فصل: تفسير الآيات رقم (68- 71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ‏(‏68‏)‏ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏69‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏70‏)‏ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏ أي‏:‏ ألهمها إلهاماً مثل قوله ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا‏}‏ أي‏:‏ مسكناً ‏{‏وَمِنَ الشجر‏}‏ يعني‏:‏ أن اتخذي من الجبال، ومن الشجر، مسكناً ‏{‏وَمِمَّا يَعْرِشُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ومما يبنون من سقوف البيت‏.‏ قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏يَعْرِشُونَ‏}‏ بضم الراء والباقون‏:‏ بالكسر‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏ أي‏:‏ ومما يبنون من سقوف البيت ‏{‏ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات‏}‏ أي من ألوان الثمرات‏.‏ أي‏:‏ ألهمها بأكل الثمرات، ‏{‏فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً‏}‏ أي‏:‏ ادخلي الطريق الذي يسهل عليك‏.‏ ويقال‏:‏ خذي طرق ربك مذللاً أي مسخراً لك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ‏}‏ يعني‏:‏ ادخلي طرق ربك في الجبال، وفي خلال الشجر ‏{‏ذُلُلاً‏}‏ لأنَّ الله تعالى ذلل لها طرقها حيثما توجهت ‏{‏يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا‏}‏ أي‏:‏ من بطون النحل، من قبل أفواهها مثل اللعاب ‏{‏شَرَابٌ‏}‏ يعني‏:‏ العسل ‏{‏مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ‏}‏ أي‏:‏ العسل أبيض، وأصفر، وأحمر‏.‏ ويقال‏:‏ يخرج من أفواه الشباب من النحل الأبيض، ومن الكهول الأصفر، ومن الشيوخ الأحمر ‏{‏فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في العسل ‏{‏شِفَآء لِلنَّاسِ‏}‏ روى أبو المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري‏.‏ قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أخي استطلق بطنه‏.‏ فقال له‏:‏ «اسْقِهِ عَسَلاً»‏.‏ فسقاه‏.‏ ثم جاء فقال‏:‏ سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً‏.‏ فقال له‏:‏ «اسْقِهِ عَسَلاً»‏.‏ فسقاه‏.‏ ثم جاءه فقال‏:‏ سقيته فلم يزده إلاَّ استطلاقاً‏.‏ فقال له‏:‏ «اسْقِهِ عَسَلاً‏.‏ صَدَقَ الله وَكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ»‏.‏ فسقاه فبرئ‏.‏ قال الفقيه أبو الليث‏:‏ إنما يكون العسل شفاء إذا عرف الإنسان مقداره، ويعرف لأي داء هو‏.‏ فإذا لم يعرف مقداره، ولم يعرف موضعه، فربما يكون فيه ضرر‏.‏ كما أن الله تعالى جعل الماء حياة كل شيء، وربما يكون الماء سبباً للهلاك‏.‏ وقال السدي‏:‏ العسل شفاء الأوجاع التي يكون شفاؤها فيه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ في القرآن بيان للناس من الضلالة‏.‏ وروى أبو الأحوص، عن عبد الله بن مسعود أنه قال‏:‏ العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور‏.‏ وروى الأسود عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ عليكم بالشفاء من القرآن، والعسل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكر من أمر النحل لعلامة لوحدانيتي ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ علموا أن معبودهم لم يغنهم من شيء‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم‏}‏ أي‏:‏ يقبض أرواحكم ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ أي‏:‏ إلى أسفل العمر، وهو الهرم ‏{‏لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ صار بحال لا يعلم ما علم من قبل‏.‏

