فصل: تفسير الآيات رقم (44- 46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا‏}‏ أي‏:‏ ما وعدنا يعني‏:‏ في الدنيا من الثواب وجدناه صدقاً ‏{‏فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ‏}‏ من العذاب ‏{‏حَقّاً‏}‏ أي صدقاً ‏{‏قَالُواْ نَعَمْ‏}‏ فاعترفوا على أنفسهم في وقت لا ينفعهم الاعتراف‏.‏ قرأ الكسائي قالوا‏:‏ نَعِمْ بكسر العين في جميع القرآن‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ وروي عن عمر أنه سمع رجلاً يقول‏:‏ نَعَمْ بالنصب فقال له عمر‏:‏ النَّعَم المال، وقل‏:‏ نَعِمْ يعني‏:‏ بكسر العين وروى الكسائي عن شيخ من ولد الزبير قال‏:‏ ما كانت أشياخ قريش إلا يقولون‏:‏ نَعِمْ فماتت يعني‏:‏ اللغة ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين‏}‏ وذلك أنه ينادي منادٍ بين الجنة والنار تسمعه الخلائق كلهم إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ المحسنين ولعنة الله على الظالمين أي‏:‏ كرامة الله وفضله وإحسانه على المؤمنين وعذاب الله مع عقابه على الكافرين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي الناس عن دين الله، وهو الإسلام وهم الرؤساء منهم منعوا أتباعهم عن الإيمان ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ يقول يريدون بملة الإسلام غيراً وزيفاً ‏{‏وَهُم بالاخرة كافرون‏}‏ يعني‏:‏ أنهم كانوا جاحدون بالبعث‏.‏ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي أنَّ لَعْنَةَ الله بالتشديد ونصب الهاء‏.‏ وقرأ الباقون أنَّ لَعْنَةُ بتخفيف أَنْ وضم الهاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ‏}‏ أي بين أهل الجنة وأهل النار سور ‏{‏وَعَلَى الاعراف رِجَالٌ‏}‏‏.‏ وروى مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ الأعراف سور كعرف الديك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الأعراف سور بين الجنة والنار، وسمي بذلك لارتفاعه، وكل مرتفع عند العرب أعراف‏.‏ وقال السدي‏:‏ إنما سمّي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس‏.‏ روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أصحاب الأعراف فقال‏:‏ «هُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله فِي مَعْصِيةِ آبائِهِمْ فَمَنَعَهُمْ مِنَ النَّارِ قَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَنَعَهُمْ مِنَ الجَنَّةِ مَعْصِيَتُهُمْ آبَاءَهُمْ» وعن حذيفة بن اليمان أنه قال‏:‏ قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يكن لهم حسنات فاضلة يدخلون بها الجنة ولا سيئات فاضلة يدخلون بها النار‏.‏ وهذا القول أيضاً روي عن ابن عباس مثل هذا‏.‏ وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال‏:‏ هم أولاد الزنى‏.‏ وروي عن أبي مجلز أنه قال‏:‏ هم الملائكة‏.‏ فبلغ ذلك مجاهداً فقال‏:‏ كذب أبو مجلز يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الاعراف رِجَالٌ‏}‏ فقال أبو مجلز‏:‏ لأن الملائكة ليسوا بإناث ولكنهم عباد الرحمن‏.‏ قال الله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شهادتهم وَيُسْألُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏‏.‏

‏{‏يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم‏}‏ يعني‏:‏ أن أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنة إذا مروا بهم ببياض وجوههم، ويعرفون أهل النار بسواد وجوههم والسيما هي العلامة ‏{‏وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة أَن سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ فإذا مرّ بهم زمرة من أهل الجنة قالوا‏:‏ ‏{‏أَن سلام عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إنّ أهل الأعراف يسلّمون على أهل الجنة ‏{‏لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إنّ أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أنْ يَدخلوها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ والله ما جعل الله ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدهم بها‏.‏ ويقال‏:‏ لم يدخلوها يعني‏:‏ أهل الجنة لم يدخلوها حتى يسلم عليهم أهل الأعراف وهم يطمعون في دخولها‏.‏ ويقال‏:‏ أهل النار لم يدخلوها أبداً وهم يطمعون وطمعهم أن أفيضوا علينا من الماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 53‏]‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار‏}‏ قال‏:‏ من سرعة ما انصرفوا كأنهم صرفوا، ‏{‏تِلْقَاء أصحاب النار‏}‏ يعني‏:‏ أنهم إذا نظروا قِبَلَ أصحاب النار أي تلقاء أصحاب النار ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين‏}‏ أي‏:‏ مع الكافرين في النار ‏{‏ونادى أصحاب الاعراف رِجَالاً‏}‏ يعني‏:‏ في النار ‏{‏يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي ما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الإيمان‏.‏ وقرأ بعضهم وما كنتم تستكثرون‏.‏ يعني تجمعون المال الكثير‏.‏ وهي قراءة شاذة‏.‏

‏{‏أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أنّ أهل الأعراف يقولون‏:‏ يا وليد ويا أبا جهل‏:‏ أهؤلاء‏؟‏ يعني‏:‏ صهيباً وبلالاً والضعفة من المسلمين الذين كنتم تحلفون لا ينالهم الله برحمة‏.‏ يعني‏:‏ إنَّهم لا يدخلون الجنة‏.‏

ثم يقول الله تعالى لأصحاب الأعراف‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏ وعن أبي مجلز أنه قال‏:‏ وعلى الأعراف رجال من الملائكة، نادوا أصحاب الجنة قبل أن يدخلوها سلام عليكم لم يدخلوها‏.‏ وهم يطمعون دخولها يعني‏:‏ في الجنة‏.‏ وإذا نظروا إلى أصحاب النار حين مروا بهم ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين * ونادى أصحاب الاعراف رِجَالاً‏}‏ من المشركين ‏{‏يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة‏}‏ يعني‏:‏ لأهل الجنة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ فأقسم أهل النار أن أصحاب الأعراف داخلون النار معهم‏.‏ فقالت الملائكة لأهل النار‏:‏ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة‏؟‏‏.‏ ثم تقول الملائكة لأصحاب الأعراف‏:‏ ادخلوا الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ إن أهل النار يقولون لأهل الأعراف‏:‏ ما أغنى عنكم جمعكم وعملكم وأنتم والله تكونون معنا في النار ولا تدخلون الجنة‏؟‏‏.‏ فيقول الملائكة لأهل النار‏:‏ أهؤلاء الذين أقسمتم يعني، أصحاب الأعراف لا ينالهم الله برحمته‏.‏ ثم يقال‏:‏ لأصحاب الأعراف‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ أي اسقونا من الماء أو شيئاً من الفواكه وثمار الجنة فإنّ فينا من معارفكم‏.‏ فعلم الله تعالى أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان في العذاب‏.‏ فأجابهم أهل الجنة‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين‏}‏ يعني‏:‏ الماء والثمار‏.‏ وروي في الخبر أنَّ أبا جهل بن هشام بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستهزئ به‏:‏ أطعمني من عنب جنتك أو شيئاً من الفواكه‏.‏ فقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏

«قُلْ لَهُ‏:‏ إنَّ الله حَرَّمَهُما عَلَى الكَافِرِينَ»

ثم وصفهم عز وجل فقال‏:‏ ‏{‏الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا‏}‏ أي‏:‏ اتخذوا الإسلام باطلاً ودخلوا في غير دين الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ اتخذوا عبداً لهواً وفرحاً‏.‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ غرّهم ما أصابهم من زينة الدنيا ‏{‏فاليوم ننساهم‏}‏ أي نتركهم في النار ‏{‏كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا‏}‏ أي‏:‏ كما تركوا العمل ليومهم هذا‏.‏ ويقال‏:‏ كما تركوا الإيمان ليومهم هذا يعني‏:‏ أنكروا البعث ‏{‏وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بجحدهم بآياتنا بأنها ليست من عند الله تعالى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جئناهم بكتاب‏}‏ أي‏:‏ أكرمناهم بالقرآن ‏{‏فصلناه على عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بيّنا فيه الآيات، الحلال والحرام ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ بعلم منا ‏{‏هُدًى‏}‏ يعني‏:‏ بياناً من الضلالة‏.‏ ويقال‏:‏ جعلناه هادياً‏.‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ نعمة ونجاة من العذاب ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لمن آمن وصدق به‏.‏ يعني‏:‏ أكرمناهم بهذا الكتاب فلم يؤمنوا ولم يصدقوا‏.‏ وإنما أضاف إلى المؤمنين لأنهم هم الذين يهتدون به ويستوجبون به الرحمة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ‏}‏ عاقبة ما وعدهم الله‏.‏ وهو يوم القيامة‏.‏

