فصل: تفسير الآيات رقم (138- 141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 141‏]‏

‏{‏وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وجاوزنا بِبَنِى إِسْرءيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ مروا على قوم يعني‏:‏ يعبدون الأصنام ويقومون على عبادتها، وكل من يلازم شيئاً ويواظب عليه يقال‏:‏ عكفه‏.‏ ولهذا سمي الملازم للمسجد معتكفاً ‏{‏قَالُواْ يَا موسى اجعل لَّنَا إلها‏}‏ قال الجهال من بني إسرائيل لموسى ‏{‏اجعل لَّنَا إلها‏}‏ نعبده ‏{‏كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ‏}‏ يعبدونها ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم موسى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تكلمتم بغير علم وعقل، وجهلتم الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ مهلك مفسد ما هم فيه من عبادة الأصنام ‏{‏وباطل‏}‏ يعني‏:‏ ضلال ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ والتبار‏:‏ الهلاك‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبِّ اغفر لِى ولوالدى وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏ أي‏:‏ هلاكاً‏.‏ ثم ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم ‏{‏أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها‏}‏ يعني‏:‏ أسوى الله آمركم أن تعبدوا وتتخذوا إلها ‏{‏وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ يعني‏:‏ على عالمي زمانكم‏.‏ يعني‏:‏ أنه قد أحسن إليكم فلا تعرفون إحسانه، وتطلبون عبادة غيره‏.‏ وهم الذين كانوا أجابوا السامري حين دعاهم إلى عبادة العجل بعد انطلاق موسى إلى الجبل‏.‏

ثم ذكر النعم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أنجيناكم‏}‏ من آل فرعون يعني‏:‏ اذكروا حين أنجاكم الله من آل فرعون‏:‏ وقرأ ابن عامر وإذْ أَنْجَاكُمْ يعني‏:‏ اذكروا حين أنجاكم الله ‏{‏مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ‏}‏ وقرأ الباقون ‏{‏وَإِذْ أنجيناكم‏}‏ ومعناه مثل ذلك ‏{‏يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب‏}‏ يعني‏:‏ يعذبونكم بأشد العذاب ‏{‏يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يستخدمون نساءكم ‏{‏وَفِى ذلكم بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ الإنجاء نعمة من ربكم عظيمة‏.‏ ويقال‏:‏ في قتل الأبناء واستخدام النساء بلية من ربكم عظيمة‏.‏ قرأ نافع ‏{‏يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ بنصب الياء مع التخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بضم الياء وكسر التاء مع التشديد‏.‏ يُقَتِّلُونَ على معنى التكثير‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي يَعْكِفُونَ بكسر الكاف وقرأ الباقون بالضم يَعْكُفُونَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً‏}‏ قرأ أبو عمرو وَوَعَدْنَا بغير ألف، والباقون بالألف ومعناهما واحد‏.‏ ‏{‏وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ ثلاثين من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة‏.‏ ويقال‏:‏ ثلاثين من ذي الحجة وعشر من المحرم‏.‏ والمناجاة في يوم عاشوراء‏.‏ وكانت المواعدة ثلاثين يوماً وأمر بأن يصوم ثلاثين يوماً، فلما صام ثلاثين يوماً، أنكر خلوف فمه فاستاك بعود خرنوب وقيل‏:‏ بورقة موز، فقالت له الملائكة‏:‏ كنا نجد من فيك ريح المسك فأفسدته بالسواك فأمر بأن يصوم عشراً أخر، فصارت الجملة أربعين يوماً‏.‏ كما قال في آية أخرى ‏{‏وَإِذْ واعدنا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتخذتم العجل مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظالمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 51‏]‏ يعني‏:‏ صارت في الجملة أربعين ولكن مرة ثلاثين يوماً، ومرة عشرة‏.‏ ‏{‏فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ يعني‏:‏ ميعاد ربه أربعين ليلة‏.‏ يعني‏:‏ ميعاد ربه‏.‏

‏{‏وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون اخلفنى‏}‏ يعني‏:‏ قال له قبل انطلاقه إلى الجبل‏:‏ اخلفني ‏{‏فِى قَوْمِى‏}‏ أي كن خليفتي على قومي ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ يعني‏:‏ مرهم بالصلاح‏.‏ ويقال‏:‏ وأصلح بينهم‏.‏ ويقال‏:‏ ارفق لهم ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين‏}‏ أي ولا تتبع سبيل أي طريق العاصين، ولا ترضى به‏.‏ واتّبع سبيل المطيعين‏.‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ من ها هنا ترك قومه عبادة الله وعبدوا العجل، لأنه سلمهم إلى هارون ولم يسلمهم إلى ربهم‏.‏ ولهذا لم يستخلف النبي بعده‏.‏ وسلم أمر أمته إلى الله تعالى‏.‏ فاختار الله لأمته أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فأصلح بينهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا‏}‏ يعني‏:‏ لميعادنا لتمام أربعين يوماً‏.‏ ويقال‏:‏ لميقاتنا أي للوقت الذي وقّتنا له‏.‏

‏{‏وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ فسمع موسى كلام الله تعالى بغير وحي، فاشتاق إلى رؤيته ‏{‏قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ انظر صار جزماً لأنه جواب الأمر ‏{‏قَالَ‏}‏ له ربه‏:‏ ‏{‏لَن تَرَانِى‏}‏ يعني‏:‏ إنك لن تراني في الدنيا ‏{‏ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ‏}‏ يعني‏:‏ انظر إلى أعظم جبل بمدين ‏{‏فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى‏}‏ يعني‏:‏ سوف تقدر أن تراني إن استقر الجبل مكانه‏.‏ معناه‏:‏ كما أن الجبل لا يستقر لرؤيتي فإنك لن تطيق رؤيتي ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ ألقى عليه من نوره فاضطرب الجبل من هيبته يعني‏:‏ من رهبة الله تعالى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ تجلى ربه للجبل أي ظهر وأظهر من أمره ما شاء‏.‏ يقال‏:‏ جلوت المرأة والسيف إذا أبرزته من الصدأ وكشف عنه‏.‏ وجلوت العروس إذا أبرزتها‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ أي‏:‏ جبل زبير ‏{‏جَعَلَهُ دَكّا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي جعله دكاء بالهمز يعني‏:‏ جعله أرضاً دكاء‏.‏

وقرأ الباقون دَكّاً بالتنوين يعني‏:‏ دَكَّه دَكّاً‏.‏ قال بعضهم‏:‏ صار الجبل قطعاً، فصار على ثمان قطع‏.‏ فوقع ثلاث بمكة وثلاث بالمدينة واثنان بالشام‏.‏ ويقال‏:‏ صار ستة فرق‏.‏ ويقال‏:‏ صار أربع فرق‏.‏ ويقال‏:‏ صار كله رملاً عالجاً أي ليناً‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ جعله دكاً أي تراباً، وقال القتبي‏:‏ جعله دكاً أي ألصقه بالأرض‏.‏ ويقال‏:‏ ناقة دكاء إذا لم يكن لها سنام أي تراباً‏.‏ وروي عن وهب بن منبه أنه قال‏:‏ لما سأل موسى النظر إلى ربه أمر الله الضباب والصواعق والظلمات والرعد والبرق فهبطن حتى أحطن بالجبل، وأمر الله تعالى ملائكة السموات فهبطوا، وارتعدت فرائص موسى وتغير لونه‏.‏ فقال له جبريل‏:‏ اصبر لما سألت ربك، فإنما رأيت قليلاً من كثير فلما غشي الجبل النور، خمد كل شيء، وانقطعت أصوات الملائكة وانهار الجبل من خشية الله تعالى‏.‏ حتى صار دكاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَرَّ موسى صَعِقًا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني ميتاً‏.‏ كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَصَعِقَ مَن فِى *** السموات‏}‏ يعني‏:‏ مات‏.‏ ويقال‏:‏ وخر موسى صعقاً أي مغشياً عليه ‏{‏فَلَمَّا أَفَاقَ‏}‏ من غشيانه قال مقاتل‏:‏ رد الله حياته إليه ‏{‏قَالَ سبحانك‏}‏ أي تنزيهاً لك ‏{‏تُبْتُ إِلَيْكَ‏}‏ من قولي ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏‏.‏ روى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال‏:‏ قد كان قبله من المؤمنين‏.‏ ولكن يقول أول من آمن بأنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أول المؤمنين بأنك لا تُرى في الدنيا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أراد به في زمانه كقوله‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47‏]‏ ويقال‏:‏ معناه تبت إليك بأن لا أسألك بعد هذا سؤالاً محالاً‏.‏ فاعترف أنه طلب شيئاً في غير حينه وأوانه ووقته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قد قال موسى‏:‏ ‏{‏أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ‏}‏ أرني أمراً عظيماً لا يرى مثله في الدنيا مما لا تحتمل عليه نفسي ‏{‏فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ‏}‏ أي‏:‏ أمر ربه قال‏:‏ وهذا خطأ‏.‏ ولكن لما سمع كلامه قال يا رب‏:‏ إنِّي سمعت كلامك وأحب أن أراك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَا موسى إِنّى *** اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي‏}‏ يعني‏:‏ بنبوتي‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع برسَالَتِي‏.‏ وقرأ الباقون برسَالاتي بلفظ الجماعة ومعناهما واحد أي‏:‏ اختصصتك بالنبوة‏.‏ ‏{‏وبكلامي‏}‏ أي بتكلمي معك من غير وحي ‏{‏فَخُذْ مَا ءاتَيْتُكَ‏}‏ أي‏:‏ اعمل بما أعطيتك ‏{‏وَكُنْ مّنَ الشاكرين‏}‏ لما أعطيتك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ قوله ‏{‏وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين‏}‏ أراد به في زمانه كقوله ‏{‏وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 147‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح‏}‏ روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ أعطى الله تعالى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد فيها تبيان لكل شيء وموعظة‏.‏ قال‏:‏ التوراة مكتوبة‏.‏ ويقال‏:‏ طول الألواح عشرة أذرع ‏{‏مِن كُلّ شَئ مَّوْعِظَةً‏}‏ من الجهل ‏{‏وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ‏}‏ يعني‏:‏ تبياناً لكل شيء من الحلال والحرام‏.‏ قال الفقيه رحمه الله تعالى‏:‏ حدثنا الفقيه أبو جعفر قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن القاري قال‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي العوام‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبي قال‏:‏ حدثنا يحيى بن سابق عن خيثمة بن خليفة عن ربيعة عن أبي جعفر عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «كَانَ فِيمَا أَعْطَى الله مُوسَى فِي الأَلْوَاحِ عَشَرَة أبْوَابٍ‏:‏ يا مُوسَى لا تُشْرِكْ بي شَيْئاً، فَقَدْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لَتَلْفَحَنَّ وُجُوهَ المُشْرِكِينَ النَّارُ، وَاشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ، أَقِكَ المَتَالِفَ، وَأُنسِئ لَكَ فِي عُمُرِكَ، وَأُحْيِيكَ حَيَاةً طَيِّبَةً، وَأَقْلِبُكَ إلَى خَيْرِ مِنْهَا، وَلا تَقْتُلِ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمْتُهَا إلاَّ بالحَقِّ، فَتَضِيقَ عَلَيْكَ الأرْضِ بِرُحْبِهَا، وَالسَّمَاءُ بِأَقْطَارِهَا، وَتَبُوءَ بِسَخْطِي وَنَاري، وَلا تَحْلِفْ بِاسْمِي كَاذِباً فَإنِّي لا أُطَهِّرُ ولا أُزَكِّي مَنْ لَمْ يُنَزِّهْنِي، وَلَمْ يُعَظِّمْ أَسْمَائِي، وَلا تَحْسُدِ النَّاسَ عَلَى ما آتاهُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ، فَإنَّ الحَاسِدَ عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي، رَادٌّ لِقَضَائِي، سَاخِطٌ لِقِسْمَتِي، الَّتي أَقْسِمُ بَيْنَ عِبَادِي، ولا تَشْهَدْ بِمَا لِمَ يَقَعْ بِسَمْعِكَ، وَيَحْفَظْ قَلْبُكَ، فَإنِّي لوَاقِفٌ أَهْلَ الشَّهَادَاتِ عَلَى شَهَادَاتِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ أَسَأَلَهُمْ عَنْهَا سُؤَالاً حَثِيثاً، وَلاَ تَزْنِ، وَلاَ تَسْرِقْ، فَأَحْجُبَ عَنْكَ وَجْهِي، وَأُغْلِقَ عَنْكَ أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَأَحْبِبْ لِلنَّاسِ ما تُحِبُّ لِنَفْسِكَ‏.‏ ولا تُذَكِّ لِغَيْرِي، فَإنِّي لا أقْبَلُ مِنَ القُربَانِ إلاَّ ما ذُكِرَ علَيْهِ اسْمِي، وَكَانَ خَالِصاً لِوَجْهِي، وَتَفَرَّغْ لِي يَوْمَ السَّبْتِ وَجَمِيعُ أهْلِ بَيْتِكَ» فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «جُعِلَ يَوْمُ السَّبْتِ لِمُوسَى عِيداً وَاخْتَارَ لَنَا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَجَعَلَها لنا عِيداً»

