فصل: تفسير الآيات رقم (11- 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏11‏)‏ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم‏}‏ أي يبين الله لكم ميراث أولادكم كما بيّن قسمة المواريث، يعني‏:‏ إذا مات الرجل أو المرأة وترك أولاداً ذكوراً وإناثاً، يكون ‏{‏لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الانثيين‏}‏ يعني لكل ابن سهمان، ولكل بنت سهم‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن عطاء قال‏:‏ كان ابن عباس يقول‏:‏ كان الميراث للولد، وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وجعل للوالدين لكل واحد منهما السدس، وللمرأة الثمن أو الربع، وللزوج النصف أو الربع‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين‏}‏ يعني إذا ترك الميت بناتاً ولم يترك أبناء، فللبنات إن كن اثنتين فصاعداً ‏{‏فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ‏}‏ من الميراث، ولم يذكر في الآية حكم البنتين، ولكن أجمع المسلمون ما خلا رواية عن ابن عباس أنه قال‏:‏ للاثنتين النصف، كما كان للواحدة وللثلاث بنات الثلثان وأما سائر الصحابة فقد قالوا‏:‏ إن للاثنتين الثلثين، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ روى جابر بن عبد الله قال‏:‏ جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاتان ابنتا سعد وقد قتل أبوهما معك يوم أحد شهيداً، وإن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالاً، ولا تنكحان إلا ولهما مال‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَيَقْضِي الله ذلك» فأنزل الله تعالى آية الميراث، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمهما وقال‏:‏ ‏"‏ أَعْطِ لابْنَتَيْ سَعْدٍ الثّلثَيْنِ وَأَعْطِ أمَّهُمَا الثُّمُنَ وَالبَاقِي لَكَ ‏"‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف‏}‏ يعني‏:‏ إن ترك الميت بنتاً واحدة فلها النصف من الميراث، والباقي للعصبة بالخبر‏.‏ قرأ نافع‏:‏ ‏(‏وإن كانت واحدة‏)‏ بالرفع على اسم كانت وقرأ الباقون بالنصب على معنى الخبر؛ ويكون الاسم فيه مضمراً‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاِبَوَيْهِ لِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس مِمَّا تَرَكَ‏}‏ الميت من المال ‏{‏وَإِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ ذكر أو أنثى أو ولد الابن ‏{‏فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ‏}‏ للميت ‏{‏وَلَدَ‏}‏ ولا ولد ابن ‏{‏وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يكن للميت وارث سوى الأبوين ‏{‏فَلاِمّهِ الثلث‏}‏ يعني للأم ثلث المال والباقي للأب‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏(‏فلإمه‏)‏ بكسر الألف لكسر ما قبله، وقرأ الباقون بالضم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ *** لَهُ إِخْوَةٌ فَلاِمِهِ السدس‏}‏ يعني‏:‏ إذا كان للميت إخوة، وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اسم الإخوة يقع على الاثنين فصاعداً، إلا في قول ابن عباس ثلاثة فصاعداً، واتفقوا أن الذكور والإناث فيه سواء، فيكون للأم السدس والباقي للأب ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أن قسمة المواريث من بعد وصية ‏{‏يُوصِى بِهَا‏}‏ الميت ‏{‏أَوْ دَيْنٍ‏}‏ يعني بعد قضاء الدين وإنفاذ الوصية‏.‏

وروى الحارث عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين قبل الوصية، وأنتم تقرؤون ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ يعني أن في الآية تقديماً وتأخيراً، وروي عن ابن عباس هكذا‏.‏ قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم ‏(‏يوصى بها‏)‏ على فعل ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يُوصِى بِهَا‏}‏ يعني الميت إن كان يوصي بها أو عليه دين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً‏}‏ يعني في الآخرة، إذا كان أحدهما أرفع درجة من الآخر يسأل الله تعالى حتى يرفع إليه الآخر لتقر عينه به فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً‏}‏ يعني أيهم أرفع درجة، فيلتحق به صاحبه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أن الله علمكم قسمة المواريث، وأنكم لا تدرون ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً‏}‏ حتى تعطوه حصته، ويقال ‏{‏لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ موتاً فيرث منه الآخر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيضَةً مّنَ الله‏}‏ يعني بيان قسمة المواريث من الله تعالى، ويقال‏:‏ القسمة فريضة من الله تعالى، لا يجوز تغييرها عما أمر الله به‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بالمواريث ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حكم قسمتها وبيّنها لأهلها‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه وكان الله عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقرر بتدبيره منها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لأن الله تعالى لم يزل، ولا يزال فالخبر منه بالماضي كالخبر منه بالاستقبال‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ كأن القوم شاهدوا علماً وحكماً، فقيل لهم‏:‏ إن الله كان عليماً كذلك، لم يزل على ما شاهدتم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن *** نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم‏}‏ إذا ماتت المرأة فتركت زوجاً، فللزوج النصف ‏{‏إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ‏}‏ ذكراً أو أنثى أو ولد ابن ‏{‏فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ‏}‏ أو ولد ابن فللزوج الربع ‏{‏فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ‏}‏ مما تركت المرأة ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ‏}‏ يعني إذا مات الزوج وترك امرأة فللمرأة الربع ‏{‏إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ‏}‏ ولا ولد ابن ‏{‏فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ‏}‏ فإن كان للميت ولد وولد ابن ‏{‏فَلَهُنَّ الثمن‏}‏ سواء كان له امرأة واحدة أو أربع نسوة فلهن الربع بغير ولد، والثمن مع الولد أو مع ولد الابن، لأنه قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ الربع‏}‏ فجعل حصتهن الربع أو الثمن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مِمَّا تَرَكْتُم مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كلالة‏}‏ والكلالة ما خلا الوالد والولد، ويقال‏:‏ هو اسم الميت الذي ليس له ولد ولا والد‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هو مصدر من تكله النسب أي أحاط به، والأب والابن طرفا الرجل فيسمى لذهاب طرفيه كلالة‏.‏ وقرأ بعضهم‏:‏ ‏(‏يورث‏)‏ بكسر الراء‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ من قرأ ‏(‏يورث‏)‏ بكسر الراء جعل الكلالة الورثة، ومن قرأ بنصب الراء جعل الكلالة الميت‏.‏ وروى الشعبي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا‏:‏ الكلالة من لا ولد ولا والد‏.‏

وروي عنهما أيضاً أنهما قالا‏:‏ الكلالة ما سوى الولد والوالد‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَو امرأة‏}‏ يعني إن كانت الكلالة هي امرأة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس‏}‏ من الميراث ‏{‏فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث‏}‏ يعني‏:‏ الإخوة من الأم، وقد أجمع المسلمون أن المراد ها هنا الإخوة من الأم، لأنه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين، ففهموا أن المراد ها هنا الإخوة من الأم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏غَيْرَ مُضَارّ وَصِيَّةً مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ غير مضار للورثة، فيوصي بأكثر من الثلث ‏{‏وَصِيَّةً مّنَ الله‏}‏ يعني أن تلك القسمة فريضة من الله ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ يعني علم بأمر الميراث ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ على أهل الجهل منكم‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مَنْ قَطَعَ مِيْرَاثاً فَرَضَهُ الله قَطَعَ الله مَيرَاثَهُ مِنَ الجَنَّةِ» وقرأ بعض المتقدمين‏:‏ ‏(‏والله عليم حكيم‏)‏، يعني حكم بقسمة الميراث والوصية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ يعني هذه فرائض الله مما أمركم به من قسمة المواريث، ويقال‏:‏ تلك أحكام الله، وتلك بمعنى هذه، يعني هذه أحكام الله قد بيّنها لكم لتعرفوا وتعملوا‏.‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في قسمة المواريث فيقر بها، ويعمل بها كما أمره الله ‏{‏يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهر خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم‏}‏ أي ذلك الثواب هو الفوز العظيم إلى النجاة الوافرة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في قسمة المواريث، فلم يقسمها ولم يعمل بها ‏{‏وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ‏}‏ أي خالف أمره ‏{‏يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا‏}‏ لأنه إذا جحد صار كافراً ‏{‏وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يهان فيه‏.‏ قرأ نافع وابن عامر‏:‏ ‏(‏ندخله‏)‏ كلاهما بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه، وقرأ الباقون كلاهما بالياء لأنه سبق ذكر اسم الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 18‏]‏

‏{‏وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ‏(‏15‏)‏ وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏17‏)‏ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نّسَائِكُمْ‏}‏ يعني الزنى وهي المرأة الثيب إذا زنت ‏{‏فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ‏}‏ أي اطلبوا عليهن ‏{‏أَرْبَعَةِ‏}‏ من الشهود ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ أي من أحراركم المسلمين عدولاً ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ‏}‏ عليهن بالزنى ‏{‏فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت‏}‏ يعني‏:‏ احبسوهن في السجن ‏{‏حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت‏}‏ أي حتى يمتن في السجن ‏{‏أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً‏}‏ يعني مخرجاً من الحبس، ثم نسخ فصار حدهن الرجم لما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ بِالحِجَارَةِ» ثم ذكر في الآية حد البكر فقال‏:‏ ‏{‏واللذان‏}‏ لم يحصنا ‏{‏يأتيانها‏}‏ يعني الفاحشة ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ يعني من الأحرار المسلمين ‏{‏فَئَاذُوهُمَا‏}‏ باللسان، يعني بالتعيير بما فعلا ليندما على ما فعلا ‏{‏فَإِن تَابَا‏}‏ من بعد الزنى ‏{‏وَأَصْلَحَا‏}‏ العمل ‏{‏فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا‏}‏ أي فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً‏}‏ أي متجاوزاً ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بهما‏.‏ ثم نسخ الحبس والأذى بالرجم والجلد، وإنما كان التعيير في ذلك الزمان لأن التعيير حل محل الجلد، وأما اليوم فلا ينفعهم التعيير‏.‏ وروي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ واللاتي يأتين الفاحشة ‏(‏من نسائكم‏)‏ واللذان يأتيانها منكم كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بالآية التي في سورة النور‏.‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏(‏واللذان‏)‏ بتشديد النون، لأن الأصل ‏(‏اللذيان‏)‏‏.‏ فحذف الياء وأقيم التشديد مقامه، وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا التوبة عَلَى الله‏}‏ يعني قبول التوبة على الله ويقال‏:‏ توفيقه على الله، ويقال‏:‏ إنما التجاوز من الله ‏{‏لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء بجهالة‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كل مؤمن يذنب فهو جاهل في فعله، ويقال‏:‏ إنما الجهالة أنهم يختارون اللذة الفانية على اللذة الباقية، وذلك الجهل لا يسقط عنهم العذاب إلا أن يتوبوا‏.‏ قوله ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كل من تاب قبل موته فهو قريب ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ أي يقبل توبتهم ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ يعني عليماً بأهل التوبة حكيماً حكم بالتوبة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت الآية في رجل من قريش، سكر وذكر شعراً ذكر فيه اللات والعزى وأنكر البعث، فلما أصبح أخبر بذلك فندم على ذلك واسترجع، فنزلت الآية ‏{‏ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ‏}‏ يعني قبل الموت‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل، قال‏:‏ حدّثنا محمد بن جعفر، قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف، قال‏:‏ حدّثنا أبو حفص، عن صالح المري، عن الحسن قال‏:‏ من عيّر أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله به‏.‏

وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إِنَّ الله يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ مَا لَمْ يغَرْغِرْ» وقال الحسن‏:‏ إن إبليس لما أهبط من الجنة، قال‏:‏ بعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام الروح في جسده‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ فبعزتي فبعزتي لا أحجب التوبة عن ابن آدم ما لم يغرغر بنفسه‏.‏ قال أبو العالية الرياحي‏:‏ نزلت أول الآية في المؤمنين، والوسطى في المنافقين، والأخرى في الكافرين‏.‏ فأما توبة المؤمنين فذكرها قد مضى‏.‏ وأما ذكر توبة المنافقين فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات‏}‏ الآية‏.‏ يعني ليس قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم ‏{‏حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت‏}‏ أي الشرق والنزع وعاينه ملك الموت ‏{‏قَالَ إِنّى تُبْتُ الان‏}‏ فليس لهذا توبة‏.‏ ثم ذكر توبة الكفار ‏{‏وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ أي وجيعاً دائماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ‏(‏19‏)‏ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏20‏)‏ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا مات الرجل وله امرأة وله ولد من غيرها، أو له وارث غير الابن فألقى ثوبه عليها ورث نكاحها بالصداق الأول‏.‏ ويقول‏:‏ أنا ولي زوجك فورثتك‏.‏ فإن كانت جميلة أمسكها، وإن لم تكن جميلة طول عليها لتفتدي منه، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال في رواية الضحاك‏:‏ كان الرجل عنده عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة، فيكره فراق العجوز لمالها، فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت، فيرث مالها، فنزلت هذه الآية، وأمر الزوج بأن يطلقها إن كره صحبتها فلا يمسكها كرهاً‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً‏}‏ قرأ عاصم وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ونافع‏:‏ ‏(‏كَرهاً‏)‏ بنصب الكاف‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏(‏كُرها‏)‏ بالضم‏.‏ قال القتبي‏:‏ ‏(‏الكَره‏)‏ بالنصب بمعنى الإكراه، ‏(‏والكُره‏)‏ بالرفع المشقة، ويقال‏:‏ ليفعل ذلك طوعاً أو كرهاً، يعني طائعاً أو مكرهاً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ‏}‏ أي لا تمنعوهن من الأزواج ‏{‏لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ‏}‏ من المهر وغيره ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ‏}‏ وهي المعصية في النشوز على زوجها، فيحل له ما أخذ منها‏.‏ ويقال‏:‏ إلا أن تزني فيحل له أن يفتدي منها، يعني إذا كانت بطيبة نفسها‏.‏ قرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ‏(‏بفاحشة مبيَنة‏)‏ بنصب الياء، وقرأ الباقون ‏(‏مبِّيِنة‏)‏ بكسر الياء‏.‏ فمن قرأ بالكسر يعني الفعل الفاحشة يعني فاحشة ظاهرة تبين منها نفسها‏.‏ ومن قرأ بالنصب يكون بمعنى المفعول‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت هذه الآية في محصن بن أبي قيس، وامرأته هند بنت المغيرة وفي جماعة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت في حصن بن أبي قيس وامرأته كبشة بنت معن‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف‏}‏ أي صاحبوهن بالجميل ‏{‏فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ‏}‏ أي كرهتم صحبتهن ‏{‏فَعَسَى‏}‏ يقول فلعل ‏{‏أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا‏}‏ من صحبتكم إياهن ‏{‏وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً‏}‏ يعني في صحبتهم يرزق لكم ولداً صالحاً، وهذا كقوله عز وجل ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ويقال ‏{‏وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً‏}‏ لعله إن أمسكها فيعطفه الله عليها من بعد ذلك، وأما أن يخلي سبيلها فيزوجها الله زوجاً غيره، فيرزقها الله منه الولد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ‏}‏ يعني تغيير زوج ‏{‏مَّكَانَ زَوْجٍ‏}‏ يعني إذا أراد الرجل أن يطلق زوجته ولم يكن منها نشوز، وأراد أن يتزوج غيرها ‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال‏}‏ من الذهب في المهر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ القنطار سبعون ألف دينار‏.‏

وقال عطاء‏:‏ سبعة آلاف دينار‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ألف دينار أو اثني عشرة ألف درهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان يقال القنطار مائة رطل من الذهب، أو ثمانون ألفاً من ورق‏.‏ وروي عن عبد الوهاب بن عطاء عن الكلبي قال‏:‏ كل ما لم أسنده لكم فهو كله عن أبي صالح عن ابن عباس‏.‏ قال‏:‏ القنطار ألف مثقال مما كان من ذهب أو فضة‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً‏}‏ أي فلا تستحلوا أن تأخذوا مما أعطيتم شيئاً إذا لم يكن النشوز من قبلها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا‏}‏ يقول‏:‏ أتستحلون أخذه ظلماً ‏{‏وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ أي ذنباً ظاهراً‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ‏}‏ يقول‏:‏ كيف تستحلون أخذه، يعني أخذ مهورهن ‏{‏وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ يقول‏:‏ قد اجتمعا في لحاف واحد‏.‏ قال الفراء‏:‏ الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة إن لم يجامعها، أو جامعها وقد وجب المهر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، فقد وجب المهر‏.‏ وروى عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى قال‏:‏ قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق باباً وأرخى ستراً، فقد وجب المهر والعدة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الإفضاء الجماع‏.‏ وبهذا القول قال بعض الناس‏:‏ وأما علماؤنا رحمهم الله قالوا‏:‏ إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة، دخل بها أو لم يدخل بها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ يقول‏:‏ أوجبن عليكم عقداً وثيقاً بالنكاح‏.‏ وهو قوله تعالى ‏{‏الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏ فصار ذلك على الرجال ميثاقاً غليظاً من النساء ثم بيّن ما يحل للرجال من النساء وما لا يحل فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ‏(‏22‏)‏ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء‏}‏ يعني‏:‏ لا تتزوجوا من قد تزوج آباؤكم من النساء، ويقال‏:‏ اسم النكاح يقع على الجماع والتزوج، فإن كان الأب تزوج امرأة أو وطئها بغير نكاح، حرمت على ابنه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ يقول‏:‏ لا تفعلوا ما قد فعلتم في الجاهلية، وكان الناس يتزوج الرجل منهم امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله ‏{‏لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً‏}‏ حتى نزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ الآية‏.‏ فصار حراماً في الأحوال كلها‏.‏ ويقال‏:‏ إلا ما قد سلف، يعني ولا ما قد سلف كقوله تعالى ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ ولا خطأ‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن في الآية تقديماً وتأخيراً، ومعناه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنكم إن فعلتم تؤاخذون وتعاقبون إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن في الآية إضماراً تقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ من النساء، فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً‏}‏ أي معصية ‏{‏وَمَقْتاً‏}‏ أي بغضاً ‏{‏وَسَاء سَبِيلاً‏}‏ أي بئس المسلك ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم‏}‏ أي نكاح أمهاتكم، فذكر الأمهات والمراد منه الأمهات والجدات ‏{‏وبناتكم‏}‏ ذكر البنات، والمراد به البنات والحفيدات أي بنات الأولاد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأخواتكم‏}‏ يعني من النسب ‏{‏وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة‏}‏‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأمهات نِسَائِكُمْ‏}‏ يعني أن نكاح أمهات نسائكم حرام عليكم، سواء دخل بالابنة أو لم يدخل بها‏.‏ هكذا روي عن ابن عباس وعن جماعة من الصحابة أنهم قالوا ذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرَبَائِبُكُمُ‏}‏ يعني حرام عليكم نكاح بنات نسائكم ‏{‏اللاتى فِى حُجُورِكُمْ‏}‏ يعني التي يربيها في حجره، حرام عليه إذا دخل بأمها ‏{‏مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يكن دخل بأمها فهي حلال له أن يتزوجها، وقد اتفقوا على أن كونها في الحجر ليس بشرط، غير قول روي عن بعض المتقدمين، وإنما ذكر الحجر لتعارفهم فيما بينهم، وتسميتهم بذلك الاسم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وحلائل أَبْنَائِكُمُ‏}‏ يعني حرام عليكم نساء أبنائكم ‏{‏الذين مِنْ أصلابكم‏}‏ يقال‏:‏ إنما اشترط الذين من الأصلاب لزوال الاشتباه، لأن القوم كانوا يتبنون في ذلك الوقت ويجعلون الابن المتبنى بمنزلة ابن الصلب في الميراث والحرمة‏.‏ وتبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، فتزوج زيد بن حارثة امرأة ثم طلقها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعيّره المشركون بذلك وقالوا‏:‏ تزوج امرأة ابنه، فنزل قوله تعالى ‏{‏مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏ وذكر في هذه الآية فقال‏:‏ ‏{‏وحلائل أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم‏}‏ لكي لا يظن أحد أن امرأة الابن المتبنى تحرم عليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين‏}‏ أي حرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين في النكاح في حالة واحدة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ يقول‏:‏ إلا ما قد مضى في الجاهلية‏.‏ وروى هشام بن عبيد الله، عن محمد بن الحسن أنه قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكر في هذه الآية، إلا اثنتين أحدهما نكاح امرأة الأب، والثانية الجمع بين الأختين‏.‏ ألا ترى أنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏{‏وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ولم يذكر في سائر المحرمات إلا ما قد سلف‏.‏ ويقال‏:‏ إلا ما قد سلف، يعني‏:‏ دع ما قد مضى ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً‏}‏ لما كان في الجاهلية، ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بما كان في الإسلام إن تاب من ذلك‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏والمحصنات مِنَ النساء‏}‏ قال في رواية الكلبي وفي رواية الضحاك، يعني ذوات الأزواج حرام عليكم ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم‏}‏ من سبايا، فإذا ملك الرجل امرأة لها زوج في دار الحرب واستبرأ رحمها بحيضة، فهي حلال له‏.‏ وهذا موافق لما روي عن أبي سعيد الخدري أن المسلمين أصابوا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون منهن وقالوا‏:‏ لهن أزواج، فأنزل الله تعالى ‏{‏والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم‏}‏ يقول‏:‏ ما أفاء الله عليكم من ذلك، وإن كان لهن أزواج من المشركين، فلا بأس بأن يأتيها الرجل إذا استبرأ رحمها‏.‏ وقال في رواية مقاتل‏:‏ ‏{‏والمحصنات مِنَ النساء‏}‏ يعني كل امرأة ليست تحتكم، فهي حرام عليكم‏.‏ ثم استثنى من المحصنات فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم‏}‏ يعني إلا ما قد تزوجتم من النساء مثنى وثلاث ورباع‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ أي هذا ما حرم عليكم في الكتاب، ويقال‏:‏ ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ معناه‏:‏ هذا الذي يقرأ عليكم هو كتاب الله تعالى، فاتبعوه ولا تخالفوه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ منصوب على التأكيد، محمول على المعنى، لأن معناه حرمت عليكم أمهاتكم، كتب الله عليكم هذا كتاباً‏.‏ ويجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر، كأنه قال‏:‏ الزموا كتاب الله فيكون عليكم مفسراً له‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ رخص لكم ما سوى ذلكم، فالله تعالى قد ذكر ما حرم في هذه الآية من قوله ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ أربع عشرة من المحرمات، سبع بالنسب وسبع بالسبب‏.‏

