، ومعلوم أن من اشتغل بشيء أعرض عن غيره، فينبغي للمؤمن العاقل أن يكون سعيه وشغله في تقديم الأهم وهو ما يقربه من ربه عزّ وجلّ‏.‏ فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان، والأقرباء تفاخر بأخس المراتب، والاشتغال به يمنع الإنسان من الاشتغال بتحصيل السّعادة الأخروية التي هي سعادة الأبد، ويدل على أن المكاثرة، والمفاخرة بالمال مذمومة، ما روي عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال‏:‏ انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ «فقال» يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت أو أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت «أخرجه التّرمذي وقال حديث حسن صحيح ‏(‏خ‏)‏ عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد يتبعه ماله وأهله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله «‏{‏حتى زرتم المقابر‏}‏ أي حتى متم ودفنتم في المقابر يقال لمن مات زار قبره وزار رمسه، فيكون معنى الآية ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك قيل نزلت هذه الآية في اليهود، قالوا نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، وقيل نزلت في حيين من قريش، وهما بنو عبد مناف، وبنو سهم بن عمرو، وكان بينهم تفاخر فتعادوا القادة، والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف نحن أكثر سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، وأكثر عدداً، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكاثرهم بنو بعد مناف، ثم قالوا نعد موتانا فعدوا الموتى حتى زار والقبور، فعدوهم فقالوا هذا قبر فلان وهذا قبر فلان فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول أشبه بظاهر القرآن لأن قوله ‏{‏حتى زرتم المقابر‏}‏ يدل على أمر مضى، فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم ويقول مجيباً هب إنكم أكثر عدداً، فماذا ينفع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 8‏]‏

‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏كلا‏}‏ أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء بالتكاثر والتّفاخر، وقيل المعنى حقاً ‏{‏سوف تعلمون‏}‏ وعيد لهم ‏{‏ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ كرره توكيداً والمعنى سوف تعلمون عاقبة تكاثركم وتفاخركم إذا نزل بكم الموت، فهو وعيد بعد وعيد، وقيل معناه كلا سوف تعلمون يعني الكافرين ثم كلا سوف تعلمون يعني المؤمنين وصاحب هذا القول يقرأ الأولى بالياء والثانية بالتاء‏.‏ ‏{‏كلا لو تعلمون علم اليقين‏}‏ أي علماً يقيناً وجواب لو محذوف والمعنى لو تعلمون علماً يقيناً لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتّفاخر، قال قتادة كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ اللام تدل على أنه جواب قسم محذوف والقسم لتوكيد الوعيد، وإن ما أوعدوا به لا يدخله شك ولا ريب، والمعنى أنكم ترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت ‏{‏ثم لترونها‏}‏ يعني مشاهدة ‏{‏عين اليقين‏}‏ وإنما كرر الرّؤية لتأكيد الوعيد ‏{‏ثم لتسألن يومئذ عن النّعيم‏}‏ يعني أن كفار مكة كانوا في الدّنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه لأنهم لم يشكروا رب النّعيم حيث عبدوا غيره ثم يعذبون على ترك الشكر، وذلك لأن الكفار لما ألهاهم التكاثر بالدّنيا، والتّفاخر بلذاتها عن طاعة الله والاشتغال بشكره سألهم عن ذلك، وقيل إن هذا السّؤال يعم الكافر، والمؤمن، وهو الأولى لكن سؤال الكافر توبيخ، وتقريع لأنه ترك شكر ما أنعم الله به عليه، والمؤمن يسأل سؤال تشريف وتكريم لأنه شكر ما أنعم الله به عليه، وأطاع ربه فيكون السّؤال في حقه تذكرة بنعم الله عليه‏.‏ يدل على ذلك ما روي «عن الزّبير قال لما نزلت ‏{‏ثم لتسألن يومئذ عن النعيم‏}‏ قال الزبير‏:‏ يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التّمر والماء قال أما أنه سيكون» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن واختلفوا في النعيم الذي يسأل البعد عنه، فروي عن ابن مسعود رفعه قال لتسألن يومئذ عن النّعيم قال الأمن، والصحة عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له ألم نصح لك جسمك ونروك من الماء البارد» أخرجه التّرمذي وقال حديث غريب ‏(‏م‏)‏ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة، قالا الجوع يا رسول الله قال وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقوموا فقاموا معه فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته فلما رأته المرأة قالت مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أين فلان قالت ذهب يستعذب لنا الماء إذا جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال‏:‏ الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب فقال‏:‏ كلوا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب، فذبح لهم شاة فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النّعيم»

