فصل: تفسير الآيات رقم (107- 108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا‏}‏، يعني‏:‏ بنوا مسجداً مضرة للمسلمين‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني مضارة، ليضاروا به مخالفيهم، ليدخلوا عليهم المضرة، ‏{‏وَكُفْراً‏}‏؛ يعني‏:‏ وإظهاراً للكفر، ‏{‏وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين‏}‏‏.‏ قرأ نافع وابن عامر ‏{‏الذين‏}‏ بغير واو، وقرأ الباقون بالواو؛ ومعناهما واحد، إلا أن الواو للعطف‏.‏ نزلت الآية في سبعة عشر من المنافقين من بني غنم بن عوف، قالوا‏:‏ تعالوا نبني مسجداً، يكون فيه متحدثنا ومجمع رأينا‏.‏ فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه أن يأذن لهم في بناء المسجد، وقالوا‏:‏ قد بعُد علينا المسير إلى الصلاة معك، فتفوتنا الصلاة، فاذن لنا أن نبني مسجداً لذوي العلّة والليلة المطيرة‏.‏ فأذن لهم، وكانوا ينظرون رجوع أبي عامر الراهب من الشام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، وقال‏:‏ «لا تَقُولُوا رَاهِبٌ ولكن قُولُوا فَاسِقٌ» وقد كان آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم مرتين ثم رجع عن الإسلام، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات كافراً‏.‏

فلما ظهر أمرهم ونفاقهم، جاؤوا يحلفون ‏{‏إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى‏}‏ أي أردنا ببناء المسجد فنزل ‏{‏والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا‏}‏ يعني‏:‏ بنوا المسجد للضرار والكفر وللتفريق بين المؤمنين لكي يصلي بعضهم في مسجد قباء وبعضهم في مسجدهم، وليجتمع الناس إلى مسجدهم ويتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَإِرْصَادًا لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ‏}‏، يعني‏:‏ انتظاراً لمن هو كافر بالله ورسوله من قبل بناء المسجد، أن يقدم عليهم من قبل الشام، وهو أبو عامر الراهب‏.‏ ‏{‏وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى‏}‏، أي ما أردنا ببناء المسجد إلاَّ صواباً، لكيلا تفوتنا الصلاة بالجماعة، ولكي يرجع أبو عامر فيسلم‏.‏ ‏{‏والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ فيما حلفوا، وإنَّما اجتمعوا فيه لإظهار النفاق والكفر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا‏}‏، يعني‏:‏ لا تصلِّ فيه أبداً، لأنهم طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي ويصلي فيه، لكي يتبرك بصلاته فيه، فنهاه الله عن ذلك ونزل ‏{‏لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏}‏، يعني‏:‏ المسجد الذي بني على التوحيد من أول يوم‏.‏ قال الأخفش‏:‏ بني لوجه الله تعالى منذ أول يوم، ويقال‏:‏ بني للذكر والتكبير والتهليل وإظهار الإسلام وقهر الشرك من أول يوم بني‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ‏}‏، يعني‏:‏ أولى وأجدر أن تصلي فيه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ‏}‏، يعني‏:‏ الاستنجاء بالماء، ويقال‏:‏ يحبون أن يتطهروا يعني‏:‏ يطهروا أنفسهم من الذنوب‏.‏ وذلك أن ناساً من أهل قباء كانوا إذا أتوا الخلاء، استنجوا بالماء وهم أول من فعل ذلك واقتدى بهم من بعدهم وروي في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بباب المسجد بعد نزول الآية وقال لمن فيه‏:‏

«إنّ الله قَدْ أحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي طَهُورِكُمْ فَبِمَ تَطَهَّرُونَ» قالوا‏:‏ نستنجي بالماء، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين‏}‏‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد المدينة الأعظم‏.‏ وعن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما‏:‏ هو مسجد رسول الله، وقال الآخر‏:‏ هو مسجد قباء‏.‏ فذكر ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «هُوَ مَسْجِدِي هذا»‏.‏ وروي، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ «هُوَ مَسْجِدُ قباء»‏.‏ ثم قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 110‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

أَسَّسَ بُنْيَانَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أصَّل بنيانه ‏{‏على تقوى مِنَ اللَّهِ‏}‏، يعني‏:‏ على توحيد الله تعالى، ‏{‏وَرِضْوَانٍ‏}‏ من الله عز وجل‏.‏ قرأ نافع وابن عامر ‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ‏}‏ بضم الألف وكسر السين ‏{‏بُنْيَانَهُ‏}‏ بضم الألف والنون على معنى فعل ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون ‏{‏أَسَّسَ‏}‏ بنصب الألف و‏{‏بُنْيَانَهُ‏}‏ بنصب النون ومعنى الآية‏:‏ إن البناء الذي يراد به الخير ورضاء الرب تبارك وتعالى ‏{‏خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ‏}‏، يعني‏:‏ مسجد الضرار أصِّل بنائه ‏{‏على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏، يعني‏:‏ على طرف هار ليس له أصل‏.‏ قرأ حمزة وابن عامر وأبي بكر، عن عاصم ‏{‏جُرُفٍ‏}‏ بجزم الراء، والباقون بالضم ومعناهما واحد‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ على شفا جرف هائر‏.‏ والجرف‏:‏ ما ينجرف بالسيول من الأودية‏.‏ والهائر‏:‏ الساقط‏.‏ يقال‏:‏ تهور البناء وانهار وهار، إذا سقط‏.‏ وهذا على سبيل المثل، يعني‏:‏ إن الذي بنى المسجد، إنّما بنى على جرف جهنم، فانهار بأهله في نار جهنم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين بعد رجوعه من غزوة تبوك، فأحرقاه وهدماه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏، يعني‏:‏ لا يرشدهم إلى دينه، يعني‏:‏ الذين كفروا في السر‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً‏}‏، يعني‏:‏ مسجد الضرار ريبةً ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ حسرة وندامة بما أنفقوا فيه، وبما ظهر من أمرهم ونفاقهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ لا يزال حسرة في قلوبهم إلى أن يموتوا، لأنهم إذا ماتوا انقطعت قلوبهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي في القبر‏.‏ قرأ حمزة وابن عامر وعاصم في رواية حفص ‏{‏إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ‏}‏ بالنصب فيكون الفعل للقلوب، يعني‏:‏ إلاَّ أنْ تَتَقَطعَ قلوبهم وتتفرق، والباقون بالرفع على فعل ما لم يسم فاعله ‏{‏والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ بهدم مسجدهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

هَ اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة‏}‏، معناه إنه طلب من المؤمنين أن يعدوا أنفسهم وأموالهم، ويخرجوا إلى الجهاد والقتال في سبيل الله، ليثيبهم الجنة‏.‏ وذكر الشراء على وجه المثل، لأن الأموال والأنفس كلها لله تعالى، وهي عند أهلها عارية، ولكنه أراد به التحريض والترغيب في الجهاد‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏، يعني‏:‏ في طاعة الله تعالى مع العدو‏.‏ ‏{‏فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏، يعني‏:‏ العدو ويقتلهم العدو‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏فَيَقْتُلُونَ‏}‏ بالرفع ‏{‏وَيَقْتُلُونَ‏}‏ بالنصب على معنى التقديم والتأخير، وقرأ الباقون ‏{‏يَقْتُلُونَ‏}‏ بالنصب ‏{‏وَيَقْتُلُونَ‏}‏ بالرفع‏.‏ ‏{‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا‏}‏، يعني‏:‏ واجباً لهم ذلك، بأن يفي لهم ما وعد، وبين ذلك ‏{‏فِي التوراة والإنجيل والقرءان وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله‏}‏، يعني‏:‏ ليس أحد أوفى من الله تعالى في عهده وشرطه، لأنه عهد أن مَنْ قتل في سبيل الله، فله الجنة فيفي عهده وينجز وعده‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ‏}‏ وهذا إعلان لهم أنهم يربحون في مبايعتهم‏.‏ ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏، يعني‏:‏ الثواب الوافر والنجاة والوافرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ إلى آخره لهم الجنة أيضاً، ويقال‏:‏ هم التائبون، ويقال‏:‏ صار رفعاً بالابتداء وجوابه مضمر، قرأ عاصم ‏{‏أَوَّلُ العابدين‏}‏ يعني‏:‏ اشترى من المؤمنين التائبين العابدين إلى آخره، ويقال‏:‏ اشترى من عشرة نفر أولهم الغزاة، ومن التائبين الذين يتوبون عن الذنوب، والذين هم الْعَابِدُونَ، يعني‏:‏ الموحدون، ويقال‏:‏ المطيعون لله تعالى‏.‏ ‏{‏الحامدون‏}‏، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال، ‏{‏السائحون‏}‏، قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن‏:‏ يعني الصائمين‏.‏ وأصله السائح في الأرض، لأن السائح في الأرض ممنوعاً عن الشهوات، فشبّه الصائم به‏.‏ وذكر عن بعضهم أنه قال‏:‏ هم الذين يصومون شهر الصبر وهو شهر رمضان وأيام البيض ‏{‏الركعون‏}‏، يعني‏:‏ الذين يحافظون على الصلوات ‏{‏الساجدون‏}‏، الذين يسجدون لله تعالى في الصلوات‏.‏ ‏{‏الامرون بالمعروف‏}‏، يعني‏:‏ يأمرون الناس بالتوحيد وأعمال الخير‏.‏ ‏{‏والناهون عَنِ المنكر‏}‏، الذين ينهون الناس عن الشرك والأعمال الخبيثة ‏{‏والحافظون لِحُدُودِ الله‏}‏، يعني‏:‏ العاملين بفرائض الله عليهم‏.‏ وذكر عن خلف بن أيوب أنه أمر امرأته في بعض الليل أن تمسك الرضاع عن الولد، فقالت‏:‏ لم‏؟‏ فقال‏:‏ لأنه قد تمت سنتان‏.‏ فقيل له‏:‏ لو تركتها حتى ترضع تلك الليلة، أيش يكون‏؟‏ فقال‏:‏ أين قول الله تعالى ‏{‏والحافظون لِحُدُودِ الله‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ المؤمنين‏}‏، يعني‏:‏ المصدقين بهذا الشرط والعاملين به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 114‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ‏}‏، يعني‏:‏ ما ينبغي وما جاز للنبي والذين آمنوا ‏{‏أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏ وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له‏:‏ أتستغفر لأبويك وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ ألم يستغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان‏؟‏ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قربى‏}‏، يعني‏:‏ ذا قرابة في الرحم‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم‏}‏، يعني‏:‏ أهل النار وماتوا على الكفر وهم في النار‏.‏