ثم بيّن المحللات فقال‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ‏}‏ يعني ما سوى هذه الأربع عشرة التي ذكر في هذه الآية، فلو كان الأمر على ظاهر هذه الآية، لكان يجوز ما سوى ذلك؛ إلا أنه قد جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» وقال‏:‏ «لا تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلا عَلَى خَالَتِها» فوجب اتباعه لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كَى لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاغنيآء مِنكُمْ وَمَآ ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَأُحِلَّ لَكُمْ‏}‏ بضم الألف وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم لأنه عطف على قوله ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ‏}‏‏.‏ ومن قرأ بالنصب لأنه نسق على قوله ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَبْتَغُواْ بأموالكم‏}‏ يعني أن تتزوجوا بأموالكم، ويقال‏:‏ تشتروا بأموالكم الجواري ‏{‏مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين‏}‏ يقول‏:‏ كونوا متعففين من الزنى غير زانين ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني به المتعة، أي فما استمتعتم منهن إلى أجل مسمى ‏{‏والمحصنات مِنَ‏}‏ أي أعطوهن ما شرطتم لهن من المال؛ وإنما كانت إباحة المتعة في بعض المغازي، ثم نهي عن ذلك‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى‏.‏ وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما كانت المتعة إلا رحمة رحم الله بها هذه الأمة، ولولا نهي عمر عنها ما زنى إلا شقي‏.‏ وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ إنما رخص في المتعة في بعض المغازي، ثم نسختها آية الطلاق والميراث والعدة‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ قال النكاح فآتوهن أجورهن، يعني مهورهن‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ ‏{‏فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ‏}‏ بعد النكاح فآتوهن أجورهن، أي مهورهن ‏{‏فَرِيضَةً‏}‏ لهن عليكم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ فما استمتعتم به منهن أي فما تزوجتم بهن فأعطوهن مهورهن ‏{‏وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يعني المتعة قبل أن تنسخ، أجاز لهما أن يتراضيا على زيادة الأجل والمال‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني المهر، لا جناح على الزوجين أن يتراضيا بعد النكاح على زيادة المهر ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ فيما رخّص لكم من نكاح الأجانب ‏{‏حَكِيماً‏}‏ فيما حرم عليكم من ذوات المحارم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً‏}‏ أي غنى، يقول‏:‏ من لم يجد منكم سعة في المال ‏{‏أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات‏}‏ يعني الحرائر، فليتزوج الإماء فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ من الإماء‏.‏ ويقال‏:‏ من لم يستطع منكم طولاً، يعني من لم يكن له منكم مقدرة على الحرة، فليتزوج الأمة، يعني‏:‏ إذا لم يكن له امرأة حرة‏.‏ وقد قال بعض الناس‏:‏ إذا كان للرجل من المال مقدار ما يمكنه أن يتزوج بالحرة، لا يجوز أن يتزوج الأمة‏.‏ وفي قول علمائنا‏:‏ يجوز إذا لم يكن عنده امرأة حرة، لأنه لو صرف إلى ذلك الوجه لا يضر، لأن كل مال يمكن أن يتزوج به الأمة يمكن أن يتزوج به الحرة، ولكن معناه كون الحرة عنده أفضل‏.‏ ثم قال‏:‏ تعالى ‏{‏مّن فتياتكم المؤمنات‏}‏ يعني يتزوج الأمة المسلمة‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ لا يجوز أن يتزوج أمة يهودية أو نصرانية، لأن الله تعالى قال ‏{‏مّن فتياتكم المؤمنات‏}‏‏.‏ وفي قول علمائنا‏:‏ يجوز نكاح الأمة اليهودية والنصرانية، وذكر المؤمنات ليس بشرط أنه لا يجوز غيرها، وهذا بمنزلة قوله

‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏ فإن خاف ألا يعدل فيتزوج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل أن لا يتزوج، فكذلك ها هنا الأفضل أن يتزوج الأمة إلا المؤمنة ولو تزوج غير المؤمنة جاز‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بإيمانكم بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ‏}‏ يقول‏:‏ والله أعلم بإيمانكم في الحقيقة، وأنتم تعرفون الظاهر وليس عليكم أن تبحثوا عن الباطن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الآية تقديم وتأخير، ومعناه فما ملكت أيمانكم بعضكم من بعض يعني يتزوج هذا وليدة هذا، وهذا وليدة هذا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بإيمانكم‏}‏ من غيره‏.‏ ويقال‏:‏ معناه والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض، يعني بعضكم من بعض في النسب، يعني محلكم ولد آدم ولا فخر فيما بينكم‏.‏ ويقال‏:‏ دينكم واحد أي بعضكم على دين بعض‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ‏}‏ يعني الولاية بإذن أربابهن ‏{‏وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ يقول‏:‏ أعطوهن مهورهن بالمعروف، يعني بإذن أهلهن، لأنه إذا أعطى الأمة مهرها بغير إذن مولاها واستهلكت، ضمن الزوج للمولى‏.‏ ويقال‏:‏ مهراً غير مهر البغي، يعني بعدما أطلق ذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏محصنات‏}‏ أي عفائف ‏{‏غَيْرَ مسافحات‏}‏ أي زواني، ويقال‏:‏ غير معلنات بالزنى ‏{‏وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ‏}‏ يعني أخلاء في السر، لأن أهل الجاهلية كان فيهن زواني في العلانية، ولهن رايات منصوبة وبعضهن اتخذن أخداناً يعني أخلاء في السر، ولا يفعلن بالعلانية فنهى الله عن نكاح الفريقين جميعاً‏.‏ فقال‏:‏ تزوجوا محصنات غير معلنات بالزنى ولا في السر‏.‏ قرأ الكسائي‏:‏ محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله ‏{‏والمحصنات مِنَ النساء‏}‏ وقرأ الباقون في جميع القرآن بالنصب‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏ يعني أسلمن‏.‏ ويقال‏:‏ إذا أعففن‏.‏ قرأ عاصم وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أُحْصِنَّ‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ الباقون بالضم‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه كان يقرأ بالنصب، ومعناه إذا أسلمن‏.‏ وقرأ ابن عباس بالضم، يعني أحصن بالأزواج‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة‏}‏ يعني الزنى ‏{‏فَعَلَيْهِنَّ‏}‏ أي وجب عليهن ‏{‏نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب‏}‏ يعني إذا زنت الأمة فحدّها نصف حدّ الحرة، خمسون جلدة‏.‏ والفائدة في نقصان حدهن والله أعلم أنهن أضعف من الحرائر، فجعل عقوبتهن أقل‏.‏ ويقال لأنهن لا يصلن إلى مرادهن كما تصل الحرائر إلى مرادهن‏.‏ ويقال‏:‏ لأن العقوبة تجب على قدر النعمة، ألا ترى أن الله تعالى قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يانسآء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ ‏[‏سورة الأحزاب‏:‏ 30‏]‏ فلما كانت نعمتهن أكثر جعل عقوبتهن أشد، فكذلك الأمة لما كانت نعمتها أقل كانت عقوبتها أدنى‏.‏