‏{‏يَقُولُ الذين نَسُوهُ‏}‏ يقول‏:‏ الذين تركوا العمل والإيمان ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ في الدنيا ‏{‏قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق‏}‏ وذلك أنهم حين عاينوا العذاب، وذكروا قول الرسل، وندموا على تكذيبهم إياهم‏.‏ يقولون‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق‏}‏‏.‏ أي بأمر البعث فكذبناهم ‏{‏فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا‏}‏ لأنهم يرون الشفعاء يشفعون للمؤمنين، فيقال لهم‏:‏ ليس لكم شفيع‏.‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ أي‏:‏ هل نرد إلى الدنيا فنصدق الرسل ونعمل غير الشرك ‏{‏فَنَعْمَلَ‏}‏ صار نصباً لأنه جواب الاستفهام، وجواب الاستفهام إذا كان بالفاء فهو نصب‏.‏ وكذلك جواب الأمر والنهي‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قد غبنوا حظ أنفسهم ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي يكذبون بأن الآلهة شفعاؤهم عند الله‏.‏ قوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عيّر المشركين بعبادة آلهتهم، ونزل قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 41‏]‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ من ربك الذي تدعونا إليه‏؟‏ وأرادوا أن يجحدوا في اسمه طعناً أو في شيء من أفعاله فنزلت هذه الآية‏.‏ فتحيروا وعجزوا عن الجواب‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله‏}‏ أي خالقكم ورزاقكم ‏{‏الذى خَلَقَ * السموات والارض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏‏.‏ قال ابن عباس أي من أيام الآخرة‏.‏ طول كل يوم ألف سنة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ من أيام الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ يعني في ست ساعات من ستة أيام من أطول أيام الدنيا، ولو شاء أن يخلقها في ساعة واحدة لخلقها، ولكن علَّم عباده التأني والرفق والتدبير في الأمور‏.‏

‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هذا من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله‏.‏ وذكر عن يزيد بن هارون أنه سئل عن تأويله فقال تأويله‏:‏ الإيمان به‏.‏ وذكر أن رجلاً دخل على مالك بن أنس فسأله عن قوله ‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ فقال‏:‏ الاستواء غير مجهول والكيفية غير معقولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالاً‏.‏ فأخرجوه‏.‏ وذكر عن محمد بن جعفر نحو هذا‏.‏ وقد تأوله بعضهم وقال ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بمعنى الواو فيكون على معنى الجمع والعطف، لا على معنى التراخي والترتيب‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏استوى‏}‏ أي استولى، كما يقال فلان استوى على بلد كذا يعني‏:‏ استولى عليه فكذلك هذا‏.‏ معناه‏:‏ خالق السموات والأرض، ومالك العرش‏.‏ ويقال‏:‏ ثم صعد أمره إلى العرش‏.‏ وهذا معنى قول ابن عباس‏.‏ قال صعد على العرش‏.‏ يعني‏:‏ أمره، ويقال قال له‏:‏ كن فكان، ويقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ أي كان فوق العرش قبل أن يخلق السموات والأرض، ويكون ‏{‏على‏}‏ بمعنى العلو والارتفاع، ويقال استوى يعني استولى‏.‏ وذكر أن أول شيء خلقه الله تعالى القلم ثم اللوح‏.‏ فأمر القلم بأن يكتب في اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة‏.‏ ثم خلق ما شاء‏.‏ ثم خلق العرش ثم حملة العرش ثم خلق السموات والأرض‏.‏ وإنما خلق العرش لا لحاجة نفسه ولكن لأجل عباده ليعلموا أين يتوجهون في دعائهم لكي لا يتحيّروا في دعائهم، كما خلق الكعبة علماً لعبادتهم، ليعلموا إلى أين يتوجهون في العبادة‏.‏

فكذلك خلق العرش علماً لدعائهم ليعلموا إلى أين يتوجهوا بدعائهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى مَدَّ‏}‏ يعني‏:‏ إن الليل يأتي على النهار فيغطيه ولم يقل يغشي النهار الليل لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏ وقد بيّن في آية أخرى ‏{‏خَلَقَ السماوات والارض بالحق يُكَوِّرُ اليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لاًّجَلٍ مُّسَمًّى أَلا هُوَ العزيز الغفار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏ فكذلك هاهنا معناه يغشي النهار الليل ويغشي الليل النهار‏.‏ يعني‏:‏ إذا جاء النهار يذهب بظلمة الليل وإذا جاء الليل يذهب بنور النهار‏.‏

قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يُغْشِى‏}‏ بتشديد الشين ونصب الغين‏.‏ وقرأ الباقون بجزم الغين مع التخفيف، وهما لغتان غَشَّى ويُغَشِّي وأَغْشَى يُغْشِي بقوله ‏{‏يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ أي‏:‏ سريعاً في طلبه أبداً ما دامت الدنيا باقية‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ‏}‏ أي جاريات مذللات لبني آدم بأمره‏.‏

قرأ ابن عامر ‏{‏والشمس والقمر والنجوم‏}‏ كلها بالضم على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ ومعناه خلق الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ لَهُ الخلق والامر‏}‏ ألا كلمة التنبيه، يعني‏:‏ اعلموا أن الخلق لله تعالى، وهو الذي خلق الأشياء كلها وأمره نافذ في خلقه‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ الخلق هو الخلق والأمر هو القرآن وهو كلام الله، وليس بمخلوق، ولا هو بائن منه، وتصديقه قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سيئاته وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 5‏]‏ ويقال‏:‏ الأمر هو القضاء، ثم قال ‏{‏تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني‏:‏ تعالى الله عما يقول الظالمون، ويقال تبارك الله تفاعل من البركة أي‏:‏ ذو البركة يعني‏:‏ أن البركة كلها من الله تعالى‏.‏ والبركة فيما يذكر عليه اسم الله رب العالمين‏.‏ أي‏:‏ سيد الخلق أجمعين فلما وصف وبالغ في ذلك وأعجزهم فأمرهم بأن يدعوه فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني في الأحوال كلها‏.‏ يعني‏:‏ ادعوا الذي خلق هذه الأشياء في الأحوال كلها‏.‏ ويقال خفية يعني‏:‏ اعتقدوا عبادته في أنفسكم لأن الدعاء معناه العبادة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أن يدعوا بما لا يحل أو يدعوا على أحد باللعن والخزي أو تدعوا عليه بالشر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا‏}‏ وذلك أن الله تعالى إذا بعث نبياً فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها، وفي المعصية فساد الأرض وفساد أهلها، ويقال‏:‏ ‏{‏لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها‏}‏ أي لا تجوروا في الأرض فتخرب الأرض لأن الأرض قامت بالعدل، ويقال لا تخربوا المساجد فتتركوا الجماعات ‏{‏وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ يعني اعبدوه خوفاً وطمعاً أي‏:‏ خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته‏:‏ ويقال‏:‏ ادعوه في حال الخوف والضيق، ويقال‏:‏ خوفاً عن قطيعته ورجاء إلى الغاية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ولم يقل قريبة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ لأن القريب والبعيد يصلحان للواحد والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 83‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ تفسير الرحمة هاهنا المطر‏.‏ فذكر بلفظ المذكر، وقال بعضهم إن رحمة الله قريب‏.‏ يعني الغفران والعفو فانصرف إلى المعنى‏.‏ ومعناه‏:‏ المحسنون قريب من الجنة وهم المؤمنون‏.‏

ثم قال ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً بَيْن يَدَي رحْمَتِهِ‏}‏ أي قدام المطر‏.‏

قرأ حمزة والكسائي الريح بلفظ الوحدان‏.‏ وقرأ الباقون الرياح بلفظ الجماعة‏.‏ واختار أبو عبيد أن كل ما ذكر في القرآن من ذكر الرحمة فهو رياح وكل ما كان فيه ذكر العذاب فهو ريح‏.‏ واحتج بما روي عن النبيِّ عليه السلام‏:‏ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ إذا هَبَّتِ الرِّيحُ يَقُولُ‏:‏ «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِياحاً وَلا تَجْعَلْها رِيحاً»

وقرأ ابن عامر نُشْراً بضم النون وجزم الشين‏.‏

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع نُشُراً بضمتين‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي نشراً بنصب النون وجزم الشين‏.‏

وقرأ عاصم بشراً بالباء ويكون من البشارة كما قال في آية أخرى ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 46‏]‏‏.‏

ومن قرأ نَشْراً بالنون والنصب فيكون معناه ‏{‏يرسل الرياح‏}‏ تَنْشُر السحاب نَشْراً، ومن قرأ بالضمتين يكون جمع نشور، يقال‏:‏ ريح نشور، أي تنشر السحاب ورياح نُشُر، ومن قرأ بضمة واحدة لأنه لما اجتمعت الضمتان حذفت إحداهما للتخفيف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏حَتَّى إذا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً‏}‏ من الماء، والسحاب جمع السحابة يعني الريح حملت سحاباً ثقالاً ‏{‏سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ‏}‏ يعني‏:‏ السحاب تمر بأمر الله تعالى إلى أرض ليس فيها نبات ‏{‏فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ بالمكان‏.‏

ويقال‏:‏ بالسَّحاب ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ‏}‏ أي نخرج بالماء من الأرض الثمرات ‏{‏كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى‏}‏ أي يقول‏:‏ هكذا نحيي الموتى بالمطر كما أحييت الأرض الميتة بالمطر‏.‏ وذكر في الخبر أنه إذا كان قبل النفخة الأخيرة أمطرت السماء أربعين يوماً مثل مَني الرجال فتشرب الأرض، فتنبت الأجساد بذلك الماء، ثم ينفخ في الصور، فإذا هم قيام ينظرون‏.‏ وفي هذه الآية إثبات القياس وهو ردّ المختلف إلى المتفق، لأنهم كانوا متفقين أن الله تعالى هو الذي ينزل المطر ويخرج النبات من الأرض‏.‏ فاحتج عليهم لإحيائهم بعد الموت بإحياء الأرض بعد موتها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تتعظوا وتعتبروا في البعث أنه كائن‏.‏ ثم ضرب مثلاً للمؤمنين والكافرين فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58- 64‏]‏

‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بَإِذْنِ رَبِّهِ‏}‏ يعني‏:‏ المكان العذب الزّكي اللين من الأرض اللينة يخرج نباته إذا أمطرت فينتفع به، كذلك المؤمن يسمع الموعظة فتدخل في قلبه فينتفع بها وينفعه القرآن كما ينفع المطر الأرض الطيبة‏.‏