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ اعمل بما أمرك الله بجد ومواظبة عليها ‏{‏وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا‏}‏ أي يعملون بما فيها من الحلال والحرام‏.‏ ويقال‏:‏ امرهم بالخير وانههم عن الشر‏:‏ يعني‏:‏ اعملوا بالخير وامتنعوا عن الشر‏.‏ ويقال‏:‏ اعملوا بأحسن الوجوه وهو أنه لو يكافئ ظالمه وينتقم منه جاز، ولو تجاوز كان أحسن وقال الكلبي‏:‏ كان موسى عليه السلام أشد عبادةً من قومه‏.‏ فأمر بما لم يؤمروا به‏.‏ يعني‏:‏ أمر بأن يعمل بالمواظبة، وأمر قومه بأن يأخذوا بأحسن الفعل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ سنة أهل مصر يعني‏:‏ هلاكهم حين قذفهم البحر فأراهم سنة الفاسقين في التقديم‏.‏

ويقال‏:‏ جهنم هي دارُ الكافرين‏.‏ ويقال‏:‏ إذا سافروا أراهم منازل عاد وثمود‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مصيرهم في الآخر إلى النار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَأَصْرِفُ عَنْ ءاياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أصرف قلوب الذين يتكبرون عن الإيمان حتى لا يؤمنوا‏.‏ فأخذلهم بكفرهم ولا أوفقهم بتكذيبهم الأنبياء مجازاة لهم‏.‏ ويقال‏:‏ أمنع قلوبهم من التفكر في أمر الدين وفي خلق السموات والأرض الذين يتكبرون‏.‏ ‏{‏فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ يعني‏:‏ يتعظمون عن الإيمان لكي لا يتفكروا في السماء، ولا يعقلون فيها، ولا يذكرونها‏.‏ ويقال‏:‏ سأصرف عن النعماء التي أعطيتها المؤمنين يوم القيامة أصرف عنهم تلك النعمة ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ امتنعوا منها كي ‏{‏لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد‏}‏ يعني‏:‏ طريق الحق الإسلام ‏{‏لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يتخذوه ديناً ‏{‏وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى‏}‏ يعني‏:‏ طريق الضلالة والكفر ‏{‏يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً‏}‏ أي ديناً ويتّبعونه ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي بآياتنا التسع وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ بمحمد والقرآن ‏{‏وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين‏}‏ يعني‏:‏ تاركين لها‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏سَبِيلَ الرشد‏}‏ بنصب الراء، والشين، وقرأ الباقون ‏{‏الرشد‏}‏ بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ أي بمحمد والقرآن ‏{‏وَلِقَاء الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ كذبوا بالبعث بعد الموت ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ يعني‏:‏ بطلت حسناتهم ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ‏}‏ أي هل يثابون ‏{‏إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ في الدنيا‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 151‏]‏

‏{‏وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من بعد انطلاقه إلى الجبل، وذلك أن موسى عليه السلام لما وعد لقومه ثلاثين يوماً فتأخر عن ذلك، قال السامري لقوم موسى‏:‏ إنكم أخذتم الحلي من آل فرعون، فعاقبكم الله تعالى بتلك الخيانة، ومنع الله عنا موسى‏.‏ فاجمعوا الحلي الذي أخذتم من آل فرعون حتى نحرقها، فلعل الله تعالى يرد علينا موسى فجمعوا الحلي وكان السامري صائغاً، فجعل الحلي في النار واتخذ ‏{‏مِنْ حُلِيّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ‏}‏ وقد كان رأى جبريل على فرس الحياة، فكلما وضع الفرس حافره ظهر النبات في موضع حافره‏.‏ فأخذ كفاً من أثر حافره من التراب وألقى ذلك التراب في العجل‏.‏ فصار العجل من حليهم عجلاً جسداً‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط‏.‏ وروي عن ابن عباس قال صار عجلاً له لحم ودم وله خوار يعني‏:‏ صوت مثل صوت العجل ولم يسمع منه إلا صوت واحد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سمع منه صوت ولم يسمع منه إلا مثل صوت العجل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جعله مشتبكاً فدخل فيه الريح فسمع منه صوت مثل صوت العجل‏.‏ فقال لقومه‏:‏ هذا إلهكم وإله موسى، فاغترّ به الجهال من بني إسرائيل وعبدوه‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا يقدر على أن يكلمهم ‏{‏وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يرشدهم طريقاً ‏{‏اتخذوه وَكَانُواْ ظالمين‏}‏ يعني‏:‏ كافرين بعبادتهم‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏مِنْ حُلِيّهِمْ‏}‏ بكسر الحاء‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏مِنْ حُلِيّهِمْ‏}‏ بضم الحاء‏.‏ فمن قرأ بالكسر فهو اسم لما يحسن به من الذهب والفضة‏.‏ ومن قرأ بالضم، فهو جمع الحَلْي ويقال‏:‏ كلاهما جمع الحَلْي وأصله الضم إلا أن من كسر فلاتباع الكسرة بالكسرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ندموا على ما صنعوا‏.‏ يقال‏:‏ سقط في يده إذا ندم‏.‏ وأصله أن الإنسان إذا ندم جعل يده على رأسه‏.‏

‏{‏وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ‏}‏ أي علموا أنهم قد ضلوا عن الهدى ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏لَئِن لَّمْ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة رَبَّنَا بالنصب يعني‏:‏ يا ربنا‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ بالياء وضم الباء على معنى الخبر‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَنَا‏}‏ بعد التوبة عطف على قوله ‏{‏لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا‏}‏ ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين‏}‏ يعني‏:‏ من المغبونين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من الجبل ‏{‏غضبان أَسِفًا‏}‏ يعني‏:‏ حزيناً‏.‏ ويقال‏:‏ الأسف في اللغة شدة الغضب‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏ ويقال‏:‏ أشد الحزن كقوله‏:‏ ‏{‏وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏ ‏{‏قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى‏}‏ يعني‏:‏ بعبادة العجل يعني‏:‏ بئسما فعلتم في غيبتي ‏{‏أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ استعجلتم ميعاد ربكم‏.‏ ويقال‏:‏ أعصيتم أمر ربكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏أَعَجِلْتُمْ‏}‏ بالفعل الذي استوجبتم به عقوبة ربكم ‏{‏وَأَلْقَى الالواح‏}‏ من يده‏.‏ قال الكلبي‏:‏ انكسرت الألواح وصعد عامة الكلام الذي كان فيها من كلام الله تعالى إلى السماء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا الكلام في ظاهره غير سديد‏.‏ لأن الكلام صفة والصفة لا تفارق الموصوف‏.‏ فلا يجوز أن يقال‏:‏ الكلام يصعد ويذهب‏.‏ ولكن تأويله أن الألواح لما انكسرت ذهب أثر المكتوب منها وهذا إذا كان غير الأحكام‏.‏ وأما الأحكام أيضاً فلا يجوز أن تذهب عنه وإنما أراد بذلك حجة عليهم‏.‏ وروي في الخبر‏:‏ أن الله تعالى أخبر موسى أن قومه عبدوا العجل‏.‏ قال موسى‏:‏ يا رب من اتخذ لهم العجل‏؟‏ قال‏:‏ السامري‏.‏ قال‏:‏ ومن جعل فيه الروح‏؟‏ قال‏:‏ أنا‏.‏ قال‏:‏ فأنت فتنت قومي‏؟‏‏.‏ قال له ربه‏:‏ تركتهم لمرادهم‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لَيْسَ الخَبَرُ كَالمُعَايَنَةِ» لما أخبر الله تعالى بأن قومه قد عبدوا العجل لم يلق الألواح‏.‏ فلما عاين ألقى الألواح‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ أخذ بشعر رأسه ولحيته ‏{‏يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابن أُمَّ‏}‏ يعني‏:‏ قال له هارون‏:‏ يا ابن أمي لا تأخذ بلحيتي‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص‏:‏ يا ‏{‏ابن أُمَّ‏}‏ بنصب الميم‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر‏.‏ وهكذا في سورة طه فمن قرأ بالنصب جعله كاسم واحد كأنه يقول يا ابن أماه‏.‏ كما يقال‏:‏ يا ويلتاه ويا حسرتاه‏.‏ ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الإضافة إلى نفسه‏.‏ وكان موسى أخاه لأبيه وأمه‏.‏ ولكن ذكر الأم ليرفعه عليه‏.‏

‏{‏إِنَّ القوم استضعفونى‏}‏ يعني‏:‏ قهروني واستذلوني ‏{‏وَكَادُواْ‏}‏ يعني‏:‏ هموا بقتلي ‏{‏يَقْتُلُونَنِى فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء‏}‏ يعني‏:‏ لا تفرح عليّ أعدائي يعني‏:‏ الشياطين ويقال‏:‏ أصحاب العجل ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ لا تظنن أني رضيت بما فعلوا‏.‏ قال موسى‏:‏ ‏{‏رَبّ اغفر لِى‏}‏ بما فعلت بأخي هارون ويقال‏:‏ لإلقاء الألواح ‏{‏***و‏}‏ اغفر ‏{‏***لأخي‏}‏ ما كان منه من التقصير في تركهم على عبادة العجل ‏{‏وَلاخِى وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ جنتك ‏{‏وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ يعني‏:‏ أنت أرحم بنا منا بأنفسنا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني أنت أرحم بنا من الأبوين‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏152- 155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل‏}‏ يعني‏:‏ اتخذوا العجل إلها ‏{‏سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ يصيبهم عذاب من ربهم ‏{‏وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا‏}‏ وهو ما أمروا بقتل أنفسهم‏.‏ ويقال‏:‏ هذا قول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ يصيب أولادهم ذلة في الحياة الدنيا‏.‏ وهي الجزية ‏{‏وكذلك نَجْزِى المفترين‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نعاقب المكذبين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا‏}‏ يعني‏:‏ رجعوا عن الشرك بالله وعن السيئة ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ من بعد التوبة، ويقال‏:‏ من بعد السيئات ‏{‏لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم بعد التوبة‏.‏