ويقال‏:‏ لكيلا يعقل من بعد عقله الأول شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ إن الهرم اسوأ العمر، وشره، وقوله‏:‏ ‏{‏لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ‏}‏ أي‏:‏ حتى لا يعلم بعد علمه بالأمور شيئاً، لشدة هرمه، بعد ما كان يعلم الأمور قبل الهرم ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏ على تحويلكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر‏}‏ أي‏:‏ إني محولكم من حال إلى حال تكرهونه، ولا يقدر معبودكم أن يمنعني عن ذلك، والله عليم قدير على ذلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق‏}‏ أي‏:‏ فضّل الموالي على العبيد في المال ‏{‏فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم‏}‏ أي‏:‏ الموالي لا يرضون بدفع المال إلى المماليك ‏{‏فَهُمْ فِيهِ سَوَآء‏}‏ أي‏:‏ لا ترضون لأنفسكم أن يكون عبيدكم معكم شركاء في أموالكم، فكيف ترضون لله تعالى أن تصفوا له شريكاً في ملكه، وصفاته، وتصفوا له ولداً من عباده‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو الذي فضل في المال والولد لا يشرك عبيده في ماله‏.‏ فقد رضيتم بذلك لله تعالى، ولم ترضوا به لأنفسكم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ضرب الله مثلاً للآلهة الباطلة مع الله تعالى‏.‏ ويقال نزلت الآية في وفد نجران حين قالوا في عيسى عليه السلام ما قالوا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ‏}‏ يقول‏:‏ بوحدانية الله تعالى تكفرون، وترضون له ما لا ترضون لأنفسكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ‏(‏72‏)‏ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏73‏)‏ فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ يعني‏:‏ خلق لكم من جنسكم إناثاً ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ‏}‏ أي‏:‏ خلق لكم من نسائكم بَنِينَ ‏{‏وَحَفَدَةً‏}‏ أي‏:‏ ولد الولد‏.‏ ويقال‏:‏ هم الأَعوان، والخدم، والأصهار‏.‏ وروي عن زر بن حبيش، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ الحفدة‏:‏ الأختان‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الخدم، وأنصاره، وأعوانه‏.‏ وعن ابن مسعود أنه قال‏:‏ هم أصهاره‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ البنون بنو الرجل من امرأته‏.‏ والحفدة بنو المرأة من غيره‏.‏ وقال زر بن حبيش‏:‏ الحفدة‏:‏ حشم الرجل‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الولد الصالح‏.‏ وقال أَهل اللغة‏:‏ أصله في اللغة السرعة في المشي، ويقال‏:‏ في دعاء التوتر‏:‏ ونحفد أي‏:‏ ونجتهد في الخدمة والطاعة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ الحلال إن أخذتم به‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏الطيبات‏}‏ الخبز، والعسل، وغيرهما من الأشياء الطيبة، بخلاف رزق البهائم والطيور‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ الآلهة وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏أفبالباطل‏}‏ يقول‏:‏ بالشيطان يصدقون بأن مع الله إلهاً آخر‏.‏ ويقال ‏{‏أفبالباطل يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أفيعبدون الأصنام التي لا تقدر على مضرتهم، ولا على منفعتهم ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ‏}‏ أي‏:‏ يجحدون بوحدانية الله تعالى ويقال‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ‏}‏ فلا يؤمنون برب هذه النعمة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يقدر لهم ‏{‏رِزْقًا مّنَ *** السموات‏}‏ أي‏:‏ إنزال المطر ‏{‏والارض‏}‏ أي‏:‏ والنبات ‏{‏شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يملكون شيئاً من ذلك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إنما نصب ‏{‏شَيْئاً‏}‏ بإيقاع الرزق عليه‏.‏ ومعناه‏:‏ يعبدون ما لا يملك أن يرزقهم شيئاً‏.‏ كما تقول‏:‏ ويخدم من لا يستطيع إِعطاءَه درهماً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ذلك ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الامثال‏}‏ يعني‏:‏ لا تصفوا لله شريكاً فإنه لا إله غيره ‏{‏أَنَّ الله يَعْلَمُ‏}‏ أنه لا شريك له ويقال إن الله يعلم ضرب الأمثال ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ضرب المثل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏76‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ أي‏:‏ وصف الله شبهاً ‏{‏عَبْدًا مَّمْلُوكًا‏}‏ وهو الكافر ‏{‏لاَّ يَقْدِرُ على شَئ‏}‏ يقول‏:‏ لا يقدر على مال ينفقه في طاعة الله ‏{‏وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا‏}‏ أي‏:‏ مالاً حلالاً ‏{‏فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ يتصدق منه ‏{‏سِرّا وَجَهْرًا‏}‏ يقول‏:‏ يتصدق خفية وعلانية وهو المؤمن ‏{‏هَلْ يَسْتَوُونَ‏}‏ في الطاعة مثلاً ‏{‏الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ضرب المثل‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية في عثمان بن عفان‏.‏ والآخر أبو الفيض بن أمية وهو كافر، لا يقدر أن ينفق خيراً لمعاده، وعثمان أنفق لآخرته فهل يستويان‏؟‏ أي‏:‏ هل يستوي الكافر والمؤمن‏؟‏ ويقال ضرب المثل للآلهة‏.‏ ومعناه‏:‏ أن الاثنين المتساويين في الخلق، إذا كان أحدهما قادراً على الإنفاق، والآخر عاجزاً، لا يستويان‏.‏ فكيف يسوون بين الحجارة التي لا تتحرك ولا تعقل، وبين الذي هو على كل شيء قدير‏؟‏ فبيّن الله تعالى علامة ضلالتهم، ثم حمد نفسه، ودل خلقه على حمده، فقال‏:‏ ‏{‏الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ثم زاد في البيان، وضرب مثلاً آخر فقال‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ‏}‏ يعني أخرس وهو الصنم ‏{‏لاَّ يَقْدِرُ على شَئ‏}‏ من مال ولا منفعة ‏{‏وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ‏}‏ يعني‏:‏ ثقل على وليه، وقرابته‏.‏ يعني‏:‏ الصنم عيال، ووبال على عابده‏.‏ ‏{‏أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ‏}‏ يعني‏:‏ حيث يبعثه لا يجيء بخير ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ يعني‏:‏ بالتوحيد ‏{‏وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يدل الخلق على التوحيد‏.‏ ويقال‏:‏ هذا المثل للكافر مع النبي صلى الله عليه وسلم يعني‏:‏ الكافر الذي لا يتكلم بالخير، هل يستوي هو ‏{‏وَمَن يَأْمُرُ بالعدل‏}‏ أي‏:‏ التوحيد ويدعو الناس إليه ‏{‏وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يدعو الناس إليه وهو دين الإسلام‏.‏ وقال السدي‏:‏ المثلان ضربهما الله لنفسه وللآلهة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 80‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏77‏)‏ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏78‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏79‏)‏ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ ما غاب عن العباد ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ قيام الساعة ‏{‏إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏ كرجع البصر ‏{‏أَوْ هُوَ أَقْرَبُ‏}‏ يقول‏:‏ بل هو أقرب‏.‏ أي أسرع‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أخبر الله تعالى أن البعث والإحياء في قدرة الله تعالى، ومشيئته كلمح البصر‏.‏ ولم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، ولكنه وصف سرعة القدرة على الإتيان بها‏.‏ ويقال‏:‏ أو هو أقرب الألف زيادة، ومعناه‏:‏ وهو أقرب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ من البعث وغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ قرأ حمزة والكسائي «أُمَّهاتكم» بكسر الألف‏.‏ والباقون‏:‏ بالضم‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الأصل في الأمهات، ولكن الهاء زيدت مؤكدة، كما زادوها في قولهم‏:‏ أهرقت الماء، وأصله أرقت الماء‏.‏ ‏{‏لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ لا تعقلون شيئاً‏.‏ ويقال‏:‏ لا تعلمون الأشياء كلها‏.‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة‏}‏ تعقلون بها الخير والشر ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تشكروا النعمة‏.‏

