فصل: تفسير الآيات رقم (25- 41)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 41‏]‏

‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏26‏)‏ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏28‏)‏ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‏(‏29‏)‏ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ‏(‏30‏)‏ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ‏(‏33‏)‏ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ‏(‏34‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ‏(‏35‏)‏ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏37‏)‏ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ‏(‏38‏)‏ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏39‏)‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

وقوله ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يجمعهم يوم القيامة ‏{‏إِنَّهُ حَكِيمٌ‏}‏ حكم بحشر الأولين والآخرين ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ أي‏:‏ آدم ‏{‏مِن صلصال‏}‏ أي‏:‏ من طين يتصلصل إذا مشيت عليه يتقلقل، وإذا تركته ينغلق، ‏{‏مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ من طين أسود منتن‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ أي من طين مصبوب‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَّسْنُونٍ‏}‏ أي‏:‏ متغير الرائحة كقوله ‏{‏أَوْ كالذى مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا قَالَ أنى يُحْىِ هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 259‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ الذي أتت عليه السنون‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏***الصلصال‏}‏ الطين اليابس الذي لم تصبه نار إذا ضربته صوّت، وإذا مسته النار، فهو فخار والمسنون المتغير الرائحة، والحمأ جمع حمئة وهو الطين المتغير ‏{‏مَّسْنُونٍ والجآن خلقناه مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ إبليس‏.‏ ويقال‏:‏ الجان أبو الجن خلقناه من قبل آدم ‏{‏مِن نَّارِ السموم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هي نار لا دخان لها، تكون بين السماء وبين الحجاب‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ‏{‏مِن نَّارِ السموم‏}‏ أي‏:‏ من نار حارة‏.‏ قال الكسائي‏:‏ الجن والجنة من أصل واحد‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة‏}‏ يعني‏:‏ قد قال ربك للملائكة الذين هم في الأرض مع إبليس سكان الأرض ‏{‏إِنّى خالق بَشَرًا‏}‏ أي‏:‏ سأخلق خلقاً ‏{‏مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ‏}‏ أي‏:‏ جمعت خلقه ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ أي‏:‏ جعلت الروح فيه ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ أي‏:‏ فخروا له أي فاسجدوا بأجمعكم ‏{‏فَسَجَدَ الملائكة‏}‏ يعني‏:‏ سجدة التحية لا سجدة العبادة وكانت التحية لآدم عليه السلام والعبادة لله تعالى‏.‏

‏{‏كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ‏}‏ روي عن الخليل بن أحمد أنه قال‏:‏ ‏{‏أَجْمَعُونَ‏}‏ على معنى توكيد بعد توكيد‏.‏ وذكر عن محمد بن يزيد عن المبرد أنه قال‏:‏ معناه سجدوا كلهم في حالة واحدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأول أجود لأن أجمعين معرفة، فلا يكون حالاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه لكن إبليس لم يكن من الساجدين، لأن إبليس لم يكن من الملائكة، فيكون الاستثناء من غير جنس ما تقدم بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏

‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ استثنى إبليس من الملائكة، وكان من جنسهم، إلا أنه لما لم يسجد، لعن، وغيّر عن صورة الملائكة، ولا يكون الاستثناء من غير جنس، فذلك قوله ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ ‏{‏أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين‏}‏ أي‏:‏ تعظم عن السجود لآدم مع الملائكة ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ * إِبْلِيسَ ***** مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين‏}‏ أي‏:‏ مع الملائكة ‏{‏قَالَ‏}‏ أي‏:‏ إبليس ‏{‏لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * قَالَ فاخرج مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ من الجنة ‏{‏فَإِنَّكَ رَجِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ ملعون، مطرود‏.‏ فألحقه بجزائر البحور ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين‏}‏ أي طرد من رحمته يوم الحساب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى‏}‏ أي‏:‏ أجلني ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ من قبورهم ‏{‏قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ أي‏:‏ من المؤجلين ‏{‏إلى يَوْمِ الوقت المعلوم‏}‏ أي‏:‏ إلى النفخة الأولى ‏{‏قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى‏}‏ يعني كما أضللتني عن الهدى لأجل آدم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ بإغوائك إياي أي‏:‏ لأضلنهم عن الهدى ‏{‏أَجْمَعِينَ *** إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ وأبو عمرو، وابن عامر ‏{‏المخلصين‏}‏ بكسر اللام أي‏:‏ المخلصين في العبادة‏.‏ ويقال‏:‏ الموحدين‏.‏ وقرأ الكسائي، ونافع، وحمزة، وعاصم، ‏{‏المخلصين‏}‏ بنصب اللام أي‏:‏ المعصومين من الشرك‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا الفقيه أبو جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو القاسم‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن سلمة‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أحمد بن عبد الله‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن هشام عن الحسن قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَمَّا لُعِنَ إِبْلِيسُ، قَالَ‏:‏ فَبِعِزَّتِكَ لا أُفَارِقُ قَلْبَ ابنِ آدَمَ حَتَّى يَمُوتُ»‏.‏ قال‏:‏ قيل له‏:‏ وعزتي لا أحجب عنه التوبة، حتى يغرغر بالموت ‏{‏قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ‏}‏ أي‏:‏ هذا التوحيد صراط ‏{‏مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ على دلالته، وهذا قول الحسن‏.‏ ويقال‏:‏ معناه على ممر من أطاعك، ومن عصاك‏.‏ كقوله ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 14‏]‏ ويقال‏:‏ معناه هذا بيدي، لا بيدك‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هذا سبيل الله عليّ مستقيم، أي‏:‏ عليّ هدايته ودلالته كقوله ‏{‏وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 9‏]‏ وروي عن ابن سيرين‏:‏ أنه كان يقرأ ‏{‏هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ بكسر اللام، ورفع الياء مع التنوين، ومعناه هذا صراط رفيع مستقيم، وهو قول قتادة أي طريق شريف، لا عوج فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 48‏]‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏43‏)‏ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ ‏(‏44‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏45‏)‏ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ ‏(‏46‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏47‏)‏ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ عِبَادِى‏}‏ أي‏:‏ عبادي الذين لا يطيعونك ‏{‏لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان‏}‏ أي حجة ولا ملك، ولا أسلطك عليهم‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 99‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين‏}‏ أي‏:‏ من أطاعك من الكافرين‏.‏ ويقال‏:‏ معناه إنما نفاذ دعوتك، ووسوستك لمن اتبعك من المشركين‏.‏

ثم بيّن مصير من اتبعه ومصير من لم يتبعه فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمصير من اتبعه ‏{‏لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ‏}‏ أي‏:‏ سبعة منازل ‏{‏لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ‏}‏ أي‏:‏ لكل منزل صنف ممن يعذب من الكفار، على قدر منزلته من الذنب‏.‏ نصيب معروف أسفلها هاوية وهي لآل فرعون، ولأصحاب المائدة الذين كفروا بعيسى‏.‏ وللمنافقين، والزنادقة‏.‏ والثانية لظى وهي منزلة المجوس، والثنوية الذين قالوا بإلهين‏.‏ والثالثة سقر وهي منزلة المشركين، وعبدة الأوثان‏.‏ والرابعة الجحيم، وهي منزلة اليهود الذين كذبوا الرسل، وقتلوا أنبياء الله بغير حق‏.‏ والخامسة الحطمة وهي منزلة النصارى الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقالوا قولاً عظيماً‏.‏ والسادسة السعير وهي منزلة الصابئين، ومن أعرض عن دين الإسلام، وخرج منه‏.‏ والسابعة جهنم وهي أعلى المنازل، وعليها ممر الخلق كلهم، وهي منزل أهل الكبائر من المسلمين وقال ابن عباس، في رواية أبي صالح، الباب الأول، جهنم، والثاني السعير، والثالث سقر، والرابع الجحيم، والخامس لظى، والسادس الحطمة، والسابع الهاوية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جهنم اسم عام يقع على الإدراك كلها، والأول أصح إن جهنم اسم لا يقع على الإدراك، وهكذا روي عن جماعة من الصحابة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ أي‏:‏ الذين يتقون الشرك، والفواحش، ويتقون إجابة الشيطان في بساتين، وعيون طاهرة، ‏{‏ادخلوها‏}‏ أي‏:‏ الجنة ‏{‏بِسَلامٍ‏}‏ يعني‏:‏ مسلمين، آمنين، ويقال‏:‏ سالمين، ناجين من العذاب‏.‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الموت والخوف، وإبليس، والعزل، والحوادث، والآفات والعاقبة، والقطيعة، والفراق، قوله‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ‏}‏ أي‏:‏ من حسد، وعداوة كانت بينهم في الدنيا، ويكونون في الآخرة ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ صار نصباً على الحال ‏{‏على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ أي‏:‏ متزاورين متحدثين‏.‏ وروى سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، أن علياً قال‏:‏ أرجو أن أكون أنا وطلحة، والزبير، من الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ وروى ربعي بن خراش قال‏:‏ قال رجل من همدان‏:‏ فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ الله أعدل من ذلك‏.‏ فصاح به عليٌ فقال‏:‏ إذا لم نكن نحن فمن هم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ يقول‏:‏ لا يصيبهم في الجنة تعب، ولا مشقة ‏{‏وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ‏}‏ أي‏:‏ من الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 56‏]‏