وذكر في الآية حدّ الإماء خاصة ولم يذكر حد العبيد، ولكن حد العبيد والإماء سواء، خمسون جلدة في الزنى، وفي حد القذف وشرب الخمر أربعون جلدة، لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق، وذلك في العبد موجود‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قالا‏:‏ حدّ العبد نصف حد الحر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني هذا الذي ذكر في الآية، وهو رخصة نكاح الأمة ‏{‏لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ‏}‏ يعني الإثم في دينه‏.‏ ويقال‏:‏ الزنى والفجور‏.‏ قال القتبي‏:‏ أصله المضرور الإفساد‏.‏ قال تعالى ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ عن نكاح الإماء ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من تزوجهن، لأنه لو تزوج الأمة يصير ولده عبداً‏.‏ وروي عن عمر أنه قال‏:‏ أيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه، أي يصير ولده رقيقاً، فالصبر عن ذلك أفضل لكيلا يرق ولده‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ وإن تصبروا على نكاح الأمة خير لكم من أن تقعوا في الفجور‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ لما أصبتم منهن قبل تحليله ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ حين رخص في نكاح الإماء‏.‏ ويقال‏:‏ رحيم إذ لم يعجل العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 31‏]‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏26‏)‏ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ‏(‏27‏)‏ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ‏(‏28‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ‏(‏29‏)‏ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ أي بيّن لكم أن الصبر خير لكم من نكاح الإماء، ويقال‏:‏ يبين لكم إباحة نكاح الأمة عند العذر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ أي شرائع الذين من قبلكم بأنه لم يحل لهم تزوج الإماء، وقد أحل لكم ذلك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ‏}‏ حكم حلاله وحرامه من النساء، ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ‏}‏ أي يبين لكم شرائع من كان قبلكم‏.‏ ‏{‏وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم قبل التحريم ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بمن فعله منكم بعد التحريم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما نهاكم عن نكاح الاماء إن لم يجد طولاً‏.‏ والنهي نهي استحباب لا نهي وجوب‏.‏ ويقال‏:‏ إن هذا ابتداء القصة، يريد الله أن يبين لكم كيفية طاعته ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ‏}‏ يعني يعرفكم سنن الذين من قبلكم، يعني أنهم لما تركوا أمري فكيف عاقبتهم‏؟‏ وأنتم إذا فعلتم ذلك لا أعاقبكم، ولكني أتوب عليكم ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بمن تاب ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم بقبول التوبة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي يتجاوز عنكم ما كان منكم من قبل التحريم، ويقال‏:‏ يتجاوز عنكم الزلل والخطايا ‏{‏وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً‏}‏ يعني اليهود والنصارى، ويقال‏:‏ المجوس‏.‏ ‏{‏أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً‏}‏ يعني أن تخطئوا خطأً عظيماً، لأن بعض الكفار كانوا يجيزون نكاح الأخت من الأب، وبنات الأخ، وبنات الأخت، فلما حرم الله تعالى ذلك قالوا للمسلمين‏:‏ إنكم تنكحون ابنة الخالة والعمة، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ويقال‏:‏ ويريدون الذين يتبعون الشهوات، ويقال‏:‏ إن اليهود يريدون أن يقفوا منكم على الزلل والخطايا، يعني‏:‏ أن الله تعالى قد بين لكم لكي لا يقفوا منكم على الزلل والخطايا‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ يهون عليكم الأمر إذ رخص لكم في نكاح الإماء، ‏{‏وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً‏}‏ أي لا يصبر على النكاح‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يخفف عنكم أي يريد أن يضع عنكم أوزاركم، ويضع عنكم آثامكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَعِيفاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل‏}‏ يعني بالظلم باليمين الكاذبة ليقطع بها مال أخيه‏.‏ ثم استثنى ما استفضل الرجل من مال أخيه في تجارته أنه لا بأس به فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ‏}‏ ويقال‏:‏ إلا ما كان بينهما تجارة، وهو أن يكون مضارباً له، فله أن يأكل من مال المضاربة إذا خرج إلى السفر‏.‏ ويقال‏:‏ إلا ما يأكل الرجل شيئاً عند اشترائه ليذوقه‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم‏:‏ ‏{‏تجارة‏}‏ بنصب الهاء على معنى خبر تكون‏.‏

وقرأ الباقون بالضم على معنى الاسم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي لا يقتل بعضكم بعضاً، فإنكم أهل دين واحد‏.‏ ويقال ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني أن يوجب الرجل على نفسه قتل نفسه، فإيجابه باطل‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم‏}‏ يعني لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، ولا يقتل بعضكم بعضاً كقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بالالقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون‏}‏ ‏{‏صلى الله عليه وسلم ‏[‏سورة الحجرات‏:‏ 11‏]‏ أي لا تعيبوا إخوانكم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم‏}‏ أي لا تقتلوها بالكسل والبخل ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً‏}‏ إذ نهى عن القتل وعن أخذ الأموال‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا‏}‏ يعني اعتداء ويقال‏:‏ مستحلاً ‏{‏وَظُلْماً‏}‏ أي وجوراً ‏{‏فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً‏}‏ هذا وعيد لهم من الله تعالى، يعني يدخله في الآخرة النار ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ أي عذابه هين عليه‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني ما نهي عنه من أول هذه السورة إلى هذه الآية وقال في رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنه‏.‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ الكبائر كل شيء سمى الله تعالى فيه النار لمن عمل بها، أو شيء نزل فيه حدّ في الدنيا، فمن اجتنب من هذا وهو مؤمن كفر الله عنه ما سواه من الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، وشهر رمضان إلى شهر رمضان إن شاء الله تعالى‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل، قال‏:‏ حدّثنا محمد بن جعفر، قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف، قال‏:‏ حدّثنا وكيع عن الأعمش، عن أبي الضحاك، عن مسروق، عن ابن مسعود قال‏:‏ الكبائر من أول السورة إلى قوله ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ‏}‏‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الكبائر أربعة‏:‏ الإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشرك بالله‏.‏ وروى عامر الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ألا أُنْبِئَكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ‏:‏ الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ» وقال ابن عمر الكبائر تسعة‏:‏ الشرك بالله، وقتل المؤمن متعمداً، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا والسحر، وعقوق الوالدين، واستحلال حرمة البيت الحرام‏.‏ ويقال‏:‏ الكبيرة ما أصر عليها صاحبها‏.‏ ويقال‏:‏ لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم‏}‏ يقول‏:‏ نمحو عنكم ذنوبكم ما دون الكبائر ‏{‏وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً‏}‏ في الآخرة وهي الجنة‏.‏ قرأ نافع‏:‏ مدخلاً بنصب الميم، والباقون بالضم‏.‏ فمن قرأ بالنصب فهو اسم الموضع وهو الجنة، ومن قرأ بالضم فهو المصدر والموضع جميعاً‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏32‏)‏ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏33‏)‏ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني لا يتمنى الرجل مال أخيه، ولا امرأته، ولا دابته، ولكن ليقل‏:‏ اللهم ارزقني مثله‏.‏ وقال الكلبي مثله‏.‏ وفيها وجه آخر وهو أن الرجال قالوا‏:‏ إن الله فضلنا على النساء، فلنا سهمان ولهن سهم، ونرجو أن يكون لنا أجران في الأعمال‏.‏ وقالت أم سلمة‏:‏ ليت الجهاد كتب على النساء‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ ‏{‏لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن‏}‏ ويقال‏:‏ إن النساء قلن‏:‏ كما نقص سهمنا في الميراث، كذلك ينقص من أوزارنا، ويكون الإثم علينا أقل من الرجال، فنزلت الآية ‏{‏لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا‏}‏ ولا يتمنى أحدكم أكثر مما عمل ‏{‏وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن‏}‏ من الشر ولا ينقص منهن شيء مما عملن من الإثم‏.‏ ‏{‏واسألوا الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ جميعاً الرجال والنساء ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي من رزقه ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَئ عَلِيماً‏}‏ فيما يصلح لكل واحد منهم من السهام، وبمن يصلح للجهاد‏.‏ قرأ ابن كثير والكسائي وسلوا الله بغير همز في جميع القرآن‏.‏ وقرأ الباقون واسألوا الله بالهمز وأصله الهمز، إلا أنه حذف الهمز للتخفيف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ‏}‏ أي بينا موالي يعني الورثة من الولد والإخوة وابن العم‏.‏ ويقال‏:‏ الموالي العصبة‏:‏ العم، وابن العم، وذوي القربى كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 5‏]‏ معناه‏:‏ ولكل واحد منكم جعلنا الورثة لكي يرث ‏{‏مّمَّا تَرَكَ‏}‏ وهم ‏{‏الوالدان والاقربون‏}‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين عَقَدَتْ أيمانكم فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ‏}‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ كان الرجل يرغب في الرجل، فيحالفه ويعاقده على أن يكون في ميراثه كبعض ولده ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍ جَعَلْنَا‏}‏ أي أعطوهم حظهم الذي سميتم لهم من الميراث هكذا قال مجاهد ثم نسخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 75‏]‏ ويقال‏:‏ إنهم كانوا يوصون لهم بشيء من المال، فأمرهم بأن يؤتوا نصيبهم من الثلث‏.‏ ويقال‏:‏ أراد به مولى الموالاة كانوا يرثون السدس‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ شَهِيداً‏}‏ أي شاهد إن أعطيتموهم أو لم تعطوهم‏.‏ قرأ أهل الكوفة حمزة والكسائي وعاصم‏:‏ والذين عقدت أيمانكم بغير ألف، والباقون بالألف‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ والاختيار عاقدت بالألف لأنه من معاقدة الحلف، فلا يكون إلا بين اثنين‏.‏ ومن قرأ عقدت معناه عقدت لهم أيمانكم فأضمر فيها لهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ نزل في سعد بن الربيع، لطم امرأته بنت محمد بن مسلمة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فنزل جبريل من ساعته بهذه الآية ‏{‏الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء‏}‏ يعني مسلطون في أمور النساء وتأديبهم ‏{‏بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ وذلك أن الرجل له الفضل على امرأته في إنفاقه عليها، ودفع الحق إليها‏.‏ ويقال‏:‏ إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن بما لهم من زيادة عقل ليس ذلك للنساء‏.‏ ويقال‏:‏ للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم‏}‏ أي فضلوا على النساء بما أنفقوا من أموالهم عليهن من المهر والنفقة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فالصالحات قانتات‏}‏ يعني المحصنات من النساء في الدين، قانتات مطيعات لله تعالى ولأزواجهن‏.‏ ويقال‏:‏ الصالحات يعني المحسنات إلى أزواجهن من النساء في الدين ‏{‏قانتات‏}‏ أي مطيعات لله ولأزواجهن‏.‏ ويقال‏:‏ الصالحات يعني الموحدات ‏{‏قانتات‏}‏ يعني قائمات بأمور أزواجهن ‏{‏حفظات لّلْغَيْبِ‏}‏ أي لغيب أزواجهن في فروجهن، وفي أموال الأزواج ‏{‏بِمَا حَفِظَ الله‏}‏ يقول‏:‏ أي يحفظ الله إياهن‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وما صلة، يعني يحفظ الله لهن‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ‏}‏ أي تعلمون عصيانهن ‏{‏فَعِظُوهُنَّ‏}‏ بالله، أي يقول لها‏:‏ اتق الله، فإن حق الزوج عليك واجب، فإن لم تقبل ذلك‏.‏