ويقال أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لأبويه وهما مشركان، واستأذن منه المسلمون أن يستغفروا لآبائهم، فنهاهم الله عن ذلك، وقال‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏ وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، حتى انتهينا إلى قبر فجلس إليه فناجاه طويلاً، ثم رفع رأسه باكياً، فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل إلينا، فتلقاه عمر رضي الله عنه وقال‏:‏ ما الذي أبكاك يا رسول الله‏؟‏ فأخذ بيد عمر وأقبل إلينا، فأتيناه فقال‏:‏ «أفْزَعَكُمْ بُكَائِي» فقلنا‏:‏ نعم يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ «إنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتُ وَهْبٍ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَإنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي بِالاسْتِغْفَارِ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فأنزِل الله ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ‏}‏ فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدَ لِلْوَالِدَيْنِ مِنَ الرِّقَّةِ، فذلك الَّذِي أبْكَانِي»‏.‏ وروى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِوَالِدَيَّ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاْستَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهُمَا، فَأَذِنَ لِي» فنزلت هذه الآية‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏؛ وذلك أن أباه وعده أن يسلم، وكان يستغفر له رجاء أن يسلم‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، ‏{‏فَلَمَّا‏}‏ مات، ‏{‏تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏؛ يعني‏:‏ ترك الدعاء له ولم يستغفر له بعد ما مات على الكفر وللآية هذه وجه آخر روي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه المسيب بن حرب قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب‏:‏

«يَا عَمِّ، قُلْ لا إله إلاَّ الله كَلِمة النَّجَاةِ، أشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله تَعَالَى»‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ أترغب عن ملة عبد المطلب‏؟‏ فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعانده أبو جهل بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم؛ على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمَا وَالله لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عنه» فأنزل الله تعالى ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ ونزل ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية‏.‏

وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏‏.‏ وروى سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل القرآن أعلمه إلا أربعة‏:‏ غسلين، وحناناً، والأواه، والرقيم‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس، في رواية أُخرى أنه قال‏:‏ الأواه الذي يذكر الله في الأرض الوحشية‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الأواه الرحيم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الموقن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الداعي الذي يلح إلى الله تعالى، المقبل إليه بطاعته‏.‏ ويقال‏:‏ المؤمن بلغة الحبش‏.‏ ويقال‏:‏ الأواه معلم الخير‏.‏ وقال كعب‏:‏ الأواه الذي إذا ذكر الله، قال‏:‏ أواه من النار‏.‏ وقال القتبي‏:‏ المتأوه حزناً وخوفاً ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ عن الجهل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ‏}‏، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى عليه الفرائض، ففعل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون‏.‏ ثم إن الله تعالى أنزل ما ينسخ الأمر الأول، وقد غاب الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يبلغهم ذلك، فعملوا بالمنسوخ، وكانوا يصلون إلى القبلة الأولى ولا يعلمون، ويشربون الخمر ولا يعلمون تحريمها، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ‏}‏ وإن عملوا بالمنسوخ، ‏{‏حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ‏}‏، يعني‏:‏ ما نسخ من القرآن، يعني‏:‏ إنه قبل منهم ما عملوا بعد النسخ ولا يؤاخذهم بذلك‏.‏ ويقال‏:‏ وما كان الله ليهلك قوماً، حتى يقيم عليهم الحجة ويقال‏:‏ ليُعَذِّبَهُمْ في الآخرة، يعني‏:‏ يبين لهم ما يتقون‏.‏ ويقال‏:‏ لا يتركهم بلا بيان بعد أن أكرمهم بالإيمان، حتى يبيِّن لهم ما يحتاجون ويقال لا ينزع الإيمان عنهم بعد أن هداهم إلى الإيمان حتى يبين لهم الحدود والفرائض، فإذا تركوا ذلك ولم يروه حقاً، عذبهم الله تعالى ونزع عنهم المعرفة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً‏}‏ على الابتداء ‏{‏حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ‏}‏ فيصيروا فيه ضلالاً‏.‏ وهذا طريق المعتزلة والطريق الأول أصح وبه نأخذ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏، يعني‏:‏ عليم بكل ما يصلح للخلق‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ *** السموات والارض‏}‏، يعني‏:‏ يحكم فيهما بما يشاء من الأمر بعد الأمر، يأمر بأمر ثم بغيره ما يشاء‏.‏ ‏{‏لاَ إله‏}‏، يعني‏:‏ يحيي الموتى ويميت الأحياء‏.‏ ‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله‏}‏، يعني‏:‏ من عذاب الله تعالى ‏{‏مِن وَلِىّ‏}‏، يعني‏:‏ من قريب ينفعكم ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏، يعني‏:‏ مانعاً يمنعكم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏لاَ إله‏}‏ يعني‏:‏ في السفر ويميت في الحضر، يعني‏:‏ إن هذا ترغيب في الجهاد لكي لا يمتنعوا مخافة القتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ الله على النبى‏}‏، أي تجاوز عن النبي صلى الله عليه وسلم إذنه للمنافقين بالتخلف، كقوله‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ الله على النبى‏}‏ يعني‏:‏ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما ذكر في أول سورة الفتح‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والمهاجرين والانصار‏}‏، يعني‏:‏ تجاوز عنهم ذنوبهم، لما أصابهم من الشدة في ذلك الطريق‏.‏

ثم نعتهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين اتبعوه فِى سَاعَةِ العسرة‏}‏، يعني‏:‏ وقت الشدة في غزوة تبوك كانت لهم العسرة في أربعة أشياء عسرة النفقة والركوب والحر والخوف ‏{‏مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ تميل قلوب طائفة منهم عن الخروج إلى الغزو، ويقال‏:‏ من بعد ما كادوا أن يرجعوا من غزوتهم من الشدة‏.‏ ويقال‏:‏ هم قوم تخلفوا عنه، ثم خرجوا فأدركوه في الطريق‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ تجاوز عنهم‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ بِهِمْ * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ‏}‏، حين تاب عليهم‏.‏ قرأ حمزة وعاصم في رواية حفص ‏{‏يَزِيغُ قُلُوبُ‏}‏ بالياء بلفظ المذكر، والباقون بالتاء بلفظ التأنيث‏.‏ والتأنيث إذا لم يكن خفيفاً، جاز التذكير والتأنيث، لأن الفعل مقدم فيجوز التذكير والتأنيث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ‏}‏، يعني‏:‏ وتاب على الثلاثة، وهم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية‏.‏ قال الفقيه‏:‏ سمعت أبي رحمه الله يذكر بإسناده، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه قال‏:‏ لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً، فلم يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن بدر، إنَّما خرج يريد العير فخرجت قريش معينين لعيرهم، فالتقوا على غير موعد‏.‏ ثم لم أتخلف عن غزوة غزاها حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها، فأذن للناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة غزوتهم، وذلك حين طابت الظلال وطابت الثمار، وكان كل ما أراد غزوة إلا ورّى بغيرها، وكان يقول‏:‏ «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ»، فأراد في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبتهم، وأنا أيسر ما كنت قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحال، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال وطيب الثمار‏.‏

فلم أزل كذلك، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم غازياً بالغداة، وذلك يوم الخميس‏.‏ وكان يحب أن يخرج الناس يوم الخميس، فأصبح غادياً، فقلت‏:‏ انطلق غادياً إلى السوق غداً فأشتري ثم ألحق بهم، فانطلقت إلى السوق من الغد فعسر عليّ بعض شأني، فرجعت فقلت‏:‏ أرجع غداً إن شاء الله‏.‏ فألحق بهم، فعسر عليّ بعض شأني فلم أزل كذلك، حتى التبس بي الريب وتخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلت أمشي في الأسواق وأطوف في المدينة، فيحزنني أن لا أرى أحداً تخلف إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق‏.‏ وكان الجميع من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وثمانين رجلاً، ولم يذكرني النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فلما بلغ تبوك قال‏:‏ ‏"‏ فَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ‏"‏ فقال رجل من قومي‏:‏ خلفه يا رسول الله حسن برديه والنظر إلى عطفيه‏.‏ فقال معاذ بن جبل‏:‏ بئس ما قلت يا هذا، والله يا نبي الله ما نعلم منه إلاَّ خيراً‏.‏

فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وقفل ودنا من المدينة، جعلت أتذكر بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ذي رأي من أهلي، حتى إذا أقبل النبي صلى الله عليه وسلم راح عني الباطل وعرفت ألا أنجو إلاَّ بالصدق‏.‏ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم ضحى، فصلى في المسجد ركعتين‏.‏ وكان إذا جاء من السفر فعل ذلك، فدخل المسجد وصلى ركعتين، ثم جلس فجعل يأتيه من تخلف فيحلفون له ويعتذرون إليه، ويستغفر لهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى‏.‏