ثم رجع إلى قصة موسى عليه السلام وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الالواح‏}‏ يعني‏:‏ لما سكت عن موسى الغضب‏.‏ ويقال‏:‏ ولما سكت موسى عن الغضب ‏{‏أَخَذَ الالواح وَفِى نُسْخَتِهَا‏}‏ يعني‏:‏ في بقيتها فنسخت له الألواح، وأعيدت له في اللوحتين مكان التي انكسرت‏.‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ فيما بقي منها بياناً من الضلالة ورحمة من العذاب‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يخافون الله ويعملون له بالغيب‏.‏ ويقال‏:‏ وفي نسختها يعني‏:‏ في كتابها هدى من الضلالة ورحمةٌ من العذاب للذين يخشون ربهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختار موسى قَوْمَهُ‏}‏ أي من قومه ‏{‏سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا‏}‏ يعني‏:‏ للميقات الذي وقتنا له ‏{‏فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ يعني الزلزلة، تزلزل الجبل بهم فماتوا ‏{‏قَالَ‏}‏ موسى ‏{‏رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن يصحبوني ‏{‏وإياى‏}‏ بقتل القبطي ‏{‏أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ ظن موسى أنه إنما أهلكهم باتخاذ بني إسرائيل العجل‏.‏ وروي عن عليّ بن أبي طالب أنه قال‏:‏ انطلق موسى وهارون ومعهما شَبَّر وَشَبيِّر وهما ابنا هارون حتى انتهوا إلى جبل وفيه سرير، فنام عليه هارون فقبض، فرجع موسى إلى قومه، فقالوا له‏:‏ أنت قتلته حسداً على خلقه ولينه‏.‏ قال‏:‏ كيف أقتله ومعي ابناه، فاختاروا من شئتم، فاختاروا سبعين، فانتهوا إليه‏.‏ فقالوا له‏:‏ من قتلك يا هارون‏:‏ قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله تعالى‏.‏ فأخذتهم الرجفة فماتوا كلهم‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏{‏رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ‏}‏ وإياي‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ لما انطلق موسى إلى الجبل أمر بأن يختار سبعين رجلاً من قومه‏:‏ فاختار من كل سبط ستة رجال، فبغلوا اثنين وسبعين، فقال موسى‏:‏ إني أمرت بسبعين فليرجع اثنان، ولهما أجر من حضر، فرجع يوشع بن نون وكالوب بن يوقنا‏.‏

فذهب موسى مع السبعين إلى الجبل، فلما رجع إليهم موسى من المناجاة قالوا له‏:‏ إنك قد لقيت ربك فأرنا الله جهرة حتى نراه كما رأيته‏.‏ فجاءتهم نار فأحرقتهم فماتوا‏.‏ فقال موسى‏:‏ حين أماتهم الله تعالى ‏{‏رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ‏}‏ هذا اليوم وإياي معهم أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني‏:‏ أتوقعني في ملامة بني إسرائيل وتعييرهم بفعل هؤلاء السفهاء ثم أحياهم الله تعالى‏.‏

وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ إن موسى انطلق بسبعين من بني إسرائيل يعتذرون إلى ربهم عن عبادة العجل، وذكر نحو حديث عبد الله بن عباس ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ‏}‏ يعني بليتك وعذابك ويقال‏:‏ يعني عبادة العجل بليتك حيث جعلت الروح فيه ‏{‏تُضِلُّ بِهَا‏}‏ أي بالفتنة ‏{‏مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء‏}‏ من الفتنة ‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا‏}‏ أي حافظنا وناصرنا ‏{‏فاغفر لَنَا‏}‏ يعني‏:‏ ذنوبنا ‏{‏وارحمنا‏}‏ يعني‏:‏ ولا تعذبنا ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين‏}‏ يعني‏:‏ المتجاوزين عن الذنوب‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 157‏]‏

‏{‏وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً‏}‏ يعني‏:‏ اقض لنا وأعطنا في الدنيا العلم والعبادة والنصرة والرزق الحسن الحلال ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ وأعطنا في الآخرة حسنة وهي الجنة ‏{‏إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ تبنا إليك وأقبلنا إليك هكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة‏.‏ وأصله في اللغة الرجوع من الشيء إلى الشيء ‏{‏قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ هذا عذابي أخصّ به من أشاء من العباد من كان أهلاً لذلك ‏{‏وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ‏}‏ إنْ رحمتهم ويقال‏:‏ إن الزلزلة والرجفة كانتا عذابي، وأنا أنزلتها، وأنا أصيب بالعذاب من أشاء، وما سألت من الغفران فمن رحمتي ورحمتي وسعت كل شيء من كان أهلاً لها‏.‏ ويقال‏:‏ لكل شيء حظ من رحمتي‏.‏ وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن قتادة والحسن قالا‏:‏ ورحمتي التي وسعت كل شيء يعني‏:‏ وسعت في الدنيا البر والفاجر وفي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة‏.‏ ويقال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ‏}‏ تطاول إبليس، وقال‏:‏ أنا من تلك الأشياء فأكذبه الله تعالى وآيسه فأنزل قوله ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ فسأقضيها وسأوجهها للذين يتقون الشرك ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ‏}‏ فقالت اليهود والنصارى‏:‏ نحن آمنا بالآيات، وهي التوراة والإنجيل، ونعطي الزكاة فهذه الرحمة لنا فأكذبهم الله تعالى وأنزل ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى‏}‏ الآية ويقال ورحمتي وسعت كل شيء يعني‏:‏ طمع كل قوم برحمتي، وأنا أوجبتها للمؤمنين وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون الشرك، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون، يعني‏:‏ يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الامى‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم الذي لا يكتب ولا يقرأ الكتب قال الزجاج‏:‏ الأُمِّيُّ الذي هو على خِلْقَةِ أمه لم يتعلم الكتابة وهو على جبلته‏.‏ ويقال‏:‏ إنما سمي محمد صلى الله عليه وسلم أمِّيّاً لأنه كان من أم القرى وهي مكة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يجدون نعته وصفته ‏{‏فِى التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف‏}‏ يعني‏:‏ شرائع الإسلام بالتوحيد يرخص لهم الحلالات من الشحوم واللحوم وأشباهها ‏{‏وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث‏}‏ يعني‏:‏ ويبيّن لهم الحرام الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ثقلهم من العهود قرأ ابن عامر ‏{‏***آصَارَهُمْ‏}‏ على معنى الجماعة‏.‏ وأصل الإصر الثقل‏.‏ فسمي العهد إصْراً لأن حفظ العهد يكون ثقيلاً‏.‏ ويقال‏:‏ يعني الأمور التي كانت عليهم في الشرائع‏.‏ ويقال‏:‏ هو ما عهد عليهم من تحريم الطيبات‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ وهي كناية عن أمور شديدة لأن في الشريعة الأولى كان الواحد منهم إذا أصابه البول في ثوبه وجب قطعه، وكان عليهم ألا يعملوا في السبت، وغير ذلك من الأعمال الشديدة فوضع عنهم ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ صدقوه وأقروا بنبوته ‏{‏وَعَزَّرُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ عظموه وشرفوه‏.‏ ويقال‏:‏ أعانوه ‏{‏وَنَصَرُوهُ‏}‏ بالسيف ‏{‏واتبعوا النور‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏الذى أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل هذه الصفة ‏{‏هُمُ المفلحون‏}‏ أي والناجون في الآخرة وهم في الرحمة التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ قَالَ عذابى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَئ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكواة والذين هُم بأاياتنا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏‏.‏

قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 162‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل * أَيُّهَا الناس‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل مكة ويقال‏:‏ هو لجميع الناس ‏{‏إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ ويقال‏:‏ إنه أول نداء نادى به في مكة بهذه الآية‏.‏ وكان من قبل يدعو واحداً واحداً‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، أظهر ونادى في الناس‏:‏ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً من ذلك الرب ‏{‏الذى لَهُ ملكالسموات والارض لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ لا خالق ولا رازق في السماء ولا في الأرض إلا هو ‏{‏لاَ إله‏}‏ يعني‏:‏ يحيي الأموات للبعث، ويميت الأحياء في الدنيا، ويحيي للبعث ثانياً‏.‏ ويقال‏:‏ يحيي يعني‏:‏ يخلق الخلق من النطفة، ويميتهم عند انقضاء آجالهم‏.‏ ‏{‏قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ يعني‏:‏ يصدق بالله ‏{‏وكلماته‏}‏ يعني‏:‏ القرآن قال‏:‏ السدي وَكَلِمَتُهُ يعني‏:‏ صدق بأن عيسى صار مخلوقاً بكلمة الله ‏{‏واتبعوه‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ من الضلالة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق‏}‏ يعني‏:‏ جماعة يدعون إلى الحق ‏{‏وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ وبالحق يعملون‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني به مؤمني أهل الكتاب وهم عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَآءَ اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 113‏]‏ الآية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم قوم من وراء الصين من أمة موسى ما وراء رمل عالج‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به إلى البيت المقدس ومعه جبريل فرفعه إليهم وكلّمهم وكلّموه‏.‏ فقال لهم جبريل‏:‏ هل تعرفون من تكلمون‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فإن هذا محمد النبي الأمي‏.‏ قال‏:‏ يا جبريل وقد بعثه الله تعالى‏؟‏ قال نعم فآمنوا به وصدّقوه‏.‏ وقالوا‏:‏ يا رسول الله إن موسى بن عمران أوصى إلينا أن من أدرك ذلك النبي منكم فليقرأ عليه السلام مني ومنكم ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم على موسى ورد عليهم السلام ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما لِي أَرَى بُيُوتَكُمْ مُسْتَوِيَةً»‏؟‏ قالوا‏:‏ لأنا قوم لا يبغي بعضنا على بعض‏.‏ قال‏:‏ «فما لي لا أرى عليها أبواباً»‏؟‏ قالوا‏:‏ إنّا لا يضر بعضنا بعضاً‏.‏ قال‏:‏ «فَمَا لِي لا أَرَاكُمْ تَضْحَكُونَ»‏؟‏ قالوا‏:‏ ما ضحكنا قط لأن الله تعالى أخبرنا في كتابه أن جهنم عرضها ما بين الخافقين وقعرها الأرض السفلى، وقد أقسم الله تعالى ليملأنها من الجنة والناس أجمعين‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تَبْكُونَ عَلَى المَيِّتِ»

‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله كيف نبكي على الميت وكلنا ميتون‏.‏ وهو سبيل لا بد منه‏.‏ والله أعطانا والله أخذ منا‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تَمْرَضُونَ»‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله إنما يمرض أهل الذنوب والخطايا‏.‏ فأما نحن فمعصومون بدعاء نبي الله موسى عليه السلام قال‏:‏ «فَكَيْفَ تَمُوتُونَ إِذَا لَمْ تَمْرَضُوا‏؟‏» قالوا‏:‏ إذا استوفى أحدنا رزقه جاءه ملك الموت فقبض روحه فندفنه، حيث يموت‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تَحْزَنُونَ إذَا وُلِدَ لأَحَدِكُمْ جَارِيَةٌ»‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله لا ولكنا نصوم لله تعالى شهراً شكراً، فإذا ولدط لأحدنا غلام نصوم لله شهرين شكراً لله تعالى‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ فِيكُمْ حَيَّاتٌ وَعَقَارِبٌ»‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «كَيْفَ تَصْنَعُونَ بِهِنَّ»‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله نمشي عليهن ويمشين علينا، ولا نؤذيهن ولا تؤذينا، آمنات منا ونحن آمنون منهن‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ لَكُمْ مَاشِيَةٌ»‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، نجز أصوافها فنتخذ منه الأفنية والأكسية، ونأكل من لحومهن الكفاف، وكل أهل القرية فيها شرع أي سواء ليس أحد أحق به منا‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تَزِنُونَ أَوْ يُوزَنُ عَلَيْكُمْ»‏؟‏ قالوا‏:‏ لا نزن ولا يوزن علينا ولا نكيل ولا يكال علينا ولا نشتري ولا نبيع‏.‏ قال‏:‏ «فَمِنْ أيْنَ تَأْكُلُونَ»‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ نخرج فنزرع، ويرسل الله تعالى السماء علينا فينبته، ثم نخرج إليه فنحصده، ونضعه في أماكن من القرية، فيأخذ أهل القرية منها الكفاف ويدعون ما سواه‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تُجَامِعُونَ النِّسَاءَ»‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم يا رسول الله لنا بيوت مظلمة وثياب معلومة فإذا أردنا المجامعة لبسنا ثيابنا تلك ودخلنا تلك البيوت، لا يرى الرجل عورة امرأته ولا المرأة عورة زوجها‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ فِيكُمُ زِنًى‏؟‏» قالوا‏:‏ يا رسول الله لا فإن فعل ذلك أحد منا لظننا أن الله تعالى يبعث عليه ناراً فيحرقه أو يخسف به الأرض، ولكن إذا كان للرجل منا ابنة طلبها منه رجل فيزوجه إياها إرادة الأجر والعفة‏.‏ قال‏:‏ «فَهَلْ تَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ»‏؟‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ يا رسول الله‏.‏ إنما يكنز الذهب والفضة من لا يثق بالله، ومن يرى أن الله تعالى لم يتكفل له برزقه‏.‏ فأما نحن فلا نكنز الذهب والفضة‏.‏ فأقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سور من القرآن أنزلت بمكة، ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة فعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالصلاة والزكاة ورجع من ليلته‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ قال‏:‏ «قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا» ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ في هذه الأمة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وقطعناهم‏}‏ يعني‏:‏ بني إسرائيل فرقناهم ‏{‏اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا‏}‏ يعني‏:‏ جماعة والأسباط جَمْعٌ والسبط في بني إسرائيل مثل القبيلة عند العرب ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى‏}‏ يعني‏:‏ في التيه ‏{‏إِذِ استسقاه قَوْمُهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏رِجْزًا مّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ كل ذلك مذكور في سورة البقرة قرأ أبو عمرو ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ بالنون ‏{‏خطاياكم‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏تَغْفِرْ * لَكُمْ‏}‏ بالتاء والضم ‏{‏خطيئاتكم‏}‏ بالرفع وبلفظ الواحد‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏تَغْفِرْ‏}‏ لكم» بالتاء، والضم ‏{‏خطيئاتكم‏}‏ بلفظ الجماعة، وقرأ الباقون ‏{‏نَّغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ بالنون ‏{‏خطيئاتكم‏}‏ بلفظ الجماعة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 170‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر‏}‏ واسمها أيلة وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ نحن من أبناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم فلا يعذبنا الله تعالى إلا مقدار عبادة العجل فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية‏}‏ يعني‏:‏ أهل القرية التي كانت حاضرة البحر كيف عذبهم الله تعالى بذنوبهم‏.‏

ثم أخبر عن ذنوبهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت‏}‏ يعني‏:‏ أنهم استحلوا الصيد في يوم السبت‏.‏ وقال‏:‏ يعتدون في يوم السبت‏.‏ وأصل الاعتداء هو الظلم‏.‏ يقال‏:‏ عدوت على فلان إذا ظلمته واعتديت عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا‏}‏ يعني‏:‏ يوم استراحتهم شوارع في الماء وهو جمع الشارع ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ إذا لم يكن يوم السبت ويوم الراحة لا تأتيهم‏.‏ وإنما تمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏تَأْتِيَهُمُ‏}‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نختبرهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنّما يتم الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ‏}‏ كذلك يعني‏:‏ لا تأتيهم كما تأتيهم يوم السبت لأن في يوم السبت تأتيهم الحيتان شارعات من أسفل الماء إلى أعلاه وفي سائر الأيام يأتيهم القليل، ولا يأتيهم كما يأتيهم في يوم السبت‏.‏

ثم ابتداء الكلام فقال‏:‏ ‏{‏كذلك نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ نختبرهم بما كانوا يعصون الله تعالى‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي عصبة وجماعة منهم وهي الظلمة للأمة الواعظة ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ‏}‏ لأن الواعظة نهوهم عن أخذ الحيتان، وخوفوهم، فرد عليهم الظلمة ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ‏}‏ ‏{‏أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ‏}‏ قرأ عاصم في إحدى الروايتين ‏{‏مَعْذِرَةً‏}‏ بالنصب يعني‏:‏ نعتذر إلى ربكم‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏مَعْذِرَةً‏}‏ بالضم يعني‏:‏ هي معذرة يعني‏:‏ لا ندع الأمر بالمعروف حتى نكون معذورين عند الله تعالى ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لعلهم ينتهون ‏{‏فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ تركوا ما وعظوا به ‏{‏أَنجَيْنَا‏}‏ من العذاب ‏{‏الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ عذبنا الذين تركوا أمر الله ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ يعني‏:‏ شديد ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يعصون ويتركون أمر الله تعالى‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان القوم ثلاثة فرق‏.‏ فرقة كانوا يصطادون‏.‏ وفرقة كانوا ينهون‏.‏ وفرقة لم ينهوا ولم يستحلوا وقالوا للواعظة‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ‏}‏‏.‏ وروى أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال‏:‏ أتيت ابن عباس وهو يقرأ في المصحف ويبكي فدنوت منه حتى أخذت بلوحي المصحف وقلت‏:‏ ما يبكيك قال‏:‏ تبكيني هذه السورة وهو يقرأ سورة الأعراف‏.‏

وقال‏:‏ هل تعرف أيلة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ إن الله تعالى أسكنها حياً من اليهود، وابتلاهم بحيتان حرمها عليهم يوم السبت وأحلها لهم في سائر الأيام‏.‏ فإذا كان يوم السبت خرجت إليهم الحيتان‏.‏ فإذا ذهب السبت غابت في البحر حتى يغوص لها الطالبون، وإن القوم اجتمعوا واختلفوا فيها‏.‏ فقال فريق منهم‏:‏ إنما حرمت عليكم يوم السبت أن تأكلوها فصيدوها يوم السبت، وكلوها في سائر الأيام‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ بل حرم عليكم أن تصيدوها أو تنفروها أو تؤذوها‏.‏ وكانوا ثلاث فرق‏:‏ فرقة على أَيمانهم، وفرقة على شمائلهم، وفرقة على وسطهم فقالت الفرقة اليمنى فجعلت تنهاهم في يوم السبت، وجعلت تقول‏:‏ الله يحذركم بأس الله‏.‏ وأما الفرقة اليسرى فأمسكت أيديها، وكفت ألسنتها‏.‏ وأما الوسطى فوثبت على السمك تأخذه‏.‏ وجعلت الفرقة الأخرى التي كفت أيديها، وألسنتها، ولم تتكلم‏.‏ تقول‏:‏ ‏{‏لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏الذين يَنْهَوْنَ‏}‏ ‏{‏مَعْذِرَةً إلى رَبّكُم وَلَعَلَّكُم تَتَّقُونَ‏}‏ فدخل الذين أصابوا السمك إلى المدينة، وأبى الآخرون أن يدخلوا معهم فغدا هؤلاء الذين أبوا أن يدخلوا المدينة‏.‏ فجعلوا ينادون من فيها فلم يجبهم أحد‏.‏ فقالوا‏:‏ لعل الله خسف بهم، أو رموا من السماء بحجارة، فارفعوا رجلاً ينظر، فجعلوا رجلاً على سلم فأشرف عليهم، فإذا هم قردة تتعادى ولها أذناب قد غيّر الله تعالى صورهم بصنيعهم‏.‏ فصاح إلى القوم فإذا هم قد صاروا قردة، فكسروا الباب، ودخلوا منازلهم، فجعلوا لا يعرفون أنسابهم، ويقولون لهم‏:‏ ألم ننهكم عن معصية الله تعالى ونوصيكم‏؟‏ فيشيرون برؤوسهم بلى ودموعهم تسيل على خدودهم‏.‏ فأخبر الله تعالى أنه أنجى الذين ينهون عن السوء، وأخذ الذين ظلموا‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏‏.‏ ولا يدرى ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يأخذوا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ بل أهلكهم الله لأنه أنجى الذين ينهون عن السوء‏.‏ وأهلك الفريقين الآخرين‏.‏ فوهب له ابن عباس بردة بهذا الكلام‏.‏

وروي في رواية أُخرى أنهم كانوا يأخذون الحظائر والحياض بجنب البحر، ويسيلون الماء فيها يوم السبت من البحر حتى يدخل فيها السمك، ويأخذونه في يوم الأحد فقالوا‏:‏ إنا نأخذه في يوم الأحد‏.‏ فلما لم يعذبوا استحلوا الأخذ في يوم السبت من البحر وقالوا‏:‏ إنما حرم الله على أبنائنا ولم يحرم علينا فنهاهم الصلحاء فلم يمتنعوا، فضربوا حائطاً بينهم، وصارت الواعظة في ناحية، والذين استحلوا في ناحية والحائط بين الفريقين‏.‏ فأصبحوا في يوم من الأيام ولم يفتح الباب الذي بينهما، فارتقى واحد منهم الحائط، فإذا القوم قد مسخوا إلى قردة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان القوم أربعة أصناف صنف يأخذون، وصنف يرضون، وصنف ينهون، وصنف يسكتون، فنجا صنفان، وهلك صنفان‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كانوا صنفين صنف يأخذون، وصنف ينهون‏.‏