ثم بيّن لهم العبرة ليعتبروا بها، ويعرفوا بها وحدانيته فقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ * إلى الطير مسخرات‏}‏ يقول‏:‏ مذللات ‏{‏فِى جَوّ السمآء‏}‏ قال ابن عباس أي‏:‏ في الهواء ‏{‏مَا يُمْسِكُهُنَّ‏}‏ عند قبض الأَجنحة، وعند بسطها ‏{‏إِلاَّ الله إِنَّ فِى ذلك‏}‏ أي‏:‏ فيما ذكرت ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ علامات لوحدانية الله، لمن علم أن معبودهم لم يعنه في ذلك‏.‏ يعني‏:‏ الكفار لا يعلمون متى يبعثون وأيان كلمة الاختصار وأصله أي أوان‏؟‏‏.‏

ثم قال تعالى ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ يعني‏:‏ ربكم رب واحد فاعبدوه، ولا تعبدوا غيره ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لمن آمن به‏.‏ قرأ ابن عامر وحمزة ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون بالياء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ أي‏:‏ خلق لكم البيوت قراراً ومأوًى لكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه سخر لكم الأرض، لتبنوا فيها البيوت‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وفقكم لبناء البيوت لسكناكم، وقراركم، فذكر النعم، والمنن، والدلائل لوحدانيته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام‏}‏ أي‏:‏ من الشعر، والصوف، والوبر، ‏{‏بُيُوتًا‏}‏ أي‏:‏ الفساطيط والخيام ‏{‏تَسْتَخِفُّونَهَا‏}‏ أي‏:‏ تستخفون حملها ‏{‏يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقامتكم‏}‏ أي‏:‏ يوم انتقالكم، وسفركم، ويوم نزولكم ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا‏}‏ أي‏:‏ من أصواف الغنم ‏{‏وَأَوْبَارِهَا‏}‏ يعني‏:‏ الإبل ‏{‏وَأَشْعَارِهَا‏}‏ يعني‏:‏ أشعار المعز ‏{‏أَثَاثاً‏}‏ أي‏:‏ متاع البيت من الفرش، والأكسية‏.‏ وقال قتادة والكلبي‏:‏ يعني‏:‏ المال‏.‏ ‏{‏ومتاعا إلى حِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ المنفعة حتى تعيشون فيه إلى الموت‏.‏ ويقال‏:‏ تنتفعون بها إلى حين تبلى، وتهلك‏.‏ وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو ‏{‏ظَعْنِكُمْ‏}‏ بنصب العين‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالجزم ومعناهما واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 86‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ‏(‏81‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏82‏)‏ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏83‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏85‏)‏ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا‏}‏ أي‏:‏ أشجاراً تستظلون بها‏.‏ ويقال‏:‏ بيوتاً تسكنون فيها ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا‏}‏ أي‏:‏ جعل لكم من الجبال بيوتاً تسكنون فيها‏.‏ ويقال‏:‏ أكناناً يعني‏:‏ الغيران، والأسراب واحدها كنّ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ‏}‏ أي‏:‏ القمص ‏{‏تَقِيكُمُ الحر‏}‏ يعني‏:‏ والبرد اكتفاء أحدهما إذا كان يدل على الآخر‏.‏ وقال قتادة في قوله‏:‏ ‏{‏مّمَّا خَلَقَ ظلالا‏}‏ أي‏:‏ من الشجر وغيره ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا‏}‏ يعني‏:‏ غيراناً في الجبال يسكن فيها ‏{‏تَقِيكُمُ * مِنَ الحرث‏}‏ أي‏:‏ من القطن، والكتان، والصوف‏.‏ قال‏:‏ وكانت تسمى هذه السورة سورة النعم‏.‏ ‏{‏وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ‏}‏ وهي الدروع من الحديد تدفع عنكم قتال عدوكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر من النعم في هذه السورة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعرفون رب هذه النعم‏.‏ فتوحّدوه، وتخلصوا له بالعبادة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ بنصب التاء واللام، ومعناه‏:‏ تسلمون من الجراحات إذا لبستم الدروع، وتسلمون من الحر والبرد إذا لبستم القمص‏.‏

ثم قال‏:‏ بعد ما بيّن العلامات‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي‏:‏ أعرضوا عن الإيمان ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين‏}‏ تبلغهم رسالتي، وتبيّن لهم الهدى من الضلالة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ أي‏:‏ يعرفون أن خالق هذه الأشياء هو الله تعالى، ثم ينكرونها‏.‏ ويقولون‏:‏ هي بشفاعة آلهتنا، وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال السدي‏:‏ يعني‏:‏ يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وأنه صادق، ولا يؤمنون به‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ قال‏:‏ هي المساكن، والأنعام، وما يرزقون منها‏.‏ وسرابيل الحديد والثياب، يعرف هذا الكافرون ‏{‏ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ ويقولون‏:‏ هذا كان لآبائنا، وورثناها‏.‏ ويقال‏:‏ إنكارهم قولهم‏:‏ لولا كذا لكان كذا‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله‏}‏ وذلك أنهم إذا سئلوا من خلقهم‏؟‏ يقولون‏:‏ الله ‏{‏ثُمَّ يُنكِرُونَهَا‏}‏ يعني‏:‏ البعث ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون‏}‏ يعني‏:‏ كلهم كافرون بالتوحيد‏.‏ ويقال‏:‏ جاحدون بالنعم‏.‏