قوله تعالى ‏{‏واهجروهن فِى المضاجع‏}‏ قال الكلبي‏:‏ أي ينسها وهو الهجر، ويقال‏:‏ لا يقرب فراشها، لأن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج يشق عليها فترجع إلى الصلاح، وإن كانت مبغضة فتظهر السرور فيها، فيتبين أن النشوز من قبلها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏واهجروهن فِى المضاجع‏}‏ أي يعرض عنها، فإن ذلك يغيظها، فإن لم ينفعها ذلك ‏{‏واضربوهن‏}‏ يعني ضرباً غير مبرح ‏{‏فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً‏}‏ يقول‏:‏ لا تطلبوا عليهن عللاً، ولا تكلفوهن الحب لكم، فإن الحب أمر القلب وليس لها ذلك بيدها ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً‏}‏ أي رفيعاً علا فوق كل كبير، فلا يطلب من عباده الحب، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه، ويطلب منهم الطاعة، فأنتم أيضاً لا تكلفوهن‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله مع علوه يتجاوز عن عباده، فأنتم أيضاً تجاوزوا ولا تطلبوا العلل‏.‏

ثم قال تعالى للأولياء ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا‏}‏ يقول‏:‏ إن علمتم خلافاً بين الزوجين، ويقال‏:‏ إن خفتم الفراق بينهما ولا تدرون من أيهما يقع النشوز فيقول‏:‏ ‏{‏فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ يعني رجلاً عدلاً من أهل الزوج له عقل وتمييز، يذهب إلى الرجل ويخلو به، ويقول له‏:‏ أخبرني ما في نفسك أتهواها أم لا‏؟‏ حتى أعلم بمرادك، فإن قال‏:‏ لا حاجة لي بها خذ مني لها ما استطعت وفرق بيني وبينها، فيعرف أن من قبله جاء النشوز‏.‏

وإن قال‏:‏ فإني أهواها فأرضيها من مالي بما شئت ولا تفرق بيني وبينها، فيعرف أنه ليس بناشز‏.‏ ويخلو ولي المرأة بها ويقول‏:‏ أتهوين زوجك أم لا‏؟‏ فإن قالت‏:‏ فرق بيني وبينه وأعطه من مالي ما أراد، علم أن النشوز من قبلها‏.‏ وإن قالت‏:‏ لا تفرق بيننا ولكن حثّه حتى يزيد في نفقتي ويحسن إلي، علم أن النشوز ليس من قبلها‏.‏ فإذا ظهر لهما الذي كان النشوز من قبله يقبلان عليه بالعظة والزجر والنهي، وذلك قوله تعالى ‏{‏فابعثوا حَكَماً مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مّنْ أَهْلِهَا‏}‏ ‏{‏إِن يُرِيدَا إصلاحا‏}‏ يعني عدلاً فينظران في أمرهما بالنصيحة والموعظة ‏{‏يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا‏}‏ بالصلاح ويقال‏:‏ كل اثنين يقومان في الإصلاح بين اثنين بالنصيحة، يقع الصلح بينهما لقوله تعالى ‏{‏إِن يُرِيدَا إصلاحا يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً‏}‏ أي عليماً بهما خبيراً بنصيحتهما‏.‏ وفي هذه الآية دليل على إثبات التحكيم، وليس كما يقول الخوارج إنه ليس الحكم لأحد سوى الله تعالى، فهذه كلمة حق ولكن يريدون بها الباطل‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ‏(‏36‏)‏ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏واعبدوا الله‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هذا الخطاب للكفار، واعبدوا الله يعني وحدوا الله ‏{‏وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ أي لا تثبتوا على الشرك‏.‏ ويقال‏:‏ الخطاب للمؤمنين اعبدوا الله، يعني اثبتوا على التوحيد ولا تشركوا به‏.‏ ويقال‏:‏ اعبدوا الله يعني أطيعوا الله فيما أمركم به، وأخلصوا له بالأعمال، ولا تشركوا به شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ هذا الخطاب للمؤمنين وللمنافقين وللكفار، فأمر المؤمنين بالطاعة، والمنافقين بالإخلاص، والكفار بالتوحيد‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كل عبادة في القرآن إنما يعني بها التوحيد‏.‏ ويقال‏:‏ هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، وذكر فيها أحكاماً كانت تعرف تلك من طريق العقل، وإن لم ينزل به القرآن وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ يعني أحسنوا إلى الوالدين ‏{‏وَبِذِى القربى‏}‏ يعني صلوا القرابات‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ يعني أحسنوا إلى اليتامى‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أمر للأوصياء بالقيام على أموالهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ أي عليكم بإطعام المساكين‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والجار ذِى القربى‏}‏ أي عليكم بالإحسان إلى الجار الذي بينك وبينه قرابة، فله ثلاث حقوق‏.‏ هكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ‏:‏ جَارٌ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ‏.‏ فَأَمَّا الجَارُ الَّذِي لَهُ ثَلاَثَةُ حُقُوقٍ فَالجَارُ القَرِيبُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ، وَحَقُّ القَرَابَةِ، وَحَقُّ الإِسْلامِ‏.‏ وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقَّانِ‏:‏ وَهُوَ الجَارُ المُسْلِمُ، فَلَهُ حَقُّ الإِسلامِ، وَحَقُّ الجِوَارِ‏.‏ وَالجَارُ الَّذِي لَهُ حَقُّ وَاحِدٌ هُوَ الجَارُ الكَافِرُ لَهُ حَقُّ الجِوَارِ»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والجار الجنب‏}‏ يعني الجار الذي لا قرابة بينهما، وهو من قوم آخرين ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏ أي الرفيق في السفر‏.‏ وروي عن معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ الصاحب بالجنب يعني المرأة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ يعني الضيف، ينزل عليكم فأحسنوا إليه، وحقه ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ من الخدم أحسنوا إليهم‏.‏ وقد روي في الخبر «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلا تُكَلِّفُوهُمْ مَا لا يُطِيقُونَ، فَإنَّهم لَحْمٌ وَدَمٌ وَخَلْقٌ أَمْثَالُكُمْ» رواه علي عن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الله الله فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» وذكر الحديث‏.‏ وروي عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالنِّساءِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُحَرِّمُ طَلاَقَهُنَّ، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالمَمَالِيكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لَهُمْ مُدَّةً إذَا انْتَهَوْا إِلَيْها أُعْتِقُوا، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِالسِّوَاكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَن يُحْفِي فَمِي، وَمَا زَالَ يُوصِينِي بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ خِيَارَ أُمَّتِي لَمْ يَنَامُوا لَيْلاً»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً‏}‏ يعني من كان مختالاً في مشيه فخوراً على الناس؛ وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال القتبي‏:‏ المختال ذو الخيلاء والكبر، وهذا قريب من الأول‏.‏ ويقال‏:‏ فخوراً في نعم الله، لا يشكرها ويتكبر على الناس‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ قال مجاهد ومقاتل‏:‏ نزلت في اليهود، يبخلون بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ‏{‏وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ يعني‏:‏ أمروا قومهم أن يكتموا صفته صلى الله عليه وسلم- ‏{‏وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ في التوراة‏.‏ ويقال‏:‏ أبخل الناس الذي يبخل بعلمه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ يعني في المال، لأن رؤساءهم كانوا لا يعطون أحداً من أموالهم شيئاً، لأن عادتهم كان الأخذ والمنع، وكانوا أيضاً يأمرون بالبخل، لأن من كان في معصية فإنه يأمر غيره بذلك لكي لا يظهر عيبه ‏{‏وَيَكْتُمُونَ مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا يشكرون على ما أعطاهم الله من نعمته، ولا يخرجون الزكاة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ أي عذاباً شديداً‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ بالبخل بنصب الباء والخاء، وقرأ الباقون بالبُخْل بضم الباء وجزم الخاء‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ ها هنا أربع لغات وهي لغة الأنصار‏:‏ بخل، وبخل، وبخل، وبخل إلا أنه قرأ بحرفين ولا يقرأ بالحرفين الآخرين‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني اليهود‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني المنافقين، ينفقون أموالهم مراءاة للناس ‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر‏}‏ يعني‏:‏ ولا يصدقون في السر‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت في مطعمي يوم بدر وهم رؤساء مكة، أنفقوا على الناس ليخرجوا إلى بدر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً‏}‏ ففي الآية مضمر فكأنه قال‏:‏ ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فقرينهم الشيطان، ومن يكن الشيطان له قريناً ‏{‏فَسَاء قِرِيناً‏}‏ أي قرينهم الشيطان في الدنيا، يأمرهم بالبخل‏.‏ ويقال‏:‏ قرينه في النار في السلسلة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 42‏]‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏40‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ‏(‏41‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي وما كان عليهم ‏{‏لَوْ ءامَنُواْ بالله‏}‏ مكان الكفر ‏{‏واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ مكان البخل في غير رياء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي لم يكن عليهم شيء من العذاب لو آمنوا بالله واليوم الآخر، وأنفقوا مما رزقهم الله من الأموال، وهي الصدقة ‏{‏وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً‏}‏ أنهم لم يؤمنوا‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله عليم بثواب أعمالهم، ولا يظلمهم شيئاً من ثواب أعمالهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ يعني لا ينقص من ثواب أعمالهم وزن الذرة‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وهي النملة الحميراء الصغيرة‏.‏ ويقال‏:‏ هو الذي يظهر في شعاع الشمس، ويقال‏:‏ لا يظلم مثقال ذرة يعني لا يزيد عقوبة الكافر مثقال ذرة، ولا ينقص من ثواب المؤمنين مثقال ذرة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها‏}‏ قرأ نافع وابن كثير‏:‏ وإن تك حسنة بضم الهاء لأنه اسم تك بمنزلة اسم كان‏.‏ قرأ الباقون‏:‏ حسنة بالنصب، وجعلوه خبر تك والاسم فيه مضمر معناه‏:‏ وإن تكن الفعل حسنة يضاعفها، يعني‏:‏ إذا زاد على حسناته مثقال ذرة من حسنة يضاعفها الله تعالى حتى يجعلها مثل أحد ويوجب له الجنة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يعني الجنة‏.‏ وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ خمس آيات في سورة النساء أحب إلي من الدنيا وما فيها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 31‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 64‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 48‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ و‏{‏لَّيْسَ بأمانيكم ولا أَمَانِىِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ‏[‏سورة النساء‏:‏ 123‏]‏ الآية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ أي فكيف يصنعون‏؟‏ وكيف يكون حالهم‏؟‏ إذا جئنا من كل أمة بشهيد، يعني بنبيها هو شاهد بتبليغ الرسالة من ربهم ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏على هَؤُلاء شَهِيداً‏}‏ يعني على أمتك شهيداً بالتصديق لهم، لأن أمته يشهدون على الأمم المكذبة للرسالة، وذلك أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى للأمم الخالية‏:‏ هل بلغتكم الرسل رسالاتي‏؟‏ فيقولون‏:‏ لا‏.‏ فقالت الرسل‏:‏ قد بلغنا ولنا شهود، فيقول عز وجل‏:‏ ومن شهودكم‏؟‏ فيقولون‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون بتبليغ الرسالة، بما أوحي إليهم من ربهم في كتابهم في قصة الأمم الخالية‏.‏