فدخلت المسجد، فإذا هو جالس فلما رآني تبسَّم تبسُّم المُغضب، فجئت فجلست بين يديه‏.‏ فقال‏:‏ «أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ» فقلت بلى يا نبي الله‏.‏ فقال‏:‏ «ما خَلَّفَكَ» فقلت‏:‏ والله لو أني بين أحد من الناس غيرك جلست، فخرجت من سخطه عليّ بعذر، ولقد أوتيت جَدَلاً، ولكني قد علمت يا رسول الله أني لو أخبرتك اليوم بما تجد عليّ فيه وهو حق، فإني أرجو فيه عفو الله، وإن حدثتك حديثاً ترضى علي فيه وهو كذب، أوشك الله أن يطلعك عليّ‏.‏ والله يا نبي الله ما كنت قط أيسر ولا أخف حالاً حين تخلفت عنك‏.‏ قال‏:‏ «أمَّا هذا فَقَدْ صَدَقَكُمْ الحَدِيثَ قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله فِيكَ»‏.‏ فقمت فسار على أثري ناس من قومي يؤنبونني وقالوا‏:‏ والله ما نعلمك أذنبت ذنباً قط قبل هذا، فهلا اعتذرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يرضى عنك، فكان استغفاره سيأتي من وراء ذلك ولم تقف نفسك موقفاً لا تدري ما يقضى لك فيه‏.‏

فلم يزالوا يؤنبونني حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي، فقلت‏:‏ هل قال هذا القول أحد غيري‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم فقلت‏:‏ من هو‏؟‏ فقالوا‏:‏ هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدراً، لي فيهما أسوة، فقلت‏:‏ والله لا أرجع إليه في هذا أبداً، ولا أكذب نفسي‏.‏ قال‏:‏ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا الثلاثة‏.‏ قال‏:‏ فجعلت أخرج إلى السوق فلا يكلمني أحد، وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذين نعرفهم، وتنكرت لنا الأرض، حتى ما هي بالتي نعرف‏.‏

وكنت أقوى أصحابي، فكنت أخرج وأطوف بالأسواق وآتي المسجد وآتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وأقول‏:‏ هل حرك شفتيه بالسلام‏.‏ فإذا قمت أصلي إلى سارية، فأقبلت على صلاتي، نظر إلي بمؤخر عينيه، فإذا نظرت إليه، أعرض عني‏.‏ واستكان صاحباي فجعلا يبكيان الليل والنهار، ولا يطلعان رؤوسهما فبينما أنا أطوف بالسوق، إذا برجل نصراني جاء بطعام له يبيعه يقول‏:‏ من يدلني على كعب بن مالك‏؟‏ فطفق الناس يشيرون إليّ، فأتاني وأتاني بصحيفة من ملك غسان وإذا فيها‏:‏ أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولست بدار مضيقة ولا هوان، فالحق بنا نواسيك‏.‏ فقلت‏:‏ هذا أيضاً من البلاء، يعني‏:‏ الدعوة إلى الكفرَ فسجَّرْت لها التنور فأحرقتها فيه‏.‏

فلما مضت أربعون ليلة، إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال‏:‏ «اعْتَزِل امْرَأَتَكَ»‏.‏ فقلت‏:‏ أطلقها‏؟‏ فقال‏:‏ «لا، ولكن لا تَقْرَبْهَا»‏.‏ فجاءت امرأة هلال بن أمية، فقالت‏:‏ يا نبي الله إن هلالاً شيخ ضعيف، فهل تأذن لي أن أخدمه‏؟‏ قال‏:‏

«نَعَمْ، ولكن لا يَقْرَبَنَّكِ»‏.‏ فقالت‏:‏ يا نبي الله، والله ما به حركة من شيءٍ، ما زال مكباً يبكي الليل والنهار منذ كان من أمره ما كان‏.‏ قال كعب‏:‏ فلما طال علي البلاء، اقتحمت على أبي قتادة حائطه، وهو ابن عمي، فسلمت عليه فلم يرد عليّ جواباً، فقلت‏:‏ أنشدك الله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسولهُ‏؟‏ فسكت ثم قلت أنشدك بالله يا أبا قتادة أتعلم أني أحب الله ورسوله‏؟‏ حتى عاودته ثلاث مرات قال‏:‏ الله ورسوله أعلم فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت الحائط خارجاً‏.‏

حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا، صليت على ظهر بيت لنا صلاة الفجر، ثم جلست وأنا في المنزلة التي قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ‏}‏ إذ سمعت نداء من ذروة سلع اسم جبل أن أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت أن الله تعالى قد جاء بالفرج‏.‏ ثم جاء رجل يركب على فرس، يركض يبشرني، فكان الصوت أسرع من فرسه، فأعطيته ثوبي بشارة ولبست ثوبين آخرين، وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجعل الأنصار يستقبلونني فوجاً فوجاً ويهنئونني ويبشرونني‏.‏ ولم يقم أحد من المهاجرين غير طلحة بن عبيد الله، قام وتلقاني بالتهنئة، فما نسيت ذلك منه‏.‏

وانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون وهو يستنير كاستنارة القمر وكان إذا سُرَّ بالأمر، استنار وجهه كالقمر، فجئت فجلست بين يديه فقال‏:‏ «أَبْشِرْ يَا كَعْبُ بِخَيْرِ يَوْمٍ أَتَى عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أمُّكَ»‏.‏ فقلت‏:‏ يا نبي الله أمن عندك أم من عند الله‏؟‏ قال‏:‏ «بل من عند الله» قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ الله على النبى والمهاجرين والانصار‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ‏}‏ الآية‏.‏ فقلت‏:‏ يا نبي الله، إن من توبتي ألا أحدث إلاَّ صدقاً، وأن أنخلع من مالي كله صدقة لله ورسوله‏.‏ قال‏:‏ «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك»‏.‏ قال‏:‏ فما أنعم الله عليّ نعمة بعد الإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صدقته أنا وصاحباي، ألا نكون كذبنا فهلكنا كما هلكوا‏.‏ وإني لأرجو ألا يكون الله أبلى أحداً في الصدق كما أبلاني ما تعمدت لكذبة قط وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي‏.‏

وروى الزهري عن كعب بن مالك قال‏:‏ كانت توبتنا نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلثا الليل، فقالت أم سلمة‏:‏ يا نبي الله ألا نبشر كعباً بن مالك‏؟‏ قال‏:‏

«إذاً يَحْطِمَنَّكُمْ النَّاسُ وَيَمْنَعُونَكُمْ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ»‏.‏ وكانت أم سلمة محسنة في شأني، تحزن بأمري وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ‏}‏ يعني‏:‏ وتاب الله على الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك‏.‏ ويقال ‏{‏وَعَلَى الثلاثة الذين‏}‏ عن التوبة، يعني‏:‏ أبا لبابة ‏{‏خُلّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ‏}‏، يعني‏:‏ بسعتها، ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ ضاقت قلوبهم، ‏{‏وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله‏}‏، يعني‏:‏ علموا وأيقنوا أن لا مفر من عذاب الله ‏{‏إِلاَّ إِلَيْهِ‏}‏، يعني‏:‏ إلا بالتوبة إليه ‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ‏}‏، يعني‏:‏ يتجاوز عنهم حتى تابوا ويقال‏:‏ أكرمهم فوفقهم للتوبة كي يتوبوا‏.‏ ويقال‏:‏ تاب عليهم ليتوب من بعدهم ويقتدي بهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم‏}‏، يعني‏:‏ المتجاوز لمن تاب، الرحيم بهم بعد التوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 121‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏، يعني‏:‏ اخشوا الله ولا تعصوه، يعني‏:‏ من أسلم من أهل الكتاب‏.‏ ‏{‏وَكُونُواْ مَعَ الصادقين‏}‏؛ قال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ مع الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو بإخلاص ونية، ويقال‏:‏ هذا الخطاب للمنافقين الذين كانوا يعتذرون بالكذب، ومعناه‏:‏ يا أيها الذين آمنوا في العلانية اتقوا الله، وكونوا مع الثلاثة الذين صدقوا‏.‏