‏{‏نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ‏(‏50‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ‏(‏51‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏53‏)‏ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ‏(‏54‏)‏ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ ‏(‏55‏)‏ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏نَبّئ عِبَادِى‏}‏ أي‏:‏ أخبر عبادي يا محمد ‏{‏أَنّى أَنَا الغفور الرحيم‏}‏ لمن تاب منهم ‏{‏وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم‏}‏ لمن مات على الكفر، ولم يتب‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إسحاق بن عبد الرحمن‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن شاذان الجوهري‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن مقاتل‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا عبد الله بن المبارك‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد، عن عطاء، عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، ونحن نضحك، فقال‏:‏ «أَتَضْحَكُونَ‏؟‏» ثم قال‏:‏ «لا أُرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثم أدبر فكأن على رؤوسنا الرخم، حتى إذا كان عند الحجر، ثم رجع القهقري فقال‏:‏ «جَاءَ جِبْرِيلُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ‏:‏ لِمَ تُقْنِطُ عِبَادِي‏؟‏ ‏{‏نَبّئ عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم‏}‏» وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لَوْ عَلِمَ العَبْدُ قَدَرَ رَحْمَةِ الله، مَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ‏.‏ وَلَوْ عَلِمَ العَبْدُ قَدَرَ عُقُوَبةِ الله، لَبَخَعَ نَفْسَهُ»‏.‏ أي‏:‏ في عبادة الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ أي‏:‏ عن أضياف إلا أن هذا اللفظ مصدر، والمصدر لا يثنى، ولا يجمع، وذلك حين بعث الله تعالى جبريل في اثني عشر من الملائكة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ على إبراهيم ‏{‏فَقَالُواْ سَلامًا‏}‏ أي‏:‏ فسلموا عليه‏.‏ فرد عليهم السلام‏.‏ كما قال في موضع آخر ‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سلاما قَالَ سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 25‏]‏ وقال الكلبي‏:‏ فأنكرهم إبراهيم في تلك الأرض، لأنهم لم يطعموا من طعامه‏.‏ ‏{‏قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ خائفين ‏{‏قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ‏}‏ أي‏:‏ لا تخف منا، وبشروه، فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا نُبَشّرُكَ‏}‏ قرأ حمزة ‏{‏نُبَشّرُكَ‏}‏ بجزم الباء، مع التخفيف‏.‏ ونصب النون، وضم الشين‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد ‏{‏بغلام عَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ بإسحاق عليم في صغره، حليم في كبره، ‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر‏}‏ أي‏:‏ بعدما أصابني الكبر والهرم ‏{‏فَبِمَ تُبَشّرُونَ‏}‏ قرأ نافع ‏{‏فَبِمَ تُبَشّرُونَ‏}‏ بكسر النون مع التخفيف لأن أصله تبشروني بالياء فأقيم الكسر مقامه وقرأ ابن كثير ‏{‏فَبِمَ تُبَشّرُونَ‏}‏ بكسر النون مع التشديد، لأنه في الأصل بنونين، فأدغم إحداهما في الأخرى مثل قوله ‏{‏***تَأْمُرُنِّي‏}‏ ‏{‏قَالَ أَتُحَاجُّونّى‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏تُبَشّرُونَ‏}‏ بنصب النون مع التخفيف، لأنها نون الجماعة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هذا أعجب إليّ لصحتها في العربية ‏{‏قَالُواْ بشرناك بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالولد‏.‏ ويقال‏:‏ بالصدق ‏{‏فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين‏}‏ أي‏:‏ من الآيسين من الولد‏.‏ ويقال‏:‏ من نعم الله تعالى ‏{‏قَالَ إبراهيم *** وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ‏}‏ أي‏:‏ من نعمة ربه ‏{‏إِلاَّ الضآلون‏}‏ أي‏:‏ الجاهلون قرأ الكسائي، وأبو عمرو، ‏{‏يَقْنَطُ‏}‏ بكسر النون، وقرأ الباقون ‏{‏يَقْنَطُ‏}‏ بالنصب ومعناهما واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 71‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏57‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏59‏)‏ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏61‏)‏ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏62‏)‏ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ أي قال لهم إبراهيم ما حالكم، وشأنكم، وبماذا جئتم، ‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ مشركين‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ من هم‏؟‏ قالوا‏:‏ قوم لوط‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ أتهلكونهم، وفيهم لوط‏؟‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏إِلا ءالَ لُوطٍ‏}‏ يعني‏:‏ ابنتيه زعورا، وريثا‏.‏ ويقال‏:‏ امرأة له أخرى غير التي أهلكت ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي ‏{‏إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بنصب النون، وتشديد الجيم‏.‏ من أَنْجَى، يُنْجِي، وَنَجَّى، يُنَجِّي، بمعنى واحد ‏{‏إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ‏}‏ عليها الهلاك ‏{‏إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين‏}‏ أي لمن المتخلفين للهلاك‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبو بكر ‏{‏قَدَّرْنَآ‏}‏ بالتخفيف، وهو من القدر‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتشديد، وهو من التقدير‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون * قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لما دخلوا عليه، أنكرهم ولم يعرفهم ‏{‏قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ بما كانوا يشكون من نزول العذاب بهم ‏{‏واتيناك بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالعذاب، وهو العدل والصدق ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ بأن العذاب نازل بهم ‏{‏قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ في بعض الليل‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع ‏{‏فَأَسْرِ‏}‏ بجزم الألف، والباقون بالنصب، سريت وأسريت إذا سرت ليلاً ‏{‏واتبع أدبارهم‏}‏ يقول‏:‏ امش وراءهم ‏{‏وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ‏}‏ يعني لا يتخلف منكم أحد ‏{‏وامضوا‏}‏ أي‏:‏ انطلقوا ‏{‏حَيْثُ تُؤْمَرُونَ‏}‏ أي إلى المدينة وهي مدينة زعر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر‏}‏ يعني‏:‏ أخبرناه، وأوحينا إليه ذلك الأمر، ثم فسّر ذلك الأمر فقال‏:‏ ‏{‏أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ‏}‏ يعني‏:‏ إنهم مستأصلون عند الصباح‏.‏ ويقال‏:‏ قضينا إليه ذلك الأمر‏.‏ يعني‏:‏ أمرناه بالخروج إلى الشام، إلى المدينة زعر، لأن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين قوله‏:‏ ‏{‏وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ بدخول الرجال منزل لوط ‏{‏قَالَ *** لُوطٍ إِنَّا *** هَؤُلآء ضَيْفِى‏}‏ يقول‏:‏ أضيافي ‏{‏فَلاَ تَفْضَحُونِ‏}‏ فيهم ‏{‏واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ‏}‏ أي‏:‏ لا تذلوني في أضيافي ‏{‏قَالُواْ أُوذِينَا *** لَمْ *** نَنْهَكَ عَنِ العالمين‏}‏ ألم ننهك أن تضيف أحداً من الغرباء ‏{‏قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى‏}‏ أي‏:‏ بنات قومي أزوجكم ‏{‏إِن كُنتُمْ فاعلين‏}‏ أي‏:‏ فتزوجوا النساء، فإن الله تعالى خلق النساء للرجال، وأمر بتزويجهن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 79‏]‏

‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ بحياتك يا محمد إنهم لفي جهالتهم، وضلالتهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ يترددون، ويتجبرون‏.‏ يعني‏:‏ إن أهل مكة يسمعون هذه العجائب، ولا تنفعهم، وهم على جهلهم مصرون‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا ابن معاذ‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا عبد العزيز بن أبان، عن سعيد بن زيد، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما خلق الله نفساً أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره‏.‏ فقال ‏{‏لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ثم رجع إلى قصة قوم لوط، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ أي‏:‏ أخذتهم صيحة جبريل ‏{‏مُشْرِقِينَ‏}‏ يعني‏:‏ عند طلوع الشمس، وذلك أن جبريل قلع الأرض وقت الصبح، فرفعها مع الملائكة إلى قريب من السماء، ثم قلبها وأهواها إلى الأرض، وصاح بهم وقت طلوع الشمس فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ وقد ذكرناها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ في هلاك قوم لوط ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ علامات ‏{‏لِلْمُتَوَسّمِينَ‏}‏ يقول‏:‏ للمتفكرين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ للمعتبرين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ للناظرين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ للمفترسين‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدّثنا الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو يعقوب‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا عمار بن الربيع الباهلي، عن أبي صالح بن محمد، عن محمد وهو ابن مروان، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «اتّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله»‏.‏ ثم قرأ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ حقيقته في اللغة، النظار المثبتون في نظرهم، حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء‏.‏ يقال‏:‏ توسمت في فلان كذا وكذا أي‏:‏ عرفت ذلك فيه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهَا‏}‏ أي‏:‏ قريات لوط ‏{‏لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ بطريق واضح بيّن يرونها، حين مروا بها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي في هلاك قوم لوط ‏{‏لآيَةً‏}‏ أي لعلامة وعبرة ‏{‏لِلْمُؤْمِنِينَ *** وَإِن كَانَ‏}‏ يقول‏:‏ وقد كان ‏{‏كَذَّبَ أصحاب‏}‏ أي‏:‏ أصحاب الغيضة، والغيضة والأيكة الشجرة‏.‏ وهم قوم شعيب قال قتادة‏:‏ مدين وإلى أصحاب الأيكة، وقال بعضهم‏:‏ آل مدين والأيكة واحد، لأن الأيكة كانت عند مدين، وهذا أصح ‏{‏لظالمين‏}‏ أي‏:‏ لكافرين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ بالعذاب ‏{‏وَإِنَّهُمَا‏}‏ أي‏:‏ قريات لوط وشعيب ‏{‏لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ أي لبطريق واضح‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الإمام ما يؤتم به‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ أي‏:‏ يؤتم، ويقتدى بك، ثم تستعمل لمعاني منها‏.‏ الكتاب إماماً، لأنه يؤتم بما أحصاه الكتاب‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم فَمَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَءُونَ كتابهم وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 71‏]‏ أي‏:‏ بكتابهم‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شئ أحصيناه فى إِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 12‏]‏ أي‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ وهو الكتاب‏.‏ وسمي الطريق إماماً‏.‏ لأن المسافر يأتم به، ويستدل به‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ بطريق واضح‏.‏ أي‏:‏ قريات قوم لوط، وقرية شعيب عليهما السلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 86‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين‏}‏ وهم قوم صالح، كذبوا صالحاً، والحجر أرض ثمود ‏{‏وءاتيناهم ءاياتنا‏}‏ أي‏:‏ الناقة ‏{‏فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏ يقول‏:‏ مكذبين بها ‏{‏وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا ءامِنِينَ‏}‏ من أن تقع عليهم الجبال‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ من نزول العذاب، فلم يعرفوا نعمة الله تعالى‏.‏ ويقال ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ من العذاب بعقر الناقة‏.‏ فعقروا الناقة، وقسموا لحمها، فأهلكهم الله تعالى بصيحة جبريل فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ حين أصبحوا ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ فما نفعهم ما كانوا يكسبون من الكفر والشرك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا * السموات والارض ***** وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق‏}‏ أي‏:‏ للحق‏.‏ والباء توضع موضع اللام أي‏:‏ لينظر عبادي إليها فيعتبروا‏.‏ ويقال‏:‏ وما خلقناهما إلا عذراً، وحجة على خلقي، ‏{‏وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لكائنة، لا محالة ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏ أي‏:‏ اعرض عنهم إعراضاً جميلاً بلا جزع منك ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم‏}‏ أي‏:‏ عليماً بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن، ويقال العليم يعلم متى تقوم الساعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 91‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني‏}‏ أي‏:‏ فاتحة الكتاب ‏{‏وَلَقَدْ ءاتيناك‏}‏ أي‏:‏ سائر القرآن وهذا قول ابن عباس وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال‏:‏ السبع المثاني‏:‏ السبع الطوال‏.‏ وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس‏.‏ قال‏:‏ لأنه يثني فيها حدود الفرائض والقرآن‏.‏ ويقال‏:‏ السبع المثاني، والقرآن كله وهو سبعة أسباع‏.‏ سمي مثاني لأن ذكر الأقاصيص فيه مثنى كقوله‏:‏ ‏{‏الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ وقال طاوس‏:‏ القرآن كله مثاني‏.‏ وقال أبو العالية المثاني‏:‏ فاتحة الكتاب سبع آيات، وإنما سمي مثاني، لأنه يثنى مع القرآن كلما قرئ القرآن‏.‏ قيل إنهم يزعمون أنها السبع الطوال‏.‏ قال‏:‏ لقد أنزلت هذه الآية، وما أنزل شيء من الطوال‏.‏ وسئل الحسن عن قوله‏:‏ ‏{‏سَبْعًا مّنَ المثاني‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ حتى أتى على آخرها‏.‏ وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ أُمُّ الكِتَابِ وَأَمُّ القُرْآنِ وَالسَّبْعُ المَثَانِي»‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏سَبْعًا مّنَ المثاني‏}‏ هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة، وتطوع، يعني‏:‏ في كل صلاة‏.‏ ويقال‏:‏ من المثاني أي‏:‏ مما أثني به على الله تعالى، لأن فيها حمدَ الله تعالى وتوحيده ومن ههنا على ضربين، يكون للتبعيض من القرآن أي‏:‏ أعطيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن العظيم، ويجوز أن يكون السبع هي المثاني كقوله‏:‏ ‏{‏ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حرمات الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الانعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ أي‏:‏ اجتنبوا الأوثان‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ لا تنظرن بعين الرغبة ‏{‏إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما أعطيناهم في الدنيا‏.‏ يعني‏:‏ ما أعطيناك من القرآن أفضل مما أعطيناهم من الأموال‏.‏ فاستغن بما أعطيناك من القرآن، والدين والعلم، ولا تنظر إلى أموالهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أزواجا مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أصنافاً منهم، وألواناً من الأموال، يعني‏:‏ أعطينا رجالاً منهم، أي‏:‏ المشركين منهم ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على كفار مكة إن لم يؤمنوا، لأن مقدوري عليهم الكفر‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ إن نزل بهم العذاب ‏{‏واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يقول‏:‏ ليّن جناحك عليهم أي‏:‏ تواضع للمؤمنين ‏{‏وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ أخوفكم بعذاب مبين بلغة تعرفونها‏.‏

‏{‏كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين‏}‏ أي‏:‏ كما أنزلنا العذاب على المقتسمين، وهم الذين أقسموا على عقبات مكة، ليردوا الناس عن دين الإسلام، وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنّى أَنَا النذير المبين‏}‏ بالقرآن، كما أنزلنا التوراة والإنجيل على المقتسمين، وهم اليهود، والنصارى اقتسموا فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم اليهود والنصارى‏.‏ فرقوا القرآن، آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه‏.‏ ويقال‏:‏ إن أهل مكة قالوا أقاويل مختلفة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ‏}‏ أي‏:‏ فرقوا القول فيه‏.‏ قال بعضهم‏:‏ سحر وقال بعضهم‏:‏ شعر‏.‏ وهذا قول قتادة‏.‏ ويقال‏:‏ أصله في اللغة الفرقة‏.‏ يقال‏:‏ فرّقوه أي‏:‏ عضوه أعضاء‏.‏ يقال‏:‏ ليس دين الله بالتعضية أي‏:‏ بالتفريق‏.‏ وروى الضحاك، عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ جزؤوه، وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 99‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أقسم بنفسه ليسألنهم يوم القيامة ‏{‏عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الشرك، وعن ترك قول‏:‏ لا إله إلا الله، وعن الإيمان بالله، والرسول ‏{‏فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ‏}‏ أي‏:‏ أظهر أمرك، وامض، واقض ما أمرتك ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ أي‏:‏ اتركهم، حتى يجيء أمر الله تعالى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية، مستخفياً، لا يظهر شيئاً مما أنزل الله عليه، حتى نزلت هذه الآية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ أي‏:‏ أظهر أمرك، فقد أهلك الله المستهزئين، وهم خمسة رهط‏.‏ فأهلكوا كلهم في يوم وليلة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الموسم أيام الحج، ليدعو الناس، فمنعه المستهزئون، وبعثوا على كل طريق رجلاً، فإذا سألهم أحد من الغرباء عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ هو ساحر كاهن‏.‏ ثم قالوا‏:‏ هذا دأبنا كل سنة‏.‏ فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فأهلكهم الله تعالى، منهم الوليد بن المغيرة‏.‏

نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كيف تجد هذا‏؟‏ فقال‏:‏ «بِئْسَ الرَّجُلُ»‏.‏ فقال‏:‏ كفيناكه‏.‏ فمضى وهو يتبختر في ردائه، ويقال‏:‏ ببردته، فمر برجل يصنع السهام، فتعلق سهم بردائه، وأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه، فأصاب السهم أكحله، فنزف فمات‏.‏ ومنهم العاص بن وائل السهمي، مرّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عنه فقال‏:‏ «بئس الرجل هو»‏.‏ فقال‏:‏ كفيناكه فوطئ على شوكة‏؟‏ فتساقط لحمه عن عظامه، حتى هلك، ومنهم الحارث بن حنظلة، أصاب ساقه شيء فانتفخ فمات‏.‏ ومنهم أسود بن عبد يغوث، أصابه العطش، فجعل يشرب الماء حتى انتفخ بطنه فمات‏.‏ ومنهم أسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد عزى، ضربه جبريل بجناحه، فمات‏.‏ ويقال‏:‏ خرج مع غلام له، فأتاه جبريل عليه السلام وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح برأسه الشجرة، ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال غلامه‏:‏ لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك حتى مات، وهو يقول‏:‏ قتلني رب محمد وفي رواية الكلبي‏:‏ أن أسود بن عبد يغوث، خرج من أهله، فأصابه السواد حتى عاد حبشياً، فأتى أهله فلم يعرفوه، وأغلقوا دونه الباب حتى مات‏.‏ وروي في خبر آخر أن العاص بن وائل السهمي، خرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له‏؟‏ فنزل شعباً من الشعاب، فلما وضع قدمه على الأرض، لدغت رجله، فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق بعير، فمات مكانه وعن أبي بكر الهذلي أنه قال‏:‏ قلت للزهري‏:‏ إن سعيد بن جبير، وعكرمة قد اختلفا في رجل من المستهزئين‏.‏