‏{‏وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إلاَّ نَكِداً‏}‏ يعني‏:‏ الأرض السبخة لا يخرج نباتها إلا من كد وعناء، فكذلك الكافر لا يسمع الموعظة ولا ينتفع بها، ولا يتكلم بالإيمان، ولا يعمل بالطاعة إلا كرهاً لغير وجه الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ أي هكذا نبيّن الآيات والعلامات والأمثال لمن آمن وشكر رب هذه النعم ووحّده‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بعثنا نوحاً إلى قومه بالرسالة فأتاهم، ويقال‏:‏ معناه جعلنا نوحاً رسولاً إلى قومه‏.‏ ‏{‏فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ أي وحّدوا الله، ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ أي ليس لكم رب سواه‏.‏

قرأ الكسائي ‏{‏إله غَيْرِه‏}‏ بكسر الراء‏.‏

وقرأ الباقون ‏{‏غَيرُهُ‏}‏ بالضم‏.‏ فمن قرأ بكسر الراء فلأجل مِنْ وجعله كله كلمة واحدة والغير تابعاً له‏.‏ ومن قرأ بالضم فمعناه ما لكم إله غيره ودخلت من مؤكدة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وهو الغرق ف ‏{‏قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ وهم الرؤساء والأجلة والأشراف، سموا بذلك لأنهم ملِئوا بما يحتاج إليه منهم، ويقال‏:‏ لأنهم ملؤوا الناظر هيبة إذا اجتمعوا في موضع‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَراكَ في ضَلاَلٍ مُبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في خطأ بَيِّنٍ‏.‏ ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وفي الآية بيان أدب الخلق في حسن الجواب والمخاطبة‏.‏ لأنه ردّ جهلهم بأحسن الجواب، وهذا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ يعني‏:‏ السداد من القول‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أُبلِّغُكُمْ رِسَالاَت رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ‏}‏ أي أمنعكم من الفساد وأدعوكم إلى التوحيد وأحذركم من العذاب‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ أنصح لكم وأنصحكم لغتان بمعنى واحد، كما يقال‏:‏ شكرت لك وشكرتك ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أعلم أنكم إن لم تتوبوا يأتيكم العذاب وأنتم لا تعلمون ذلك، وذلك أن سائر الأنبياء عليهم السلام خوّفوا أمتهم بعذاب الأمم السابقة، كما قال شعيب لقومه‏:‏ ‏{‏وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقى أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالح وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 89‏]‏ وأما قوم نوح فلم يكن بلغهم هلاك أمة قبلهم‏.‏ فقال لهم نوح‏:‏ ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ من العذاب الذي ينزل بكم‏.‏ فقالت الكبراء للضعفاء لا تتبعوه فإن هذا بشر مثلكم فأجابهم نوح فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ أنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ينزل الكتاب والرسالة على رجل منكم تعرفون حسبه ونسبه ‏{‏لينذركم‏}‏ بالنار ولتتقوا الشرك‏.‏

قال بعضهم‏:‏ «هذه الواو صلة وهو زيادة في الكلام‏.‏ ومعناه ‏{‏لينذركم‏}‏ لكي تتقوا‏.‏ وقال بعضهم هذه واو العطف أي‏:‏ جاءكم رسول لكي ينذركم‏.‏

‏{‏وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي تنجوا من العذاب‏.‏ قرأ أبو عمرو أبلغكم بجزم الباء والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون أُبَلّغكم بالتشديد فيكون فيه معنى المبالغة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي نوحاً ‏{‏فَأنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ‏}‏ يعني‏:‏ الذين اتبعوه من المؤمنين في السفينة، والفلك اسم لواحد والجماعة يعني‏:‏ أنجينا المؤمنين من الغرق ‏{‏وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ‏}‏ عن نزول العذاب‏.‏ ويقال ‏{‏عمين‏}‏ عن الحق يعني‏:‏ جعلوا أمره باطلاً‏.‏

وقد بيّن الله قصته في سورة هود‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 72‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً‏}‏ يعني‏:‏ أرسلنا إلى عاد نبيهم هوداً عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم‏.‏ لم يكن هود أخاهم في الدين ولكن كان من نسبهم‏.‏ قال السدي‏:‏ كانت عاد قوماً من أهل اليمن فأتاهم هود، فدعاهم إلى الإيمان، وذكّرهم، ووعظهم فكذبوه‏.‏ ويقال‏:‏ عاد اسم ملك ينسب القوم كلهم إليه‏.‏ ويقال‏:‏ اسم القرية ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ‏}‏ أي وحّدوه ‏{‏مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏أَفَلا تَتَّقُونَ‏}‏ عن الشرك و‏{‏قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ أي جهالة ‏{‏وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ‏}‏ بأنك رسول الله ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ‏}‏ جهالة ‏{‏وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ ربِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ إليكم ‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أمِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ كنت فيكم قبل اليوم أميناً فكيف تتّهموني اليوم‏.‏

‏{‏أَوَ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الرسالة والبيان ‏{‏على رجل منكم‏}‏ تعرفون نسبه ‏{‏لِيُنْذِرَكُمْ‏}‏ بالعذاب ‏{‏وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ أي جعلكم خلفاء في الأرض بعد هلاك قوم نوح ‏{‏وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً‏}‏ أي‏:‏ فضيلة في الطول على غيركم‏.‏ والخلفاء والخلائف جمع الخليفة‏.‏

قرأ ابن كثير وأبو عمرو بسْطة بالسين‏.‏

وقرأ حمزة بإشمام الزاي‏.‏

وقرأ الباقون بالصاد‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعاً‏.‏ وروى إبراهيم بن يوسف عن المسيب عن الكلبي قال‏:‏ كان طول قوم عاد أطولهم مائة وعشرين ذراعاً وأقصرهم ثمانون ذراعاً‏.‏ وقال مقاتل عن قتادة‏:‏ كان طول كل رجل منهم اثني عشر ذراعاً فذلك قوله ‏{‏التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 8‏]‏ ويقال‏:‏ كان بين نوح وبين آدم عشرة آباء كلهم على الإسلام‏.‏ وكان إدريس جد أبي نوح ولم يكن بين آدم ونوح نبي مرسل، وكان إدريس نبياً ولم يؤمر بدعوة الخلق، ويقال‏:‏ أنزل عليه عشرون صحيفة، وقد آمن به كثير من الناس، وكان بين نوح وإبراهيم ألف سنة ويقال‏:‏ ألفان وأربعون سنة وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة‏.‏ وكان بين موسى وعيسى ألف سنة‏.‏ وبين عيسى ومحمد عليه السلام خمسمائة سنة‏.‏ وكان هود بين نوح وإبراهيم فلما دعا قومه فكذبوه، أنذرهم بالعذاب، وقال‏:‏ إن الله تعالى يرسل عليكم الريح فيهلككم بها، فاستهزؤوا به وقالوا‏:‏ أي ريح يقدر علينا، فأمر الله تعالى خازن الريح أن يخرج من الريح العقيم التي هي تحت الأرض مقدار ما يخرج من حلقة الخاتم، كما قال في آية أخرى ‏{‏واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ فجاءتهم وحملت الرجال والدواب كالأوراق في الهواء فأهلكتهم كلهم فلم يبق منهم أحد‏.‏

كما قال ‏{‏تُدَمِّرُ كُلَّ شَئ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم كَذَلِكَ نَجْزِى القوم المجرمين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ وذلك بعد ما أنذرهم وأخذ عليهم الحجة وذكرهم نعم الله تعالى، قال لهم‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ اشكروا نعمة الله قال بعضهم‏:‏ الآلاء إيصال النعم، والنعماء دفع البلية‏.‏ وقال بعضهم على ضد هذا، وقال أكثر المفسرين‏:‏ الآلاء والنعماء بمعنى واحد ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي تنجوا من البلايا ومن عذابه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ‏}‏ قالوا‏:‏ يا هود أتأمرنا أن نعبد رباً واحداً ‏{‏وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاونَا‏}‏ أي نترك عبادة آلهتنا التي كان يعبدها آباؤنا‏.‏ قال لهم هود عليه السلام‏:‏ إن لم تفعلوا ما آمركم يأتيكم العذاب‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب أي‏:‏ بما تخوفنا ‏{‏إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ‏}‏ أنك لرسول الله ‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ‏}‏ أي‏:‏ وجب عليكم عذاب وغضب من ربكم ‏{‏أَتجَادِلُونَنِي فِي أسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وآبَاوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تجعلون قول أنفسكم وقول آبائكم حجة من غير أن يثبت لكم من الله حجة، وقد اتخذتم الأصنام بأيديكم، وسميتموها آلهة ‏{‏مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ يقول‏:‏ ليس لكم علة وعذر وحجة بعبادة الأصنام‏.‏ ‏{‏فَانْتَظِرُوا‏}‏ الهلاك ‏{‏إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرينَ‏}‏ يعني‏:‏ لنزول العذاب بكم، لأنهم أرادوا إهلاكه قبل أن يهلكوا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ منَّا‏}‏ يعني‏:‏ بنعمة منا عليهم ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا‏}‏ أي‏:‏ قطع أصلهم واستأصلهم ‏{‏وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أن الذين أهلكهم الله تعالى كلهم كانوا كافرين‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 79‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً‏}‏ يعني‏:‏ أرسلنا إلى ثمود نبيهم صالحاً قال بعضهم‏:‏ ثمود اسم القرية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ثمود اسم القبيلة وأصله في اللغة الماء القليل‏.‏ ويقال‏:‏ كانت بئراً بين الشام والحجاز‏.‏ ويقال‏:‏ هي عين يخرج منها ماء قليل في تلك الأرض ويقال لها أرض الحِجر كما قال في آية أُخرى ‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 80‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ كان في تلك القرية أهل تسعمائة بيت‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ألف وخمسمائة، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله سنين كثيرة فكذبوه وأرادوا قتله فخرجوا إلى عبد لهم، فأتاهم صالح ودعاهم إلى الله تعالى‏.‏ فقالوا له‏:‏ إن كنت نبياً فأخرج لنا من هذه الصخرة ناقة عَشَرَاء حتى نؤمن بك ونصدقك فقام صالح وصلى ركعتين ودعا الله تعالى فتحركت الصخرة وانصدعت عن ناقة عشراء ذات زغب فلم يؤمنوا به فولدت الناقة ولداً وقال بعضهم خرج ولدها خلفها من الصخرة‏.‏ فصارت الناقة بلية ومحنة عليهم، وكانت من أعظم الأشياء فتأتي مراعيهم فتنفر منها دوابهم‏.‏ وتأتي العين وتشرب جميع ما فيها من الماء‏.‏ فجعل صالح الماء قسمة بينهم يوماً للناقة، ويوماً لأهل القرية، فإذا كان اليوم الذي تشرب الناقة لا يحضر أحد العين وكانوا يحلبونها في ذلك اليوم مقدار ما يكفيهم، وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون‏.‏ فاجتمعوا لقتل الناقة فقال لهم صالح‏:‏ لا تفعلوا فإنكم إذا قتلتموها يأتيكم العذاب فجاؤوا ووقفوا على طريق الناقة فلما مرت بهم الناقة متوجهة إلى العين رماها واحد منهم يقال له مصدع بن وهر فأصابت السهم رجل الناقة فلما رجعت الناقة من العين خرج قدار بن سالف وهو أشقى القوم كما قال الله تعالى ‏{‏إِذِ انبعث أشقاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 12‏]‏ فضربها بالسيف ضربة فقتلها وقسموا لحمها على أهل القرية‏.‏