فتقول الأمم الماضية‏:‏ إن فيهم زواني وشارب الخمر، فلا يقبل شهادتهم، فيزكيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول المشركون‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فيختم على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون، فذلك قوله تعالى ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض‏}‏ أي تخسف بهم الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ الرسل يشهدون على قومهم بتبليغ الرسالة، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على أمته بتبليغ الرسالة من قبل ومن لم يقبل‏.‏

حدّثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدّثنا أبو منيع، قال‏:‏ حدّثنا أبو كامل، قال‏:‏ حدّثنا فضيل عن يونس بن محمد بن فضالة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم من بني ظفر، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر، ومعه ابن مسعود، ومعاذ وناس من الصحابة، فأمر قارئاً فقرأ حتى إذا أتى على هذه الآية ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً‏}‏ بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اخضلت وجنتاه فقال‏:‏ «يَا رَبّ هذا عِلْمِي بِمَنْ أَنَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ أَرَهُمْ‏؟‏»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يتمنى الذين كفروا يعني الكفار ‏{‏وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الارض‏}‏ أي يكونوا تراباً يمشي عليهم أهل الجمع ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ وهو قولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قال بعضهم‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً‏}‏ مستأنف، لأن ما عملوا ظاهر عند الله تعالى لا يقدرون على كتمانه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو كلام بناء يعني يودون أن الأرض سويت بهم، وأنهم لم يكتموا الله حديثاً لأنه مظهر كذبهم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏تسوى‏}‏ بنصب التاء وتخفيف السين وتشديد الواو يعني يخسف بهم، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏تسوى‏}‏ بضم التاء فأدغم إحدى التاءين في الأخرى على فعل لم يسم فاعله، أي يصيروا تراباً وتسوى بهم الأرض‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر‏:‏ ‏{‏تسوى‏}‏ بنصب التاء وتشديد السين والواو، لأن أصله تتسوى فأدغم إحدى التاءين في السين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً، فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وسعداً رضي الله عنهم، فأكلوا وسقاهم خمراً، فحضرت صلاة المغرب فأمهم علي فقرأ ‏{‏قُلْ ياأيها الكافرون‏}‏ ‏[‏سورة الكافرون‏:‏ 1‏]‏ على غير الوجه، فنزل ‏{‏حَدِيثاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏{‏حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ وكان ذلك قبل تحريم الخمر‏.‏ وقال ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ يعني موضع الصلاة، وهو المسجد حتى تعلموا ما تقولون‏.‏ ويقال‏:‏ حتى تصيروا بحال تعلمون ما تقولون، فحينئذٍ تقربوا المسجد لأنهم إذا لم يعلموا ما يقولون فلا يعرفون الحرمة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ‏}‏ يقول‏:‏ ولا تقربوا الصلاة جنباً إلا عابري سبيل، يعني إلا أن يكون مسافراً فلا يجد الماء، فيتيمم ويصلي إذا كان جنباً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وحقيقته ألا تصلوا إذا كنتم جنباً ‏{‏حتى تَغْتَسِلُواْ‏}‏ إلا أن لا تقدروا على الماء‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لا تقربوا الصلاة، يعني لا تقربوا المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى من النوم‏.‏ وروى السدي عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ‏}‏ قال‏:‏ في السفر يتيمم ويصلي‏.‏ ويقال‏:‏ إلا أن تكون في المسجد عين، فيدخل ليغترف الماء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنتُم مرضى‏}‏ نزلت في عبد الرحمن بن عوف، أصابته جنابة وهو جريح، فرخص له بأن يتيمم، ثم صارت الآية عامة في جميع الناس‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس وجابر بن سمرة وغيرهما من الصحابة، أن رجلاً كان به جدري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابته جنابة فغسلوه فمات من ذلك، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله فَهَلاَّ يَمَّمُوهُ» وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ وإن كنتم مرضى قال‏:‏ فإنما هو المجذوم، والمجدور، والمقروح‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ على سَفَرٍ‏}‏ أي إذا كنتم مسافرين ‏{‏أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط‏}‏ والغائط في اللغة اسم المكان المطمئن من الأرض، وإنما هو كناية عن قضاء الحاجة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لامستم النساء‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏أَوْ لامستم‏}‏ وقرأ الباقون ‏{‏لامستم‏}‏ من الملامسة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الجماع‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو المس باليد ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً‏}‏ يعني‏:‏ إذا أصابكم الحدث أو الجنابة، ولم تجدوا ماءً، فتيمموا صعيداً طيباً أي تراباً نظيفاً‏.‏ ويقال‏:‏ الصعيد هو ما علا وجه الأرض ‏{‏فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ الوجه والكفين، وهو قول الأعمش والأوزاعي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إلى المنكبين، وهو قول الزهري‏.‏ وقال عامة أهل العلم‏:‏ الوجه واليدين إلى المرفقين، وبذلك جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عامة الصحابة اعتباراً بالوضوء‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏ أي ذو الفضل والعفو حين أجاز لكم التراب مكان الماء، غفوراً لتقصيركم‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 48‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏44‏)‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ‏(‏45‏)‏ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏46‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ‏(‏47‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أعطوا حظاً من علم التوراة ‏{‏يَشْتَرُونَ الضلالة‏}‏ يعني‏:‏ يختارون الكفر على الإسلام‏.‏ قال القتبي‏:‏ وهذا من الاختصار، ومعناه يشترون الضلالة بالهدى، أي يستبدلون هذا بهذا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً‏}‏ ‏[‏سورة الإسراء‏:‏ 34‏]‏ أي مسؤولاً عنه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل‏}‏ أي تتركوا طريق الهدى، وهو طريق الإسلام ‏{‏والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ‏}‏ أي علم بعداوتهم إياكم، يعني هو يعلم بالحقيقة وأنتم تعلمون الظاهر‏.‏ ويقال‏:‏ هذا وعيد لهم، فكأنه يقول‏:‏ هو أعلم بعذابهم كما قال في آية أخرى ‏{‏قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين‏}‏ ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 58‏]‏ يعني عليم بعقوبتهم ومجازاتهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بالله وَلِيّاً‏}‏ أي ناصراً لكم، ومعيناً لكم ‏{‏وكفى بالله نَصِيراً‏}‏ يعني مانعاً لكم‏.‏