قوله ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ‏}‏ اذكر يوم نبعث ‏{‏فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ نبياً شاهداً على أمته بالرسالة أنه بلغها ‏{‏ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ في الكلام ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ يقول‏:‏ لا يرجعون من الآخرة إلى الدنيا‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ عَتَب يَعْتِب إذا وجد عليه، وأعْتَبَ يُعْتِبُ إذا رجع عن ذنبه، واستعتب يستعتب إذا طلب منهم الرجوع، أي‏:‏ لا يطلب منهم الرجوع إلى الدنيا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب‏}‏ أي‏:‏ الكفار ‏{‏فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ‏}‏ أي‏:‏ لا يهوّن عليهم العذاب حين رأوها ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يمهلون، ولا يؤجلون، ولا يتركون ساعة، ليستريحوا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ‏}‏ أي‏:‏ آلهتهم ‏{‏قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا‏}‏ يعني‏:‏ نعبد ‏{‏مِن دُونِكَ‏}‏ يقولون‏:‏ نعبد دونك، وهم أمرونا بذلك‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ السفلة إذا رأوا شركاءهم‏.‏ يعني‏:‏ أمراءهم ورؤساءهم قالوا‏:‏ ربنا هؤلاء قادتنا الذين كنا ندعو من دونك‏.‏ أي‏:‏ هم أَمرونا بالمعصية فأطعناهم ‏{‏فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول‏}‏ يعني‏:‏ الآلهة، والقادة، وأجابوهم ‏{‏إِنَّكُمْ لكاذبون‏}‏ ما أمرناكم بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏87‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ‏(‏88‏)‏ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم‏}‏ أي‏:‏ استسلموا، وخضعوا، وانقادوا‏.‏ العابد والمعبود، والتابع والمتبوع، يومئذٍ خضعوا كلهم لله تعالى ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ أي‏:‏ اشتغل عنهم آلهتهم بأنفسهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يختلفون‏.‏ ويقال‏:‏ بطل عنهم ما كانوا يقولون من الكذب في الدنيا‏.‏

ثم بيّن عذابهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ صرفوا الناس عن دين الإسلام ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ يعني‏:‏ القادة ‏{‏بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏ من الشرك والتكذيب‏.‏ زدناهم عذاباً فوق عذاب السفلة‏.‏ ويقال‏:‏ التابع والمتبوع زدناهم في كل وقت عذاباً مع العذاب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يجري الله عليهم خمسة أنهار من نحاس ذائب‏.‏ ثلاثة أنهار في مقدار وقت الليل، واثنان في مقدار وقت النهار بما كانوا يفسدون في الدنيا‏.‏ وقال الكلبي نحو هذا‏.‏ قال الفقيه أبو الليث‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف، عن عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود في قوله‏:‏ ‏{‏زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب‏}‏ قال‏:‏ أفاعي في النار‏.‏ وعن ابن مسعود أيضاً قال‏:‏ زيدوا عقارب في النار‏.‏ أنيابها كالنخيل الطوال‏.‏ وعن مجاهد أنه قال‏:‏ في النار عقارب كالبغال، أنيابهن كالرماح، تضرب إحداهن على رأسه، فيسقط لحمه على قدميه‏.‏ وقال‏:‏ يسألون الله تعالى المطر في النار ألف سنة، ليسكن ما بهم من شدة الحر، والغم، فيظهر لهم سحابة، فيظنون، أنها تمطر عليهم، فجعلت السحابة تمطر عليهم الغيث‏.‏ فإذا هي تمطر عليهم بالحيات، والعقارب‏.‏ ويقال‏:‏ يسلط عليهم الجوع‏.‏ ويقال‏:‏ الجرب‏.‏ ويقال‏:‏ الخوف‏.‏

قوله ‏{‏وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مّنْ أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ رسولاً من الآدميين ‏{‏وَجِئْنَا بِكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏شَهِيدًا على هَؤُلآء‏}‏ أي‏:‏ على أمتك ‏{‏وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏ من الأمر والنهي‏.‏ إلا أن بعضه مفسر، وبعضه مجمل، يحتاج إلى الاستخراج، والاستنباط‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ما يسأل الناس عن شيء إلا في كتاب الله تبيانه، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏تِبْيَانًا لّكُلّ شَئ‏}‏ وقال علي بن أبي طالب‏:‏ كل شيء علمه في الكتاب إلا أن آراء الرجال تعجز عنه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ أي ‏{‏هُدًى‏}‏ من الضلالة ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ نعمة لمن آمن به، وعمل بما فيه ‏{‏وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ بالجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ أي‏:‏ بتوحيد الله، وشهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان إلى الناس، والعفو عن الناس‏.‏ ويقال‏:‏ الإحسان القيام بالفرائض ‏{‏وَإِيتَآء ذِى القربى‏}‏ أي‏:‏ صلة الرحم ‏{‏وينهى عَنِ الفحشاء‏}‏ أي‏:‏ عن الزنى ويقال‏:‏ جميع المعاصي ‏{‏والمنكر‏}‏ يعني‏:‏ ما لا يعرف في شريعة، ولا في سنة‏.‏ ويقال‏:‏ المنكر ما وعد الله عليه النار ‏{‏والبغى‏}‏ يعني‏:‏ الاستطالة، والكبر‏.‏ فقد أمر بثلاثة أشياء، ونهى عن ثلاثة أشياء، وجمع في هذه الأشياء الستة علم الأولين والآخرين، وجميع الخصال المحمودة‏.‏ وروي عن عثمان بن مظعون أنه قال‏:‏ ما أسلمت يوم أسلمت إلا حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه كان يدعوني، فيعرض عليَّ الإِسلام، فاستحييت منه، فأسلمت، ولم يقر الإِسلام في قلبي، فمررت به ذات يوم وهو بفناء بابه، جالساً محتبياً، فدعاني، فجلست إليه، فبينما هو يحدثني، إذ رأيت بصره شخص إلى السماء حتى رأيت طرفه قد انقطع، ثم رأيته خفضه عن يمينه، ثم ولاَّني وركه ينفض رأسه كأنه يستفهم شيئاً يقال له‏:‏ ثم دعا فرفع رأسه إلى السماء، ثم خفضه حتى وضعه عن يساره، ثم أقبل عليَّ محمراً وجهه، يفيض عرقاً، فقلت‏:‏ يا رسول الله ما رأيتك صنعت هذا في طول ما كنت أجالسك فقال‏:‏ «وَلَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ» قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ «بَيْنَمَا أُحَدِّثُكَ إذْ رَفَعْتُ بَصَرِي إلى السَّمَاءِ، فَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ يَنْزِلُ عَلَيَّ، فَلَمْ تَكُنْ لِي هِمَّةٌ غَيْرَهُ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ يَمِينِي فَقَالَ‏:‏ يا مُحَمَّدُ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآء ذِى القربى‏}‏ إلى آخر الآية»‏.‏ قال عثمان‏:‏ فوقر الإيمان في قلبي، فآمنت، وصدقته‏.‏ قال‏:‏ فأتيت أبا طالب، فأخبرته بما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا معشر قريش، اتبعوا ابن أخي، ترشدوا، وتفلحوا، ولئن كان محمد صادقاً أو كاذباً، ما يأمركم إلاَّ بمكارم الأخلاق‏.‏ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عمه اللين، قال‏:‏ «يا عَمَّاهُ أَتَأْمُرُ النَّاسَ أَنْ يَتَّبِعُونِي وَتَدَعُ نَفْسَكَ» وجهد عليه، فأبى أن يسلم فنزل ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 56‏]‏ إلى آخر الآية‏.‏ قال الفقيه أبو الليث‏:‏ حدثنا أبو منصور عبد الله الفرائضي بسمرقند بإسناده عن عكرمة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ فقال له‏:‏ يا ابن أخي أعد عليَّ، فأعاد عليه، فقال‏:‏ والله يا ابن أخي إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هذا بقول البشر‏.‏ وقال قتادة في قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان‏}‏ الآية‏.‏ قال‏:‏ ليس من خلق حسن، كان أهل الجاهلية يستحسنونه بينهم إلا أمر الله به، وليس من خلق سيِّئ يتعايرونه بينهم إلاَّ نهى الله عنه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِظُكُمُ‏}‏ أي‏:‏ يأمركم، وينهاكم عن هذه الأَشياء التي ذكرها الله في الآية ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تتعظون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏91- 93‏]‏

‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏91‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏92‏)‏ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم‏}‏ يقول‏:‏ إذا حلفتم بالله، فأتموا له بالفعل‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بِعَهْدِ الله‏}‏ يعني‏:‏ العهود التي بينكم وبين الله تعالى، والعهود التي بينكم وبين الناس‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنقُضُواْ الايمان‏}‏ يعني‏:‏ لا تنكثوا العهود ‏{‏بَعْدَ تَوْكِيدِهَا‏}‏ يعني‏:‏ بعد تغليظها، وتشديدها، ‏{‏وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً‏}‏ أي‏:‏ شهيداً على إتمام العهود، والوفاء بها‏.‏ ويقال‏:‏ حفيظاً على ما قال الفريقان ‏{‏إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ في وفاء العهد، والنقض‏.‏

ثم ضرب الله تعالى مثلاً فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ‏}‏ في نقض العهد ‏{‏كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا‏}‏ وهي ريطة الحمقاء بنت عمرو بن كعب بن سعد وهي أم أخنس بن شريق الزهري ‏{‏مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنكاثا‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما أبرمته، وأحكمته، كانت إذا غزلت الشعر والكتان نقضته، ثم غزلته‏.‏ فقال‏:‏ ولا تنقضوا العهد بعد توكيده، كما نقضت المرأة غزلها، وقال القتبي‏:‏ أي لا تؤكدوا على أنفسكم الأيمان، والعهود، ثم تنقضوا ذلك، فتكونوا كامرأة غزلت ونسجت، ثم نقضت ذلك النسج فجعلته أنكاثاً، والأنكاث ما نقض من غزل الشعر وغيره، واحدها نكث‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ دغلاً وخيانة ‏{‏أَن تَكُونَ أُمَّةٌ‏}‏ أي‏:‏ فريق منكم ‏{‏هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ هي أكثر وأغنى من أمة، من فريق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في كندة، ومراد، وذلك أنه كان بينهم قتال، حتى كَلَّ الظهر‏.‏ ثم توادعوا لستة أشهر، حتى يصلح الظهر أي‏:‏ الدواب، ويجم الخيل‏.‏ فلما مضت خمسة أشهر، أمر قيس بن معديكرب بالجهاد إليهم، فقالوا‏:‏ قد بقي من الأجل شهر، فمكث حتى علم أنه يأتيهم بعد انقضاء الأجل بيوم، ثم سار إليهم، فإذا هو يوم انقضاء الأجل، فقتلوه، وهزموا قومه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 94‏]‏ يعني‏:‏ عهودكم بالله دخلاً أي‏:‏ مكراً وخديعة بينكم ‏{‏أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أن تكون أمة أكثر من أمة فينقضون العهد، لأجل كثرتهم، فلا تحملنكم الكثرة على نقض العهد ‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إنما يبتليكم الله بالكثرة، لنقض العهد والوفاء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانوا يحالفون الحلفاء، فإِذا وجدوا أكثر منهم وأعز، نقضوا، وحالفوا الأعز، فنزل ‏{‏إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يختبركم بنقض العهود وبالكثرة ‏{‏وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين ويبيّن لكم ما نقضتم من العهود، ويجازيكم به‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة‏}‏ أي‏:‏ على ملة واحدة‏.‏ وهي الإسلام ‏{‏ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآء‏}‏ يعني‏:‏ يخذل من علم أنه ليس من أهل الإسلام ‏{‏وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ يكرم بالإِسلام من هو أهل لذلك ‏{‏وَلَتُسْئَلُنَّ‏}‏ فهذه اللام لام القسم، والتأكيد يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‏{‏عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسألكم ‏{‏عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الوفاء، والنقض بالعهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 97‏]‏