فقال سعيد‏:‏ هو الحارث بن عيطلة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هو الحارث بن قيس‏.‏ فقال‏:‏ صدقاً كانت أمه اسمها عيطلة، وأبوه قيساً‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه عطش، فلم يزل يشرب عليه الماء حتى أنفذ فمات، وهو يقول‏:‏ قتلني رب محمد فنزل ‏{‏إِنَّا كفيناك المستهزءين‏}‏ ‏{‏الذين يَجْعَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقولون ‏{‏مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏}‏ ماذا يفعل بهم، هذا وعيد لسائر الكفار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏}‏ من تكذيبهم إياك ‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ يقول‏:‏ صلِّ بأمر ربك‏.‏ ويقال‏:‏ اشتغل بعبادة ربك، ولا تشغل قلبك بهم ‏{‏وَكُنْ مّنَ الساجدين‏}‏ يعني‏:‏ من المصلين‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏واعبد رَبَّكَ‏}‏ يعني‏:‏ على التوحيد ‏{‏حتى يَأْتِيَكَ اليقين‏}‏ أي‏:‏ واستقم على التوحيد حتى يأتيك اليقين‏.‏ أي‏:‏ الموت قال الفقيه‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا المحارمي، عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم عن جبير بن نصير، عن أبي مسلم الخولاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مَا أَوْحَى الله تَعَالَى إَليَّ أَنْ أَجْمَعَ المَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرينَ، ولكن أَوْحَى إِليَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ» والله أعلم‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ أي يوم القيامة‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ العذاب‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ ءَامَنَ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام حتى إِذَآ أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالامس كذلك نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ أي‏:‏ أتى أمر الله‏.‏ يعني‏:‏ يأتي‏.‏ أي‏:‏ هو قريب لأن ما هو آتٍ آتٍ‏.‏ وهذا وعيد لهم إنها كائنة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏اقترب لِلنَّاسِ حسابهم وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ ثم نزلت بعدها ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ قالوا‏:‏ يا محمد تزعم أن الساعة قد اقتربت، ولا نرى من ذلك شيئاً فنزل ‏{‏أتى أَمْرُ الله‏}‏ أي‏:‏ عذاب الله، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، لا يشك أن العذاب قد أتاهم، فقال لهم جبريل‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ‏}‏ قال‏:‏ فجلس النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيامه، ثم قال‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ نزّه نفسه عن الولد، والشريك‏.‏ ويقال‏:‏ ارتفع، وتعاظم عن صفة أهل الكفر‏.‏ فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ به من الأوثان‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي ‏{‏تُشْرِكُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء بلفظ المغايبة، وكذلك ما بعده‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يُنَزّلُ الملائكة‏}‏ أي‏:‏ جبريل ‏{‏بالروح‏}‏ أي‏:‏ بالوحي والنبوة والقرآن ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره‏.‏ قال القتبي‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ توضع موضع الباء كقوله‏:‏ ‏{‏لَهُ معقبات مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ أي‏:‏ بأمر الله‏.‏ وقال ههنا‏:‏ يلقي الروح ‏{‏مِنْ أَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمره ‏{‏على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ يختار للنبوة والرسالة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ينزل الملائكة بالرحمة، والوحي ‏{‏على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من كان أهلاً لذلك‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ بجزم النون من قولك أنْزَلَ يُنْزِلُ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏تُنَزَّلَ‏}‏ بالتاء، ونصب النون، والزاي مع التشديد، على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ بالياء، وكسر الزاي مع التشديد، من قولك‏:‏ نَزَّلَ يُنَزِّلُ‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ‏}‏ أي‏:‏ خوفوا بالقرآن الكفار، وأعلموهم أن الله واحد لا شريك له‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا إله إِلا أَنَاْ فاتقون‏}‏ أي‏:‏ أطيعون، ووحدون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏خُلِقَ * السموات والارض بالحق‏}‏ أي‏:‏ للحق‏.‏ ويقال‏:‏ للزوال، والفناء‏.‏ ‏{‏تَعَالَى‏}‏ تنزه ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ به من الأوثان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ يقول‏:‏ من ماء الرجل ‏{‏فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ‏}‏ يقول‏:‏ جدل بالباطل ظاهر الخصومة، وهو أبي بن خلف حيث أخذ عظماً بالياً فَفَتَّهُ بيده، وقال‏:‏ عجباً لمحمد يزعم أنه يعيدنا بعد ما كنا عظاماً ورفاتاً، وإنا نعاد خلقاً جديداً، فنزل ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ‏}‏ ‏{‏صلى الله عليه وسلم ‏[‏يس‏:‏ 77‏]‏ الآية‏.‏

ثم بيّن النعمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ‏}‏ الدفء ما يستدفأ به من الأكسية وغيرها‏.‏ والذي يتخذ منه البيوت من الشعر، والوبر، والصوف‏.‏ وأما المنافع فظهورها التي تحمل عليها‏.‏ وألبانها‏.‏ ويقال‏:‏ الدفء الصغار من الإبل‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا دِفْء‏}‏ أي‏:‏ في نسل كل دابة ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ من لحومها‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ‏}‏ أي‏:‏ ولكم يا بني آدم في الأنعام، جمال حسن المنظر، ‏{‏حِينَ تُرِيحُونَ‏}‏ أي‏:‏ حتى تروح الإبل راجعة إلى أهلها ‏{‏وَحِينَ تَسْرَحُونَ‏}‏ أي‏:‏ تسرح إلى الرعي أول النهار ‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أمتعتكم وزادكم ‏{‏إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الانفس‏}‏ إلا بجهد الأبدان‏.‏ وروى سماك عن عكرمة قال‏:‏ ‏{‏بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الانفس‏}‏ قال‏:‏ هي مكة‏.‏ ويقال‏:‏ هذا الخطاب لأهل مكة، كانوا يخرجون إلى الشام، وإلى اليمن، ويحملون أثقالهم على الإبل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ إذ لم يعجلكم بالعقوبة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ أي‏:‏ جمالاً، ومنظراً، وحسناً‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس، أنه سئل عن لحوم الخيل، فكرهه، وتلا هذه الآية ‏{‏والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ يعني‏:‏ إنما خلق هذه الأصناف الثلاثة للركوب والزينة، لا للأكل، وسائر الأنعام خلقت للركوب، والأكل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ وبه كان يقول أبو حنيفة‏:‏ إن لحم الخيل مكروه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ خلق أشياء تعلمون، وخلق أشياء مما لا تعلمون‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إِنَّ الله خَلَقَ أَرْضَاً بَيْضَاءَ مِثْلَ الدُّنْيَا ثَلاثِينَ مَرَّةً مَحْشُوَّةً خَلْقاً مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى، لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله تَعَالَى يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ» قالوا‏:‏ يا رسول الله أمن ولد آدم هم‏؟‏ قال‏:‏ «مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله خَلَقَ آَدَمَ»‏.‏ قالوا‏:‏ فأين إبليس منهم‏؟‏ قال‏:‏ «مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله خَلَقَ إِبْلِيسَ» ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم «‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏» قوله‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل‏}‏ أي‏:‏ بيان الهدى‏.‏ ويقال‏:‏ هداية الطريق ‏{‏وَمِنْهَا جَائِرٌ‏}‏ أي‏:‏ من الطرق ما هو مائل عن طريق الهدى إلى طريق اليهودية، والنصرانية‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك أنه قال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل‏}‏ يعني‏:‏ بيان الهدى، ‏{‏وَمِنْهَا جَائِرٌ‏}‏ أي‏:‏ سبيل الضلالة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في قراءة عبد الله بن مسعود ‏{‏وَمِنْهَا جَائِرٌ‏}‏ أي‏:‏ مائل عن طريق الهدى ‏{‏وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ لو علم الله تعالى أن الخلق كلهم أهلاً للتوحيد لهداهم‏.‏ ويقال‏:‏ لو شاء الله لأنزل آية يضطر الخلق إلى الإيمان بها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 17‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ أي‏:‏ المطر ‏{‏لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ‏}‏ وهو ما يستقر في الأرض من الغدران، وتشربون منه، وتسقون أنعامكم ‏{‏وَمِنْهُ شَجَرٌ‏}‏ أي‏:‏ من الماء ما ينتشر في الأرض، فينبت منه الشجر، والنبات ‏{‏فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ترعون أنعامكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون‏}‏ أي‏:‏ يخرج لكم بالمطر الزرع، والزيتون ‏{‏والنخيل والاعناب‏}‏ أي‏:‏ الكروم ‏{‏وَمِن كُلّ الثمرات‏}‏ أي‏:‏ من ألوان الثمرات قرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏الله لَكُمْ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ الباقون بالياء، ومعناهما واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ يعني‏:‏ فيما ذكر من نزول المطر، وخروج النبات لعبرة ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في إنشائه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر‏}‏ أي ذلّل لكم الليل، والنهار لمعايشكم ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ أي‏:‏ خلق الشمس والقمر ‏{‏والنجوم مسخرات‏}‏ بأمره أي‏:‏ مذللات ‏{‏بِأَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بإذنه ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ لعبرات ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لمن له ذهن الإنسانية‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الارض‏}‏ أي‏:‏ وما خلق لكم في الأرض، من الدواب، والأشجار، والثمار ‏{‏مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي في اختلاف ألوانها لعبرة ‏{‏لِقَوْمٍ * يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتعظون قرأ ابن عامر ‏{‏والشمس والقمر والنجوم‏}‏ كلها بالرفع على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ بالنصب على معنى البناء‏.‏ أي‏:‏ سخر لكم الشمس والقمر‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏والنجوم‏}‏ بالضم على معنى الابتداء‏.‏ وقرأ الباقون الثلاثة كلها بالنصب، ويكون بمعنى المفعول‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر‏}‏ أي‏:‏ ذلّل لكم البحر‏.‏ ويقال‏:‏ ذلّل لكم ما في البحر ‏{‏لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من البحر ‏{‏لَحْمًا طَرِيّا‏}‏ أي‏:‏ السمك الطري ‏{‏وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ من البحر ‏{‏حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ يعني‏:‏ لؤلؤاً تتزينون بها‏.‏ يعني‏:‏ زينة للنساء ‏{‏وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ مقبلة، ومدبرة فيه‏.‏ ويقال‏:‏ تذهب، وتجيء بريح واحدة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ يعني‏:‏ السفينة حين تشق الماء يقال‏:‏ مخرت السفينة إذا جرت، لأنها إذا جرت تشق الماء ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ لكي تطلبوا من رزقه، حين تركبون السفينة للتجارة ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تشكروا الله فيما صنع لكم من النعمة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ‏}‏ يعني‏:‏ الجبال الثوابت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لكيلا تميد بكم، وقد يحذف لا ويراد إثباته، كما قال هاهنا‏:‏ ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ أي لا تميل بأهلها‏.‏ وروى معمر عن قتادة أنه قال لما خلقت الأرض كادت تميد فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال وقال القتبي الميد الحركة والميل ويقال ‏{‏أَن تَمِيدَ‏}‏ أي كراهة أن تميد بكم ‏{‏وأنهارا‏}‏ أي‏:‏ وجعل لكم أنهاراً ‏{‏وَسُبُلاً‏}‏ أي‏:‏ طرقاً ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعرفون بها الطرق ‏{‏وعلامات‏}‏ أي‏:‏ جعل في الأرض علامات من الجبال، وغيرها تهتدون به الطرق في حال السفر‏.‏