قوله تعالى ‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ‏}‏ أي مالوا عن الهدى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ‏{‏مّنَ الذين هَادُواْ‏}‏ فيه قولان‏:‏ فجائز أن يكون من صلة، والمعنى ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من الذين هادوا، ويجوز أن يكون معناه من الذين هادوا قوم ‏{‏يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه‏}‏ أي يحرفون نعته عن مواضعه، وهو نعت محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا‏}‏ قولك ‏{‏وَعَصَيْنَا‏}‏ أمرك ‏{‏واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ‏}‏ منك ‏{‏وراعنا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ‏}‏ أي يلوون لسانهم بالسب ‏{‏وَطَعْناً فِى الدين‏}‏ أي في دين الإسلام‏.‏ قال القتبي‏:‏ كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثهم وأمرهم سمعنا، ويقولون في أنفسهم وعصينا‏.‏ وإذا أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا‏:‏ اسمع يا أبا القاسم‏.‏ ويقولون في أنفسهم‏:‏ لا سمعت‏.‏ ويقولون‏:‏ راعنا يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انظرنا حتى نكلمك بما تريد، ويريدون به السب بالرعونة ‏{‏لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ‏}‏ أي قلباً للكلام بها ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ مكان سمعنا وعصينا ‏{‏واسمع‏}‏ مكان اسمع لا سمعت ‏{‏وانظرنا‏}‏ مكان قولهم راعنا ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ‏}‏ أي وأصوب من التحريف والطعن‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ‏}‏ أي خذلهم الله وطردهم، مجازاة لهم بكفرهم ‏{‏فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يؤمنون، إلا بالقليل، لأنهم لا يؤمنون بالقرآن، ولا يؤمنون بجميع ما عندهم، ولا بسائر الكتب، وإنما يصدقون ببعض ما عندهم‏.‏ ويقال‏:‏ لا يؤمنون إلا القليل منهم، وهم مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم لا يؤمنون وهم بمنزلة رجل يقول‏:‏ فلان قليل الخير، يعني لا خير فيه‏.‏

ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً يَأَيُّهَا الذين أُوتُواْ الكتاب ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا‏}‏ أي صدقوا بالقرآن ‏{‏مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ أي موافقاً للتوراة في التوحيد وبعض الشرائع ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أدبارها‏}‏ وطمسها أن يردها على بصائر الهدى، ويقال طمسها أن يحول الوجوه إلى الأقفية‏.‏ ويقال‏:‏ يخسف الأنف والعين فيجعلها طمساً‏.‏ ويقال‏:‏ من قبل أن يطمس أي تسود الوجوه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ يعني به في الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ هذا تهديد لهم في الدنيا‏.‏ وذكر أن عبد الله بن سلام قدم من الشام، فلم يأتِ أهله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً‏}‏ يعني وجه القلب، وهو كناية عن القسوة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني من قبل أن تحول القبلة كقوله ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فاستبقوا الخيرات أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 148‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت‏}‏ أي نمسخهم كما مسخنا أصحاب السبت القردة‏.‏ ثم قال ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً‏}‏ أي كائناً، وهذا وعيد من الله تعالى لهم ليعتبروا ويرجعوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي دون الشرك ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ يعني لمن مات موحداً نزلت الآية في شأن وحشي قاتل حمزة، وذلك أن الناس لما التقوا يوم أحد وقد جعل لوحشي جزاء إن قتل حمزة فقتله، لم يوف له، فلما قدم مكة ندم على صنعه الذي صنع هو وأصحابه معه، فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً إنا قد ندمنا على ما صنعنا، وإنه ليس يمنعنا من الدخول معك إلا أنا سمعناك تقول‏:‏ إذ كنت عندنا بمكة ‏{‏والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 68‏]‏ إلى قوله ‏{‏يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً‏}‏ ‏[‏سورة الفرقان‏:‏ 69‏]‏ وقد دعونا مع الله إلهاً آخر، وقتلنا النفس، وزنينا، فلولا هذه الآيات لاتبعناك، فنزل ‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صالحا فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏سورة مريم‏:‏ 60‏]‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى وحشي وأصحابه، فلما قرؤوا كتبوا إليه أن هذا شرط شديد، فنخاف ألا نعمل عملاً صالحاً فلا نكون من أهل هذه الآية‏.‏ فنزل ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ فبعث إليهم فقرؤوها، فبعثوا إليه فقالوا‏:‏ إن في هذه الآية شرطاً أيضاً نخاف ألا نكون من أهل مشيئته، فنزل قوله

‏{‏قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم‏}‏ ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 53‏]‏ فبعثها إليهم، فلما قرؤوها وجدوها أوسع مما كان قبلها، فدخل هو وأصحابه في الإسلام‏.‏ وروي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ كنا إذا مات الرجل منا على كبيرة، شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ فأمسكنا عن الشهادة‏.‏ وهذه الآية رد على من يقول‏:‏ إن من مات على كبيرة يخلد في النار، لأن الله تعالى قد ذكر في آية أخرى ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏}‏ ‏[‏سورة هود‏:‏ 114‏]‏ يعني ما دون الكبائر، فلم يبق لهذه المشيئة موضع سوى الكبائر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً‏}‏ يعني اختلق على الله كذباً عظيماً‏.‏ ويقال‏:‏ فقد أذنب ذنباً عظيماً‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 55‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏49‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ‏(‏50‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ‏(‏51‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ‏(‏52‏)‏ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ‏(‏53‏)‏ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ‏(‏54‏)‏ فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ يبرئون أنفسهم من الذنوب ‏{‏بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء‏}‏ وذلك لأن رؤساء اليهود كانوا يقولون‏:‏ هل على أولادنا من ذنب‏؟‏ فما نحن إلا كهيئتهم‏.‏ فهذا الذي زكوا به أنفسهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء‏}‏ أي يصلح ويبرئ من يشاء من الذنوب‏.‏ ويقال‏:‏ يكرم من يشاء بالإسلام ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ الفتيل الذي يكون في شق النواة وهو الأبيض، ويقال‏:‏ هو ما فتلته بين أصبعيك من الوسخ، إذا مسحت إحداهما بالأخرى، يعني‏:‏ لا ينقصون من ثواب أعمالهم بذلك المقدار‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ‏}‏ أي يختلقون على الله الكذب ‏{‏وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً‏}‏ أي ذنباً مبيناً‏.‏ روى مقاتل عن الضحاك قال‏:‏ الفتيل، والنقير، والقطمير كلها في النواة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ يعني أعطوا حظاً من علم التوراة ‏{‏يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت‏}‏ الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف‏.‏ وقال القتبي‏:‏ كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان فهو جبت وطاغوت‏.‏ قال‏:‏ ويقال‏:‏ الجبت‏:‏ السحر، والطاغوت‏:‏ الشيطان‏.‏ ويقال‏:‏ في هذه السورة رجلان من اليهود، وإيمانهم بهما تصديقاً لهما وطاعتهم إياهما‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ يعني لمشركي مكة ‏{‏هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ وذلك أن رؤساء اليهود قدموا مكة بعد قتال أُحد، ونقضوا العهد، وبايعوا المشركين وقالوا‏:‏ أنتم أهدى سبيلاً من المسلمين‏.‏ حدّثنا الخليل بن أحمد، قال‏:‏ حدّثنا الديبلي، قال‏:‏ حدّثنا أبو عبيد الله، قال‏:‏ حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال‏:‏ جاء كعب بن الأشرف وفي رواية أخرى عن عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ جاء كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب إلى مكة، فأتيا قريشاً فقالت لهما قريش أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، ديننا القديم ودين محمد الحديث، ونحن نصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونفك العناة، ومحمد صلى الله عليه وسلم صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار، فنحن أهدى أم هو‏؟‏ قالا‏:‏ بل أنتم أهدى سبيلاً منهم‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب‏}‏ الآية إلى قوله ‏{‏وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أهدى مِنَ الذين ءامَنُواْ سَبِيلاً‏}‏ يعني أهدى ديناً من المهاجرين والأنصار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْلَئِكَ الذين لَعَنَهُمُ الله‏}‏ أي خذلهم وطردهم الله من رحمته، ويقال‏:‏ عذبهم الله بالجزية ‏{‏وَمَن يَلْعَنِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً‏}‏ أي مانعاً‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك‏}‏ يقول‏:‏ لو كان لهم، يعني لليهود حظ من الملك ‏{‏فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً‏}‏ أي لا يعطون أحداً من بخلهم وحسدهم نقيراً، والنقير‏:‏ النقطة التي على ظهر النواة ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس‏}‏ أي أيحسدون الناس‏.‏

ويقال‏:‏ بل يحسدون الناس يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏على مَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ من النبوة وكثرة تزوجه النساء، ويقولون‏:‏ لو كان نبياً لشغلته النبوة عن كثرة النساء، فيحسدونه بذلك‏.‏