وروي عن كعب بن مالك أنه قال‏:‏ فينا نزلت‏:‏ ‏{‏وَكُونُواْ مَعَ الصادقين‏}‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ الأنصار والمهاجرين الذين صلوا القبلتين، وقال مقاتل‏:‏ الذين وصفهم الله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون الذين ءَامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الذين يَسْتَأذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 62‏]‏ الآية ويقال‏:‏ ‏{‏مَعَ الصادقين‏}‏ في إيمانهم، يعني‏:‏ أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً رضوان الله عليهم حدثنا الفقيه أبو جعفر قال‏:‏ حدثنا أبو بكر القاضي قال‏:‏ حدثنا أحمد بن جرير قال‏:‏ حدثنا قتيبة قال‏:‏ حدثنا عبد الرحمن البخاري، عن جويبر، عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُونُواْ مَعَ الصادقين‏}‏ قال‏:‏ أمروا أن يكونوا مع أبي بكر وعمر وأصحابهما رضي الله عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لاهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب‏}‏، يعني‏:‏ المنافقين الذين بالمدينة وحوالي المدينة‏.‏ ‏{‏أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله‏}‏ في الغزو ‏{‏وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ‏}‏، يعني‏:‏ لا ينبغي أن يكونوا بأنفسهم أبرّ وأشفق من نفس محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأن يتركوا محبته، ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ بإبقاء أنفسهم على نفسه، يعني‏:‏ ينبغي لهم أن يتبعوه حينما يريد‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏، يعني‏:‏ النهي عن التخلف، ويقال‏:‏ ذلك التحضيض الذي حضّهم عليه‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ‏}‏ في غزوهم ‏{‏ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ‏}‏، يعني‏:‏ ولا تعب ولا مشقة في أجسادهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ مَخْمَصَةٌ‏}‏، يعني‏:‏ مجاعة‏.‏ ‏{‏فِى سَبِيلِ الله وَلاَ *** يَطَأُونَ مَوْطِئًا‏}‏، يعني‏:‏ أرضاً وموضعاً من سهل أو جبل‏.‏ ‏{‏يَغِيظُ الكفار‏}‏، يعني‏:‏ يحزن الكفار، ‏{‏وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً‏}‏، يعني‏:‏ لا يصيبون من عدو قتلاً أو غارة أو هزيمة، ‏{‏إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ‏}‏، يعني‏:‏ ثواب عمل صالح، يعني‏:‏ يضاعف حسناتهم على حسنات القاعدين ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏، يقول‏:‏ لا يبطل ثواب المجاهدين‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن ما أصاب الإنسان من الشدة يكتب له بذلك ثواب قال بعضهم‏:‏ لا يكتب له بالشدة ثواب، ولكن يحط عنه الخطيئة، وقال بعضهم‏:‏ لا يكون بالمشقة أجر، ولكن بالصبر على ذلك‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً‏}‏ في الجهاد ‏{‏صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً‏}‏، يعني‏:‏ قليلاً ولا كثيراً‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا‏}‏ من الأودية مقبلين إلى العدو أو مدبرين ‏{‏إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ‏}‏ يعني كتب لهم ثواب ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ ليجزيهم بأعمالهم؛ ويقال يجزيهم أحسن من أعمالهم، لأنه يعطي بحسنة واحدة عشرة، إلى سبعمائة، إلى ما لا يدرك حسابه، ويقال‏:‏ ليجزيهم بأحسن أعمالهم ويصبر سائر أعمالهم فضلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏، روي عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏، يعني‏:‏ ما كان للمؤمنين لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده بالمدينة‏.‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ‏}‏، يقول‏:‏ فهلا خرج ‏{‏مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏، يعني‏:‏ عصبة من جماعة، ويقم طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين‏}‏، يعني‏:‏ ليتعلموا العلم وشرائع الدين‏.‏ فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن وتعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، فيعلمونهم ويقولون‏:‏ إن الله تعالى قد أنزل على نبيكم بعدكم كذا وكذا؛ وهذا قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يتعظون بما أمروا ونهوا عنه‏.‏

ولها وجه آخر، وهو ما روي أيضاً، عن معاوية بن صالح، عن علي بن طلحة، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما دعا على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم‏.‏ وكانت القبيلة تقبل بأسرهم، حتى يلحقوا بالمدينة ويعلنوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، فأنزل الله تعالى يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا بمؤمنين، فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم وحذَّر قومهم أن يفعلوا فعلهم بعد ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏‏.‏

وروى أسباط بن السدي قال‏:‏ أقبلت أعراب هذيل وأصابتهم مجاعة، واستعانوا بتمر المدينة وأظهروا الإسلام، وكانوا يفخرون على المؤمنين، فيقولوا‏:‏ نحن أسلمنا طائعين بغير قتال وأنتم قوتلتم، فنحن خير منكم، فآذوا المؤمنين، فأنزل الله تعالى فيهم يخبرهم بأمرهم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً‏}‏ أي جميعاً ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ من كل بطن طائفة‏.‏ فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوا كلامه، ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتعظون فيعملون به ولا يعملون بخلافه‏.‏ وفي هذه الآية دليل أن أخبار الآحاد مقبولة ويجب العمل بها لأن الله تعالى أخبر أن الطائفة من الفرقة، إذا تفقهت في الدين وأنذرت قومهم، صحّ ذلك‏.‏ ولفظ الطائفة يتناول الواحد والأكثر لأن أقل الفرقة اثنان، والطائفة من الاثنين واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار‏}‏، يعني‏:‏ ما حولكم وبقربكم، وهم بنو قريظة والنضير وفدك وخيبر، فأمر الله تعالى كل قوم بأن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار‏.‏ قال أبو جعفر الطحاوي‏:‏ منع الله تعالى نبيه عن قتال الكفار بقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ثم أباح قتال من يليه بقوله‏:‏ ‏{‏قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار‏}‏، ثم أباح قتال جميعهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَءاتَوُاْ الزكواة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏، يعني‏:‏ معين لهم ينصرهم على عدوهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏؛ أي من المنافقين ‏{‏مَن يِقُولُ‏}‏ بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه‏}‏ السورة ‏{‏إيمانا‏}‏، يعني‏:‏ تصديقاً بهذه السورة مع تصديقكم استهزاء بها‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فَزَادَتْهُمْ إيمانا‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ تصديقاً بهذه السورة مع تصديقهم بالله تعالى وثباتاً على الإيمان‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏، يفرحون بما أنزل من القرآن‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل، وأبو القاسم الشنابازي قالا‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل العابد قال‏:‏ حدثنا يحيى بن عيسى قال‏:‏ حدثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال‏:‏ جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان يزيد وينقص‏؟‏ قال‏:‏ «لا، الإيمانُ مُكَمَّلٌ فِي القَلْبِ‏.‏ زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ كُفْرٌ»‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال‏:‏ حدثنا أبو عمران المؤدب الدستجردي قال‏:‏ حدثنا صخر بن نوح قال‏:‏ حدثنا مسلم بن سالم، عن ابن الحويرث، عن عون بن عبد الله قال‏:‏ سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته‏:‏ لو كان الأمر على ما يقول الشكاك الضلال؛ إن الذنوب تنقص الإيمان، لأمسى أحدنا حين ينقلب إلى أهله وهو لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أو أبقى‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏، يعني‏:‏ شك ونفاق، ‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ‏}‏، قال الكلبي‏:‏ شكاً إلى شكهم، وقال مقاتل‏:‏ إثماً على إثمهم، وقال القتبي‏:‏ أصل الرجس النتن، ثم قد سمي الكفر والنفاق رجساً لأنهما نتن‏.‏ ‏{‏وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون‏}‏، يعني‏:‏ ماتوا على الكفر، لأنهم كانوا كفاراً في السر، ولم يكونوا مؤمنين في الحقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 127‏]‏

‏{‏أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ‏}‏؛ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏أَوْ لاَ تَرَوْنَ‏}‏ بالتاء؛ ويكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقرأ الباقون بالياء، يعني‏:‏ المنافقون ولا يعتبرون‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ‏}‏، يقول يبتلون بإظهار ما في صدورهم من النفاق في كل عام‏.‏ ‏{‏مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ‏}‏ من نفاقهم وكفرهم في السر، ‏{‏وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لا يتعظون ولا يتفكرون‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كانوا ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين، فيعاقبون ثم يتوبون عن نقض العهد، وقال مقاتل‏:‏ وذلك أنهم إذا خلوا، تكلموا بما لا يحل لهم‏.‏ فإذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرهم بما تكلموا به، فيعرفون أنه نبي‏.‏ ثم يأتيهم الشيطان فيحدثهم أنه يخبرهم بما بلغه عنهم، فيشكون فيه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏، يعني‏:‏ يعرفون مرة أنه نبي وينكرون مرة أُخرى ‏{‏ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ‏}‏ عن ذلك ‏{‏وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ فيما أخبرهم، ويقال‏:‏ ‏{‏يُفْتَنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يبتلون بالأمراض والأسقام، ويعاهدون الله‏:‏ لو زال عنا لفعلنا كذا وكذا، ثم لا يفون به ولا يتوبون من النفاق ‏{‏وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي لا يتعظون بما أنزل عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل سورة براءة، فيها عيب المنافقين، ‏{‏نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏؛ ويتغامزون ويقولون فيما بينهم‏:‏ ‏{‏هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ‏}‏ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا رآهم أحد قاموا وصلوا، وإن لم يرهم أحد لم يصلوا‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ انصرفوا‏}‏، يعني‏:‏ خرجوا من المسجد، ويقال‏:‏ انصرفوا من الإيمان‏.‏ ‏{‏صَرَفَ الله قُلُوبَهُم‏}‏ عن الإيمان، وعزل قلوبهم عن الفهم بخروجهم من المسجد وانصرافهم عن الإيمان، ويقال‏:‏ هذا على وجه الدعاء واللعن، كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله ذلك قَوْلُهُم بأفواههم يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏؛ ويقال‏:‏ هذا على معنى التقديم، ومعناه صرف الله قلوبهم، لأنهم انصرفوا عن الإيمان‏.‏ ويقال‏:‏ هذا على معنى التقديم، ومعناه صرف الله قلوبهم، لأنهم انصرفوا عن الإيمان‏.‏ ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ أمر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏128- 129‏]‏

‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏، قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ أهل مكة قد جاءكم رسول من أنفسكم تعرفونه ولا تنكرونه؛ ويقال‏:‏ هذا الخطاب لجميع العرب ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من جميع العرب، لأنه لم يكن في العرب قبيلة إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها قرابة‏.‏ وهذا من المجاز والاستعارة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم ولم يجئ من موضع آخر، معناه ظهر فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويقال‏:‏ هذا الخطاب لجميع الناس ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ آدمياً مثلكم قرأ بعضهم ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ بنصب الفاء يعني‏:‏ من أشرفكم وأعزكم، وهي قراءة شاذة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ‏}‏، يعني‏:‏ شديد عليه ما أثمتم وعصيتم ‏{‏حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏}‏، قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ على إيمانكم؛ وقال مقاتل‏:‏ حريص عليكم بالرشد والهدى؛ وقال قتادة‏:‏ حريص على من لم يسلم أن يسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بالمؤمنين * رَءوفٌ ***** رَّحِيمٌ‏}‏، أي رفيق بجميع المؤمنين، رحيم بهم‏.‏