وروي عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه قال‏:‏ لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد جبلاً وقال ثلاث مرات أين أمي أين أمي أين أمي‏؟‏ فأخبر بذلك صالح فقال يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام‏.‏ فقالوا‏:‏ وما العلامة في ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني وجوهكم محمرة، وفي اليوم الثالث وجوهكم مسودة‏.‏ ثم خرج صالح من بين أظهرهم مع من آمن منهم فأصبحوا في اليوم الأول وجعل يقول بعضهم لبعض‏:‏ قد اصفر وجهك، وفي اليوم الثاني يقول بعضهم لبعض‏:‏ قد احمر وجهك، وفي اليوم الثالث يقول بعضهم لبعض‏:‏ قد اسود وجهك‏.‏ فأيقنوا جميعاً الهلاك‏.‏ فجاء جبريل عليه السلام وصاح بهم صيحة واحدة فماتوا كلهم، ويقال‏:‏ قد أتتهم النار فأحرقتهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا الله‏}‏ أي‏:‏ وحدوا الله ‏{‏ما لكم من إله غيره‏}‏ قد ذكرناه ‏{‏قَدْ جَاءَتكُمْ بَيِّنَةً مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ قد أتيتكم بعلامة نبوتي وهي الناقة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً‏}‏ أي علامة لنبوتي لكي تعتبروا وتوحّدوا الله ربكم ‏{‏فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ الله‏}‏ يقول‏:‏ دعوها ترتع في أرض الحجر ‏{‏وَلا تَمَسُّوها بِسوءٍ‏}‏ يقول‏:‏ لا تعقروها ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وهو ما عذبوا به‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ‏}‏ أي‏:‏ بعد هلاك عاد ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ أنزلكم في أرض الحجر ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً‏}‏ وذلك أنه كانت لهم قصور يسكنون فيها أيام الصيف، وقد اتخذوا بيوتاً في الجبل لأيام الشتاء، فذكرهم نعمة الله تعالى‏.‏ فقال‏:‏ اذكروا هذه النعم حيث وفقكم الله حتى اتخذتم القصور في سهل الأرض واتخذتم البيوت في الجبال‏.‏

‏{‏فَآذْكُرُوا آلاَءَ الله‏}‏ أي نعم الله عليكم ‏{‏وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تعملوا في الأرض بالمعاصي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعفُوا‏}‏ قرأ ابن عامر وقَالَ الْمَلأُ بالواو‏.‏ وقرأ الباقون بغير واو أي قال الملأ الذين تكبروا عن الإيمان من قومه وهم القادة للذين استضعفوا ‏{‏لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ‏}‏ بصالح ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ يعني‏:‏ أتصدقون صالحاً بأنه مرسل من ربه إليكم ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين ‏{‏إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ مصدقون به ‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ من رسالة صالح ‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ عصوا وتركوا أمر ربهم وأبوا عن طاعته‏.‏ ثم التوحيد ويقال‏:‏ فيه تقديم‏.‏ ومعناه عتَوا عن أمر ربهم وعقروا الناقة‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنهم عقروا الناقة ليلة الأربعاء في عشية الثلاثاء فأهلكهم الله في يوم السبت‏.‏ ‏{‏وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ أي‏:‏ بما تخوفنا به من العذاب ‏{‏إنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إن كنت رسول رب العالمين ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ‏}‏ أي‏:‏ الزلزلة ويقال‏:‏ صيحة جبريل كما قال في آية أُخرى ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 83‏]‏ ويقال‏:‏ أخذتهم الزلزلة ثم أخذتهم الصيحة‏.‏ ويقال‏:‏ النار ‏{‏فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهُمْ جَاثِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ صاروا في مدينتهم ومنازلهم ميتين، لا يتحركون وأصله من الجثوم‏.‏ ويقال‏:‏ أصابهم العذاب بكرةً يوم الأحد ‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ‏}‏ فيه تقديم وتأخير أي‏:‏ حين كذبوه خرج من بين أظهرهم ‏{‏وَقَالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ أي دعوتكم إلى التوبة وحذرتكم العذاب ‏{‏وَلَكِن لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تطيعون الداعين‏.‏ ويقال‏:‏ إنما قال ذلك بعد إهلاكهم‏.‏ قال على وجه الحزن‏.‏ إني قد أبلغتكم الرسالة‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ إن الله تعالى لم يهلك قوماً ما دام الرسول فيهم فإذا خرج من بين ظهرانيهم أتاهم ما أوعد لهم‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ لما هلك قوم صالح رجع صالح ومن معه من المؤمنين، فسكنوا ديارهم‏.‏ وقال في رواية الضحاك خرج صالح إلى مكة فكان هناك حتى قبضه الله تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ وأرسلنا لوطاً إلى قومه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه واذكروا لوطاً إذ قال لقومه ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ يعني‏:‏ اللواطة ‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لم يعمل بمثل عملكم ‏{‏مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ قبلكم ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مّن دُونِ النساء‏}‏ أي‏:‏ تجامعون الرجال من دون النساء يعني‏:‏ إن إتيان الرجال أشهى إليكم من إتيان النساء وقرأ أبو عمرو آيِنَّكُمْ بالمد بغير همز وقرأ ابن كثير ونافع إنَّكُمْ بهمزة واحدة بغير مد‏.‏ وقرأ الباقون بهمزتين بغير مد ومعنى ذلك كله واحد وهو الاستفهام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ‏}‏ أي‏:‏ متعدون من الحلال إلى الحرام ‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ‏}‏ وإنما صار جواب نصباً لأنه خبر كان والاسم هو ما بعده ‏{‏إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتقذرون منا ويتنزهون عن فعلنا ‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ يعني‏:‏ ابنتيه زعوراء وريثا ‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ وهي واعلة ‏{‏كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ يعني‏:‏ من الباقين في الهلاك فيمن أهلكوا ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ يعني‏:‏ الحجارة ويقال‏:‏ أمطر بالعذاب ومطر بالرحمة‏.‏ ويقال‏:‏ أمطر ومطر بمعنى واحد ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ أي‏:‏ كيف كان آخر أمرهم، وقد بيّن قصته في سورة هود‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لو أن الذي يعمل عمل قوم لوط اغتسل بكل قطرة في السماء، وبكل قطرة في الأرض، ما زال نجساً إلى يوم القيامة وقد اختلف الناس في حَدِّه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو كالزاني فإن كان محصناً يرجم وإن كان غير محصن يجلد‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ يرجم في الأحوال كلها محصناً كان أو غير محصن‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي برجل قد عمل بذلك العمل، فأمر بأن يلقى من أشرف البناء منكوساً ثم يتبع بالحجارة، لأن الله تعالى ذكر قتلهم بالحجارة‏.‏

وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ أي‏:‏ حجارة وقال بعضهم‏:‏ يعزر ويحبس حتى تظهر توبته ولا يحد وهو قول أبي حنيفة رحمه الله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 93‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏90‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏91‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ يعني‏:‏ أرسلنا إلى مدين نبيّهم شعيباً ومدين هو آل مدين وكان مدين بن إبراهيم خليل الرحمن، تزوج ريثاء ابنة لوط، فولدت آل مدين، فتوالدوا وكثروا، ثم صار هو اسماً للمدينة، فسميت المدينة مدين، وسمي أولئك القوم مدين‏.‏ فكفروا بالله تعالى ونقصوا المكيال والميزان في البيع، وأظهروا الخيانة فبعث الله تعالى إليهم شعيباً‏.‏ وقال الضحاك كان شعيب أفضلهم نسباً، وأصدقهم حديثاً، وأحسنهم وجهاً، ويقال‏:‏ إنه بكى من خشية الله تعالى حتى ذهب بصره فصار أعمى فدعا قومه إلى الله تعالى و‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ اعبدوا الله‏}‏ أي وحّدوه وأطيعوه ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ مجيء شعيب النبي عليه السلام إليهم آية ولم يكن لشعيب علامة سوى مجيئه وإخباره أن الله تعالى واحد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت له علامة لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا وقد جعل له علامة ليظهر تصديق مقالته، إلا أن الله تعالى لم يبيّن لنا علامته، وقد بيّن علامة بعض الأنبياء، ولم يبيّن علامة الجميع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط‏}‏ أي أتموا الكيل والميزان بالعدل ‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ ولا تنقصوا الناس حقوقهم في البيع والشراء ‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض بَعْدَ إصلاحها‏}‏ يعني‏:‏ لا تعملوا في الأرض المعاصي بعد ما بيّن الله تعالى طريق الحق وأمركم بالطاعة ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ وفاء الكيل وترك الفساد في الأرض خير لكم من النقصان والفساد في الأرض إن كنتم مصدقين بما حرم الله تعالى عليكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ أي لا ترصدوا بكل طريق توعدون أهل الإيمان بالقتل ‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يقول‏:‏ تمنعون الناس عن دين الإسلام ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ يقول‏:‏ تريدون بملة الإسلام زيغاً وغيراً‏.‏ وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ‏}‏ قال‏:‏ بكل سبيل حتى تصدوا أهلها عنها ‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ قال وتلتمسون بها الزيغ‏.‏ ويقال معناه‏:‏ لا تقعدوا على كل طريق تخوفون الناس وتخوفون أهل الإيمان بشعيب عليه السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ أي كنتم قليلاً في العدد فكثَّر عددكم‏.‏ ويقال‏:‏ كنتم فقراء فأغناكم وكثر أموالكم ‏{‏وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ أي كيف صار آخر أمر المكذبين بالرسل، يعني‏:‏ الذين قبلهم قوم نوح وقوم عاد وقوم هود وقوم صالح‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إن كان جماعة منكم صدقوا بي ‏{‏وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ‏}‏ بي أي لم يصدقوا ‏{‏فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا‏}‏ يعني‏:‏ حتى تنظروا عاقبة المؤمنين أفضل أم عاقبة الكافرين‏.‏

فذلك قوله‏:‏ ‏{‏حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا‏}‏ يعني‏:‏ حتى يقضي الله بين المؤمنين وبين الكافرين ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ أي أعدل العادلين‏.‏

‏{‏قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف والرؤساء تعظموا عن الإيمان من قومه ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ أي لتدخلنا في ديننا الذي نحن عليه‏.‏ ويقال‏:‏ هذا الخطاب لقومه الذين آمنوا لترجعن إلى ديننا كما كنتم ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم شعيب ‏{‏أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين‏}‏ يعني‏:‏ أتجبروننا على ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم قال لهم شعيب‏:‏ ‏{‏قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ قد اختلقنا على الله كذباً إن دخلنا في دينكم ‏{‏بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا‏}‏ يقول‏:‏ إن الله تعالى أكرمنا بالإسلام وأنقذنا من ملّتكم‏.‏ يقال‏:‏ معناه كنا كاذبين مثلكم لو دخلنا في دينكم بعد إذ نجانا الله منها‏.‏ ويقال‏:‏ أكرمنا الله تعالى بالإسلام ولم يجعلنا من أهل الكفر فأنقذنا وأبعدنا من ملتكم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله‏}‏ يعني‏:‏ ما ينبغي لنا وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يشاء الله ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ دخولنا فيها وأن ينزع المعرفة من قلوبنا‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يكون في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها‏.‏ ويقال‏:‏ معناه إلا أن يشاء الله يعني‏:‏ لا يشاء الله الكفر مثل قولك‏.‏ لا أكلمك حتى يبيض القار، وحتى يشيب الغراب، وهذا طريق المعتزلة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا‏}‏ يعني‏:‏ علم ما يكون منا ومن الخلق ‏{‏عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ أي فوضنا أمرنا إلى الله لقولهم‏:‏ ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب * شُعَيْبٌ‏}‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق‏}‏ أي اقض بيننا وبين قومنا بالعدل‏.‏ وروى قتادة عن ابن عباس قال‏:‏ ما كنت أدري ما معنى قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا‏}‏ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لعلي بن أبي طالب تعال أفاتحك يعني‏:‏ أخاصمك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الفتح أن تفتح شيئاً مغلقاً كقوله‏:‏ ‏{‏وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وسمي القضاء فتحاً لأن القضاء فصل للأمور وفتح لما أشكل منها ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين‏}‏ يعني‏:‏ خير الفاصلين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لاِنْ اتبعتم شُعَيْبًا‏}‏ أي لأن أطعتم شعيباً في دينه ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ يعني‏:‏ جاهلون‏.‏ فلما وعظهم شعيب، ولم يتعظوا أخبرهم أن العذاب نازل بهم‏.‏

فلم يصدقوه‏.‏ فخرج شعيب ومن آمن معه من بين أظهرهم فأصابهم يعني‏:‏ أهل القرية حر شديد، فخرجوا من القرية، ودخلوا غيضة كانت عند قريتهم وهي الأيكة كما قال الله تعالى في آية أُخرى ‏{‏كَذَّبَ أصحاب لْأيْكَةِ المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 176‏]‏ فأرسل الله تعالى ناراً فأحرقت الأشجار ومن فيها من الناس‏.‏ ويقال‏:‏ أصابتهم زلزلة فخرجوا، فأتتهم نار فأحرقتهم، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ يعني‏:‏ الزلزلة والحر الشديد فهلكوا واحترقوا ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ يعني‏:‏ صاروا ميتين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ كأن لم يكونوا فيها قط وقال قتادة‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ كأن لم يتنعموا فيها‏.‏ ويقال‏:‏ معناه من كان رآهم بعد إهلاكنا إياهم ظن أنه لم يكن هناك أحد يعني‏:‏ لم يعيشوا‏.‏ ويقال‏:‏ كأن لم يعمروا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين‏}‏ يعني‏:‏ المغبونين في العقوبة، يعني‏:‏ إنهم كانوا يقولون لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون‏.‏ فصار الذين كذبوا هم الخاسرون لا الذين آمنوا منهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرض عنهم حين خرج من بين أظهرهم ‏{‏وَقَالَ يأَ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى‏}‏ في نزول العذاب ‏{‏وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏فَكَيْفَ ءاسى على قَوْمٍ كافرين‏}‏ أي كيف أحزن بعد النصيحة على قوم إن عذبوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا‏}‏ ففي الآية مضمر ومعناه‏:‏ وما أرسلنا في قرية من نبي فكذبوه إلا أخذنا أهلها ‏{‏بالبأساء والضراء‏}‏ يعني‏:‏ عاقبنا أهلها بالخوف والبلاء والقحط والفقر‏.‏ ويقال‏:‏ البأساء ما يصيبهم من الشدة في أموالهم، والضراء ما يصيبهم في أنفسهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي يتضرعوا، فأدغمت التاء في الضاد وأقيم التشديد مقامه‏.‏ ومعناه‏:‏ لكي يدعوا ربهم ويؤمنوا بالرسل ويعرفوا ضعف معبودهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ حولنا مكان الشدة الرخاء، ومكان الجدوبة الخصب، ‏{‏حتى عَفَواْ‏}‏ أي كثروا، واستغنوا، وكثرت أموالهم فلم يشكروا الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ حتى عفوا أي حتى سروا به ‏{‏وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا الضراء والسراء‏}‏ أي مثل ما أصابنا مرة يكون الرخاء، ومرة يكون الشدة، ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أتاهم العذاب من حيث لم يعلموا به‏.‏ ويقال‏:‏ إن الشدة للعامة تكون تنبيهاً وزجراً‏.‏ والنعمة تكون استدراجاً وأما النعمة للخاصة فهي تنبيه، لأنه بعد ذلك عقوبة‏.‏ كما روي أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام إذا رأيت الفقر مقبلاً إليك فقل مرحباً بشعار الصالحين‏.‏ وإذا رأيت الغنى مقبلاً إليك فقل ذنب عجلت عقوبته