قال الله تعالى ‏{‏فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة‏}‏ يعني النبوة والعلم والفهم ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس‏}‏ فكان يوسف عليه السلام ملكاً على مصر، وكان سليمان بن داود عليهما السلام ملكاً، وكانت له ثلاثمائة امرأة حرّة سوى السرية، قال مقاتل هكذا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانت له سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، وكان لداود عليه السلام مائة امرأة، فلم يكن تمنعهم النبوة عن ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ إن الفائدة في كثرة تزوجه أنه كانت له قوة أربعين نبياً، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحاً‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة، لأن لكل امرأة قبيلتين، قبيلة من قبل الأب، وقبيلة من قبل الأم، فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه، فيكونون عوناً له على أعدائه‏.‏ ويقال‏:‏ إن كل من كان أتقى كانت شهوته أشد، لأن الذي لا يكون تقياً إنما ينفرج بالنظر واللمس، ألا ترى إلى ما روي في الخبر «العَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَاليَدَانِ تَزْنِيَانِ»‏.‏ فإذا كان في النظر وفي المس نوع من قضاء الشهوة، فلا ينظر التقي ولا يمس، فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه، فيكون أكثر جماعاً‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع، فإنه يصفي القلب، ولهذا كان الأنبياء عليهم السلام يفعلون ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ يعني من اليهود من آمن به، بالكتاب الذي أنزل على إبراهيم، وآمن بالكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ يعني أعرض عنه مكذباً، وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ يعني من آل إبراهيم ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ يعني بالكتاب الذي جاء به ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ لم يؤمن به‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس‏}‏ يعني اليهود كانوا يحسدون قريشاً لأن النبوة فيهم ‏{‏فَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم الكتاب‏}‏ يعني إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط‏.‏ ‏{‏الكتاب‏}‏ يعني التنزيل ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني السنة ‏{‏أَمْ يَحْسُدُونَ الناس‏}‏ يعني قريشاً وبني هاشم ‏{‏مُّلْكاً عَظِيماً‏}‏ يعني الخلافة لا تصلح إلا لقريش ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ أي كفر به‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً‏}‏ أي وقوداً لمن كفر به‏.‏ ثم بيّن مصير من كذب به، وموضع من آمن به، فقال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏56‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بئاياتنا‏}‏ يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ‏{‏سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً‏}‏ أي ندخلهم ناراً في الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ صَلِيَ إذا دخل النار لأجل شيء، وأصلاه إذا أدخله للاحتراق‏.‏ والاصطلاء بالنار الاستدفاء‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ كلما احترقت جلودهم ‏{‏بدلناهم‏}‏ يعني‏:‏ جددنا لهم ‏{‏جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ لأنهم إذا احترقوا خبت عنهم النار ساعة فبدلوا خلقاً جديداً، ثم عادت تحرقهم، فهذا دأبهم فيها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ تجدد في كل يوم سبع مرات‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بلغني أنه ينضج كل يوم سبعين ألف مرة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ سبعين جلداً في كل يوم‏.‏ وقد طعنت الزنادقة في هذا وقالوا‏:‏ إن الجلد الذي تبدل لم يذنب، فكيف يستحق العقوبة والعذاب‏؟‏ وقيل لهم‏:‏ إن ذلك الجلد هو الجلد الأول، ولكنه إذا أحرق أعيد إلى الحال الأول، كالنفس إذا صارت تراباً وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى، فكذلك هاهنا‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ على وجه المجاز، كما قال في آية أخرى ‏{‏يَوْمَ تُبَدَّلُ الارض غَيْرَ الارض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ‏}‏ ‏[‏سورة إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني يزاد في سعتها، وتسوى جبالها وأوديتها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ أي لكي يجدوا مس العذاب ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً‏}‏ في نقمته ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في أمره، حكم لهم بالنار، ثم بيّن مصير الذين صدقوا به فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني الطاعات التي أمرهم الله بها ‏{‏سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ‏}‏ أي مقيمين فيها ‏{‏أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ في الخلق والخلق ‏{‏وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً‏}‏‏.‏ قال الضحاك‏:‏ يعني، ظلال أشجار الجنة، وظلال قصورها وقال الكلبي‏:‏ يعني ظلاً ظليلاً أي دائماً‏.‏ وقال أكنان القصور، ‏(‏ظَلِيلا‏)‏ يعني لا خلل فيها‏.‏ قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ وذلك أن مفتاح الكعبة كان في يد بني شيبة، وكانت السقاية في يد بني هاشم، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة وقال له‏:‏ هات المفتاح‏.‏ فخشي عثمان أن يعطيه إلى عمه العباس، فجاء بالمفتاح وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذه بأمانة الله‏:‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فإذا فيه تمثال إبراهيم عليه السلام مصور على الحائط، وبيده قداح، وعنده إسماعيل والكبش مصوران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قَاتَلَ الله الكُفَّارَ مَا لإبْرَاهِيمَ والقِدَاحِ» فأمر بالصور فمحيت، فقضى حاجته من البيت ثم خرج، فطلب منه العباس بأن يدفع إليه المفتاح، فنزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ ثم صارت الآية عامة لجميع الناس برد الأمانات إلى أهلها‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت في شأن اليهود، حيث كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم، وكانت أمانة عندهم فمنعوها‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أمر لجميع المسلمين بأداء الفرائض وجميع الطاعات، لأنها أمانة عندهم كقوله تعالى ‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الامانة‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى قَوْلُهُ‏:‏ وَحَمَلَهَا الإنسان‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ يقول‏:‏ بالحق، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس‏}‏ أي بين القوم ‏{‏أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ أي بالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه ‏{‏إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ‏}‏ يعني يأمركم بالعدل والنصيحة، والاستقامة، وأداء الأمانة ‏{‏إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً‏}‏ بمقالة العباس ‏{‏بَصِيراً‏}‏ بردِّ المفتاح إلى أهله‏.‏ قرأ ابن عامر والكسائي وحمزة ‏{‏نِعِمَّا‏}‏ بنصب النون وكسر العين والاختلاف فيه كالاختلاف الذي في سورة البقرة، وذلك قوله تعالى ‏{‏إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏بَصِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله‏}‏ أي في الفرائض ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ أي في السنن‏.‏ ويقال‏:‏ أطيعوا الله فيما فرض، وأطيعوا الرسول فيما بيّن‏.‏ ويقال ‏{‏أَطِيعُواْ الله‏}‏ بقول لا إله إلا الله، وأطيعوا الرسول بقول محمد رسول الله ‏{‏وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ أطيعوا أولي الأمر منكم‏.‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ يعني‏:‏ أمراء السرايا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ الفقهاء والعلماء في الدين‏.‏ ويقال‏:‏ الخلفاء والأمراء‏.‏ ويجب طاعتهم ما لم يأمروا بالمعصية‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَئ‏}‏ من الحلال والحرام والشرائع ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول‏}‏ يعني إلى أمر الله فيما يأمر بالوحي، وإلى أمر الرسول فيما يخبر عن الوحي، ثم بعد النبي صلى الله عليه وسلم لما انقطع الوحي يرد إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

ويقال‏:‏ معناه إذا أشكل عليكم شيء، فقولوا‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ وقال الخليل بن أحمد البصري‏:‏ الناس أربعة‏:‏ رجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاجتنبوه‏.‏ ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري، فهذا جاهل فعلِّموه‏.‏ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فهذا نائم فأيقظوه‏.‏ ورجل يدري وهو يدري أنه يدري، فهذا عالم فاتبعوه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ يعني إن كنتم تصدقون بالله واليوم الآخر ثم قال‏:‏ ‏{‏ذلك خَيْرٌ‏}‏ أي الرد إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله خير من الاختلاف ‏{‏وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ أي وأحسن عاقبة‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة إلى أهلها، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه، فإن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمرنا بطاعتهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ‏}‏ العلماء والفقهاء، وهكذا روي عن جابر‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ وذلك أنَّ منافقاً يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي‏:‏ انطلق بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الخصومة في حكم الإسلام على المنافق، وفي حكم اليهود على اليهودي‏.‏ فقال اليهودي‏:‏ نأتي محمداً صلى الله عليه وسلم يحكم بيننا‏.‏ وقال المنافق‏:‏ بل نأتي كعب بن الأشرف حتى يحكم بيننا‏.‏ فكانا في ذلك إذ سمع عمر بن الخطاب قولهما، فقال‏:‏ ما شأنكما‏؟‏ فأخبراه بالقصة‏.‏ فقال عمر‏:‏ أنا أحكم بينكما‏.‏ فأجلسهما، ثم دخل البيت وخرج بالسيف، وقتل المنافق، فنزلت هذه الآية ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني بالقرآن ‏{‏وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ يعني سائر الكتب المنزلة ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ وهو كعب بن الأشرف ‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ‏}‏ يعني أمروا بتكذيبه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ نزلت الآية في شأن المنافقين، لأنهم آمنوا بلسانهم ولم يؤمنوا بقلوبهم، وركنوا إلى قول اليهود ومالوا إلى خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ إلى كهنة اليهود وسحرتهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ *** عَنِ الهدى وَعَن الحق ‏{‏ضلالا بَعِيداً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول‏}‏ يعني‏:‏ إلى ما أمر الله في كتابه، وإلى ما أمر الرسول، وإلى ما أنزل إلى الرسول ‏{‏رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً‏}‏ أي يعرضون عنك إعراضاً‏.‏ ويقال‏:‏ صدّ يصد يكون لازماً ويكون متعدياً، وإنما يتبين ذلك بالمصدر‏.‏ ويقال‏:‏ صد يصد صدّاً إذا صرف غيره‏.‏ كقوله تعالى ‏{‏فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ وصد يصد صدوداً، إذا أعرض بنفسه كقوله تعالى ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ‏}‏ وكقوله ‏{‏رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ‏}‏ يقول‏:‏ فكيف يصنعون إذا أصابتهم عقوبة ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي بما عملت أيديهم ‏{‏ثُمَّ جَاؤوكَ يَحْلِفُونَ بالله‏}‏ قال في رواية الكلبي‏:‏ نزلت في شأن ثعلبة بن حاطب، كانت بينه وبين الزبير بن العوام خصومة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير، فخرجا من عنده فمرا على المقدام بن الأسود، فقال المقدام لمن كان القضاء يا ثعلبة‏؟‏ فقال ثعلبة‏:‏ قضى لابن عمته الزبير ولوى شدقه على وجه الاستهزاء، فنزلت هذه الآية ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي بليه شدقه، فلما نزلت هذه الآية أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه ويحلف‏.‏

وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَاؤوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً‏}‏ أي ما أردنا إلا الإحسان في المقالة ‏{‏وَتَوْفِيقاً‏}‏ يقول‏:‏ صواباً‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ نزلت في شأن الذين بنوا مسجد ضرار، فلما أظهر الله نفاقهم وأمر بهدم المسجد، حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفعاً عن أنفسهم‏:‏ ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من الضمير‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه قد علم الله أنهم منافقون، والفائدة لنا أن اعلموا أنهم منافقون‏.‏ قال‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَتَوْفِيقاً‏}‏ أي طلباً لما وافق الحق‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تعاقبهم ‏{‏وَعِظْهُمْ‏}‏ بلسانك ‏{‏وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ يقول‏:‏ خوفهم وهددهم إن فعلتم الثاني عاقبتكم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ تقدم إليه تقدماً وثيقاً ثم نسخ بقوله ‏{‏ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 73‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