‏{‏وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ بالجدي، والفرقدين، تعرفون بها الطرق في البر والبحر‏.‏ وروى عبد الرزاق عن معمر في قوله‏:‏ ‏{‏وعلامات‏}‏ قال‏:‏ قال الكلبي‏:‏ الجبال‏.‏ وقال قتادة‏:‏ النجوم‏.‏ وروى سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏وعلامات وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ قال‏:‏ منها ما يكون علامة، ومنها ما يهتدى به‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ تعلموا من النجوم ما تهتدون به، في طرقكم، وقبلتكم، ثم كفوا، وتعلموا من الأنساب ما تصلون به أرحامكم‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وعلامات‏}‏ أي‏:‏ الجبال بالنهار يهتدون بها الطرق، والنجوم بالليل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ‏}‏ يعني‏:‏ هذه الأشياء التي وصفت لكم ‏{‏كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ أي‏:‏ لا يقدر أن يخلق شيئاً وهم الأصنام‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ أفلا تتعظون في صنعه، فتوحّدوه وتعبدوه، ولا تعبدوا غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 23‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا‏}‏ أي‏:‏ لا تطيقوا إحصاءها‏.‏ فكيف تقدرون على أداء شكرها ‏{‏إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لمن تاب ورجع‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ‏}‏ في قلوبكم ‏{‏وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ بالقول‏.‏ ويقال‏:‏ ما تخفون من أعمالكم ‏{‏وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ تظهرون منها، فالسر والعلانية عنده سواء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي‏:‏ يعبدون من دون الله من الأوثان ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ ينحتون من الأحجار، والخشب، وغيره‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أموات غَيْرُ أَحْيَاء‏}‏ قال في رواية الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ أن الأصنام أموات ليس فيها روح ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي‏:‏ متى يحيون فيحاسبون ويقال ‏{‏أَمْوَاتٌ‏}‏ يعني‏:‏ أن الكفار غير أحياء‏.‏ يعني‏:‏ كأنهم أموات لا يعقلون شيئاً وما يشعرون أيَّان يبعثون غيره ‏{‏فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ يعني‏:‏ الذين لا يصدقون بالبعث ‏{‏قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ‏}‏ أي جاحدة للتوحيد ويقال قلوبهم خبيثة لا تدخل المعرفة فيها ‏{‏وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي متعظمون عن الإيمان ثم قال عز وجل ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ أي‏:‏ حقاً‏.‏ ويقال‏:‏ نعم‏.‏ وذكر عن الفراء أنه قال ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ بمنزلة لا بد ولا محالة‏.‏

ثم كثرت في الكلام، حتى صارت بمنزلة حقاً ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما يكتمون، وما يظهرون من الكفر، والمكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين‏}‏ أي‏:‏ المتعظمين عن الإيمان‏.‏ ويقال‏:‏ لا يحب المتكبرين الذين يتكبرون على الناس‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدّثنا محمد بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا محمد بن جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا إبراهيم بن يوسف‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا الفضل بن دكين، عن مسعر بن كدام، عن أبي مصعب، عن أبيه، عن أبي بن كعب قال‏:‏ سيأتي المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم، ويأتيهم الذل من كل مكان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الخراصين من أهل مكة‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ اجتمعت قريش، فقالوا‏:‏ إن محمداً رجل حلو اللسان، إذا كلمه رجل ذهب بعقله‏.‏ وفي رواية أخرى‏:‏ بقلبه‏.‏ فانظروا أناساً من أشرافكم، فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين‏.‏ فمن جاء يريده ردّوه عنه‏.‏ فخرج ناس منهم في كل طريق، فكان إذا جاء الرجل من وفد القوم، ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنزل بهم، فقالوا له‏:‏ أنا فلان بن فلان، فيعرفه بنسبه‏.‏ ثم قال‏:‏ أنا أخبرك ثم قال‏:‏ أنا أخبرك‏.‏ عن محمد، فلا تنفر إليه هو رجل كذاب لم يتبعه إلا السفهاء والعبيد، ومن لا خير فيه، أما أشياخ قومه، وأخيارهم، فهم مفارقوه‏.‏ فيرجعون أي‏:‏ الوافدون‏.‏ وإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشد يقول‏:‏ بئس الوافد أنا لقومي‏.‏ إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم، رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل، وأنظر ماذا يقول‏.‏ فيدخل مكة، فيلقى المؤمنين، فيسألهم‏:‏ ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فيقولون‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ للمقتسمين من أهل مكة ‏{‏مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما الذي أنزل ربكم على محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏قَالُواْ أساطير الاولين‏}‏ يعني‏:‏ الذين يذكرون أنه منزل، هو كذب الأولين، وأحاديثهم‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ آثامهم ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ أي‏:‏ وافرة ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ أي‏:‏ لا يغفر لهم شيء‏.‏ وذنوب المؤمنين تكفر عنهم من الصلاة إلى الصلاة، ومن رمضان إلى رمضان، ومن الحج إلى الحج، وتكفر بالشدائد، والمصائب‏.‏ وذنوب الكفار لا تغفر لهم، ويحملونها كاملة يوم القيامة‏.‏ أي‏:‏ يحملون وبال الذنوب التي عملوا بأنفسهم ‏{‏وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يصدُّونهم عن الإيمان ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ بغير عذر، وحجة، وبرهان‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مِنْ * أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أوزار إضلالهم‏.‏ وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ بئس ما يحملون من الذنوب‏.‏ ويقال‏:‏ بئس الزاد زادهم الذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ قد صنع الذين من قبلهم مثل المقتسمين، فأبطل الله كيدهم ‏{‏فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد‏}‏ أي‏:‏ قلع بنيانهم من أساس البيت ‏{‏فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ سقف البيت، قال الكلبي‏:‏ وهو نمروذ بن كنعان، بنى صرحاً طوله في السَّماء خمسة آلاف ذراع وخمسون ذراعاً، وكان عرضه ثلاثة آلاف ذراع وخمسون ذراعاً، فهدم الله بنيانه، وخرّ عليهم السقف من فوقهم، فأهلكهم الله‏.‏ وقال القتبي‏:‏ هذا مثل‏.‏ أي‏:‏ أهلك من قبلهم من الكفار، كما أهلك من هدم مسكنه من أسفله، فخرّ عليه‏.‏ ويقال‏:‏ هدم بنيان مكرهم من الأصل، فخرّ عليهم السقف‏.‏ أي‏:‏ رجع وبال مكرهم إليهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استكبارا فِى الارض وَمَكْرَ السيئ وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاٌّوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ ‏{‏وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعلمون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يعذبهم، وما أصابهم في الدنيا، لم يكن كفارة لذنوبهم‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ تعادونني، وتخالفونني فيهم، يعني‏:‏ بسببهم وعبادتهم قرأ نافع ‏{‏تشاقون‏}‏ بكسر النون على معنى الإضافة‏.‏ والباقون‏:‏ بنصب النون لأنها نون الجماعة‏.‏ ‏{‏قَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ أي‏:‏ الملائكة‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ المؤمنين ‏{‏إِنَّ الخزى اليوم‏}‏ أي‏:‏ العقاب ‏{‏والسوء‏}‏ أي‏:‏ الشدة من العذاب ‏{‏عَلَى الكافرين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ أي‏:‏ يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ‏{‏ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ الذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله تعالى ‏{‏فَأَلْقَوُاْ السلم‏}‏ أي‏:‏ انقادوا، واستسلموا حين رأوا العذاب‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء‏}‏ أي‏:‏ ما كنا نشرك بالله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هم قوم خرجوا مع المشركين يوم بدر، قد تكلموا بالإيمان، فلما رأوا قلة المؤمنين، رجعوا إلى الشرك فقتلوا‏.‏ ويقال‏:‏ جميع المشركين‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أشركتم بالله ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الشرك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 33‏]‏