‏{‏وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏94‏)‏ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏95‏)‏ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا‏}‏ أي‏:‏ إنّ ناقض العهد يزل عن الطاعة، كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة ‏{‏وَتَذُوقُواْ السوء‏}‏ أي‏:‏ تتجرعوا العقوبة ‏{‏بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي‏:‏ صرفتم الناس عن دين الإسلام ‏{‏وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ شديد في الآخرة ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله‏}‏ أي‏:‏ لا تختاروا على عهد الله، والحلف به ‏{‏ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ عرضاً يسيراً من الدنيا ‏{‏إِنَّمَا عِنْدَ الله‏}‏ في الآخرة من الثواب الدائم ‏{‏هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ثواب الجنة ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أَن الآخرة خير من الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ إن كنتم تصدقون بثوابه‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت الآية في رجل من حضرموت يقال له‏:‏ عبدان بن الأشوع‏.‏ قال‏:‏ يا رسول الله إنّ امرأ القيس الكندي جاورني في أرض، فاقتطع أرضي، فذهب بها، وغلبني عليها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَيَشْهَدُ لَكَ أَحَدٌ عَلَى ما تَقُولُ ‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله إِنَّ القوم كلهم يعلمون أنِّي صادق فيما أقول، ولكنه أكرم عليهم مني عليهم‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرئ القيس ‏"‏ مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ ‏"‏ قال‏:‏ الباطل، والكذب‏.‏ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف‏.‏ فقال عبدان‏:‏ إنه لفاجر، وما يبالي أن يحلف‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ شُهُودٌ فَخُذْ يَمِينَهُ ‏"‏ فقال عبدان‏:‏ وما لِي يا رسول الله إلا يمينه‏؟‏ فقال‏:‏ «لا» فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف‏.‏ فلما قام ليحلف، أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له‏:‏ ‏"‏ انْصَرِفْ ‏"‏‏.‏ فانصرف من عنده‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ‏}‏ أي‏:‏ ما عندكم من أمور الدنيا يفنى ‏{‏وَمَا عِندَ الله بَاقٍ‏}‏ أي‏:‏ ثواب الله في الجنة دائم لأَهلها ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ عن اليمين وأقروا بالحق‏.‏ ويقال‏:‏ الذين صبروا على الإيمان، وأقروا بالحق ‏{‏أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بالإحسان الذي كانوا يعملون في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ يجزيهم بأحسن أعمالهم، ويبقى سائر أعمالهم فضلاً‏.‏ قال الكلبي‏:‏ فلما نزلت هاتان الآيتان، قال امرؤ القيس‏:‏ أَمَّا ما عندي فينفد، وأمَّا صاحبي فيجزى بأَحسن ما كان يعمل‏.‏ اللَّهم إنه صادق فيما قال‏.‏ لقد اقتطعت أرضه، والله ما أدري كم هي، ولكنه يأخذ ما يشاء من أرض ومثلها معها بما أكلت من ثمارها‏.‏ فنزل‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ‏}‏ يعني‏:‏ لا يقبل العمل منه ما لم يكن مؤمناً‏.‏

فإذا كان مؤمناً، وعمل صالحاً، يقبل منه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياة طَيّبَةً‏}‏ في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ يجعل حياته في طاعة الله‏.‏ ويقال‏:‏ فلنقنع منه باليسير من الدنيا‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الكسب الطيب، والعمل الصالح‏.‏ وعن علّي أنه قال‏:‏ القناعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الرزق الحلال، وعبادة الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم‏}‏ أي‏:‏ ثوابهم ‏{‏بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يثيبهم بإحسانهم، ويعفو عن سيئاتهم‏.‏ قرأ ابن كثير، وعاصم وابن عامر في إحدى الروايتين ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء‏.‏ واتفقوا في قوله‏:‏ «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ» بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 101‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏98‏)‏ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏99‏)‏ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ‏(‏100‏)‏ وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏101‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله‏}‏ يعني‏:‏ إذا أردت أن تقرأ القرآن في الصلاة، وفي غير الصلاة، فتعوذ بالله‏.‏ وهذا كقولك‏:‏ إذا أكلت فقل‏:‏ بسم الله يعني‏:‏ إذا أردت أن تأكل وهذا مثل قوله ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الغائط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ يعني‏:‏ إذا أردتم القيام للصلاة‏.‏ وقوله ‏{‏مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ يعني‏:‏ اللعين‏.‏ ويقال‏:‏ الخبيث‏.‏ ويقال‏:‏ المرجوم‏.‏ ويقال‏:‏ فيه تقديم‏.‏ ومعناه‏:‏ فاستعذ بالله، إذا قرأت القرآن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ‏}‏ ليس له غلبة، ولا حجة‏.‏ ويقال‏:‏ ليس له نفاذ الأمر ‏{‏عَلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ صدقوا بتوحيد الله تعالى ‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يثقون به، ولا يثقون بغيره‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا سلطانه‏}‏ أي غلبته وحجته ‏{‏على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ يطيعونه من دون الله تعالى‏.‏ فمن أطاعه فقد تولاه ‏{‏والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ أشركوا بعبادة ربهم إياه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أي بالله تعالى‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ‏}‏ لم يرد أنهم بإبليس كافرون، ولو كان هكذا، لكانوا مؤمنين‏.‏ وإنَّما أراد به الذين هم من أجله مشركون بالله تعالى، كما يقال‏:‏ صار فلان بك عالماً أي‏:‏ من أجلك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً‏}‏ يعني‏:‏ ناسخة ‏{‏مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ منسوخة‏.‏ أي‏:‏ نسخنا آية بآية‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إِنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه آية فيها شدة، أخذ الناس بها، وعملوا ما شاء الله أن يعملوا، فيشق ذلك عليهم‏.‏ فينسخ الله تعالى هذه الشدة، ويأتيهم بما هي ألين منها، وأهون عليهم، رحمة من الله لهم، فيقول لهم كفار قريش‏:‏ والله ما محمد إِلاَّ يسخر بأصحابه، يأمرهم اليوم بأمر، وغداً يأتيهم بما هو أهون عليهم منه‏.‏ وما يعلمه إلا عابس، غلام حويطب بن عبد العزى، ويسار بن فكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهما، فيحدثهما، ويعلمهما، وكانا يقرآن كتابهما بالعبرانية‏.‏ فنزل ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ‏}‏ يعني‏:‏ بما يصلح للخلق ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ‏}‏ أي‏:‏ مختلق من تلقاء نفسك ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله أمرك بما يشاء، نظراً لصلاح العباد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الآية تقديم، ومعناه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءايَةً مَّكَانَ ءايَةٍ‏}‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ‏}‏ فتقول على الله تعالى الكذب‏.‏ قلت‏:‏ كذا ثم نقضته، فجئت بغيره‏.‏ ثم قال في التقديم‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏102- 103‏]‏

‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ‏(‏102‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد نزل جبريل بالقرآن، والتشديد لكثرة نزوله‏.‏ ويقال‏:‏ نَزَّلَ بمعنى تَنَزَّلَ‏.‏ كما يقال‏:‏ قَدَّمَ بمعنى تَقَدَّمَ‏.‏ وَبَيَّنَ‏:‏ بمعنى تَبَيَّنَ‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏نَزَّلَهُ‏}‏ بمعنى‏:‏ تلاه، وبلغه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس‏}‏ يعني‏:‏ جبريل الذي يأتيك بالناسخ والمنسوخ ‏{‏مِن رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ من عند ربك‏.‏ ويقال‏:‏ من كلام ربك ‏{‏بالحق‏}‏ أي‏:‏ بالوحي‏.‏ ويقال‏:‏ بالصدق‏.‏ ويقال‏:‏ للحق‏.‏ ويقال‏:‏ لصلاح الخلق ‏{‏لِيُثَبّتَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ ليحفظ قلوب الذين آمنوا على الإسلام‏.‏ ويقال‏:‏ لِتَطمئن إليه قلوب الذين آمنوا ‏{‏وهدى‏}‏ من الضلالة ‏{‏وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ‏}‏ بالجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أن كفار قريش يقولون‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ يعنون‏:‏ جبراً ويساراً‏.‏ وروى حصين عن عبد الله بن مسلم قال‏:‏ كان لنا غلامان من أهل اليمن نصرانيان، اسم أحدهما يسار، والآخر جبر، صيقليان‏.‏ وكانا يقرآن بلسانهما، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهما، يسمع منهما‏.‏ فقال المشركون‏:‏ إنما يتعلم منهما، فأكذبهم الله تعالى حيث قال‏:‏ ‏{‏لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ‏}‏ أي‏:‏ رومي اللسان‏.‏ وقال مقاتل كان غلام لعامر بن الحضرمي اسمه يسار، يهودي أعجمي اللسان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا آذاه كفار قريش يدخل عليه، ويحدثه، فقال المشركون‏:‏ إنما يعلمه يسار‏.‏ فقال الله تعالى رداً عليهم‏:‏ ‏{‏لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ‏}‏ أي‏:‏ يميلون إليه، ويزعمون أنه يعلمه أعجمي أي‏:‏ عبراني‏.‏ وأصل الإلحاد الميل ‏{‏وهذا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ مفقه بلغتهم‏.‏ وروي عن طلحة بن عمير أنه قال‏:‏ بلغني أن خديجة كانت تختلف إلى غلام ابن الحضرمي، وكان نصرانياً، وكان صاحب كتب‏.‏ يقال له‏:‏ جبر وكانت قريش تقول‏:‏ إنَّ عبد ابن الحضرمي يعلم خديجة، وخديجة تعلم محمداً صلى الله عليه وسلم، فنزل ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ‏}‏ ثم أسلم جبر بعد ذلك، وحسن إسلامه، وهاجر مع سيده‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏رُوحُ القدس‏}‏ بجزم الدال‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏القدس‏}‏ بضم الدال وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بنصب الياء والحاء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ بضم الياء وكسر الحاء ومعناهما واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏104‏)‏ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏105‏)‏ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏106‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ القرآن ‏{‏لاَ يَهْدِيهِمُ الله‏}‏ أي‏:‏ لا يوفقهم الله، ولا يكرمهم، لقلة رغبتهم في الإيمان‏.‏ ويقال‏:‏ لا ينجيهم في الآخرة من النار ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله وَأُوْلئِكَ هُمُ الكاذبون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ معناه ‏{‏إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلاَّ الله، كذبوا بها، وهؤلاء أكذب الكذبة‏.‏

قوله ‏{‏مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه‏}‏ فعليهم غضب من الله على معنى التقديم‏.‏