ثم قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏، يعني‏:‏ إن أعرضوا عنك ولم يؤمنوا بك، ‏{‏فَقُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏ يعني قل‏:‏ كفاني الله وفوضت أمري إلى الله ووثقت به‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏، يعني‏:‏ لا ناصر ولا رازق ولا معين إلاّ هو‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏، يعني‏:‏ به أثق ‏{‏وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم‏}‏، يعني‏:‏ خالق السرير العظيم أعظم من السموات والأرض‏.‏ وقرأ بعضهم ‏{‏العظيم‏}‏ بالرفع فجعل العظيم من نعت الله تعالى، وقراءة العامة ‏{‏العظيم‏}‏ بالخفض ويكون العظيم نعتاً للعرش‏.‏

وذكر عن عثمان بن عفان أنه لما جمع القرآن في المصحف، كان لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد بها رجلان، فجاء خزيمة بن ثابت بهاتين الآيتين ‏{‏لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ إلى آخر السورة، فلم يطلب منه البينة وأثبته في المصحف‏.‏ وروي عن حذيفة أنه قال‏:‏ يسمون سورة براءة سورة التوبة وهي سورة العذاب‏.‏ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كنا نسميها الفاضحة، فما زالت تنزل في المنافقين ومنهم، حتى أشفق كل واحد على نفسه؛ والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة يونس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏1‏)‏ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الر‏}‏؛ قال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ أنا الله أرى من العرش إلى الثرى، فهل يرى أحد مثل ما أرى، وهكذا عن الضحاك‏.‏ وقد ذكرنا تفسير الحروف في أول سورة البقرة‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏الر‏}‏ بإمالة الراء وقرأ ابن كثير، وحفص بنصب الراء، وقرأ نافع بين ذلك‏.‏

‏{‏تِلْكَ ءايات الكتاب‏}‏‏:‏ يعني‏:‏ هذه آيات الكتاب الذي أنزل عليك يا محمد، تلك الآيات التي وعدتك يوم الميثاق أو أوحينا إليك الكتاب‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏؛ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ المحكم من الباطل، لا كذب فيها ولا اختلاف‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ بما حكم، أحكم بحلاله وحرمته ويقال‏:‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ يعني‏:‏ الحاكم على الكتب كلها؛ ويقال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءايات‏}‏ يعني‏:‏ حجج وبراهين وهي التي احتج بها النبي صلى الله عليه وسلم على دعواه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا‏}‏، لأن أهل مكة كانوا يتعجبون ويقولون ‏{‏أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً‏}‏ فنزل‏:‏ ‏{‏أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ‏}‏؛ يقول‏:‏ أعجب أهل مكة أن أختار عبداً من عبيّدي وأرسله إلى عبادي من جنسهم وحسبهم، حتى يقدروا أن ينظروا إليه يعرفونه ولا ينكرونه‏؟‏ ثم بيَّن ما أوحى الله تعالى إليه فقال‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنذِرِ الناس‏}‏، يعني‏:‏ خوف أهل مكة بما في القرآن من الوعيد؛ ويقال‏:‏ في الآية تقديم، ومعناه تلك آيات الكتاب الحكيم للناس، أكان عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس‏؟‏ وقال غلبة المفسرين على ظاهر التنزيل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ‏}‏، أي بما في القرآن من الثواب في الجنة‏.‏ ‏{‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏، قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بأن أعمالهم التي قدموها بين أيديهم سلف خير عند ربهم وهي الجنة، وقال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ الصحابة عند ربهم وهي الجنة‏.‏ وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال‏:‏ يعني‏:‏ شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، لهم شفيع صدق عند ربهم؛ وقال الحسن‏:‏ هي رضوان الله في الجنة؛ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ عَمَلاً صالحاً قدموه‏.‏

‏{‏قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ‏}‏؛ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏لساحر‏}‏ بغير ألف، يعني‏:‏ إن هذا القرآن لسحر مبين، كذب ظاهر، قرأ الباقون‏:‏ ‏{‏لساحر مُّبِينٌ‏}‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنما قال الكفار هذا القول، فما الحكمة في حكاية كلامهم في القرآن‏؟‏ قيل‏:‏ الحكمة فيه من وجوه أحدها أنهم كانوا يقولون قولاً فيما بينهم، فيظهر قولهم عند النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في ذلك علامة لنبوته لمن أيقن به؛ والثاني‏:‏ أن في ذلك تعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على ذلك، كما قال‏:‏ ‏{‏فاصبر على مَا يَقُولُونَ‏}‏، والثالث‏:‏ أن في ذلك تنبيهاً لمن بعده أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يمتنع بما يسمع من المكروه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ‏(‏4‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والارض **فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏؛ وقد ذكرناه ثم قال‏:‏ ‏{‏يُدَبّرُ الامر‏}‏، يعني‏:‏ يقضي القضاء وينظر في تدبير الخلق‏.‏ وروى الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن ابن سابق قال‏:‏ يدبر أمر الدنيا أربعة‏:‏ جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل‏.‏ أما جبريل، فعلى الرياح والوحي والجنود، وأما ميكائيل، فعلى النبات والمطر، وأما ملك الموت، فعلى الأنفس؛ وأما إسرافيل، فينزل إليهم بما يؤمرون‏.‏ ‏{‏مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏، لأن الكفار كانوا يعبدون الأصنام ويقولون‏:‏ هم شفعاؤنا عند الله، وبعضهم كانوا يعبدون الملائكة فأخبر الله تعالى أنه لا شفاعة لأحد إلاَّ بإذن الله تعالى؛ ويقال‏:‏ ‏{‏مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا يشفع أحد لأحد يوم القيامة من الملائكة ولا من المرسلين، إلا من بعد إذنه في الشفاعة لهم‏.‏

‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ الذي يفعل هذا من خلق السموات والأرض وتدبير الخلق هو ربكم وخالقكم، ‏{‏فاعبدوه‏}‏؛ فدل أولاً على وحدانيته وتدبيره، ثم أمرهم بالتوحيد والطاعة فقال‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏، يعني‏:‏ وحدوه وأطيعوه‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ أفلا تتعظون بالقرآن‏؟‏ ويقال‏:‏ أفلا تتعظون بأن لا تعبدوا من لا يملك شيئاً، وتعبدون من يملك الدنيا وما فيها‏؟‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، لأن أصله تتذكرون فأدغم إحدى التاءين في الذال وأقيم التشديد مقامه‏.‏

ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏، يعني‏:‏ مرجع الخلائق كلهم يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَعْدَ الله حَقّا‏}‏، يعني‏:‏ البعث كائناً وصدقاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ صار نصباً على معنى وعدكم الله وعداً، لأن قوله ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ معناه الوعد بالرجوع‏.‏ ‏{‏أَنَّهُ * الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏؛ قال أهل اللغة‏:‏ الياء صلة ومعناه إنه بدأ الخلق ثم يعيده، يعني‏:‏ خلق الخلق في الدنيا ثم يحييهم بعد الموت يوم القيامة، ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏؛ يعني‏:‏ لكي يثبت الذين آمنوا بالبعث بعد الموت، ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط‏}‏؛ يعني‏:‏ عملوا الطاعات بالعدل وقال الضحاك‏:‏ يعني‏:‏ الذين قاموا بالعدل وأقاموا على توحيده، يعطيهم من رياض الجنة حتى يرضوا‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني‏:‏ ويجزي الذين كفروا‏.‏ ثم بينّ جزاءهم، فقال‏:‏ ‏{‏لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ‏}‏، يعني‏:‏ ماءً حاراً قد انتهى حره، ‏{‏وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ‏}‏؛ يعني‏:‏ يجحدون الرسالة والكتاب‏.‏

ثم ذكَّرهم النعم، لكي يستحيوا منه ولا يعبدوا غيره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء‏}‏ بالنهار ‏{‏والقمر نُوراً‏}‏ بالليل، ويقال‏:‏ جعل الشمس ضياء مع الحر والقمر نوراً بلا حر، ‏{‏وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ‏}‏؛ يعني‏:‏ جعل الليل والنهار منازل يزيد أحدهما وينقص الآخر، ولا يجاوزان المقدار الذي قدره؛ ويقال ‏{‏قَدْرِهِ‏}‏ يعني‏:‏ القمر منازل كل ليلة بمنزلة من النجوم، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر‏.‏