‏{‏فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ يقول لهم خزنة جهنم، ادخلوا أبواب جهنم ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ مقيمين فيها أبداً ‏{‏فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ يعني‏:‏ لبئس مأوى المتكبرين عن الإيمان‏.‏ ثم نزل في المؤمنين الذين يدعون الناس إلى الإيمان، وذلك أن أهل مكة، لما بعثوا إلى أعقاب مكة رجالاً، ليصدوا الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً من أصحابه، إلى أعقاب مكة‏.‏ فكان الوافد إذا قدم إليهم، قالوا له‏:‏ إن هؤلاء المشركين كذبوا، بل محمد صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق، ويأمر بصلة الرحم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الخير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ أي‏:‏ يدعو إلى الخير ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ للذين وحّدوا في هذه الدنيا، لهم الحسنة في الآخرة أي‏:‏ الجنة ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ أفضل من الدنيا ‏{‏وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين‏}‏ يعني‏:‏ المطيعين‏.‏ قال مقاتل في قوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ أي‏:‏ قالوا للوافد إنه يأمر بالخير، وينهى عن الشر ‏{‏قَالُواْ خَيْرًا‏}‏ ثم قطع الكلام‏.‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ أحسنوا العمل في هذه الدنيا، لهم حسنة في الآخرة أي‏:‏ في الجنة ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة‏}‏ خير يعني‏:‏ الجنة أفضل من ثواب المشركين الذين يحملون أوزارهم‏.‏ ويقال‏:‏ هذه كلها حكاية كلام المؤمنين، إلى قوله‏:‏ ‏{‏المتقين‏}‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏تُسِرُّونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ ‏{‏سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ‏}‏ بالياء على معنى المغايبة‏.‏ وروي عن حفص‏:‏ الثلاث كلها بالياء على معنى المغايبة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏

ثم وصف دار المتقين فقال‏:‏ ‏{‏جنات عَدْنٍ‏}‏ يعني‏:‏ الدار التي هي للمتقين جنات عدن ‏{‏يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ‏}‏ أي‏:‏ يحبون، ويتمنون ‏{‏كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين‏}‏ أي‏:‏ هكذا يثبت الله المتقين الشرك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ أي‏:‏ ملك الموت ‏{‏طَيّبِينَ‏}‏ يقول‏:‏ زاكين، طاهرين من الشرك، والذنوب، ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقول لهم خزنة الجنة في الآخرة ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ هذا مقدم ومؤخر‏.‏ أي‏:‏ جنات عدن يدخلونها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين تتوفاهم الملائكة‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ بالياء بلفظ التذكير‏.‏ والباقون‏:‏ بالتاء بلفظ التأنيث، لأن الفعل إذا كان قبل الاسم جاز التذكير والتأنيث‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ ما ينظرون وهم أهل مكة ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ أي‏:‏ ملك الموت يقبض أرواحهم ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ عذاب ربك يوم بدر، ويقال‏:‏ يوم القيامة ‏{‏كَذَلِكَ فَعَلَ‏}‏ أي‏:‏ كذلك كذب ‏{‏الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ رسلهم، كما كذبك قومك، فأهلكهم الله تعالى ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ يعني‏:‏ بإهلاكه إياهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بتكذيبهم رسلهم‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ إلا أن يأتيهم بالياء بلفظ التذكير، والباقون بلفظ التأنيث، لأن الفعل مقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 39‏]‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ‏}‏ أي‏:‏ جزاء ما عملوا ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ أي‏:‏ نزل بهم ‏{‏مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ من العذاب أنه غير نازل بهم‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ أي‏:‏ أهل مكة ‏{‏لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَئ‏}‏ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء‏.‏ يعني‏:‏ إن الله قد شاء لنا ذلك الذي ‏{‏نَحْنُ‏}‏ فيه ‏{‏وَلاَ ىَابَاؤُنَا‏}‏ ولكن شاء لنا ولآبائنا ‏{‏وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَئ‏}‏ ولا آباؤنا، ولكن شاء لنا من تحريم البحيرة، والسائبة، وأمرنا به‏.‏ ولو لم يشأ، ما حرمنا من دونه من شيء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ هكذا كذب الذين من قبلهم من الأمم ‏{‏فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ‏}‏ أي‏:‏ ليس عليهم إلا تبليغ الرسالة ‏{‏المبين‏}‏ أي‏:‏ بينّوا لهم ما أمروا به‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في كل جماعة ‏{‏رَسُولاً‏}‏ كما بعثناك إلى أهل مكة ‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ أي‏:‏ وحدوا الله، وأطيعوه ‏{‏واجتنبوا الطاغوت‏}‏ أي‏:‏ اتركوا عبادة الطاغوت، وهو الشيطان، والكاهن، والصنم، ‏{‏فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله‏}‏ لدينه، وهم الذين أجابوا الرسل للإيمان ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ‏}‏ يعني‏:‏ وجبت ‏{‏عَلَيْهِ الضلالة‏}‏ فلم يجب الرسل إلى الإيمان ‏{‏فَسِيرُواْ فِى الارض‏}‏ يقول سافروا في الأرض ‏{‏فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ يقول‏:‏ اعتبروا كيف كان آخر أمر المكذبين‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، قرأها صلى الله عليه وسلم عليهم فلم يؤمنوا، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ على إيمانهم ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ يقول‏:‏ من يضلل الله، وعلم أنه أهل لذلك، وقدر عليه ذلك‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏ قرأ أهل الكوفة، حمزة، وعاصم، والكسائي، ‏{‏لاَّ يَهِدِّى‏}‏ بنصب الياء، وكسر الدال، أي لا يهدي من يضلله الله‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏لاَّ يَهِدِّى‏}‏ بضم الياء، ونصب الدال، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، ولم يختلفوا في ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ أنه بضم الياء، وكسر الضاد‏.‏ وقال إبراهيم بن الحكم‏:‏ سألت أبي عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ‏}‏ فقال‏:‏ قال عكرمة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ من يضلله الله لا يهدى ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ أي‏:‏ من مانعين من نزول العذاب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ وكل ما حلف بالله، فهو جهد اليمين لأنهم كانوا يحلفون بالأصنام بآبائهم، ويسمون اليمين بالله جهد باليمين، وكانوا ينكرون البعث بعد الموت، وحلفوا بالله حين قالوا‏:‏ ‏{‏لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ‏}‏ فكذبهم الله تعالى في مقالتهم، فقال‏:‏ ‏{‏بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا‏}‏ أوجبه على نفسه ليبعثهم بعد الموت‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون بالبعث بعد الموت‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ من الدين يوم القيامة يعني‏:‏ يبعثهم، ليبين لهم أن ما وعدهم حقّ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ ليستبين لهم عندما خرجوا من قبورهم ‏{‏أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين‏}‏ في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 47‏]‏

‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏41‏)‏ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏42‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏43‏)‏ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏44‏)‏ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏45‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏46‏)‏ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ‏}‏ يعني‏:‏ إن بعثهم على الله يسير ‏{‏إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة‏:‏ ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بضم النون‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والذين هاجروا فِى الله‏}‏ أي‏:‏ هاجروا من مكة إلى المدينة في طاعة الله ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ‏}‏ أي‏:‏ عذبوا ‏{‏لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة‏}‏ أي‏:‏ لننزلنهم بالمدينة، ولنعطينهم الغنيمة فهذا الثواب في الدنيا ‏{‏وَلاَجْرُ الاخرة‏}‏ أي‏:‏ الجنة ‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ أي‏:‏ أفضل ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصدقون بالثواب‏.‏