سورة العصر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏والعصر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هو الدّهر قيل أقسم الله به لما فيها من العبر، والعجائب للنّاظر وقد ورد في الحديث «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» وذلك لأنهم كانوا يضيفون النّوائب والنّوازل إلى الدهر، فأقسم به تنبيهاً على شرفه وأن الله هو المؤثر فيه فما حصل فيه من النّوائب والنّوازل كان بقضاء الله وقدره، وقيل تقديره ورب العصر، وقيل أراد بالعصر اللّيل والنّهار لأنهما يقال لهما العصران، فنبه على شرف الليل والنهار لأنهما خزانتان لأعمال العباد، وقيل أراد بالعصر آخر طرفي النهار أقسم بالعشى كما أقسم بالضّحى، وقيل أراد صلاة العصر أقسم بها لشرفها ولأنها الصّلاة الوسطى في قول بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ لما قيل هي صلاة العصر والذي في مصحف عائشة رضي الله عنها وحفصة والصّلاة الوسطى صلاة العصر وفي الصحيحين «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» وقال صلى الله عليه وسلم «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله»، وقيل أراد بالعصر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسم بزمانه كما أقسم بمكانه في قوله ‏{‏لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد‏}‏ نبه بذلك على أنه زمانه أفضل الأزمان وأشرفها، وجواب القسم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لفي خسر‏}‏ أي لفي خسران ونقصان قيل أراد بالإنسان جنس الإنسان بدليل قولهم كثر الدرهم في أيدي الناس أي الدرهم وذلك لأن الإنسان لا ينفك عن خسران، لأن الخسران هو تضييع عمره وذلك لأن كل ساعة تمر من عمر الإنسان إما أن تكون تلك السّاعة في طاعة أو معصية، فإن كانت في معصية فهو الخسران المبين الظاهر وإن كانت في طاعة، فلعل غيرها أفضل وهو قادر على الإتيان بها فكان فعل غير الأفضل تضييعاً وخسراناً، فبان بذلك أنه لا ينفك أحد من خسران، وقيل إن سعادة الإنسان في طلب الآخرة وحبها والإعراض عن الدّنيا ثم إن الأسباب الداعية إلى حب الآخرة خفية، والأسباب الدّاعية إلى حب الدّنيا ظاهرة، فلهذا السبب كان أكثر الناس مشتغلين بحب الدّنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في خسار وبوار قد أهلكوا أنفسهم بتضييع أعمارهم، وقيل أراد بالإنسان الكافر بدليل أنه استثنى المؤمنين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات‏}‏ يعني فإنهم ليسوا في خسر، والمعنى أن كل ما مر من عمر الإنسان في طاعة الله تعالى فهو في صلاح وخير وما كان بضده فهو في خسر وفساد وهلاك‏.‏ ‏{‏وتواصوا‏}‏ أي أوصى بعض المؤمنين بعضاً ‏{‏بالحق‏}‏ يعني بالقرآن والعمل بما فيه، وقيل بالإيمان والتّوحيد ‏{‏وتواصوا بالصبر‏}‏ أي على أداء الفرائض وإقامة أمر الله وحدوده، وقيل أراد أن الإنسان إذا عمر في الدّنيا وهرم لفي نقص وتراجع إلا الذين آمنوا، وعملوا الصّالحات فإنهم تكتب أجورهم ومحاسن أعمالهم التي كانوا يعملونها في شبابهم وصحتهم وهي مثل قوله ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجر غير ممنون‏}‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الهمزة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ويل‏}‏ أي قبح، وقيل اسم واد في جهنم ‏{‏لكل همزة لمزة‏}‏ قال ابن عباس هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب وقيل معناهما واحد وهو العياب المغتاب للناس في بعضهم قال الشاعر‏:‏