وهذا كقوله ‏{‏والقمر قدرناه مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 39‏]‏ ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏؛ يعني‏:‏ لتعلموا بالقمر حساب السنين والشهور، كقوله تعالى ‏{‏يَسْألُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق‏}‏، يعني‏:‏ لتعلموا عدد السنين والحساب، وتعتبروا وتعلموا أن له خالقاً ومدبراً وهو قادر على أن يحيي الموتى‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏يُفَصّلُ الآيات‏}‏، يعني‏:‏ يبيِّن العلامات، يعني‏:‏ علامة وحدانيته ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏، يعني‏:‏ لمن كان له عقل وذهن وتمييز‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص ‏{‏يُفَصّلُ الآيات‏}‏ بالياء، وقرأ الباقون بالنون؛ ومعناهما قريب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار‏}‏؛ وذلك أن أهل مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ائتنا بعلامة كما أتت بها الأنبياء قومهم، فنزل‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار‏}‏ يعني‏:‏ في مجيء الليل وذهاب النهار، ومجيء النهار وذهاب الليل، ما يأخذ النهار من الليل وما يأخذ الليل من النهار، ‏{‏وَمَا خَلَقَ الله فِى * السموات والارض‏}‏، من العجائب، يعني‏:‏ فيما خلق الله ‏{‏ءايات‏}‏، يعني‏:‏ لعلامات ‏{‏لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ الله تعالى ويخشون عقوبته؛ ويقال‏:‏ لقوم يتقون الشرك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏، يعني‏:‏ لا يخافون البعث بعد الموت؛ ويقال‏:‏ لا يرجون ثوابنا بعد الموت‏.‏ ‏{‏وَرَضُواْ بالحياة الدنيا‏}‏، يعني‏:‏ اختاروا ما في الحياة الدنيا، يعني‏:‏ على ثواب الآخرة ‏{‏واطمأنوا بِهَا‏}‏، يقول‏:‏ ورضوا بها وسكنوا إليها وآثروها وفرحوا بها‏.‏ ‏{‏والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون‏}‏، يعني‏:‏ عن محمد والقرآن معرضون فلا يؤمنون؛ ويقال‏:‏ تاركين لها ومكذبين بها، ويقال‏:‏ لم يتفكروا فيها‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النار‏}‏، يعني‏:‏ أهل هذه الصفة مصيرهم إلى النار ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏، يعني‏:‏ جزاء لكفرهم وتكذيبهم‏.‏

ثم أنزل فيما أعدّ للمؤمنين، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏؛ وقال مقاتل‏:‏ يهديهم على الصراط إلى الجنة بالنور بإيمانهم، يعني‏:‏ بتوحيدهم الله تعالى في الدنيا؛ وقال الضحاك‏:‏ يدعوهم ربهم بإيمانهم إلى الجنة؛ وقال الكلبي نحو هذا‏.‏ ويقال هذا على معنى التقديم، ومعناه إن الذين يهديهم ربهم بإيمانهم حتى آمنوا وعملوا الصالحات، ويقال‏:‏ يهديهم ربهم في الدنيا، يعني‏:‏ يثبتهم على الإيمان ويدخلهم في الآخرة الجنة بإيمانهم؛ ويقال‏:‏ ينجيهم ربهم بإيمانهم؛ وقال الحسن‏:‏ يرحمهم ربهم بإيمانهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار فِي جنات النعيم‏}‏ يتنعمون فيها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ قولهم في الجنة‏:‏ ‏{‏سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏، يعني‏:‏ فهذه علامة بينهم وبين خدمهم في الجنة، فإذا قالوا هذه المقالة جاءهم الخدام بالموائد بين أيديهم وأوتوا بما يشتهون، فإذا فرغوا من الطعام قالوا الحمد لله رب العالمين، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏؛ يعني‏:‏ وآخر قولهم بعد ما فرغوا من الطعام أن يقولوا الحمد لله رب العالمين ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏ على معنى التقديم، وقال الضحاك‏:‏ في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا‏}‏ وذلك أن أهل الجنة إذا دخلوا القيامة وصاروا إلى الجنة يكون فاتحة كلامهم سبحانك اللهم على ما مننت به علينا، وتحيتهم فيها سلام؛ يقول‏:‏ يسلم عليهم الملائكة من الله تعالى؛ ويقال‏:‏ يسلم بعضهم على بعض؛ ويقال‏:‏ يسلمون على الله تعالى، ويقال‏:‏ تحيتهم لله تعالى بالسلام، كقوله ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ بعدما رأوا من الكرامات وبعد ما أكلوا من الطعام، حمدوا الله تعالى على ما أعطاهم من الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير‏}‏، قال مقاتل‏:‏ وذلك حين تمنى النضر بن الحارث العذاب، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر‏}‏ يقول‏:‏ لو استجيب لهم في الشر استعجالهم بالخير، كما يحبون أن يستجاب لهم في الخير‏.‏ ‏{‏لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ في الدنيا بالهلاك؛ وقال مجاهد والضحاك والكلبي‏:‏ ولو يعجل الله للناس الشر، يعني‏:‏ العقوبة، إذا دعا على نفسه وولده وعلى صاحبته، مثل‏:‏ أخزاك الله، ولعنك الله؛ كما يعجل لهم الخير إذا دعوه بالرحمة والرزق والعافية؛ لماتوا وهلكوا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ هذا من الإضمار ومعناه ‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر‏}‏، يعني‏:‏ إجابتهم بالشر ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏، يعني‏:‏ كإجابتهم بالخير‏.‏ وإنَّما صار ‏{‏استعجالهم‏}‏ نصباً على معنى مثل استعجالهم‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ بالنصب، يعني‏:‏ لقضى الله أجلهم، لأنه اتصل بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله‏}‏، وقرأ الباقون ‏{‏لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ بالضم على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏، يعني‏:‏ نترك الذين لا يخافون البعث بعد الموت‏.‏ ‏{‏فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏، يعني‏:‏ في ضلالهم يعمهون، يعني‏:‏ يتحيرون ويترددون قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر‏}‏ يقول إذا مس الكافر ما يكره من المرض والفقر والبلاء، ‏{‏دَعَانَا‏}‏؛ يقول أخلص في الدعاء إلينا ‏{‏لِجَنبِهِ‏}‏، يعني‏:‏ وهو مطروح على جنبه إذا اشتد به المرض، ‏{‏أَوْ قَاعِدًا‏}‏ إذا كانت العلة أهون، ‏{‏أَوْ قَائِمًا‏}‏ إذا بقي فيه أثر العلة؛ ويقال دعانا في الأحوال كلها مضطجعاً كان أَوْ قَائِماً أَوْ قَاعِداً‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ‏}‏، رفعنا عنه بلاءه، ‏{‏مَرَّ‏}‏؛ يقول‏:‏ استمر على ترك الدعاء ونسي الدعاء؛ ويقال‏:‏ مرّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يبتلى ولم يتعظ بما ناله‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ‏}‏، يعني‏:‏ إلى بلاء أصابه قبل ذلك فلم يشكره؛ ويقال‏:‏ معناه أَمِنَ من أن يصيبه مثل الضر الذي دعا فيه حين مسّه ‏{‏كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏، يعني‏:‏ المشركين ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏، يعني‏:‏ بالدعاء عند الشدة وترك الدعاء عند الرخاء‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏، يعني‏:‏ أهلكناهم بالعذاب لما كذبوا الرسل وأقاموا على كفرهم، خوَّف أهل مكة بمثل عذاب الأمم الخالية لكيلا يكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏، يعني‏:‏ بالآيات بالأمر والنهي‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏، لم يصدقوا الرسل ولم يرغبوا في الإيمان؛ ويقال‏:‏ وما كانوا ليصدقوا بنزول العذاب بما كذبوا من قبل يوم الميثاق‏.‏ ‏{‏كذلك نَجْزِى‏}‏، يعني‏:‏ نعاقب ‏{‏القوم المجرمين‏}‏، أي الكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 16‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جعلناكم خلائف‏}‏، يعني‏:‏ جعلناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم‏}‏، يعني‏:‏ من بعد هلاكهم، ‏{‏لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ وهذا على معنى التهديد، يعني‏:‏ إنْ كانت معاملتكم مثل معاملتهم في تكذيب الرسل، أهلكتكم كما أهلكت تلك القرون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ‏}‏، يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏؛ يعني‏:‏ كفار قريش لما سمعوا القرآن قالوا‏:‏ ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ‏}‏، يعني‏:‏ امحه وانسخه، فإنا نجد فيه تحريم عبادة الأوثان وما نحن عليه‏.‏ وهذا قول الضحاك؛ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ المستهزئين، وكانوا خمسة رهط ‏{‏قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ يعني‏:‏ لا يخافون البعث بعد الموت ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ‏}‏ ائت يا محمد أو اجعل مكان آية الرحمة آية العذاب ومكان آية العذاب آية الرحمة؛ وقال الزجاج‏:‏ معناه بقرآن ليس فيه ذكر البعث والنشور وليس فيه عيب آلهتنا، أو بدل منه ذكر البعث والنشور‏.‏

‏{‏قُلْ مَا يَكُونُ لِى‏}‏، يعني‏:‏ قل‏:‏ ما يجوز لي ‏{‏أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى‏}‏؛ يقول من قبل نفسي‏.‏ ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ‏}‏، يعني‏:‏ لا أعمل إلا ما أومر به وأنزل عليّ من القرآن‏.‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى‏}‏، يعني‏:‏ أعلم أني لو فعلت ما لم أؤمر به أصابني ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏، يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ قال مقاتل والكلبي‏:‏ نسختها ‏{‏لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ يعني‏:‏ ما قرأته ولا عرضته عليكم‏.‏