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى ءامَنُواْ واتقوا‏}‏ يعني‏:‏ وحّدوا الله تعالى واتقوا الشرك ‏{‏لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا عليهم من السماء المطر والرزق والنبات من الأرض ‏{‏ولكن كَذَّبُواْ‏}‏ الرسل ‏{‏فأخذناهم‏}‏ أي عاقبناهم ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الشرك‏.‏ ففي الآية دليل على أن الكفاية والسعة في الرزق من السعادة إذا كان المرء شاكراً‏.‏ وتكون عقوبة له إذا لم يكن شاكراً‏.‏ لأنه قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ يعني‏:‏ الغنى يكون وبالاً لمن لا يشكر الله تعالى وعقوبة له‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا‏}‏ أي ينزل عليهم عذابنا ليلاً ‏{‏وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى‏}‏ فتحت الواو لأنها واو العطف، أدخلت عليها ألف الاستفهام‏.‏ وكذلك أفأمن لأنها فاء العطف دخلت عليها ألف الاستفهام‏.‏ قرأ نافع وابن كثير أو أمن بجزم الواو لأن أصله أو وأمن وأو حرف من حروف الشك فأدغم في حرف النسق ‏{‏أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى‏}‏ يعني‏:‏ يأتيهم عذابنا نهاراً ‏{‏وَهُمْ يَلْعَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لاهون عنه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله‏}‏ يعني‏:‏ عذاب الله ‏{‏فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله‏}‏ يعني‏:‏ عذاب الله ‏{‏إِلاَّ القوم الخاسرون‏}‏ أي المغبونون بالعقوبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 116‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏106‏)‏ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏109‏)‏ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الارض‏}‏ يعني‏:‏ أو لم يبيّن‏.‏ قال القتبي‏:‏ أصل الهدى الإرشاد كقوله‏:‏ ‏{‏عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى‏}‏ يعني‏:‏ يرشدني‏.‏ ثم يصير الإرشاد لمعان منها إرشاد بيان مثل قوله ‏{‏أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أو لم يبين لهم‏.‏ ومنها إرشادٌ بمعنى بالدعاء كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 7‏]‏ يعني‏:‏ نبياً يدعوهم وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكواة وَكَانُواْ لَنَا عابدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 73‏]‏ أي يدعون الخلق‏.‏ وقرأ بعضهم أو لم نهد بالنون يعني‏:‏ أو لم نبين لهم الطريق‏.‏ ومن قرأ بالياء معناه‏:‏ أو لم يبين الله للذين يرثون الأرض من بعد أهلها يعني‏:‏ ينزلون الأرض ‏{‏مِن بَعْدِ‏}‏ هلاك ‏{‏أَهْلِهَا‏}‏‏.‏ ويقول أو نبيّن لأهل مكة هلاك الأمم الخالية كيف أهلكناهم ولم يقدر مبعودهم على نصرتهم‏.‏ ‏{‏أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهلكناهم بذنوبهم كما أهلكنا من كان قبلهم عند التكذيب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ نختم على قلوبهم بأعمالهم الخبيثة عقوبة لهم ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ الحق ولا يقبلون المواعظ‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا‏}‏ أي تلك القرى التي أهلكنا أهلها، نخبرك في القرآن من حديثها ‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ يعني‏:‏ بالعلامات الواضحة، والبراهين القاطعة، التي لو اعتبروا بها لاهتدوا‏.‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ إنّ أهل مكة لم يصدقوا بما كذب به الأمم الخالية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فما كانوا ليؤمنوا بعد العذاب بما كذبوا من قبل وهذا مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ أي يوم الميثاق فما كانوا ليؤمنوا في دار الدنيا بما كذبوا من قبل يوم الميثاق وأقروا به‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بنى ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ثم في الدنيا ما وجدناهم على ذلك الإقرار‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ عند مجيء الرسل ‏{‏بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ مجيء الرسل معناه أن مجيء الرسل لم ينفعهم‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله‏}‏ يعني‏:‏ هكذا يختم الله تعالى ‏{‏على قُلُوبِ الكافرين‏}‏ مجازاة لكفرهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ‏}‏ مِنْ زيادة للصلة يعني‏:‏ ما وجدنا لأكثرهم وفاءً فيما أمروا به يعني‏:‏ الذين كذبوا من الأمم الخالية‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏مَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ‏}‏ لأنهم أقروا يوم الميثاق، ثم نقضوا العهد حيث كفروا‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ‏}‏ أي قبول العهد الذي عاهدوا على لسان الرسل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لفاسقين‏}‏ يعني‏:‏ وقد وجدنا أكثرهم لناقضين العهد، تاركين لما أمروا به‏.‏

قوله تعالى ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى‏}‏ يعني‏:‏ أرسلنا من بعد الرسل الذين ذكرهم في هذه السورة‏.‏ ويقال‏:‏ ثم بعثنا من بعد هلاكهم موسى وهو موسى بن عمران ‏{‏بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ اليد البيضاء والعصا ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ وهو ملك مصر واسمه الوليد بن مصعب‏.‏ وروي عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ كان فرعون في وقت يوسف فعاش إلى وقت موسى عليهما السلام‏.‏ فبعث الله تعالى إليه موسى ليأخذ عليه الحجة‏.‏ وأنكر عليه ذلك عامة المفسرين‏.‏ وقالوا هو كان غيره، وكان جباراً، ظهر بمصر واستولى عليها، وأرسل الله تعالى إليه موسى فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيِهِ‏}‏ يعني‏:‏ جنوده وأتباعه ‏{‏فَظَلَمُواْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ فجحدوا بالآيات ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ يعني‏:‏ كيف صار آخر أمر المشركين‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أول الآيات العصا فضرب بها موسى باب فرعون، ففزع منها فرعون، فشاب رأسه، فاستحيا فخضب بالسواد، فأول من خضب بالسواد فرعون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان طول العصا عشرة أذرع على طول موسى، وكانت من آس الجنة يضرب بها الأرض فتخرج النبات، فلما دخل عليه مع هارون ‏{‏وَقَالَ‏}‏ له ‏{‏موسى يافرعون إِنّى رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ إليك قال له فرعون‏:‏ كذبت‏.‏ قال موسى‏:‏ ‏{‏حَقِيقٌ عَلَىَّ أَنْ لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ قرأ نافع حقيق علي بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون بتخفيف على‏.‏ فمن قرأ بالتخفيف فمعناه واجب علي أن لا أقول، أي‏:‏ واجب أن أترك القول على الله إلا الحق‏.‏ ومن قرأ بالتشديد معناه‏:‏ واجب علي ترك القول على الله إلا الحق‏.‏ أي لا أقول على الله إلا الحق فلما كذبوه قال‏:‏ إني لا أقول بغير حجة وبرهان ‏{‏قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قد جئتكم بعلامة لنبوتي ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إسراءيل‏}‏ ولا تستعبدهم، لأن فرعون كان قد استعبد بني إسرائيل واتخذهم في الأعمال سخرة ف ‏{‏قَالَ‏}‏ له فرعون‏:‏ ‏{‏قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ‏}‏ أي بعلامة لنبوتك ‏{‏فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين‏}‏ بأنك رسول الله ‏{‏فَأُلْقِىَ‏}‏ موسى ‏{‏عصاه‏}‏ يعني‏:‏ ألقى موسى عصاه من يده ‏{‏فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ وهي أعظم الحيات، ويقال الثعبان الحية الذكر الصفراء الشقراء ويقال صارت حية من أعظم الحيات رأسها مع شرف قصر فرعون، ففتحت فاها نحو فرعون، وكان فرعون على سريره فوثب فرعون عن سريره، وهرب منها، وهرب الناس، وصاحوا إلى موسى، ونادى فرعون يا موسى خذها عني فأخذها، فإذا هي عصا بيضاء بيده كما كانت، وجعل الناس يضحكون مما يصنع موسى‏.‏

ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ أنها حية تسعى لا لبس فيها‏.‏ فقال له فرعون‏:‏ هل معك غير هذا‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏{‏وَنَزَعَ يَدَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أخرج يده أخرجها من جيبه كما قال في آية أخرى ‏{‏وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء فِى تِسْعِ ءايات إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 12‏]‏ يعني‏:‏ من غير برص ‏{‏فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين‏}‏ يعني‏:‏ لها شعاع غلب على نور الشمس‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏للناظرين‏}‏ يعني‏:‏ يتعجب ويتحير منها الناظرون‏.‏ ويقال‏:‏ إن البياض من غير برص‏.‏ لأن الناس يكرهون النظر إلى الأبرص، فأخبر أن ذلك بياض ينظرون إليه من غير سوء‏.‏ ثم أدخل يده في جيبه وأخرجها فصارت كما كانت‏.‏

‏{‏قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ الأشراف والرؤساء‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إن فرعون قال بهذه المقالة فصدقه قومه كما قال في سورة الشعراء‏:‏ ‏{‏قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 34‏]‏ يعني‏:‏ حاذق بالسحر‏.‏

ثم قال لقومه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ تصديقاً لقوله‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ‏}‏ بسحره يعني‏:‏ من أرض مصر‏.‏ فقال لهم فرعون‏:‏ ‏{‏فَمَاذَا تَأْمُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أي فماذا تشيرون في أمره‏؟‏ ويقال‏:‏ إن بعضهم قال لبعض فماذا تأمرون‏؟‏ أي ماذا ترون في أمره ‏{‏قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ احبسهما ولا تقتلهما‏.‏ وأصله في اللغة التأخير أي أخر أمرهما حتى تجتمع السحرة فيغلبوهما‏.‏ فإنك إن قتلتهما قبل أن يظهر حالهما يظن الناس أنهما صادقان‏.‏ فإذا تبين كذبهما عند الناس فاقتلهما حينئذٍ‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ‏}‏ أي‏:‏ ابعث ‏{‏فِى المدائن حاشرين‏}‏ يعني‏:‏ الشرط يحشرون الناس إليكم أي‏:‏ ‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ حاذق بالسحر قرأ ابن كثير أرجئهو بالهمزة والواو بعد الهاء‏.‏ وقرأ الكسائي أرجهي إلا أنه بكسر الهاء ولا يتبع الياء‏.‏ وقرأ أبو عمر وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر في إحدى الروايتين أرجئه بالهمز بغير مد والضمة‏.‏ وهذه اللغات كلها مروية عن العرب‏.‏ وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي بكل سَحَّار عليم على وجه المبالغة في السحر‏.‏ وقرأ الباقون بكل ساحر وهكذا في يونس واتفقوا في الشعراء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لاجْرًا‏}‏ يعني‏:‏ قالوا لفرعون أتعطينا جعلاً ومالاً ‏{‏إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏ لموسى ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم فرعون ‏{‏نِعْمَ‏}‏ لكم الجعل ‏{‏وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏ يعني‏:‏ لكم المنزلة به سوى العطية يعني‏:‏ إنكم تكونون أول من يدخل علي بالسلام قرأ أبو عمرو آينَّ لنا لأجْراً بمد الألف‏.‏