وروى قتادة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال‏:‏ كانوا ثلاث فرق فهلك الثاني، ونجا الثالث، والله أعلم ما فعل بالفرقة الثالثة‏.‏ قرأ نافع بعذاب ‏{‏بِيْس‏}‏ بكسر الباء وسكون الياء بلا همز‏.‏ وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بعذاب ‏{‏بَيْأَس‏}‏ بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ بنصب الباء وكسر الياء والهمزة وسكون الياء وهي اللغة المعروفة، والأولى لغة لبعض العرب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ تركوا ما وعظوا به ‏{‏قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ يعني‏:‏ صاغرين مبعدين عن رحمة الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ أعلم ربك ويقال‏:‏ قال ربكم وكل شيء في القرآن تأذن فهو إعلام‏.‏ ومعناه قال‏:‏ ‏{‏لَيَبْعَثَنَّ‏}‏ أي ليسلطن ‏{‏عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي على بني إسرائيل، والذين لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب‏}‏ يعني‏:‏ يعذبهم بالجزية والقتل ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب‏}‏ إذا عاقب من أصرّ على كفره ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ‏}‏ لمن تاب من الشرك ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بعد ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وقطعناهم‏}‏ أي فرقناهم ‏{‏فِي الارض أُمَمًا‏}‏ أي فرقاً ‏{‏مّنْهُمُ الصالحون‏}‏ أي المؤمنون وهم مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ ويقال‏:‏ هم الذين وراء رمل عالج ‏{‏وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك‏}‏ وهم الكفار منهم ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ يعني‏:‏ اختبرناهم بالخصب والجدوبة ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ من الكفر إلى الإيمان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ‏}‏ يعني‏:‏ بعد بني إسرائيل خلف السوء ‏{‏وَرِثُواْ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ التوراة ‏{‏يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى‏}‏ يقول‏:‏ يستحلون أخذ الحرام من هذه الدنيا وهو الرشوة في الحكم ‏{‏وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ يأخذون ما يجدون حلالاً أو حراماً ويتمنَّون المغفرة ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ أي وإن يجدوا مثله من العرض يأخذوه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أنهم يصرون على الذنوب وأكل الحرام، فإذا أخذوا أول النهار يعودون إليه في آخر النهار ولا يتوبون عنه‏.‏ ويقال‏:‏ يطلبون بعلمها الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون‏:‏ سيغفر لنا هذه المرة‏.‏ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ويقولون مثل ذلك‏:‏ أي سيغفر لنا لأنا لا نشرك بالله شيئاً‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ يأخذون عرض هذا الأدنى‏.‏ يقول‏:‏ يعملون بالذنوب‏.‏ ويقولون‏:‏ سيغفر لنا ما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار‏.‏ وما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل‏.‏ ‏{‏وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ الذنوب‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ ألم يؤخذ عليهم ميثاقهم في التوراة ‏{‏أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق‏}‏ أي‏:‏ إلا الصدق ‏{‏وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ‏}‏ أي قرؤوا ما فيه ‏{‏والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتقون الشرك، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أن الآخرة خير من الدنيا‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ما يدرسون من الكتاب‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن الإصرار على الذنوب ليس من علامة المغفورين، قرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص أَفَلا تَعْقِلُونَ بالتاء على وجه المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون بالياء على وجه المغايبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب‏}‏ يعني‏:‏ يعملون بالتوراة ولا يغيرونها عن مواضعها ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أتموا الصلاة المفروضة ‏{‏إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين‏}‏ يعني‏:‏ عمل الموحدين وهم الذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يُمَسّكُونَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يُمَسّكُونَ‏}‏ بالتشديد على معنى المبالغة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ قلعنا ورفعنا الجبل فوقهم ‏{‏كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ‏}‏ أي كهيئة الغمام ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ‏}‏ أي أنه يعني‏:‏ أيقنوا الجبل واقع بهم ‏{‏خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ‏}‏ أي قيل لهم‏:‏ اعملوا بما أعطيناكم من التوراة بقوة أي بجد ومواظبة ‏{‏واذكروا مَا فِيهِ‏}‏ أي اعملوا ما فيه من الحلال والحرام والأمر والنهي ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ المعاصي، وذلك حين أبوا أن يقبلوا التوراة، فرفع الجبل فوقهم فقبلوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ اذكر يا محمد إذا أخذ ربك‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وقد أخذ ربك من بني آدم من ظهور بني آدم ‏{‏ذُرّيَّتُهُم‏}‏ يعني‏:‏ ‏{‏أَخَذَ رَبُّكَ مِن * تَتَّقُونَ * وَإِذْ أَخَذَ‏}‏ ذريتهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني الذرية التي تخرج وقتاً بعد وقت إلى يوم القيامة ‏{‏وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فقال لهم‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ كل بالغ تشهد له خلقته بأن الله تعالى واحد ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ يعني‏:‏ قال الله تعالى شهدنا ‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ أي لكيلا تقولوا‏.‏ ويقال‏:‏ هذا كراهة أن يقولوا‏:‏ ‏{‏يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ وروي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ إن الله مسح على ظهر آدم فأخرج ذريته من صلبه كهيئة الذر من هو مولود إلى يوم القيامة‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ شهدنا بأنك ربنا قال بعضهم‏:‏ هذا التفسير لا يصح وطعنوا فيه من وجوه أحدها أن الرواية لم تصح لأنها رواية أبي صالح، وأبو صالح ليس ممن يعتمد على روايته، لأنه روي عن الشعبي أنه كان يمر بأبي صالح ويفرك أذنه، ويقول له‏:‏ إنك لم تحسن أن تقرأ القرآن، فكيف تفسره بالرأي‏.‏ قالوا‏:‏ ولأن هذا غير محتمل في اللغة لأنه قال‏:‏ من ظهورهم ولم يقل من ظهر آدم‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنه لا يجوز من الحكيم أن يخاطب الذر‏.‏ وإنما يجوز خطاب من هو عاقل‏.‏ ومن كان مثل الذر كيف يجوز خطابه‏؟‏ قالوا‏:‏ ولأنه لا يجوز أن تكون حجة الله بشيء لم يذكر‏.‏ وإنما تكون الحجة بشيء يكون الإنسان ذاكراً له‏.‏ قالوا‏:‏ ولأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 11‏]‏ ولم يقل‏:‏ أحييتنا ثلاث مرات‏.‏ ولكن الجواب أن يقال‏:‏ إن الرواية صحيحة، لأن الآثار قد جاءت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يجوز دفعه‏.‏ فمن ذلك ما حدثنا الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا الماسرخسي‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن علية عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ مسح الله تعالى ظهر آدم فأخرج كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة‏.‏

فأخذ ميثاقهم وأشهدهم على أنفسهم ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏‏.‏

قال‏:‏ حدثنا الشيخ الرئيس أبو طاهر محمد بن داود‏.‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن أحمد بأستراباذ‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أحمد بن زكريا‏.‏ قال‏:‏ حدثنا عبد السلام بن صالح عن جعفر بن سليمان عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري‏.‏ قال‏:‏ حججنا مع عمر في أول خلافته فوقف على الحجر ثم قال‏:‏ أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّلك ما قبّلتك‏.‏ فقال له عليٌّ رضي الله عنه‏:‏ لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإنه يضر وينفع بإذن الله‏.‏ ولو أنك قرأت القرآن وعلمت ما فيه ما أنكرت عليّ ما قلت‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ فلما أقروا بالعبودية على أنفسهم، كتب إقرارهم في رق، ثم دعا هذا الحجر فقال له‏:‏ افتح قال‏:‏ فألقمه ذلك الرق فهو أمين الله في هذا المكان يشهد لمن استلمه ووافاه يوم القيامة‏.‏ فقال له عمر رضي الله عنه‏:‏ لقد جعل الله بين ظهرانيكم من العلم غير قليل‏.‏

وروى ربيع بن أنس عن أبن العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً، ثم صورهم، ثم استنطقهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ شهدنا بأنك ربنا‏.‏ قال‏:‏ فإني أرسل إليكم رسلي، وأنزل عليكم كتبي، فلا تكذبوا رسلي، وصدقوا وعدي؛ وأخذ عهدهم وميثاقهم فنظر إليهم آدم فرأى منهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك‏.‏ فقال آدم‏:‏ رب لو شئت سويت بين عبادك‏.‏ فقال‏:‏ إني أحببت أن أشكر‏.‏ قال‏:‏ والأنبياء يومئذ مثل السرج فأخذ عليهم ميثاق الرسالة أن يبلغوها‏.‏ فهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

قال الفقيه‏:‏ أخبرني الثقة بإسناده عن مالك بن أنس عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ‏:‏ خَلَقْتُ هؤلاء لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ يَعْمَلُونَ‏.‏ ثُمَّ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً، فَقَالَ‏:‏ خَلَقْتُ هؤلاء لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ»

فقال رجل‏:‏ يا رسول الله ففيم العمل‏؟‏ فقال‏:‏ «إنَّ الله تَعَالَى إذا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ الجَنَّةَ‏.‏ وَإذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ النَّارَ» وبهذا احتج الجبرية أن ما عمل عبد عملاً من خير أو شر إلا ما قدره الله تعالى يوم الميثاق‏.‏

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ لما خلق الله تعالى آدم أخرج ذريته من ظهره مثل الذر، فقال لأصحاب اليمين‏:‏ هؤلاء في الجنة ولا أبالي وقال للآخرين‏:‏ هؤلاء في النار ولا أبالي‏.‏

وروى أسباط عن السدي في قول الله تعالى ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء، مسح صفحة ظهر آدم اليمين فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال‏:‏ ادخلوا الجنة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى أخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال لهم‏:‏ ادخلوا النار ولا أبالي‏.‏ فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ثم أخذ منهم الميثاق فقال‏:‏ ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى‏}‏ فأجابه طائفة طائعين، وطائفة كارهين‏.‏ فقال هو والملائكة شهدنا أن تقولوا يوم القيامة‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏‏.‏

فلما رويت فيه من الأخبار من طرق شتى لا يجوز رده، ويرجع الطعن إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم‏.‏ ويجب للطاعن أن يطعن في فهم نفسه لا في الصحابة‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ أما الجواب عن قولهم‏:‏ إنه قال‏:‏ ‏{‏مِن ظُهُورِهِمْ‏}‏ ولم يقل من ظهر آدم فالمعنى في ذلك والله أعلم أنه قد أخرج ذرية آدم الذين هم ولده من صلبه، ثم أخرج من ظهورهم ذريتهم، ثم أخرج من بعدهم حتى أخرج جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة، فأخرج من ظهورهم كل نسمة تخرج من ظهر، فذكر الأخذ من ظهور ذريته، ولم يذكر ظهر آدم لأن في الكلام دليلاً عليه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ ولم يذكر فرعون لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏

وأما الجواب عن قولهم‏:‏ إنه لا يجوز خطاب الذر فعن هذا القول جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه يجوز أن يكونوا كالذر في الصغر ويرزقهم الله تعالى من العقل ما يكونوا به من أهل الخطاب‏.‏ ألا ترى أن نملة سليمان بن داود عليهما السلام قد تكلمت بكلام العقلاء وفهم ذلك عنها سليمان، وسبَّح الطير والجبال مع داود، فكذلك هذا‏.‏ والجواب الثاني أنهم كانوا كالذر في الازدحام والكثرة لا في الخلقة والجثة‏.‏ ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم لأن الذر إذا كثرت وازدحمت لا يعرف عددها‏.‏ فكذلك ذرية آدم كانوا في الكثرة والازدحام مثل الذر‏.‏ ولكنهم في الخلقة مثل خلقتهم اليوم‏.‏ والجواب عن قولهم‏:‏ أنه لا تكون الحجة بشيء لم يذكر أن يقال‏:‏ إن الله تعالى قد أرسل الرسل وأخبرهم بذلك الميثاق، وإذا أخبرهم الرسل بذلك صار حجة عليهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن الرسل وإن أخبروهم فإذا لم يذكروا ذلك فكيف يصير حجة عليهم‏؟‏ قيل لهم‏:‏ وإن لم يذكروا صار قول الثقات حجة عليهم‏.‏ ألا ترى أن رجلاً لو طلق امرأته وقد نسي فشهد عليه شاهدان عدلان بأنه قد طلقها قبل غيبته عنها يجب عليه أن يقبل قولهما‏.‏ وكذلك لو صلى فشهد عليه عدلان أنه ترك ركعة من صلاته وجب عليه أن يأخذ بقولهما وإن كان لا يذكر‏.‏ فكذلك هاهنا والجواب عن قولهم إنه لم يقل‏:‏ أحييتنا ثلاث مرات‏.‏ لأن الإحياء المعروف مرتان فذكر الإحياء الذي كان معروفاً عنده‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هذا حكاية عن قول الذرية قالوا‏:‏ بلى شهدنا‏.‏ وتم الكلام‏.‏ ثم في الآية مضمر ومعناه‏:‏ أخذنا عليهم الميثاق لكي لا يقولوا هذا يوم القيامة ‏{‏إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما تمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ ثم إنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِدْنَا‏}‏ يعني‏:‏ شهدنا عليكم وأخذنا عليكم الميثاق لكيلا يقولوا يوم القيامة‏:‏ إنا كنا عن هذا الميثاق غافلين ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ أي‏:‏ لكيلا تقولوا‏:‏ ‏{‏أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا‏}‏ ونقضوا العهد ‏{‏وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ لم نعلم به ‏{‏أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون‏}‏ يعني‏:‏ آباؤنا المشركون‏.‏ فإن قيل‏:‏ هل كان إقرارهم إيماناً منهم‏؟‏ قيل له‏:‏ أما المؤمنون كان إقرارهم إيماناً‏.‏ وأما الكافرون فلم يكن إقرارهم إيماناً‏.‏ لأن إقرارهم كان تقية‏.‏ ولم يكن حقيقة‏.‏ قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو ‏{‏ذرياتهم‏}‏ بلفظ الجماعة‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم‏}‏ بلفظ واحد لأن الذرية قد أضافها إلى الجماعة فاستغنى عن لفظ الجمع‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏أَن يَقُولُواْ‏}‏ بالياء وكذلك في قوله ‏{‏أَوْ يَقُولُواْ‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون كليهما بالتاء على معنى الخطاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات‏}‏ يعني‏:‏ هكذا نبيّن الآيات في أمر الميثاق ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى إقرارهم وإلى التوبة فالواو الأولى للعطف وهو قوله ‏{‏وكذلك‏}‏ والواو الثانية زيادة للوصل وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ومعناه‏:‏ وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون أي لكي يرجعوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 178‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏176‏)‏ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏177‏)‏ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ أَيُّ إِن لَّمْ يرجعوا بذكر الميثاق ولم يتوبوا فاتل عَلَيْهِمْ ‏{‏نَبَأَ الذى ءاتيناه‏}‏ أي خبر الذي أعطيناه ‏{‏ءاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ أكرمناه باسم الله الأعظم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الكتاب وهي علم التوراة وغيره ‏{‏فانسلخ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها‏.‏ ويقال‏:‏ تهاون بها ولم يعرف حقها، ولا حرمتها، وخرج منها ‏{‏فَأَتْبَعَهُ الشيطان‏}‏ يقول‏:‏ غرّه الشيطان ‏{‏فَكَانَ مِنَ الغاوين‏}‏ أي فصار من الظالمين وفي الضالين‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هو بلعم بن باعوراء كان عابداً من عباد بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، فنزع الله تعالى الإيمان عنه بدعاء موسى عليه السلام، وذلك أن موسى عليه السلام قاتل فرعوناً من الفراعنة فجمع ذلك الفرعون الكهنة والسحرة، فقال لهم‏:‏ أعينوني على هؤلاء يعني‏:‏ قوم موسى فقالوا‏:‏ لن تستطيعهم، ولكن بجوارك رجل منهم فلو بعثت إليه واستعنت به، فبعث الملك إلى بلعم فلم يجبه، فبعث الملك إلى امرأة بلعم الهدايا وطلب منها بأن تأمره بأن يجيب الملك، فجاءته امرأته وقالت‏:‏ نحن في جوار هذا الملك فلا بد لك من إجابته‏.‏ فأجابهم إلى ذلك، وركب أتاناً له، وخرج إليهم فسار حتى إذا كان في بعض الطريق وقفت أتانه فضربها، فلما ألح عليها كلّمته الأتان وقالت‏:‏ انظر إلى ما بين يديك فنظر فإذا هو جبريل قال له‏:‏ خرجت مخرجاً ما كان ينبغي لك أن تخرج‏.‏ فإذا خرجت فقل حقاً قال‏:‏ فلما قدم عليه أمر له بالذهب والفضة والخدم والفرش فقبل‏.‏ فقال له‏:‏ قد دعوتك لتدعو لي على هذا العسكر دعوة‏.‏ قال‏:‏ غداً‏.‏ فلما تلاقى القوم قال بلعم‏:‏ إن بني إسرائيل أمة موسى ملعون من لعنهم ومبارك من بارك عليهم‏.‏ فقالوا له‏:‏ ما زدتنا إلا خبالاً‏.‏ قال بلعم‏:‏ ما استطعت غير ما رأيت‏.‏ ولكني أدلك على أمر إن فعلته فوقعوا به خُذِلوا ونصرت عليهم، تعمد إلى نساء حسان فتجعل عليهم الحلي والثياب والعطر ثم ترسلهن في عسكرهم‏.‏ فإن وقعوا بهن خذلوا‏.‏ ففعل ذلك فما تعرض لهن منهم إلا سفهاؤهم فخذلوا‏.‏ فأخبر بذلك موسى فدعا عليه فنزع الله منه الإيمان‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما هو أمية بن أبي الصلت قرأ الكتب ورغب عن عبادة الأوثان وكان يخبر أن نبينا يبعث وكان قد أظل زمانه‏.‏ وكان يرى أن الوحي ينزل عليه لكثرة علمه‏.‏ فلما سمع بخروج النبي صلى الله عليه وسلم وقصته كفر حسداً له‏.‏ وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع شعره قال‏:‏ «آمن لسانه وكفر قلبه» فذلك قوله‏:‏ ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ بالآيات ويقال‏:‏ رفعناه في الآخرة بما علمناه من آياتنا ‏{‏ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض‏}‏ يعني‏:‏ أمية بن أبي الصلت أو بلعم بن باعوراء مال إلى الدنيا ورضي بها ‏{‏واتبع هَوَاهُ‏}‏ أي هوى نفسه ويقال‏:‏ عمل بهوى المرأة وترك رضى الله ويقال‏:‏ أخذ مسافل الأمور وترك معاليها ‏{‏فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب‏}‏ يقول‏:‏ مثل بلعم كمثل الكلب ‏{‏إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ‏}‏ يقول‏:‏ إن طردته فهو يلهث ‏{‏أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث‏}‏ يعني‏:‏ وإن تركته فهو يلهث‏.‏ قال القتبي‏:‏ كل شيء يلهث من إعياء أو عطش ما خلا الكلب‏.‏ فإنه يلهث في حال الراحة والصحة والمرض‏.‏ فضرب الله تعالى به مثلاً يعني‏:‏ كما أن الكلب إن طردته أو تركته يلهث فكذلك بلعم أو أمية بن أبي الصلت إن وعظته لم يتعظ وإن تركته لم يفعل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني الكفار إن قرئ عليهم الكتاب لم يقبلوا، وإن لم يقرأ عليهم لم يعملوا هم أهل مكة‏.‏ ‏{‏ذلك مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بثاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ ذلك صفة الذين جحدوا نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏{‏فاقصص القصص‏}‏ أي اقرأ عليهم القرآن ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي يتعظوا بأمثال القرآن ويؤمنوا به‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَاء مَثَلاً‏}‏ يعني‏:‏ بئس مثل ‏{‏القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ بئس مثل من كان مثل الكلب، وإنما ضرب المثل بالكلب تقبيحاً لمذهبهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ‏}‏ وكانت صفتهم مثل صفة بلعم وهم أهل مكة كذبوا بآياتنا، فلم يؤمنوا بها مثل بلعم ‏{‏وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يضرون بأنفسهم ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى‏}‏ يعني‏:‏ من يهده الله لدينه فهو المهتدي من الضلالة ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ يعني‏:‏ ومن يضله عن دينه ويخذله ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ بالعقوبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 180‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏179‏)‏ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا‏}‏ يعني‏:‏ خلقنا لجهنم كثيراً ‏{‏مّنَ الجن والإنس‏}‏ فإن قيل‏:‏ قد قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ فأخبر أنه خلق الجن والإنس لعبادته‏.‏ وهاهنا يقول‏:‏ خلقهم لجهنم‏.‏ قيل له‏:‏ قد خلقهم للأمرين جميعاً منهم من يصلح لجهنم فخلقه لها، ومنهم من يصلح للعبادة فخلقه لها، ولأن من لا يصلح لشيء لا يخلقه لذلك الشيء‏.‏ ويقال معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ يعني‏:‏ إلا للأمر والنهي‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ يعني‏:‏ إلا لكي يمكنهم أن يعبدوا، وقد بينت لهم الطريق‏.‏ ويقال‏:‏ في هذه الآية تقديم وتأخير‏.‏ ومعناه‏:‏ ولقد ذرأنا جهنم لكثير من الجن والإنس‏.‏

ثم وصفهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لا يعقلون بها‏.‏ الحق كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 7‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ الهدى ‏{‏وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ الهدى‏.‏

ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام‏}‏ فشبههم بالأنعام لقلة رغبتهم وتغافلهم عن الحق‏.‏ يعني‏:‏ إنهم كالأنعام في ذهنهم لا في صورهم‏.‏ لأنه ليس للأنعام إلا الأكل والشرب، فهي تسمع ولا تعقل، كذلك الكافر هو غافل عن الأمر والنهي والوعد والوعيد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ سبيلاً يعني‏:‏ الكفار أخطأ طريقاً من الأنعام، لأن الأنعام إذا عرفت أنها تركت الطريق رجعت إلى الطريق، والكفار لا يرجعون إلى الطريق‏.‏ ولأن الأنعام تعرف ربها، والكفار لا يعرفون ربهم‏.‏ ويقال‏:‏ لمَّا نزلت هذه الآية ‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام‏}‏ تضرعت الأنعام إلى ربها‏.‏ فقالت‏:‏ يا ربنا شبهت الكفار بنا ونحن لا ننكر وحدانيتك‏.‏ فأعذر الله تعالى الأنعام‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ من الأنعام لأن الأنعام مطيعة لله تعالى‏.‏ والكفار غير مطيعين لله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون‏}‏ يعني‏:‏ عن أمر الله تعالى وعما ينفعهم‏.‏ قال الفقيه أبو الليث‏:‏ حدثنا أبو جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو يعقوب إسحاق بن عبد الله القاري‏.‏ قال‏:‏ حدثنا حازم بن يحيى الحلواني‏.‏ قال‏:‏ حدثنا الحسين بن الأسود‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن سنان عن أبي منيب الحمصي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خَلَقَ الله الجِنَّ ثَلاَثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ وَخَشَاشَ الأَرْضِ، وَصِنْفاً كَالرِّيحِ فِي الهَوَاءِ، وَصِنْفَاً عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ وَالعِقَابُ، وَخَلَقَ الله الإنْسَ ثَلاثَةَ أصْنَافٍ صِنْفاً كَالبَهَائِمِ وَهُمُ الكُفَّارُ، قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ‏}‏ وَصِنْفاً آخَرَ أَجْسَادُهُم كَأَجْسَادِ بَنِي آَدَم وَأَرْوَاحُهُم كَأَرْوَاحِ الشَّيَاطِينِ، وَصِنْفاً فِي ظِلِّ الله يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلَّهُ»

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا‏}‏ وذلك أن رجلاً دعا الله في صلاته، ودعا الرحمن‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين‏؟‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا‏}‏ الرحمن الرحيم الملك القدوس ونحوه‏.‏ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الرجل فقال‏:‏ «ادْعُ الله أَوْ ادْعُ الرحمن رَغْماً لأَنْفِ المُشْرِكِينَ» ويقال‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى‏}‏ يعني‏:‏ الصفات العلى ‏{‏فادعوه بِهَا‏}‏‏.‏ وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مائَةً إلاَّ وَاحِدَةً مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ وَمِنْ أسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ الرحمن الرَّحِيمُ» وقد ذكرنا تفسيرها ومن أسمائه الأحد وأصله الوحد بمعنى الواحد، وهو الذي ليس كمثله شيء، ومنها الصمد وهو السيد الذي صمد إليه كل شيء أي قصده‏.‏ ومنها القيوم وهو البالغ في القيام بكل ما خلق‏.‏ ومنها الولي يعني‏:‏ المتولي أمور المؤمنين‏.‏ ومنها اللطيف وهو الذي يلطف بالخلق من حيث لا يعلمون، ولا يقدرون ومنها الودود المحب الشديد المحبة‏.‏ ومنها الظاهر والباطن الذي يعلم ما ظهر وما بطن‏.‏ ومنها البديع الذي ابتدع الخلق على غير مثال‏.‏ ومنها القدوس أي ذو البركة‏.‏ ويقال‏:‏ الطاهر ومنها الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء‏.‏ ومنها الحنان أي ذو الرحمة والعطف‏.‏ ومنها المنان الكثير المنّ على عباده‏.‏ ومنها الفتاح يعني‏:‏ الحاكم‏.‏ ومنها الديان يعني‏:‏ المجازي‏.‏ ومنها الرقيب‏:‏ يعني الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء‏.‏ ومنها ذو القوة المتين يعني الشديد القوة على أمره‏.‏ ومنها الوكيل الذي يتوكل بالقيام بجميع ما خلق‏.‏ ومنها السبوح الذي تنزه عن كل سوء ومنها السلام يعني‏:‏ الذي سَلِم الخلق من ظلمه‏.‏ ومنها المؤمن الذي أمن الخلق من ظلمه‏.‏ ومنها العزيز أي‏:‏ المنيع الذي لا يغلبه شيء‏.‏ ومنها المهيمن يعني‏:‏ الشهيد‏.‏ ومنها الجبار الذي جبر الخلق على ما أراد‏.‏ ومنها المتكبر الذي تكبر عن ظلم العباد‏.‏ ومنها الباري يعني‏:‏ الخالق وسائر الأسماء التي ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يصف به نفسه، ولم يسم به نفسه، فيقول‏:‏ يا جواد ولا ينبغي له أن يقول‏:‏ يا سخي، لأنه لم يسم به نفسه‏.‏ وكذلك يقول‏:‏ يا قوي ولا يقول‏:‏ يا جلد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ‏}‏ قرأ حمزة ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بنصب الياء والحاء‏.‏

وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الحاء ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ فمن قرأ بالنصب فمعناه‏:‏ وذروا الذين يميلون في أسمائه يعني‏:‏ يُحَوِّرون ويمارون في أسمائه ويعدلون، فسموا اللات والعزى‏.‏ ومن قرأ بالضم فمعناه‏:‏ وذروا الذين يجادلون ويمارون في أسمائه‏.‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى قد احتج على الكفار بأربعة أشياء بالخلق‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً ولو اجتمعوا له‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 11‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ والثاني في الملك وهو قوله ‏{‏وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا سبحانه بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والارض كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وقال في الأوثان ‏{‏أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 43‏]‏ والثالث في القوة وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 20‏]‏ ‏{‏فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الارض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 58‏]‏ وقال في الأوثان‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195‏]‏ فوصفهم بالعجز‏.‏ والرابع بالأسماء فقال ‏{‏وَللَّهِ الاسماء الحسنى‏}‏ وقال في الأوثان ‏{‏وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ‏}‏ ويقال‏:‏ إن الكفار أرادوا أن يسموا آلهتهم الله فجرى على لسانهم اللات وقال أهل اللغة‏:‏ إنما سمي اللات لأنه كان عنده رجل كان يلت السويق‏.‏ وأرادوا أن يسموا العزيز فجرى على لسانهم العزى‏.‏ وأرادوا أن يسموا منان فجرى على لسانهم مناة‏.‏ وبقيت تلك الأسماء للأصنام‏.‏ وأصل الإلحاد هو الميل ولهذا سمي اللحد لحداً لأنه في ناحية‏.‏

ثم قال ‏{‏سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ وسيهانون ويعاقبون بما كانوا يعملون من الشرك والإلحاد في الأسماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 186‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏181‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏182‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏183‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏184‏)‏ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏185‏)‏ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق‏}‏ يعني‏:‏ جماعة وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم يهدون بالحق يعني يدعون إلى الحق ويأمرون بالحق ‏{‏وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ يعني بالحق يعملون وذلك أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏ قال أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله قد ذكر الله تعالى هؤلاء الرهط بالخير الجسيم من بني إسرائيل إن آمنوا بك وجعل لهم أجرين، ولنا أجراً واحداً، وقد صدقناك والرسل والكتب فنزل ‏{‏وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ‏}‏ يعني‏:‏ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ بمحمد والقرآن ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ يعني‏:‏ سنأخذهم بالعذاب ‏{‏مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ من حيث لا يشعرون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني نزيّن لهم فنهلكهم من حيث لا يعلمون‏.‏ يقول‏:‏ سنأتيهم وهم المستهزئون فيقتل كل رجل منهم بغير قتلة صاحبه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الاستدراج أن يذيقهم من بأسه قليلاً قليلاً‏.‏ ويقال‏:‏ استدرج فلان فلاناً يعني‏:‏ يعرف ما عنده وأصل هذا من الدرجة لأن الراقي يرقى درجة درجة‏.‏ فاستعير من هذا كقوله تعالى ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 1‏]‏ يعني‏:‏ الملائكة يتابعون بعضهم بعضاً كعرف الفرس‏.‏ وكقوله تعالى‏:‏ ‏{‏المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ يمسكون عن العطية‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏سَنَسْتَدْرِجُهُم‏}‏ يعني‏:‏ كلما جددوا معصية جددنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها، ثم نأخذهم من حيث لا يعلمون، فذلك الاستدراج‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأُمْلِى لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وأمهلهم ‏{‏إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ عقوبتي شديدة‏.‏ ويقال‏:‏ إن صنيعي محكم‏.‏ ويقال‏:‏ إن أخذي شديد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة فيما يأمرهم محمد صلى الله عليه وسلم أن يعبدوا خالقهم، ورازقهم، وكاشف الضر عنهم، ولا يعبدوا من لا يقدر على شيء منه أمثل هذا يكون مجنوناً‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏أَوَ لَم يَتَفَكَّرُواْ‏}‏ في دلائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته ليستدلوا بأنه نبي وقد تم الكلام‏.‏

ثم استأنف فقال ‏{‏مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ‏}‏ ويقال‏:‏ هذا على وجه البناء‏.‏ ومعناه‏:‏ أو لم يتفكروا ليعلموا ‏{‏مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ جنوناً‏.‏ ويقال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم صعد ذات ليلة الصفا، فدعا قريشاً إلى عبادة الله تعالى بأسمائهم فرداً فرداً، فقال بعضهم‏:‏ إن صاحبكم لمجنون‏.‏ فوعظهم الله تعالى فقال ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ‏}‏ يقول‏:‏ أو لم يجالسوه ويكلموه هل به من جنون ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ أي رسولاً بيناً‏.‏

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بواحدة أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بصاحبكم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏سبإ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

ووعظهم ليعتبروا في صنعه فيوحدوه فقال‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والارض‏}‏ أي في خلق السموات والأرض ‏{‏وَمَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ في السماء من الشمس والقمر والنجوم وما خلق الله في الأرض من الجبال والبحار وغير ذلك فيعتبروا، ويؤمنوا بأن الذي خلق الذي ترون، هو رَبّ واحد لا شريك له ‏{‏وَأَنْ عسى‏}‏ يعني‏:‏ وينظروا في أن عسى ‏{‏أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قد دنا هلاكهم ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يؤمنوا بالقرآن فبأي حديث يؤمنوا بعد القرآن‏.‏ لأن هذا آخر الكتب نزولاً وليس بعده كتاب ينزل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ من يخذله الله عن دين الإسلام فلا هادي له إلى الهدى ‏{‏وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتركهم في ضلالتهم يترددون‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏وَيَذَرُهُمْ‏}‏ بالياء وضم الراء على معنى الخبر‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏وَنَذَرُهُمْ‏}‏ بالنون وضم الراء، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص ‏{‏وَيَذَرُهُمْ‏}‏ بالياء وجزم الراء وجعلوه جواب الشرط‏.‏ ومعناه‏:‏ من يضلل الله يذره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 188‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏187‏)‏ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏ أي‏:‏ قيام الساعة ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ أي متى حينها وقيامها‏.‏ ويقال‏:‏ هذا الكلام على الاختصار‏.‏ ومعناه‏:‏ أي أوان قيامها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي‏}‏ أي‏:‏ علم قيام الساعة عند ربي وما لي بها من علم ‏{‏لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ أي لا يكشفها لحينها إلا الله‏.‏ ويقال‏:‏ لا يقدر أحد على إظهارها إلا هو‏.‏ يعني‏:‏ إلا الله‏.‏ ويقال‏:‏ لا يعلم أحد قيامها إلا هو ‏{‏ثَقُلَتْ فِى السموات والارض‏}‏ أي ثقل علم قيام الساعة على أهل السموات وأهل الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ ثقلت أي‏:‏ خفي علمها، وإذا خفي الشيء ثقل علمه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ثقل حمل ذكرها لفظاعة شأنها وأمرها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏ يعني‏:‏ فجأة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كأنك استحفيت عنها السؤال حتى علمتها‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أي‏:‏ كأنك حفي تطلب علمها‏.‏ ومنه يقال‏:‏ تحفى فلان بالقوم إذا بالغ في البر‏.‏ ويقال‏:‏ كأنك حفي عنها أي كأنك جاهل بها‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية تقديم ومعناه‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ‏}‏ يعني‏:‏ كأنك عالم بها ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله‏}‏ وروى إبراهيم بن يوسف بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فقال‏:‏ «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ وَلَكِنْ أَشْرَاطُ السَّاعَةِ عَشْرَةٌ يَقْرَبُ فِيهَا المَاحِلُ وَيَطْرُفُ فِيها الفَاجِرُ وَيَعْجَزُ فِيها المُنْصِفُ وَتَكُونُ الصَّلاَةُ منّاً والزَّكَاةُ مَغْرَماً وَالأَمَانَةُ مَغْنَماً وَاسْتِطَالَةُ القُرَّاءِ فَعِنْدَ ذلك تَكُونُ أَمَارَةُ الصِّبْيانِ وَسُلْطَانُ النِّساءِ وَمَشُورَةُ الإِماءِ»

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله‏}‏ يعني‏:‏ علم قيامها عند الله ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنها كائنة ولا يصدقون بها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني لا أقدر لنفسي أن أسوق إليها خيراً أو أدفع عنها ضراً حين ينزل بي فكيف أملك علم الساعة ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ فيصيبني ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب‏}‏ أي غيب النفع والضر إذ جاء ‏{‏لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِىَ السوء‏}‏ يعني‏:‏ لاستكثرت من النفع وما أصابني الضر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنّ أهل مكة قالوا له ألا يخبرك ربك بالبيع الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه‏؟‏ فنزل قل لهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير‏}‏ للجدوبة والقحط‏.‏ ويقال‏:‏ لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قال لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً يعني الغنى والفقر إلا ما شاء الله إن شاء أغنى عبده وإن شاء أفقره ‏{‏وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب‏}‏ أي مواضع الكنوز لاستخرجتها وما مسني السوء يعني‏:‏ الفقر ‏{‏إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ أي مخوف بالنار ‏{‏وَبَشِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ مبشراً بالجنة ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدقون بالبعث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 195‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏189‏)‏ فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏190‏)‏ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏191‏)‏ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏192‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ‏(‏193‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏194‏)‏ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ يعني‏:‏ من نفس آدم ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ يعني‏:‏ خلق من نفس آدم من ضلع من أضلاعه اليسرى زوجته حواء ‏{‏لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ ليطمئن إليها ويجامعها ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏ أي‏:‏ سكن إليها وجامعها ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ يعني‏:‏ خفيف الماء ‏{‏فَمَرَّتْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ استمرت بالحمل‏.‏ يقول‏:‏ قامت بالحمل وقعدت ولا تدري أهي حبلى أم لا ‏{‏فَلَمَّا أَثْقَلَت‏}‏ يعني‏:‏ ثقل الولد في بطنها ‏{‏دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا‏}‏ وذلك أن إبليس أتاها فقال‏:‏ يا حواء ما هذا الذي في بطنك‏؟‏ قالت‏:‏ ما أدري‏.‏ قال‏:‏ أخاف إنها بهيمة، وإني من الله بمنزلة، فإن دعوت الله فولدت إنساناً صالحاً أتسميه باسمي‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ وما اسمك قال‏:‏ عبد الحارث فكذب‏.‏ فدعت حواء وآدم فذلك قوله‏:‏ دعوا الله ربهما ‏{‏لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا‏}‏ يعني‏:‏ أعطيتنا ولداً سوياً صحيح الجوارح ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ وهذا قول سعيد بن جبير رواه عن ابن عباس‏.‏ وروى معمر عن قتادة أنه قال‏:‏ كان آدم لا يولد له ولد إلا مات فجاء الشيطان وقال‏:‏ إن سرك أن يعيش ولدك فسمه عبد الحارث ففعل‏.‏ فأشركا في الاسم‏.‏ ولم يشركا في العبادة‏.‏ وروي عن السدي أنه قال‏:‏ اسم إبليس هو الحارث يوم لعن فأراد أن ينسب إليه، فأمرها فسمته عبد الحارث، فعاش بعد ذلك أياماً ثم مات‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاتاهما‏}‏ يعني‏:‏ أعطاهما ‏{‏صالحا‏}‏ خلقاً آدمياً سوياً ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما‏}‏ قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء‏}‏ بكسر الشين وجزم الراء وقرأ الباقون ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ بالضم ونصب الراء‏.‏ فمن قرأ بالكسر فهو على معنى التسمية، وهو اسم يقوم مقام المصدر ومن قرأ بالضم فمعناه‏:‏ ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء‏}‏ يعني‏:‏ الشريك في الاسم وإنما ذكر الشركاء وأراد به الشريك يعني‏:‏ الشيطان فإن قيل‏:‏ من قرأ بالكسر كان من حق الكلام أن يقول جعلا لغيره شركاً، لأنهما لا ينكران أن الأصل لله تعالى‏.‏ وإنَّما جعلا لغيره شركاً أي نصيباً‏.‏ قيل له‏:‏ معناه ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء‏}‏ يعني‏:‏ ذا شرك‏.‏ فذكر الشرك والمراد به شركه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 12‏]‏ أي أهل القرية فضرب الله تعالى بهذا مثلاً للكفار يعني‏:‏ كما أن آدم وحواء أعطاهما ورزقهما فاشركوا في عبادته‏.‏