إذا لقيتك من كره تكاشرني *** وإن تغيبت كنت الهامز اللمزا

وقيل بل يختلف معناهما فقيل الهمزة الذي يعيبك في الغيب، واللّمزة الذي يعيبك في الوجه، وقيل هو على ضده، وقيل الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم، واللّمزة الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم، وقيل هو الذي يهمز بلسانه ويلمز بعينه، وقيل الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الذي يرمق بعينه ويشير برأسه ويرمز بحاجبه، وقيل الهمزة المغتاب للناس واللمزة الطعان في أنسابهم وحاصل هذه الأقاويل يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب وأصل الهمز الكسر والقبض على الشيء بالعنف، والمراد منه هنا الكسر من أعراض الناس والغض منهم، والطعن فيهم، ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم، وأفعالهم، وأصواتهم ليضحكوا منه، وهما نعتان للفاعل على نحو سخره وضحكة للذي يسخر ويضحك من الناس، واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، فقيل نزلت في الأخنس بن شريق بن وهب‏.‏ كان يقع في الناس ويغتابهم وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن عليه في وجهه، وقيل نزلت في العاص بن وائل السّهمي، وقيل هي عامة في كل شخص هذه صفته كائناً من كان، وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ والحكم، ومن قال إنها في أناس معينين قال أن يكون اللّفظ عاماً لا ينافي أن يكون المراد منه شخصاً معيناً وهو تخصيص العام بقرينة العرف والأولى أن تحمل على العموم في كل من هذه صفته

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 9‏]‏

‏{‏الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ثم وصفه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذي جمع مالاً‏}‏ وإنما وصفه بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز يعني وهو بإعجابه بما جمع من المال يستصغر الناس ويسخر منهم، وإنما نكر مالاً لأنه بالنسبة إلى مال هو أكثر منه كالشّيء الحقير وإن كان عظيماً عند صاحبه فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر بالشيء الحقير ‏{‏وعدده‏}‏ أي أحصاه من العدد، وقيل هو من العدة أي استعده وجعله ذخيرة وغنى له ‏{‏يحسب أن ماله أخلده‏}‏ أي يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت ليساره وغناه قال الحسن ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ومعناه أن الناس لا يشكون في الموت مع أنهم يعملون عمل من يظن أنه يخلد في الدّنيا ولا يموت ‏{‏كلا‏}‏ رد عليه أي لا يخلده ماله بل يخلده ذكر العلم، والعمل الصّالح ومنه قول علي‏:‏ مات خزان المال، وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، وقيل معناه حقاً ‏{‏لينبذن‏}‏ واللام في لينبذن جواب القسم فدل ذلك على حصول معنى القسم، ومعنى لينبذن ليطرحن ‏{‏في الحطمة‏}‏ أي في النار، وهو اسم من أسمائها مثل سقر ولظى، وقيل هو اسم للدركة الثانية منها وسميت حطمة لأنها تحطم العظام وتكسرها، والمعنى يا أيّها الهمزة اللمزة الذي يأكل لحوم الناس، ويكسر من أعراضهم إن وراءك الحطمة التي تأكل اللحوم وتكسر العظام ‏{‏وما أدراك ما الحطمة‏}‏ أي نار لا كسائرالنيران ‏{‏نار الله‏}‏ إنما أضافها إليه على سبيل التفخيم والتعظيم لها ‏{‏الموقدة‏}‏ أي لا تخمد أبداً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوقد على النّار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» أخرجه التّرمذي قال ويروى عن أبي هريرة موقوفاً وهو أصح ‏{‏التي تطلع على الأفئدة‏}‏ أي يبلغ ألمها ووجعها إلى القلوب، والمعنى أنها تأكل كل شيء حتى تنتهي إلى الفؤاد، وإنما خص الفؤاد بالذكر لأنه ألطف شيء في بدن الإنسان، وأنه يتألم بأدنى شيء، فكيف إذا اطلعت عليه واستولت عليه، ثم إنه مع لطافته لا يحترق إذ لو احترق لمات صاحبه، وليس في النار موت، وقيل إنما خصه بالذكر لأن القلب موطن الكفر، والعقائد، والنيات الفاسدة‏.‏ ‏{‏إنها عليهم مؤصدة‏}‏ أي مطبقة مغلقة ‏{‏في عمد ممدة‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب، وقال قتادة‏:‏ بلغنا أنهم عمد يعذبون بها في النّار، وقيل هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار، والمعنى أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممدودة، وقيل أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا ينفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح، وممددة صفة العمد، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة نعوذ بالله من النار، وحرها والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الفيل