وقرأ عاصم في رواية حفص إن بهمزة واحدة بغير ياء وقرأ الباقون بهمزتين وقرأ ابن كثير ونافع إنَّ لَنَا بهمزة واحدة بغير ياء‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي أإن لنا بهمزتين فلما اجتمع السحرة وغدوا للخروج يوماً وأعلن الناس بخروجهم ليجتمعوا عند سحرهم كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 59‏]‏ أي‏:‏ يوم عيد كان لهم ويقال‏:‏ يوم النيروز‏.‏ فلما اجتمعت السحرة ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا *** موسى إَمَامًا *** أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ يعني‏:‏ إما أن تطرح عصاك على الأرض وإما أن نكون نحن الملقين قبلك‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم موسى ‏{‏أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ يعني‏:‏ السحرة ألقوا الحبال والعصي ‏{‏سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس‏}‏ أي أخذوا أعينهم بالسحر ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ يعني‏:‏ طلبوا رهبتهم حتى رهبهم الناس‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كانت السحرة سبعين فألقوا سبعين عصا وسبعين حبلاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانوا اثنين وسبعين حبلاً‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ قال ابن عباس كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ كانوا ألف رجل وخمسمائة رجل ومع كل واحد منهم عصا‏:‏ وقد كانوا خاطوا الحبال وجعلوها مموهة بالرصاص وحشوها بالزئبق حتى إذا ألقوها تحركت كأنها حيات، لأن الزئبق لا يستقر في مكان واحد، فلما طلعت عليه الشمس صارت شبيهاً بالحيات فنظر موسى فإذا الوادي قد امتلأ بالحيات، فدخل فيه الخوف، ونظر الناس إلى ذلك فخافوا من كثرة الحيات‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ يعني‏:‏ أفزعوهم وأخافوهم ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بسحر تام‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بقول عظيم حيث قالوا ‏{‏فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 44‏]‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ حيث قالوا‏:‏ بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون‏.‏ قال الله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 127‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏ قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ‏}‏ يعني‏:‏ اطرح عصاك إلى الأرض فألقى عصاه من يده فصارت حية أعظم من جميع حياتهم ‏{‏فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تلتقم وتأكل جميع ما جاؤوا به من الكذب والسحر‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص تَلْقَفْ بجزم اللام والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بنصب اللام وتشديد القاف، ومعناهما واحد‏.‏

ثم إن الحية قصدت إلى فرعون، فنادى موسى فأخذها، فإذا هي عصا على حالها فنظرت السحرة فإذا حبالهم وعصيهم قد ذهبت ‏{‏فَوَقَعَ الحق‏}‏ أي استبان الحق وظهر أنه ليس بسحر ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من السحر أي‏:‏ ذهب وهلك واضمحل ‏{‏فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ‏}‏ أي وغَلَب موسى السحرة عند ذلك ‏{‏وانقلبوا صاغرين‏}‏ يعني‏:‏ رجعوا ذليلين‏.‏

قالوا‏:‏ لو كان هذا سحراً فأين صارت حبالنا وعصينا‏.‏ ولو كانت سحراً لبقيت حبالنا وعصينا وهذا من الله تعالى وليس بسحر‏.‏ فآمنوا بموسى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين‏}‏ يعني‏:‏ خروا ساجدين لله تعالى‏.‏ قال الأخفش‏:‏ من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا‏.‏ ويقال‏:‏ وفّقهم الله تعالى للسجود ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بِرَبّ العالمين‏}‏ فقال لهم فرعون‏:‏ إياي تعنون‏.‏ فأراد أن يلبس على قومه فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبّ موسى وهارون‏}‏ فقدم فرعون لما سألهم، لأن بعض الناس كانوا يظنون عند مقالتهم رب العالمين أنهم أرادوا به فرعون‏.‏ فلما سألهم فرعون وقالوا‏:‏ برب موسى وهارون، ظهر عند جميع الناس أنهم لم يريدوا به فرعون، وإنما أرادوا به الإيمان بموسى وبرب العالمين‏.‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ ءامَنتُمْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ صدقتم بموسى ‏{‏قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قبل أن آمركم بالإيمان بموسى‏.‏ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر آمنتم‏.‏ وقرأ الباقون بغير مد بهمزتين ومعناهما واحد ويكون استفهاماً‏.‏ إلا عاصم في رواية حفص قرأ آمنتم بهمزة واحدة بغير مد على وجه الخبر‏.‏

‏{‏إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِى المدينة‏}‏ يعني‏:‏ صنعاً صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في المدينة ‏{‏لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ يعني‏:‏ إنكم أردتم أن تخرجوا الناس من مصر بسحركم‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تعلمون ماذا أفعل بكم ‏{‏لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ يعني‏:‏ اليد اليمنى والرجل اليسرى ‏{‏ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ على شاطئ نهر مصر ‏{‏قَالُواْ إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا نبالي من عقوبتك وفعلك فإن مرجعنا إلى الله تعالى يوم القيامة‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَنقِمُ مِنَّا‏}‏ يعني‏:‏ وما تعيب علينا، وما تنكر منا إلا إيماننا بالله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ وما نقمتك علينا ولم يكن منا ذنب ‏{‏وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلا لَمَّا جَاءتْنَا‏}‏ يعني‏:‏ لما ظهر عندنا أنه حق‏.‏

ثم سألوا الله تعالى الصبر على ما يصيبهم لكي لا يرجعوا عن دينهم فقالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ يعني‏:‏ أنزل علينا صبراً عند القطع والصلب، ومعناه‏:‏ ارزقنا الصبر وثبت قلوبنا حتى لا نرجع كفاراً ‏{‏وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ على دين موسى‏.‏ وروي عن عبيد الله بن عمير أنه قال‏:‏ كانت السحرة أول النهار كفاراً فجرة، وآخر النهار شهداء بررة‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ إن سحرة فرعون كانوا كفروا خمسين سنة فغفر لهم بإقرار واحد وبسجدة فكيف بالذي أقر وسجد خمسين سنة كيف لا يرجو رحمته ومغفرته‏؟‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ إن السحرة قد آمنوا به فلو تركتهما يؤمن بهما جميع أهل مصر، فيفسدوا في الأرض يعني‏:‏ موسى وقومه ويغيروا عليك دينك في أرض مصر ‏{‏وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ‏}‏ وذلك أن فرعون كان قد جعل لقومه أصناماً يعبدونها، وكان يقول لهم هؤلاء أربابكم الصغار، وأنا ربكم الأعلى‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ‏}‏ يعني‏:‏ يدعك ويدع أصنامك التي أمرت بعبادتها‏.‏ وروي عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه كان يقرأ ‏{‏وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ‏}‏ يعني‏:‏ عبادتك وتعبدك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان فرعون يُعْبد ولا يَعْبُد‏.‏ ويقال‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ يغلبوا عليكم، ويقتلون أبناءكم، ويستحيون نساءكم كما فعلتم بهم كما قال في آية أُخرى ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذرونى أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الارض الفساد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 26‏]‏ فقال لهم فرعون‏:‏ ‏{‏سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ‏}‏ لأنهم قد كانوا تركوا قتل الأبناء، فأمرهم أن يرجعوا إلى ذلك الفعل‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع ‏{‏سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ‏}‏ بجزم القاف والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد على معنى التكثير والمبالغة في القتل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ أي‏:‏ مسلطون فشكت بنو إسرائيل إلى موسى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 131‏]‏

‏{‏قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ موسى لِقَوْمِهِ استعينوا بالله‏}‏ يعني‏:‏ سلوا الله التوفيق ‏{‏واصبروا‏}‏ يعني‏:‏ اصبروا على أذاهم حتى يأتيكم الفرج ‏{‏إِنَّ الارض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أرض مصر ينزلها من يشاء من عباده ويقال الجنة قرأ عاصم في رواية حفص بالتشديد‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏ وهما لغتان ورّث وأوْرَث بمعنى واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ أي الذين يعملون في طاعة الله تعالى على نور من الله مخافة عقاب الله ورجاء ثواب الله تعالى، أي آخر الأمر لهم‏.‏ وروي في الخبر أن مسيلمة الكذاب كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد‏.‏ فإن الأرض بيني وبينكم نصفان إلا أن العرب قوم يظلمون الناس فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مِنْ مُحَمَّد رَسُولِ الله إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ‏.‏ أمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا‏}‏ يعني‏:‏ إن قوم موسى قالوا لموسى‏:‏ إنهم قد عذبوا قبل أن تأتينا بالرسالة ‏{‏وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا‏}‏ لأن قوم فرعون كانوا يكلفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقون، وكان آل فرعون لا يعرفون شيئاً من الأعمال، وكان بنو إسرائيل حذاقاً في الأشياء والأعمال، فكانوا يأمرونهم بالعمل ولا يعطونهم الأجر‏.‏ ‏{‏فَقَالَ‏}‏ لهم موسى ‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ فرعون وقومه ‏{‏وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض‏}‏ أي‏:‏ يجعلكم سكاناً في أرض مصر من بعد هلاكهم يعني‏:‏ من بعد هلاك فرعون وقومه ‏{‏فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يبتليكم بالنعمة كما ابتلاكم بالشدة، فيظهر عملكم في حال اليسر والشدة، لأنه قد وعد لهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ويقال‏:‏ فينظر كيف تعملون من بعده يعني‏:‏ من بعد انطلاق موسى إلى الجبل فعبدوا العجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ أي‏:‏ بالجوع والقحط ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي يتعظون ويؤمنون فلم يتعظوا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ الخير والخصب والرخاء ‏{‏قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ يعني‏:‏ نحن أهل لهذه الحسنة وأحق بها ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ القحط والبلاء والشدة ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ وأصله يتطيروا فأدغمت التاء في الطاء‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي يتشاءمون بموسى ومن معه على دينه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ يعني‏:‏ إن الذي أصابهم من عند الله وبفعلهم‏.‏ ويقال‏:‏ إنما الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة لا ما ينالهم في الدنيا ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه من الله تعالى ولا يعلمون ما عليهم في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏132- 137‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءايَةٍ‏}‏ يقول‏:‏ متى ما تأتنا‏.‏ ويقال‏:‏ كلما تأتينا‏.‏ وروي عن الخليل أنه قال‏:‏ مهما تأتنا أصلها الشرطية أدخلت معها ما الزائدة كقوله متى ما تأتني آتك‏.‏ وما زائدة فكأنه قال‏:‏ ما تأتنا به فأبدلوا الهاء من الألف، وهكذا قال الزجاج‏.‏