ثم نزه نفسه عن الشرك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي هو أعلى وأجل من أن يوصف بالشرك‏.‏

ثم رجع إلى قصة الكفار فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ أيشركون الآلهة مع الله تعالى وهم كفار مكة ما لا يخلق شيئاً وهي الآلهة ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يستطيعون أن يمتنعوا مما نزل بهم من العذاب ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى‏}‏ قال الكلبي يعني‏:‏ الآلهة‏.‏

وإن يدع المشركون آلهتهم إلى أمر ‏{‏لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا يتّبعهم آلهتهم ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ يا أهل مكة ‏{‏أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ لا تعقل شيئاً لأنه ليس فيها روح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ لا يتبعونكم يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون فلا يؤمنون قرأ نافع ‏{‏لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ بجزم التاء وقرأ الباقون بالنصب والتشديد ‏{‏لاَ يَتَّبِعُوكُمْ‏}‏ وهما لغتان تبعه وأتْبعه معناهما واحد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تعبدون ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ مخلوقين مملوكين أشباهكم وليسوا بآلهة ‏{‏فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنها آلهة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ في حوائجكم ‏{‏أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ يعطون بها ويمنعون عنكم الضر ‏{‏أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ عبادتكم ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ‏}‏ يعني‏:‏ دعاءكم وقد احتجت المشبهة بهذه الآية أن من لا يكون له يد ولا رجل ولا بصر لا يصلح أن يكون إلها‏.‏ ولكن لا حجة لهم في ذلك لأن الله تعالى بيّن ضعف معبودهم وعجزهم، وبيّن أنهم اشتغلوا بشيء لا فائدة فيه ولا منفعة لهم في ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد يعني‏:‏ لكفار مكة ‏{‏ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ آلهتكم ‏{‏ثُمَّ كِيدُونِ‏}‏ يعني‏:‏ اعملوا بي ما شئتم ‏{‏فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ يعني‏:‏ لا تمهلون ولا تؤجلون لأنهم خوفوه بآلهتهم قرأ أبو عمرو ‏{‏ثُمَّ‏}‏ بالياء في حال الوصل وقرأ الباقون بغير الياء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 200‏]‏

‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ حافظي وناصري الله الذي نزل الكتاب‏.‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ إن الذي يمنعني منكم الله الذي أنزل جبريل بالكتاب ‏{‏وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين فيحفظهم ولا يكلهم إلى غيره‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ تعبدون من دون الله ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون منعكم ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ أي يمنعون ممن أذاها، لأن الكفار كانوا يلطخون العسل في فم الأصنام، وكان الذباب يجتمع عليه فلا تقدر دفع الذباب عن نفسها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني إن دعا المشركون آلهتهم لا يسمعون أي يجيبونهم ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام تراهم مفتحة أعينهم وهم لا يبصرون شيئاً‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ الهدى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني‏:‏ خذ ما أعطوك من الصدقة يعني‏:‏ ما فضل من الأكل والعيال، ثم نسخ بآية الزكاة وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ يعني‏:‏ الفضل وأمر بالمعروف يعني‏:‏ ادعهم إلى التوحيد ‏{‏وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ أي من جهل عليك مثل أبي جهل وأصحابه، وكان ذلك قبل أن يؤمر بالقتال‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ يعني‏:‏ اعف عمن ظلمك واعط من حرمك وصل من قطعك‏.‏

قال الفقيه أبو الليث‏:‏ حدثنا عن الشعبي الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا الديبلي‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو عبيد الله وحدثنا سفيان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ سأل عنها جبريل‏.‏ فقال جبريل‏:‏ حتى أسأل العالم، فذهب ثم أتاه، فقال‏:‏ يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تَصِل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عن من ظلمك‏.‏ وقال القتبي في قول النبي‏:‏ صلى الله عليه وسلم «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ» فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر في هذه الآية كيف جمع له في هذا كل خلق عظيم، لأن في أخذ العفو صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين، وفي الأمر بالمعروف تقوى الله، وصلة الأرحام، وغض البصر، وفي الإعراض عن الجاهلين الحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السفيه، وعن منازعة اللجوج، وإنما سمي المعروف معروفاً لأن كل نفس تعرفه وكل قلب يطمئن إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان‏}‏ قال مقاتل يعني‏:‏ ولا يفتننكم فتنة في أمر أبي جهل ‏{‏نَزْغٌ فاستعذ بالله‏}‏ قال الكلبي‏:‏ أي‏:‏ وإما يصيبنك من الشيطان وسوسة فاستعذ بالله وقال الزجاج‏:‏ النزع أدنى حركة‏.‏ ومعناه‏:‏ إن أتاك من الشيطان أدنى وسوسة فاستعذ بالله ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ سميع لدعائك بوسوسة الشيطان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏201- 203‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين اتقوا‏}‏ يعني‏:‏ اتقوا الشرك والفواحش ‏{‏إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ ذنب ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ عرف المتقون أنها معصية ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا هم على بصيرة منتهون عن المعصية‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ ما أوضح الله لهم من الحجة ‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ‏{‏طيف‏}‏ بغير ألف وقرأ الباقون بالألف ‏{‏مَسَّهُمْ طَئِفٌ‏}‏‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ‏{‏إِذَا مَسَّهُمْ‏}‏، والطيف الغضب وعن مجاهد في قوله ‏{‏مَسَّهُمْ طَئِفٌ‏}‏ قال الغضب‏.‏

ثم ذكر حال الكفار فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ يعني‏:‏ إخوان الشياطين يمدونهم أي‏:‏ يدعونهم إلى المعصية‏.‏ ويقال‏:‏ يلجونهم في الشرك والضلالة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ عنها كما أقصر المسلمون عنها حين أبصروها‏.‏ قرأ نافع ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ بضم الياء وكسر الميم من أمَدَّ يُمِدّ‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ بالنصب من مَدَّ يَمُدُّ‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هذا عطف على قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ‏}‏ ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معناه التقديم‏.‏ والمعنى لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ‏{‏وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ يعني‏:‏ الشياطين والغي‏:‏ الجهل والوقوع في الهلكة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ‏}‏ وذلك حين أبطأ عليه جبريل حين سألوه شيئاً ‏{‏قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ أي‏:‏ هلاّ أتاهم من تلقاء نفسه‏؟‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائت بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ إنى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى‏}‏ أي‏:‏ قل إذا أمرت بأمر فعلت ولا أبتدع ما لم أومر ‏{‏هذا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن بيان من ربكم‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ البصائر في اللغة‏:‏ طرائق الأمر واحدتها بصيرة‏:‏ ويقال‏:‏ طريقة الدين معناه‏:‏ ظهور الشيء وبيانه ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ القرآن هدى من الضلالة ويقال‏:‏ كرامة ورحمة من العذاب ونعمة لمن آمن به ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ وذلك أن المسلمين كانوا يتكلمون في الصلاة قبل نزول هذه الآية، فنهوا عن ذلك، وأمروا بالسكوت‏.‏ وروى عبد الوهاب عن مجاهد عن أبي العالية الرياحي قال‏:‏ كان النبي عليه السلام إذا صلى فقرأ وقرأ أصحابه خلفه حتى نزل ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ فسكت القوم‏.‏ وقرأ النبي عليه السلام وروى قتادة عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ قال في الصلاة‏.‏ وروى مغيرة عن إبراهيم مثله، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئ القرءان فاستمعوا لَهُ‏}‏ هذا لكل قارئ‏؟‏ قال‏:‏ لا، ولكن هذا في الصلاة المفروضة‏.‏ وقال أبو هريرة رضي الله عنه مثله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ وجب الإنصات في موضعين في الصلاة والإمام يقرأ، وفي الجمعة والإمام يخطب‏.‏ وعن مجاهد أنه قال‏:‏ لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم‏.‏ وقال عطاء والحسن إن هذا في الصلاة والخطبة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ أي‏:‏ اعملوا بما في كتاب الله تعالى ولا تجاوزوا عنه إلى غيره

ثم قال ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ لكي ترحموا فلا تعذبوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا‏}‏ يقول‏:‏ اقرأ يا محمد إذا كنت إماماً بنفسك تضرعاً يعني‏:‏ مستكيناً ‏{‏وَخِيفَةً‏}‏ يعني‏:‏ وخوفاً من عذابه وهذا قول مقاتل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ يعني‏:‏ سراً ‏{‏وَدُونَ الجهر مِنَ القول بالغدو والاصال‏}‏ يعني‏:‏ العلانية حتى يسمع من خلفك‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معناه اجهر بالقراءة في الغداة والمغرب والعشاء ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ يعني‏:‏ لا تغفل عن القراءة في الظهر والعصر، فإنك تخفي القراءة فيهما وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً خَامِلاً» قيل‏:‏ وما الذكر الخامل‏؟‏ قال‏:‏ «الذِّكْرُ الخَفِيُّ»

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ يعني‏:‏ غدوة وعشية‏.‏ وروى يحيى بن أيوب عن خالد بن سعيد بن أبي هلال عن من سمع عقبة بن عامر قال‏:‏ المسر بالقراءة كالمسر بالصدقة، والمعلن بالقراءة كالمعلن بالصدقة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ عن القراءة في الصلاة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ وذلك أن كفار مكة ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ واستكبروا عن السجود فنزل ‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة لا يستكبرون عن عبادته يعني‏:‏ لا يتعظمون ولا يستنكفون عن طاعته ‏{‏وَيُسَبّحُونَهُ‏}‏ يقول‏:‏ ويذكرونه ‏{‏وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصلون‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ الآصال جمع الأُصل والأُصُل جمع الأَصِيل والآصال جمع الجمع يعني‏:‏ العشيات والله أعلم بالصواب‏.‏