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏ كانت قصة أصحاب الفيل على ما ذكره محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس، وذكره الواقدي أن النجاشي ملك الحبشة كان بعث أرياط إلى اليمن، فغلب عليها فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة بن الصّباح بن يكسوم، فساخط أرياط في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين، فكان طائفة مع أرياط، وطائفة مع أبرهة، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط، واجتمعت الحبشة لأبرهة، وغلب على اليمن، وأقره النّجاشي على عمله، ثم إن أبرهة رأى النّاس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله عزّ وجلّ، فبنى كنيسة بصنعاء، وكتب إلى النّجاشي إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب فسمع بذلك مالك بن كنانة فخرج لها ليلاً، فدخل وتغوط فيها ولطّخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال‏:‏ من اجترأ عليّ، فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً، وجسماً، وقوة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معهم الفيل، فسمعت العرب بذلك، فعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتلوه فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر فقال يا أيها الملك استبقني فإن بقائي خير لك من قتلي فاستحياه وأوثقه وكان أبرهة رجلاً حليماً، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم، خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن، فقاتلوه فهزمهم، وأخذ نفيلاً فقال نفيل أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطّاعة، فاستبقاه وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال‏:‏ أيّها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة رجلاً من الحبشة يقال له الأسود بن مسعود على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل بحناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له‏:‏ سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال له إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال، إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب‏:‏ ما له عندنا قتال ولا لنا به يد إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه الصّلاة والسّلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوة قال فانطلق معي إلى الملك، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم على العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب، فأتاه فقال‏:‏ يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا‏؟‏ قال فما غناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك، ومنزلتك عنده قال فأرسل إلى أنيس، فأتاه فقال، له إن هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة يطعم النّاس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده، فانفعه فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أنيس على أبرهة فقال‏:‏ أيها الملك هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السّهل، والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له، فيكلمك فقد جاء غير ناصب، ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً، وسيماً فلما رآه أبرهة عظمه، وأكرمه، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه، فأجلسه معه ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك إلى الملك فقال الترجمان‏:‏ ذلك له فقال له عبد المطلب حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي، فقال أبرهة لترجمانه قل له كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك قال لم قال جئت إلى بيت هو دينك، ودين آبائك، وهو شرفكم، وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك، قال عبد المطلب‏:‏ أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال ما كان ليمنعه مني قال فأنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشاً الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشّعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرة الحبش، ففعلوا وأتى عبد المطلب الكعبة، وأخذ حلقة الباب وجعل يقول‏:‏

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** يا رب فامنع منهم حماكا

إن عدو البيت من عاداكا *** امنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضاً‏:‏

لا هم إن العبد يم *** نع رحله فامنع رحالك

وانصر على آل الصلي *** ب وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً محالك

جروا جموع بلادهم *** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك عبد المطلب الحلقة، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، وأصبح أبرهة بالمغمس، وقد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه، وهيأ فيله، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة، ويقال كان معه اثنا عشر فيلاً، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم، ثم أخذ بإذنه، وقال له أبرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك ببلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه، ومرافقه، ففزعوه ليقوم فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام، ففعل مثل ذلك، ووجوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم، فبرك وأبى أن يقوم، وخرج نفيل يشتد حتى صعد الجبل، وأرسل الله عزّ وجلّ طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمص، والعدس، فلما غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك، وليس كل قوم أصابت وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ويتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن، ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وفي ذلك يقول نفيل‏:‏