ثم نعتهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين صَبَرُواْ‏}‏ على العذاب ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يثقون به، ولا يثقون بغيره، منهم بلال بن حمامة، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وخباب بن الأرت؛ قال مقاتل‏:‏ نزلت الآية في هؤلاء الأربعة‏.‏ عذبوا على الإيمان بمكة‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ نزلت في ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسرهم أهل مكة، وذكر هؤلاء الأربعة، واثنين آخرين، عابس وجبير مولى لقريش‏.‏ فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام‏.‏ فأما صهيب فابتاع نفسه بماله، ورجع إلى المدينة وأما سائر أصحابه، فقالوا بعض ما أرادوا ثم هاجروا إلى المدينة بعد ذلك‏.‏

ثم قال قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ كما أوحي إليك، وذلك أن مشركي قريش لما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، ودعاهم إلى عبادة الله تعالى، أنكروا ذلك، وقالوا‏:‏ لن يبعث الله رجلاً إلينا، ولو أراد الله أن يبعث إلينا رسولاً، لبعث إلينا من الملائكة الذين عنده، فنزل ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ‏}‏ إلى الأمم الماضية ‏{‏إِلاَّ رِجَالاً‏}‏ مثلك ‏{‏نُّوحِى إِلَيْهِمْ‏}‏ كما نوحي إليك قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏نُوحِى‏}‏ بالنون وقرأ الباقون‏:‏ بالياء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فاسألوا أَهْلَ الذكر‏}‏ أي‏:‏ أهل التوراة والإنجيل ‏{‏إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بالبينات والزبر‏}‏ وفي الآية تقديم وتأخير‏.‏ أي‏:‏ وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم بالبينات، والزبر‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ البينات‏:‏ الحلال، والحرام‏.‏ والزبر‏:‏ كتب الأنبياء‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ البينات أي‏:‏ بالآيات الحلال، والحرام، والأمر، والنهي، ما كانوا يأتون به قومهم منها، وهو كتاب النبوة‏.‏ ويقال‏:‏ البينات التي كانت تأتي بها الأنبياء، مثل عصا موسى وناقة صالح‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏والزبر‏}‏ يعني‏:‏ حديث الكتب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ‏}‏ لتقرأ للناس ‏{‏مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ما أمروا به في الكتاب ‏{‏وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ يتفكروا فيه، ليؤمنوا به‏.‏

ثم خوّفهم فقال‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات‏}‏ أي‏:‏ أشركوا بالله ‏{‏أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الارض‏}‏ يعني‏:‏ أن تغور الأرض بهم، حتى يدخلوا فيها إلى الأرض السفلى ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ من حيث لا يعلمون بهلاكهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ في ذهابهم، ومجيئهم في تجارتهم ‏{‏فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ أي‏:‏ بفائتين ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ أي‏:‏ على تنقص‏.‏ ويقال‏:‏ يأخذ قرية بالعذاب، ويترك أخرى قريبةً منها، فيخوفها بمثل ذلك‏.‏ وهذا قول مقاتل‏:‏ وروي عن بعض التابعين أن عمر سأل جلساءه عن قوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ‏}‏ فقالوا‏:‏ ما نرى إلا عند بعض ما يرون من الآيات يخوفهم، فقال عمر‏:‏ ما أراه إلاَّ عندما يتنقصون من معاصي الله، فخرج رجل فلقي أعرابياً، فقال‏:‏ يا فلان ما فعل دينك‏؟‏ قال‏:‏ تخيلته أي‏:‏ تنقصته‏.‏ فرجع إليه فأخبره بذلك‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكُمْ * لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ لا يعجل عليهم بالعقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 56‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏49‏)‏ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏50‏)‏ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ‏(‏51‏)‏ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ‏(‏53‏)‏ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏55‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْاْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏أَوَلَمْ *** تَرَوْاْ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة وقرأ الباقون‏:‏ بالياء على معنى المغايبة يعني‏:‏ أولم يعتبروا ‏{‏إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَئ‏}‏ عند طلوع الشمس وعند غروبها ‏{‏يَتَفَيَّأُ ظلاله‏}‏ يعني‏:‏ يدور ظله ‏{‏عَنِ اليمين والشمآئل‏}‏ قال القتبي‏:‏ أصل الفيء الرجوع‏.‏ وتفيؤ الظلال‏:‏ رجوعها من جانب إلى جانب ‏{‏سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون‏}‏ أي‏:‏ صاغرون، وهم مطيعون‏.‏ وأصل السجود التطأطؤ، والميل‏.‏ يقال‏:‏ سجد البعير إذا تطأطأ، وسجدت النخلة إذا مالت‏.‏ ثم قد يستعار السجود، ويوضع موضع الاستسلام، والطاعة، ودوران الظل، من جانب إلى جانب‏.‏ هو سجوده لأنه مستسلم، منقاد، مطيع‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏***تَتَفَيَّأُ‏}‏ بالتاء بلفظ التأنيث، والباقون‏:‏ بالياء، لأن تأنيثه ليس بحقيقي، ولأن الفعل مقدم، فيجوز التذكير والتأنيث‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏داخرون وَلِلَّهِ يَسْجُدُ‏}‏ أي‏:‏ يستسلم ‏{‏مَا فِي السموات‏}‏ من الملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم، ‏{‏وَمَا فِى الارض مِن دَآبَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ يسجد لله جميع ما في الأرض من دابة ‏{‏والملئكة‏}‏ يعني‏:‏ وما على الأرض من الملائكة‏.‏ ويقال‏:‏ فيه تقديم وتأخير، ومعناه‏:‏ ما في السموات من الملائكة، وما في الأرض من دابة‏.‏ ويقال‏:‏ معناه يسجد له جميع ما في السموات، وما في الأرض، من دابة والملائكة‏.‏ يعني‏:‏ الدواب، والملائكة، والذين هم في السموات والأرض‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتعظمون عن السجود لله تعالى ‏{‏يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ يخافون الله تعالى‏.‏ روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ لله تَعَالَى مَلائِكَةً فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ سُجّداً مُذْ خَلَقَهُمُ الله تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ الله تَعَالَى، فَإِذا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ فَقَالُوا‏:‏ ما عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ‏}‏» أي‏:‏ يخافون خوفاً، معظمين، مبجلين‏.‏ ويقال‏:‏ خوفم بالقهر، والغلبة، والسلطان‏.‏ ويقال‏:‏ معناه يخافون ربهم الذي على العرش، كما وصف نفسه بعلوه، وقدرته، والطريق الأول أوضح كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ أي‏:‏ لا يعصون الله تعالى طرفة عين‏.‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏***يتفيؤا‏}‏ بالتاء بلفظ التأنيث‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء لأن تأنيثه مقدم فيجوز أن يذكر ويؤنث‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يُؤْمَرُونَ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين‏}‏ أي‏:‏ لا تقولوا، ولا تصفوا إلهين اثنين، أي‏:‏ نفسه، والأصنام‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت الآية في صنف من المجوس، إنهم وصفوا إلهين اثنين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ فإياي فارهبون‏}‏ أي‏:‏ فاخشوني، ووحدوني، وأطيعوني، ولا تعبدوا غيري ‏{‏وَلَهُ مَا فِى *** السموات‏}‏ من الملائكة ‏{‏والارض‏}‏ من الخلق، الجن، والإنس، كلهم عبيده وإماؤه ‏{‏وَلَهُ الدين وَاصِبًا‏}‏ أي‏:‏ دائماً، خالصاً‏.‏

ويقال‏:‏ الألوهية‏.‏ والربوبية له خالصاً‏.‏ ويقال‏:‏ دينه واجب أبداً لا يجوز لأحد أن يميل عنه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ وله الدين والطاعة، رضي العبد بما يؤمر به أو لم يرض، والوصب في اللغة‏:‏ الشدة والتعب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعبدون غيره ‏{‏وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ إن الذي بكم من الغنى، وصحة الجسم، من قبل الله تعالى ‏{‏ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر‏}‏ يعني‏:‏ الفقر، والبلاء في جسدكم‏.‏ ‏{‏وَمَا بِكُم‏}‏ يعني‏:‏ إليه تتضرعون ليكشف الضر عنكم، كما قال في سورة الدخان ‏{‏رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعبدون غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ أي‏:‏ يجحدوا بما أعطيناهم من النعمة ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ‏}‏ اللفظ لفظ الأمر والمراد به التهديد، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فى ءاياتنا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتى ءَامِناً يَوْمَ القيامة اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ يعني‏:‏ تمتعوا بقية آجالكم ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعرفون في الآخرة ماذا نفعل بكم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا‏}‏ أي‏:‏ يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام، كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والانعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 136‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رزقناهم تالله لَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 56‏]‏ قال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ الكفار جعلوا لأصنامهم نصيباً، ولا يعلمون منهم ضراً ولا نفعاً‏.‏ وبعضهم قال‏:‏ معناه يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئاً نصيباً، أي‏:‏ حظاً ‏{‏مّمّا رزقناهم‏}‏ من الحرث والأنعام‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تكذبون على الله، لأنهم كانوا يقولون إنَّ الله أمرنا بهذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏58‏)‏ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏59‏)‏ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏60‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات‏}‏ يعني‏:‏ يصفون لله، ويقولون‏:‏ الملائكة بنات الله ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً له عن الولد ‏{‏وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الأولاد الذكور‏.‏ أي‏:‏ يصفون لغيرهم البنات، ولأنفسهم الذكور‏.‏