‏{‏بِهِ مِن ءايَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ بشيء من آية ‏{‏لّتَسْحَرَنَا بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لتأخذ أعيننا بها ‏{‏فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ بمصدقين بأنك مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب موسى عند ذلك فدعا عليهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان‏}‏ وهو المطر الدائم من السبت إلى السبت حتى خربت بنيانهم وانقطعت السبل وكادت أن تصير مصر بحراً واحداً، فخافوا الغرق، فاستغاثوا بموسى، فأرسلوا إليه اكشف عنا العذاب نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا موسى ربه، فكشف عنهم المطر، وأرسل الله عليهم الريح فجففت الأرض فخرج من النبات شيء لم يروا مثله بمصر قط‏.‏ قالوا‏:‏ هذا الذي جزعنا منه خير لنا ولكنا لم نشعر به‏.‏ فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فنقضوا العهد، وعصوا ربهم، فمكثوا شهراً، فدعا عليهم موسى فأرسل الله تعالى عليهم الجراد مثل الليل، فكانوا لا يرون الأرض، ولا السماء من كثرتها، فأكل كل شيء أنبتته الأرض‏.‏ فاستغاثوا بموسى ‏{‏وَقَالُواْ ياأيه الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 49‏]‏ يعني‏:‏ يا أيها العالم سل لنا ربك ليكشف عنا العذاب، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا موسى ربه، فأرسل الله تعالى ريحاً فاحتملت الجراد وألقته في البحر فلم يبق في أرض مصر جرادة واحدة‏.‏ فقال لهم فرعون‏:‏ انظروا هل بقي شيء‏؟‏ فنظروا فإذا هو قد بقي لهم بقية من كلئهم وزرعهم ما يكفيهم عامهم ذلك‏.‏ قالوا‏:‏ قد بقي لنا ما فيه بلغتنا هذه السنة‏.‏ فقالوا‏:‏ يا موسى لا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فمكثوا شهراً ثم دعا عليهم فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل‏.‏ قال قتادة‏:‏ القمل أولاد الجرادة التي لا تطير وهكذا قال السدي‏.‏ وذكر عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ القمل عند العرب الحمنان وهو ضرب من القردان فلم يبق من الأرض عود أخضر إلا أكلته‏.‏ فأتاهم منه مثل السيل على وجه الأرض، فأكل كل شيء في أرض مصر من نبات الأرض أو ثمر فصاحوا إلى موسى، واستغاثوا به، وقالوا‏:‏ ادع لنا ربك هذه المرة يكشف عنا العذاب ونحن نطيعك ونعطيك عهداً وموثقاً لنؤمنن بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا موسى ربه فأرسل الله تعالى ريحاً حارة فأحرقته فلم يبق منه شيء، وحملته الريح، فألقته في البحر، فقال لهم موسى‏:‏ أرسلوا معي بني إسرائيل‏؟‏ فقالوا له‏:‏ قد ذهبت الأنزال كلها فأيش تفعل بعد هذا‏؟‏ فعلى أي شيء نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل‏؟‏ اذهب فما استطعت أن تضر بنا فافعل‏.‏

فمكثوا شهراً فدعا الله تعالى عليهم موسى، فأرسل الله تعالى عليهم آية وهي الضفادع، فخرجوا من البحر، مثل الليل الدامس، فغشوا أهل مصر، ودخلوا البيوت، ووقفوا على ثيابهم، وسررهم، وفرشهم، وكان الرجل منهم يستيقظ بالليل فيجد فراشه وقد امتلأ من الضفادع، فكان الرجل يكلم صاحبه في الطريق يجعل فمه في أذنه ليسمع كلامه من كثرة نعيق الضفادع‏.‏ فضاق الأمر عليهم فصاحوا إلى موسى فقالوا يا موسى‏:‏ لئن رفعت عنا هذه الضفادع لنؤمنن بك ولنرسلن معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا لهم موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الضفادع‏.‏ فقال لهم موسى‏:‏ أرسلوا معي بني إسرائيل فقالوا‏:‏ نعم اخرج بهم ولا تخرج معهم بشيء من مواشيهم وأموالهم‏.‏ فقال لهم موسى‏:‏ إن الله أمرني أن أخرج بهم ولا أخلف من أموالهم ومواشيهم شيئاً‏.‏ فقالوا‏:‏ والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل‏.‏ فمكثوا شهراً، فدعا عليهم، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فجرت أنهارهم دماء، فلم يكونوا يقدرون على الماء العذب ولا غيره، وبنو إسرائيل في الماء العذب‏.‏ وكلما دخل رجل من آل فرعون ليستقي من أنهار بني إسرائيل‏.‏ صار الماء دماً من بين يديه، ومن خلفه‏.‏ فركب فرعون وأشراف أصحابه حتى أتوا أنهار بني إسرائيل فإذا هي عذبة صافية‏.‏ فجعل فرعون يدخل الرجل منهم، فإذا دخل واغترف صار الماء في يده دماً‏.‏ فمكثوا كذلك سبعة أيام لا يشربون إلا الدم فمات كثير منهم في ذلك‏.‏ فاستغاثوا بموسى فقال فرعون‏:‏ اقسم بإلهك يا موسى لئن كشفت عنا الرجز، لنؤمننّ بك، ولنرسلن معك بني إسرائيل‏.‏ فدعا موسى ربه فأذهب الله تعالى عنهم الدم، وعذب ماؤهم وصفي‏.‏ فعادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ءايات مّفَصَّلاَتٍ‏}‏ يعني‏:‏ متتابعات قال الحسن وسعيد بن جبير وغيرهما قالوا‏:‏ مما كانوا يعافون بين كل آيتين شهراً فإذا جاءت الآية، قامت عليهم سبعاً من السبت إلى السبت‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ الطوفان المطر الكثير وقوله آيات صارت نصباً للحال‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستكبروا‏}‏ يعني‏:‏ تعظّموا عن الإيمان ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أقاموا على كفرهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز‏}‏ يعني‏:‏ وجب عليهم العذاب وحل بهم ‏{‏قَالُواْ يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ يعني‏:‏ سل لنا ربك ‏{‏بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ أي‏:‏ بما أمرك ربك أن تدعو الله ويقال‏:‏ بالعهد الذي سأل ربك ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز‏}‏ أي‏:‏ رفعت عنا العذاب ‏{‏لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ‏}‏ يعني‏:‏ لنصدقنك ‏{‏وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل‏}‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز‏}‏ يعني‏:‏ العذاب ‏{‏إلى أَجَلٍ هُم بالغوه‏}‏ يعني‏:‏ إلى وقت الغرق‏.‏

ويقال‏:‏ إلى بقية آجالهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه مع موسى‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم‏}‏ يعني في البحر بلسان العبرانية‏.‏ وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلاً، فاستعارت نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن، وقلن‏:‏ إن لنا خروجاً فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي‏.‏ فذكر ذلك لفرعون‏.‏ فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف رجل، ومائتا ألف رجل، فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر؛ فضرب البحر فانفلق له اثنا عشر طريقاً‏.‏ وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطاً‏.‏ فعبر كل سبط في طريق، وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى، فدخلوا تلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهمّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى أن ينطبق عليهم فغرقهم‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ‏{‏وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين‏}‏ يعني‏:‏ معرضين‏.‏ فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل، فسكنوا أرض مصر فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم‏}‏ يعني‏:‏ بني إسرائيل ‏{‏الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض‏}‏ أي‏:‏ الأرض المقدسة ‏{‏ومغاربها‏}‏ يعني‏:‏ الأردن وفلسطين‏.‏ ويقال‏:‏ مشارق الأرض يعني‏:‏ الشام ومغاربها ‏{‏التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ يعني بالبركة الماء والثمار الكثيرة ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ الحسنى‏}‏ يقول‏:‏ وجبت نصرة ربك بالإحسان ‏{‏على بَنِى إسراءيل‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو ظهور قوم موسى على فرعون وتمكين الله لهم في الأرض‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بالكلمة التي ذكرها في سورة القصص ‏{‏أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏ وقال الكلبي‏:‏ وتمت كلمة ربك يعني‏:‏ نعمة ربك الحسنى‏.‏ يعني‏:‏ أنهم يجزون الحسنى الجنة ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ولم يدخلوا في دين فرعون‏.‏ ويقال‏:‏ وتمت كلمة ربك أي‏:‏ ما وعدهم الله من إهلاك عدوهم واستخلافهم في الأرض‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ‏}‏ يعني‏:‏ أهلكنا ما كان يعمل فرعون، وأبطلنا كيده ومكره‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أهلكنا ما كانوا يبنون من البيوت والكروم‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يَعْرِشُونَ‏}‏ بضم الراء‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر ومعناهما واحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