‏{‏وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏، أي ولا أعلمكم به، ومعناه أن الله تعالى لو لم يجعلني رسولاً إليكم ما تلوته عليكم كما لم أتل عليكم قبل الوحي؛ ويقال‏:‏ معناه لو رضي الله لكم ما أنتم عليه من الكفر والجهل، ما بعثني إليكم رسولاً‏.‏ قرأ أبو عمرو، وحمزة، ونافع في رواية ورش والكسائي‏:‏ ‏{‏وَلاَ‏}‏ بكسر الراء، وقرأ الباقون بالنصب؛ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏ وعن الحسن أنه قرأ‏:‏ ‏{‏وَلاَ‏}‏ بالتاء‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ ما أرى ذلك إلا غلطاً منه في الرواية، لأنه لا مخرج لها في العربية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ‏}‏، يعني‏:‏ إلى أربعين سنة من قبل هذا القرن، فهل سمعتموني أقرأ شيئاً من هذا عليكم‏؟‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أَنِّي لم أتقوله من تلقاء نفسي، ولكنه وحي الله من عنده، لأنه لو كان من تلقاء نفسي لسمعتم مني قبل هذا شيئاً منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏17‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏، يعني‏:‏ من أشد في كفره ممن اختلق على الله كذباً أنّ معه شريكاً، ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون‏}‏، يعني‏:‏ المشركون، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ يعني‏:‏ مسيلمة الكذاب ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ أتباعه وأشياعُه ونظراؤه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏، يعني‏:‏ الأصنام، ‏{‏مَا لاَ يَضُرُّهُمْ‏}‏ إن لم يعبدوها ‏{‏وَلاَ يَنفَعُهُمْ‏}‏ إن عبدوها ‏{‏وَيَقُولُونَ هَؤُلاء‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ يشفعون لنا في الآخرة‏.‏ ‏{‏قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله‏}‏، أتخبرون الله ‏{‏بِمَا لاَ يَعْلَمُ‏}‏ من الآلهة‏.‏ ‏{‏فِي السموات *** وَلاَ فِى الارض‏}‏، يعني‏:‏ الأصنام بأنها تشفع لأحد يوم القيامة، ويقال‏:‏ معناه أتخبرون الله بشفاعة آلهتكم أما علموا أنها لا تكون أبداً‏؟‏ ويقال‏:‏ معناه أتشركون مع الله بجاهل لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض‏.‏

ثم نزّه نفسه عن الولد والشريك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏، يعني‏:‏ تنزيهاً له، ‏{‏وتعالى‏}‏، يعني‏:‏ ارتفع ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ من الآلهة؛ ويقال‏:‏ معناه هو أعلى وأجل من أن يوصف له شريك قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏يُشْرِكُونَ‏}‏ بالياء على معنى المغايبة، وقرأ الباقون بالتاء على وجه المخاطبة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏؛ قال مقاتل‏:‏ وما كان الناس إلاّ على ملة واحدة، يعني‏:‏ على عهد آدم وعلى عهد نوح من بعد الغرق كانوا كلهم مسلمين‏.‏ ‏{‏فاختلفوا‏}‏ في الدين بعد ذلك‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ على عهداً آدم فاختلفوا حين قتل أحد بني آدم أخاه فتفرقوا مؤمناً وكافراً‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ كافرة على عهد إبراهيم فتقرقوا مؤمناً وكافراً‏.‏ وقال الزجاج ‏{‏وَمَا كَانَ الناس‏}‏ يعني العرب‏.‏ كانوا على الشرك قبل مجيء النَّبي صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا بعده، فآمن بعضهم وكفر بعضهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وقيل أيضاً‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ يعني‏:‏ ولدوا على الفطرة واختلفوا بعد الفطرة‏.‏

‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏، لولا أنَّ الله جعل لهم أجلاً للقضاء بينهم ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ في وقت اختلافهم، ويقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ في اللوح المحفوظ بأن لا يعجل بعقوبة العاصين ويتركهم لكي يتوبوا، ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ في الدنيا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لولا أن الله تعالى أخبر هذه الأمة أن لا يهلكهم كما أهلك الذين من قبلهم لقضى بينهم في الدنيا ‏{‏فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 24‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ‏(‏21‏)‏ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏22‏)‏ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏23‏)‏ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ‏}‏، وذلك حين قال عبد الله بن أمية‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ وسألته قريش أن يأتيهم بآية، فقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ‏}‏، نزول الآية من عند الله تعالى‏:‏ ‏{‏فانتظروا‏}‏ نزولها‏.‏ ‏{‏إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين‏}‏ لنزولها، ويقال‏:‏ فانتظروا بي الموت إني معكم من المنتظرين لهلاككم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس‏}‏، يعني‏:‏ أصبنا الناس ‏{‏رَحْمَةً‏}‏، يعني‏:‏ المطر، ويقال‏:‏ العافية، ‏{‏مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ‏}‏، من بعد القحط ومن بعد الشدة والبلاء‏.‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن‏}‏، يعني‏:‏ تكذيباً بالقرآن، ويقال‏:‏ تكذيباً بنعمة الله تعالى، ويقولون‏:‏ سقينا بنوء كذا ولا يقولون‏:‏ هذا من رزق الله تعالى، وقال القتبي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن‏}‏ يعني‏:‏ قولهم بالطعن والحيلة ليجعلوا لتلك الرحمة سبباً آخر ‏{‏قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا‏}‏، يعني‏:‏ أشد عذاباً وأشد أخذاً‏.‏ ‏{‏إِنَّ رُسُلَنَا‏}‏ الحفظة ‏{‏يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ‏}‏، يعني‏:‏ الحفظة يكتبون ما تقولون من التكذيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر‏}‏، يعني‏:‏ يحملكم في البر على الدواب وفي البحر في السفن، ويقال‏:‏ هو الذي يحفظكم إذا سافرتم في بر أو بحر‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏***يَنْشُرُكُمْ‏}‏ بالنون والشين من النشر، يعني‏:‏ يبثكم، والقراءة المعروفة ‏{‏الذى يُسَيّرُكُمْ‏}‏ من التسيير يعني‏:‏ يسهل لكم السير، ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏، يعني‏:‏ في السفن، ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ‏}‏؛ يقال للسفينة الواحدة جَرَتْ وللجماعة جَرَيْنَ‏.‏ واسم الفلك يقع على الواحد وعلى الجماعة، ويكون مذكراً إذا أريد به الواحد ومؤنثاً إذا أريد به الجماعة، كقوله‏:‏ ‏{‏وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 41‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 164‏]‏ ذكرا بلفظ التأنيث مرة وبلفظ التذكير مرة‏.‏ وفيه الدليل أن الكلام يكون بعضه على وجه المخاطبة وبعضه على وجه المغايبة، كما قال هاهنا ‏{‏حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك‏}‏ بلفظ المخاطبة ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَرَيْنَ بِهِم‏}‏ بلفظ المغايبة بِرِيحٍ ‏{‏طَيّبَةً‏}‏، يعني‏:‏ لينة ساكنة، ‏{‏وَفَرِحُواْ بِهَا وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا‏}‏ يعني‏:‏ السفينة، ‏{‏رِيحٌ عَاصِفٌ‏}‏؛ يعني‏:‏ شديدة، ‏{‏وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ‏}‏؛ يعني‏:‏ من كل النواحي ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ علموا وأيقنوا أنه قد دنا هلاكهم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بالقرية، يقال‏:‏ دنا القوم من الهلكة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ‏}‏

‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ فصار ذلك كناية عن الهلاك؛ ‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏، يعني‏:‏ أخلصوا لله تعالى، يعني‏:‏ الدعاء وقالوا‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه‏}‏، يعني‏:‏ من هذه الريح العاصف، ويقال‏:‏ من هذه الأهوال، ‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏؛ يعني‏:‏ الموحدين المطيعين‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ‏}‏، يعني‏:‏ يعصون ‏{‏فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏، يعني‏:‏ الدعاء إلى غير عبادة الله تعالى والعمل بالمعاصي والفساد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ إثم معصيتكم عليكم‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بظلام لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏ ويقال‏:‏ مظالمكم فيما بينكم، يعني‏:‏ على أنفسكم أي جنايتكم عليكم، وهذا كما يقال في المثل‏:‏ المحسن سيجزى بإحسانه والمسيء يكفيه مساويه‏.‏ يعني‏:‏ وباله يرجع إليه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّتَاعَ الحياة الدنيا‏}‏، يعني‏:‏ تمتعون فيها أيام حياتكم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ عبثكم في الدنيا قليل، ويقال‏:‏ عمر الدنيا في حياة الآخرة قليل ‏{‏ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ‏}‏ أي بعد الموت في الآخرة، ‏{‏فَنُنَبّئُكُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ نخبركم ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏متاع‏}‏ بالنصب ويكون نصباً على المصدر، ومعناه تمتعون متاع الحياة الدنيا، وقرأ الباقون ‏{‏متاع‏}‏ بالضم ومعناه هو متاع الحياة‏.‏

ثم ضرب للحياة الدنيا مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا‏}‏، يعني‏:‏ في فنائها وبقائها، ‏{‏كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء‏}‏، يعني‏:‏ المطر، ‏{‏فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض‏}‏، يعني‏:‏ يدخل الماء في الأرض فينبت به النبات، فاتصل كل واحد بالآخر فاختلط‏.‏ ‏{‏مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام‏}‏، يعني‏:‏ مما يأكل الناس من الحبوب والثمار، ومما تأكل الأنعام والدواب من العشب والكلأ‏.‏