ثم وصف كراهتهم البنات لأنفسهم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى‏}‏ يقول‏:‏ إذا بشر أحد الكفار بالأنثى ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا‏}‏ أي‏:‏ صار وجهه متغيراً من الحزن، والخجل، ‏{‏وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ مكروباً، مغموماً من الحزن، يتردد حزنه في جوفه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يتوارى مِنَ القوم مِن سُوء‏}‏ يعني‏:‏ يكتم ما به من القوم‏.‏ ويقال‏:‏ يستر وجهه من القوم، ويختفي من سوء ‏{‏مَا بُشّرَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما ظهر على وجهه من الكراهية، ويدبر في نفسه كيف أصنع بها ‏{‏أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ‏}‏ أي‏:‏ الأنثى التي ولدت له على هوان يعني‏:‏ أيحفظه على هوان ‏{‏أَمْ يَدُسُّهُ فِى‏}‏ أي‏:‏ يدقه ‏{‏التراب أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ أي‏:‏ بئسما يفضون به، لأنفسهم الذكور، وله الإناث‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ أي‏:‏ المشركين ‏{‏مَثَلُ السوء‏}‏ أي‏:‏ جزاء السوء النار في الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ عاقبة السوء‏.‏ ويقال‏:‏ لآلهتهم صفة السوء صم، بكم، عمي‏.‏ ‏{‏وَلِلَّهِ المثل الاعلى‏}‏ أي‏:‏ الصفة العليا، وهي شهادة أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ‏{‏فَاطِرُ السماوات والارض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا وَمِنَ الانعام أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3/4‏]‏ فهذه الصفة العليا ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ في ملكه، ‏{‏الحكيم‏}‏ في أمره، أَمَرَ الخلق أن لا يعبدوا غيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بشركهم ومعصيتهم، ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ لم يترك على ظهر الأرض من دابة، ودل الإضمار على الأرض، لأن الدواب إنما هي على الأرض‏.‏ يقول‏:‏ أنا قادر على ذلك‏.‏ ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ أي‏:‏ إلى وقت معلوم، ويقال‏:‏ ‏{‏مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ‏}‏ لأنه لو أخذهم بذنوبهم، لمنع المطر‏.‏ وإذا منع المطر، لم يبق في الأرض دابة إلا أهلكت، ولكن يؤخر العذاب إلى أجلٍ مسمًّى‏.‏ وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ لو عذب الله الخلائق بذنوب بني آدم، لأصاب العذاب جميع الخلائق، حتى الْجُعْلاَن في جحرها، ولأمسكت السماء عن الأمطار، ولكن يؤخرهم بالفضل والعفو‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أجل العذاب ‏{‏لاَ يَسْتَأْخِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتأخرون عن الوقت ‏{‏سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتقدمون قبل الوقت‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يصفون ويقولون ‏{‏لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ‏}‏ لأنفسهم، وهو البنات ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب‏}‏ أي‏:‏ يقولون الكذب ‏{‏أَنَّ لَهُمُ الحسنى‏}‏ أي‏:‏ الذكور من الولد‏.‏

ويقال‏:‏ الجنة أي‏:‏ يصفون لأنفهسم مع أعمالهم القبيحة أن لهم في الآخرة الجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ يعني‏:‏ حقاً ويقال‏:‏ لا بد، ولا محالة ‏{‏أَنَّ لَهُمُ النار‏}‏ وهو كقوله‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً محياهم ومماتهم سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ‏}‏ قرأ نافع‏:‏ بكسر الراء‏.‏ يعني‏:‏ أفرطوا في القول، وأفرطوا في المعصية‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏مُّفْرَطُونَ‏}‏ بفتح الراء أي‏:‏ متروكون في النار‏.‏ ويقال‏:‏ منسيون في النار، وهو قول سعيد بن جبير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أي معلجون في النار‏.‏ ويقال‏:‏ الفارط في اللغة الذي يتقدم إلى الماء، وهذا قول يوافق قول قتادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 67‏]‏

‏{‏تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏64‏)‏ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏65‏)‏ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ‏(‏66‏)‏ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تالله‏}‏ يقول والله ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَآ‏}‏ أي‏:‏ بعثنا ‏{‏إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ أي‏:‏ بعثنا إلى أمم من قبلك الرسل، كما أرسلناك إلى قومك ‏{‏فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ضلالهم حتى أطاعوا الشيطان، وكذبوا الرسل ‏{‏فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم‏}‏ أي‏:‏ قرينهم في النار ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فهذا تهديد لكفار مكة أنه يصيبهم مثل ما أصابهم، وتعزية للنبي صلى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذى اختلفوا فِيهِ‏}‏ من الدين، لأنهم كانوا في طرق مختلفة، اليهودية، والنصرانية، والمجوسية، وغيرهم‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبيّن لهم طريق الهدى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ أي‏:‏ أنزلنا القرآن بياناً من الضلالة، ونعمة من العذاب لمن آمن به ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بالقرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء‏}‏ أي‏:‏ المطر ‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ أي‏:‏ بعد يبسها ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ في إحيائها لعلامة لوحدانيته، إذ علموا أن معبودهم لا يستطيع شيئاً ‏{‏لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ يطيعون، ويصدقون، ويعتبرون، ويبصرون‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ‏}‏ قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏نُّسْقِيكُمْ‏}‏ بنصب النون، وقرأ الباقون‏:‏ بضم النون‏.‏ ومعناهما قريب‏.‏ يقال‏:‏ سقيته وأسقيته بمعنى واحد ‏{‏مّمَّا فِى بُطُونِهِ‏}‏ ولم يقل‏:‏ مما في بطونها‏.‏ والأنعام جماعة مؤنثة‏.‏ وفي هذا قولان‏:‏ إن شئت رددت إلى واحد من الأنعام، وواحدها نعم، والنعم تذكر، وتؤنث، كقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ أي‏:‏ من الحجر‏.‏ وإن شئت قلت على تأويل آخر ‏{‏نُّسْقِيكُمْ‏}‏ وهو ‏{‏مّمَّا فِى بُطُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ بطون ما ذكرنا‏.‏ وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات وَغَيْرَ معروشات والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ ولم يقل فاجتنبوها‏.‏ أي‏:‏ فاجتنبوا ما ذكرنا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ‏}‏ يعني‏:‏ يخرج اللبن من بين الفرث والدم‏.‏ قال ابن عباس، في رواية أبي صالح‏:‏ إن الدابة تأكل العلف، فإذا استقر في كرشها، طحنته الكبد فكان أسفله فرث، وأوسطه لبن، وأعلاه دم الكبد مسلط على هذه الأصناف الثلاثة‏.‏

فيقسم الدم، فيجري في العروق، ويجري اللبن في الضرع، ويبقى الفرث كما هو في الكرش‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا استقر العلف في الكرش، صار دماً بحرارة الكبد، ثم ينصرف الدم في العروق، فمقدار ما ينتهي إلى الضرع صار لبناً، لبرودة الضرع، بدليل أنَّ الضرع إذا كانت فيه آفة، يخرج منه الدم مكان اللبن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لَّبَنًا خَالِصًا‏}‏ صار اللبن نصباً على معنى التفسير ‏{‏سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ‏}‏ أي‏:‏ سهلاً في الشرب لا يغص به شاربه‏.‏ ويقال‏:‏ يشتهي شاربه ‏(‏إليه‏)‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ من التمر‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ كناية عن الأول، وهو قوله ‏{‏وَمِن ثمرات النخيل والاعناب تَتَّخِذُونَ‏}‏ من ذلك ‏{‏سَكَرًا‏}‏ والسكر هو نقيع التمر، إذا غلى واشتد قبل أن يطبخ‏.‏ ويقال سكراً أي‏:‏ خمراً‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية وهي يومئذٍ كانت لهم حلال‏.‏ وهكذا قال الحسن والقتبي‏:‏ إن هذه الآية نزلت في الخمر ‏{‏وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ الخل، والزبيب، والرُّبُّ‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا‏}‏ يعني‏:‏ ما حرم منه ‏{‏وَرِزْقًا حَسَنًا‏}‏ ما أحل منه‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ السكر‏:‏ النبيذ، والخل، والرزق الحسن‏:‏ التمر، والزبيب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ السكر‏:‏ الحرام، والرزق الحسن‏:‏ الحلال‏.‏ وهؤلاء كلهم قالوا‏:‏ قبل تحريم الخمر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ سكراً طعاماً‏.‏ يقال‏:‏ هذا سكر لك أي‏:‏ طعام لك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ لست أدري هذا‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ لعبرة ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ توحيد الله تعالى‏.‏