فإنك ما رأيت ولن تراه *** لدى حين المحصب ما رأينا

حمدت الله إذ أبصرت طيراً *** وحصب حجارة تلقى علينا

وكلهم يسائل عن نفيل *** كأن عليَّ للحبشان دينا

وخرج القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق، ويهلكون في كل منهل، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فجعل تتساقط أنامله كلما سقطت أنملة تبعتها مدة من قيح، ودم، فانتهى إلى صنعاء، وهو مثل فرخ الطّير، فيمن بقي من أصحابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، ثم هلك قال الواقدي‏:‏ وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم، والفيل الآخر شجعوا، فحصبوا أي رموا بالحصباء، وقال بعضهم أنفلت أبو يكسوم وزير أبرهة، وتبعه طير، فحلّق فوق رأسه حتى بلغ النّجاشي فقص عليه القصة، فلما أنهاها وقع عليه حجر من ذلك الطير، فخر ميتاً بين يدي النجاشي قال أمية بن أبي الصلت‏:‏

إن آيات ربنا ساطعات *** ما يماري فيهن إلا الكفور

حبس الفيل بالمغمس حتى *** ظل يعوي كأنه معقور

وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة يستطعمان الناس، وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل، أن فئة من قريش أججوا ناراً حين خرجوا تجاراً إلى أرض النّجاشي، فدنوا من ساحل البحر، وثم بيعة للنَّصارى تسميها قريش الهيكل، فنزلوا فأججوا النّار واشتووا، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف، فهاجت الريح، فاضطرم الهيكل ناراً فانطلق الصّريخ إلى النّجاشي فأسف غضباً للبيعة، فبعث أبرهة لهدم الكعبة، وكان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتو بمكة، وكان رجلاً نبيهاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه، وكان خليلاً لعبد المطلب فقال له عبد المطلب‏:‏ ماذا عندك فهذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك‏؟‏ فقال أبو مسعود اصعد بنا إلى حراء، فصعد الجبل فقال أبو مسعود لعبد المطلب اعمد إليّ مائة من الإبل، فاجعلها لله وقلدها نعلاً، واجعلها لله ثم أبثثها في الحرم، فلعل بعض السودان يعقر منها شيئاً، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل، فحملوا عليها، وعقروا بعضها وجعل عبد المطلب يدعو فقال أبو مسعود إن لهذا البيت رباً يمنعه فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت، وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه، وأظلم عليه ثلاثة أيام، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض، وعظمه ونحر له جزوراً، فانظر نحو البحر، فنظر عبد المطلب فقال‏:‏ أرى طيراً بيضاء نشأت من شاطئ البحر فقال ارمقها ببصرك أين قرارها قال أراها قد دارت على رؤوسنا، قال‏:‏ هل تعرفها‏؟‏ قال والله ما أعرفها ما هي بنجدية، ولا بتهامية، ولا عربية، ولا شامية، قال‏:‏ ما قدرها‏؟‏ قال‏:‏ أشباه اليعاسيب في مناقيرها حصى، كأنها حصى الخذف قد أقبلت كالليل يتبع بعضها بعضاً أمام كل رفقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، فجاءت حتى إذا حاذت عسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم، فلما توافت الرجال كلهم أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها مكتوب على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها رجعت من حيث جاءت فلما أصبحا انحطا من ذورة الجبل، فمشيا حتى صعدا ربوة، فلم يؤنسا أحداً ثم دنوا فلم يسمعا حساً فقال بات القوم سامرين، فأصبحوا نياماً فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه، وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه، فعمد عبد المطلب، فأخذ فأساً من فؤوسهم، فحفر حتى أعمق في الأرض، فملأه من الذهب الأحمر، والجواهر، وحفر لصاحبه مثله فملاه ثم قال لأبي مسعود اختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك معاً فقال أبو مسعود فاختر لي على نفسك، فقال عبد المطلب إني أرى أجود المتاع في حفرتي فهي لك وجلس كل واحد منهما على حفرته ونادى عبد المطلب في الناس فتراجعوا، وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً، وأعطته القادة فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنى من ذلك المال، ودفع الله عزّ وجلّ عن كعبته، واختلفوا في تاريخ عام الفيل، فقيل كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة وقيل بثلاث وعشرين سنة، والأصح الذي عليه الأكثرون من علماء السير، والتواريخ، وأهل التفسير أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون ولد عام الفيل، وجعلوه تاريخاً لمولده صلى الله عليه وسلم وأما التّفسير فقوله عزّ وجلّ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي ألم تعلم، وذلك لأن هذه الواقعة ك انت قبل مبعثه بزمان طويل إلا أن العلم بها كان حاصلاً عنده لأن الخبر بها كان مستفيضاً معروفاً بمكة وإذا كان كذلك فكأنه صلى الله عليه وسلم علمه وشاهده يقيناً، فلهذا قال تعالى ‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏، قيل كان معهم فيل واحد، وقيل كانوا فيلة ثمانية، وقيل اثني عشر وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود، وقيل وإنما وحده لو فاق الآي، وفي قصة أصحاب الفيل دلالة عظيمة على قدرة الله تعالى وعلمه، وحكمته إذ يستحيل في العقل أن طيراً تأتي من قبل البحر تحمل حجارة ترمي بها ناساً مخصوصين، وفيها دلالة عظيمة على شرف محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزة ظاهرة له وذلك أن الله تعالى إنما فعل ذلك لنصر من ارتضاه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الدّاعي إلى توحيده، وإهلاك من سخط عليه، وليس ذلك لنصرة قريش، فإنهم كانوا كفاراً لا كتاب لهم، والحبشة لهم كتاب فلا يخفى على عاقل، أن المراد بذلك نصر محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى قال أنا الذي فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل تعظيماً لك، وتشريفاً لقدومك، وإذ قد نصرتك قبل قدومك فكيف أتركك قبل ظهورك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏ألم يجعل كيدهم‏}‏ يعني مكرهم، وسعيهم في تخريب الكعبة ‏{‏في تضليل‏}‏ أي تضييع وخسار، وإبطال ما أرادوا أضل كيدهم، فلم يصلوا إلى ما أرادوا من تخريب البيت، بل رجع كيدهم عليهم، فخربت كنيستهم، واحترقت، وهلكوا وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأرسل عليهم طيراً أبابيل‏}‏ يعني طيراً كثيرة متفرقة يتبع بعضها بعضاً، وقيل أبابيل أقاطيع كالإبل المؤبلة، وقيل أبابيل جماعات في تفرقة قيل لا واحد لها من لفظها، وقيل واحدها أبالة، وقيل أبيل، وقيل أبول مثل عجول قال ابن عباس‏:‏ كانت طيراً لها خراطيم، كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب، وقيل رؤوس كرؤوس السباع، وقيل لها أنياب كأنياب السباع، وقيل طير خضر لها مناقير صفر، وقيل طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه، وحجر في منقاره لا تصيب شيئاً إلا هشمته، ووجه الجمع بين هذه الأقاويل في اختلاف أجناس هذه الطير أنه كانت فيها هذه الصفات كلها فبعضها على ما حكاه ابن عباس، وبعضها على ما حكاه غيره، فأخبر كل واحد بما بلغه من صفاتها، والله أعلم‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏ترميهم بحجارة‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ صاحت الطّير، ورمتهم بالحجارة، وبعث الله ريحاً، فضربت بالحجارة، فزادتها شدة، فما وقع حجر منها على رجل إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره ‏{‏من سجيل‏}‏ قيل السّجيل اسم علم للدّيوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال، والمعنى ترميهم بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون بما كتب الله في ذلك الكتاب، وقيل معناه من طين مطبوخ كما يطبخ الأجر، وقيل سجيل حجر، وطين مختلط، وأصله سنك، وكل فارسي معرب، وقيل سجيل الشّديد‏.‏ ‏{‏فجعلهم كعصف مأكول‏}‏ يعني كزرع وتبن أكلته الدّواب، ثم راثته، فيبس، وتفرقت أجزاؤه شبه تقطع أوصالهم، وتفرقها بتفرق أجزاء الرّوث، وقيل العصف ورق الحنطة، وهو التبن، وقيل كالحب إذا أكل، فصار أجوف وقال ابن عباس‏:‏ هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف، والله تعالى أعلم‏.‏