‏{‏حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا‏}‏، يعني‏:‏ زينتها، ‏{‏وازينت‏}‏، يعني‏:‏ حسنت بألوان النبات؛ وأصله تزينت فحذفت التاء وأقيم التشديد مقامها‏.‏ وهذا كقوله ‏{‏وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 3‏]‏ وأصله تدارك‏.‏ ‏{‏وَظَنَّ أَهْلُهَا‏}‏، يعني‏:‏ وحسب أهل الزرع ‏{‏أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا‏}‏، يعني‏:‏ على غلاتها وأنها ستتم لهم الآن‏.‏ ‏{‏أَتَاهَا أَمْرُنَا‏}‏، يعني‏:‏ عذابنا ‏{‏لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا‏}‏؛ قال أبو عبيدة‏:‏ الحصيد المستأصل، ويقال‏:‏ الحصيد كحصيد السيف‏.‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس‏}‏، يعني‏:‏ صار كأن لم يكن بالأمس، فكذلك الدنيا والإنسان يجمع المال ويشتري الضياع ويبني البنيان، فيظن أنه قد نال مقصده، فيأتيه الموت فيصير كأنه لم يكن أو رجل ولد له مولود‏.‏ فإذا بلغ فظن أنه قد نال مقصوده، فيموت ويصير كأنه لم يكن‏.‏ ‏{‏كذلك نُفَصّلُ الآيات‏}‏، يعني‏:‏ نبين علامات غرور الدنيا وزوالها، لكيلا يغتروا ونبيِّن بقاء الآخرة ليطلبوها ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ بأمثال القرآن ويعتبرون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام‏}‏، يعني‏:‏ يدعو إلى عمل الجنة، ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏، وهو الدين القيم، ويقال‏:‏ إن عطاءه على قسمين خاص وعام، فأما العطاء الخاص فالتوفيق والعصمة واليقين، وأما العطاء العام فالصحة والنعمة والأمن‏.‏ والدعوة هنا عامة والهداية خاصة، فقد دعا جميع الناس بقوله‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ فجعل الهداية خاصة لأنها فضله وفضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام‏}‏ والله هو السلام وداره الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ السلام هو السلامة‏.‏ وإنما سميت الجنة دار السلام، لأنها سالمة من الآفات والأمراض وغير ذلك‏.‏

روى أبو أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «نَاَمَتْ عَيْنِي وَعَقَلَ قَلْبِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي، ثُمَّ قِيلَ لِي‏:‏ إِنَّ سَيِّداً بَنَى دَاراً وَصَنَعَ مَائِدَةً وَأَرْسَلَ دَاعِياً، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ المَائِدَةِ وَرَضِيَ عَنْهُ السَّيِّدُ» فالله تعالى هو السيد، والدار الإسلام، والمائدة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ يكرم من يشاء بالمعرفة من كان أهلاً لذلك ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ إلى دين الإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى‏}‏‏.‏ للذين وحدوا الله وأطاعوه في الدنيا لهم الجنة في الآخرة ‏{‏وَزِيَادَةٌ‏}‏، أي فضلاً‏.‏ قال عامة المفسرين‏:‏ الزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى، وهكذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وأبي موسى الأشعري وغيرهم قال الفقيه‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد قال‏:‏ حدثنا أبو العباس السراج قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال‏:‏ حدثنا عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ثم قال‏:‏ «إذا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وَدَخَلَ أهْلُ النَّارِ النَّارَ، نَادَى مُنَادٍ‏:‏ يا أَهْلَ الجَنَّةِ، إنَّ لَكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ مَوْعِداً يُحِبُّ أنْ يُنْجِزَكُمُوهُ فَيَقُولُونَ وَمَا هُوَ‏؟‏ ألَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، وَأَدْخَلَنَا الجَنَّة، وَنَجَّانا مِنَ النَّار‏؟‏ قالَ‏:‏ ثُمَّ يُكْشَفُ الحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلى الله تَعَالَى، فَوَالله مَا أعْطَاهُمْ شَيْئاً أحَبَّ إلَيْهمُ مِنَ النَّظَر إلى وَجْه الله تعالى»‏.‏ قال الفقيه رضي الله عنه‏:‏ وأخبرنا الثقة بإسناده، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحذيفة قالا‏:‏ الزيادة، النظر إلى وجه الله تعالى‏.‏ وعن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ الحسنى، هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى‏.‏ وعن عامر بن سعد، وقتادة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعكرمة مثله‏.‏

قال الفقيه‏:‏ سمعت محمد بن الفضيل العابد قال‏:‏ سمعت علي بن عاصم قال أجمع أهل السنة والجماعة أن الله تعالى لم يره أحد من خلقه في الدنيا‏.‏ وأن أهل الجنة يرونه يوم القيامة؛ وقال الزجاج‏:‏ القول في النظر إلى وجه الله تعالى كثير في القرآن، والتفسير مروي بالأسانيد الصحاح أنه لا شك في ذلك‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ قال‏:‏ الحسنى مثلها، والزيادة المغفرة والرضوان‏.‏ وروي عن علقمة قال‏:‏ الحسنى مثلها، وزيادة عشر أمثالها‏.‏ ويقال‏:‏ الحسنى الجنة وما فيها من الكرامة، والزيادة ما يأتيهم كل يوم من التحف والكرامات من الله تعالى، فيأتيهم رسول رب العالمين فيقول لهم‏:‏ أنا رضيت عنكم، فهل رضيتم عني‏؟‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ‏}‏، يعني‏:‏ لا يعلو ولا يغشى وجوههم سواد وهو كسوف الوجوه عند معاينة النار، ويقال‏:‏ حزن ولا ذلة يعني‏:‏ ولا مذلة‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏، يعني‏:‏ دائمين‏.‏

ثم بيّن حال أهل النار فقال‏:‏ ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات‏}‏، يعني‏:‏ أشركوا بالله وعبدوا الأصنام والشمس والقمر والملائكة والمسيح، فهذه كلها من السيئات‏.‏

‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ بلا زيادة، يعني‏:‏ لا يزاد على ذلك وهذا موصول بما قبله فكأنه قال‏:‏ ‏{‏وَلِلَّذِينَ * أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ‏}‏ ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏ بلا زيادة وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 160‏]‏، ويقال‏:‏ ‏{‏جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا‏}‏، يعني‏:‏ جزاء الشرك النار، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أشد من النار‏.‏ فيكون العذاب موافقاً لسيئاتهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَآءً وفاقا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 26‏]‏، أي موافقاً لشركهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ‏}‏، يعني‏:‏ يغشى وجوههم الذلة وهي سواد الوجوه من العذاب‏.‏ ‏{‏مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ‏}‏، يعني‏:‏ مانع يمنع من عذاب الله تعالى، ثم وصف سواد وجوههم فقال‏:‏ ‏{‏والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ سواد الليل مظلماً ويقال‏:‏ ‏{‏قِطَعًا مِّنَ اليل‏}‏ يعني‏:‏ بعضاً من الليل وساعة منه‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا الفقيه أبو جعفر قال‏:‏ حدثنا محمد بن عقيل الكندي قال‏:‏ حدثنا العباس الدوري قال‏:‏ حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة‏.‏ رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أوقِدَ عَلَى النَّارِ ألَفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أوقِد عَليَهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ، ثم أوقِدَ عَلَيْهَا ألفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ؛ فَهِي سَوْدَاءُ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ» قرأ ابن كثير والكسائي ‏{‏قِطَعًا‏}‏ بجزم الطاء وهو اسم ما قطع منه، يعني‏:‏ طائفة من الليل، قرأ الباقون ‏{‏قِطَعًا‏}‏ بنصب الطاء يعني‏:‏ جمع قطعة‏.‏ وإنما أراد به سواد الليل ‏{‏مُظْلِماً‏}‏ وصار نصباً للحال أي في حالة الظلام‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏، أي مقيمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ‏(‏28‏)‏ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏29‏)‏ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏، وهذا كله في يوم نجمعهم جميعاً، يعني‏:‏ الكفار وآلهتهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ قفوا أنتم وآلهتكم ويقال‏:‏ الرؤساء والأتباع ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ ميزنا وفرقنا بين المشركين وبين آلهتهم، وأصله في اللغة من زال يزول، وأزلته وزيلته بمعنى واحد، ويقال‏:‏ فرقنا بينهم من التواصل والألفة، يعني‏:‏ بين الرؤساء والأتباع، ويقال‏:‏ يأمر الله تعالى أن تلحق كل أمة بما كانوا يعبدون من دون الله فيتفرق أهل الملل، وذلك قوله ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بين أهل الشرك وأهل الإسلام‏.‏

ثم قال للمشركين‏:‏ ماذا كنتم تعبدون‏؟‏ فينكرون ويحلفون، ثم يقرون بعدما يختم على أفواههم وتشد أعضاؤهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام‏.‏ ‏{‏وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ آلهتهم لمن عبدها‏:‏ ‏{‏مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ‏}‏ في الدنيا بأمرنا ولا نعلم بعبادتكم إيانا، ولم تكن فينا روح فنعقل عبادتكم إيانا، فيقول من عبدها قد عبدناكم وأمرتمونا فأطعناكم، فقالت الآلهة‏:‏ ‏{‏فكفى بالله شَهِيدًا‏}‏ يعني‏:‏ عالماً ‏{‏بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين‏}‏، يعني‏:‏ ولم نعلم أنكم تعبدوننا، والفائدة في إحضار الأصنام أن يظهر عند المشركين ضعف معبودهم فيزيدهم حسرة على ذاك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ تَبْلُواْ * كُلُّ نَفْسٍ‏}‏، قرأ حمزة والكسائي ‏{‏تَتْلُواْ‏}‏ بالتاءين، يعني‏:‏ عند ذلك تقرأ كل نفس برة أو فاجرة ‏{‏مَّا أَسْلَفَتْ‏}‏، يعني‏:‏ ما عملت من خير أو شر‏.‏ وهذا قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ‏[‏لإسراء‏:‏ 71‏]‏ ويقال‏:‏ تتلو يعني‏:‏ تتبع، كقوله‏:‏ ‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏ يعني‏:‏ تبعها، والباقون ‏{‏تَبْلُواْ‏}‏ بالتاء والباء، يعني‏:‏ عند ذلك تجد‏.‏ ويقال‏:‏ تظهر، كقوله ‏{‏يَوْمَ تبلى السرآئر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9‏]‏ وقال القتبي‏:‏ أي يختبر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق‏}‏، يعني‏:‏ رجعوا في الآخرة إلى الله مولاهم الحق‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏، يعني‏:‏ اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسها ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يختلقون من الأوثان فلا يكون لهم شفاعة ويقال بطل افتراؤهم واضمحل‏.‏