ثم استثنى فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ‏}‏ أي‏:‏ أكره على الكفر، وتكلم بالكفر مكرهاً ‏{‏وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان‏}‏ أي‏:‏ قلبه معتقد عليه‏.‏ وهو عمار بن ياسر، وأصحابه‏.‏ وذلك أن ناساً من أهل مكة آمنوا، فخرجوا مهاجرين، فأدركتهم قريش بالطريق، فعذبوهم، فكفروا مكرهين، فنزلت هذه الآية فيهم‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله‏.‏ وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أن عمار بن ياسر أخذه بنو المغيرة، فطرحوه في بئر ميمونة حتى أمسى، فقالوا له‏:‏ اكفر بمحمد، وأشرك بالله فبايعهم على ذلك، وقلبه كاره فنزلت الآية‏.‏ وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمار بن ياسر وهو يبكي، فجعل يمسح الدموع من عينيه، ويقول‏:‏ أخذني الكفار، ولم يتركوني حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ ‏"‏ قال‏:‏ مطمئن بالإيمان‏.‏ فقال‏:‏ «إنْ عَادُوا فَعُدْ»‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أسلم جبر مولى ابن الحضرمي، فأخذه مولاه وعذبه، حتى رجع إلى اليهودية‏.‏ ثم رجع إلى هؤلاء النفر، فنزلت الآية ‏{‏إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان‏}‏ ثم بيّن حال الذين ثبتوا على الكفر فقال‏:‏ ‏{‏ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا‏}‏ أي‏:‏ فتح صدره بالقبول‏.‏ يعني‏:‏ قبل الكفر طائعاً وهو عبد الله بن سعد بن أبي سرح ارتدّ ولحق بمكة ‏{‏فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ شديد في الآخرة ‏{‏ذلك‏}‏ العذاب ‏{‏ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة‏}‏ أي‏:‏ اختاروا الدنيا ‏{‏على الاخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى‏}‏ أي‏:‏ لا يرشد إلى دينه ‏{‏القوم الكافرين‏}‏ أي‏:‏ لا يرشدهم إلى دينه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏108- 110‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ‏(‏108‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏109‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏110‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ مجازاة لهم ‏{‏وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم‏}‏ أي‏:‏ ختم على قلوبهم، وسمعهم، وأبصارهم، ‏{‏وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون‏}‏ أي‏:‏ التاركون لأمر الله تعالى ‏{‏لاَ جَرَمَ‏}‏ أي‏:‏ حقاً ‏{‏أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون‏}‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في عمار بن ياسر، وأبويه، وبلال، وصهيب، وخباب بن الأرت، عذبهم المشركون، ثم هاجروا إلى المدينة، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا‏}‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ‏}‏ يقول‏:‏ عذبهم أهل مكة ‏{‏ثُمَّ جاهدوا‏}‏ مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَصَبَرُواْ‏}‏ على البلاء، وصبروا على دينهم، وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم على طاعة الله تعالى ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ أي‏:‏ من بعد الفتن‏.‏ ويقال‏:‏ من بعد الهجرة ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة‏.‏ وقد ذكرناه في سورة النساء‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ‏}‏ بفتح الفاء والتاء، أي‏:‏ أصابتهم الفتنة‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏فَتَنُواْ‏}‏ على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 111‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ‏}‏، صار نصباً لنزع الخافض، ومعناه‏:‏ إن ربك من بعدها لغفور رحيم‏.‏ في ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى‏}‏ أي‏:‏ تحضر‏.‏ ويقال‏:‏ معناه واذكروا ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا‏}‏ يعني‏:‏ كل إنسان يخاصم عن نفسه، ويذبُّ عنها، ويقول‏:‏ نفسي نفسي، وذلك حين زفرت جهنم زفرة، فلا يبقى ملك مقرب، ولا نبي مرسل، إلا جثا على ركبتيه‏.‏ ويقول‏:‏ ربِّ نفسي نفسي، أي‏:‏ أريد نجاة نفسي‏.‏ ‏{‏وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ‏}‏ أي‏:‏ كل نفس برة أو فاجرة جزاء ما عملت في دار الدنيا من خير أو شر ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا ينقصون من حسناتهم، ولا يزادون على سيئاتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏112- 117‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏112‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ‏(‏113‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏114‏)‏ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏115‏)‏ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ‏(‏116‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ يقول‏:‏ وصف الله شبهاً ‏{‏قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً‏}‏ يعني‏:‏ مكة من العدو ‏{‏مُّطْمَئِنَّةً‏}‏ من العدو أي‏:‏ ساكنة مقيمة أهلها بمكة ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا‏}‏ أي‏:‏ يحمل إليها طعامها، ورزق أهلها ‏{‏رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ يعني‏:‏ موسعاً من كل أرض، يحمل إليها الثمار وغيرها ‏{‏فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله‏}‏ أي‏:‏ طغت وبطرت‏.‏ ويقال‏:‏ كفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع‏}‏ أي‏:‏ عاقبهم الله تعالى سبع سنين‏.‏ ومعنى اللباس هنا‏:‏ سوء الحال، واصفرار الوجوه، ‏{‏والخوف‏}‏ يعني‏:‏ خوف العدو، وخوف سرايا النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ عقوبة لهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال‏:‏ «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ‏.‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» فاستجاب الله دعاءه، فوقع القحط والجدوبة، حتى اضطروا إلى أكل الميتة والكلاب‏.‏ قال القتبي‏:‏ أصل الذوق بالفم‏.‏ ثم يستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختيار ‏{‏فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف‏}‏ يعني‏:‏ ابتلاهم الله بالجوع والخوف، وظهر عليهم من سوء آثارهم، وتغير الحال عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب‏}‏ أي‏:‏ الجوع ‏{‏وَهُمْ ظالمون‏}‏ أي‏:‏ كافرون‏.‏ ثم إن أهل مكة بعثوا أبا سفيان بن حرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله ما هذا البلاء، هبك عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء‏؟‏ فأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحمل إليهم الطعام، فحمل إليهم الطعام، ولم يقطع عنهم وهم مشركون، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلَلاً طَيّباً‏}‏ أي‏:‏ من الحرث، والأنعام، ‏{‏حلالا طَيّباً‏}‏ يعني‏:‏ وهم خزاعة وثقيف ‏{‏واشكروا نِعْمَتَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إن كنتم تريدون بذلك رضاء الله وعبادته‏.‏ فإن رضاه أن تستحلوا ما أحلّ الله، وتحرّموا ما حرّم الله‏.‏

ثم بيّن المحرمات فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ذبح بغير اسم الله ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ أي‏:‏ أجهد إليَّ بشيء مما حرّم الله عليه ‏{‏غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ‏}‏ في أكله أي‏:‏ لا يأكل فوق حاجته‏.‏ ويقال‏:‏ غير مفارق الجماعة، ولا عاد عليهم ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ فيما أكل ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ حين رخص له في أكل الميتة عند الاضطرار‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب‏}‏ أي‏:‏ لا تقولوا يا أهل مكة فيما أحللت لكم ‏{‏هذا حلال‏}‏ على الرجال، ‏{‏وهذا حَرَامٌ‏}‏ على النساء‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية تنبيه للقضاة، والمفتين، كي لا يقولوا قولاً بغير حجة وبيان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب‏}‏ أي‏:‏ بتحريم البحيرة والسائبة ‏{‏إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يفوزون، ولا ينجون من العذاب ‏{‏متاع قَلِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ عيشهم في الدنيا قليل ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 123‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏118‏)‏ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏119‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏120‏)‏ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏121‏)‏ وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏122‏)‏ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ‏}‏ يقول‏:‏ مالوا عن الإسلام، وهم اليهود ‏{‏حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ في القرآن من قبل هذه السورة في سورة الأنعام ‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ بتحريم ما حرّمنا عليهم ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بكفرهم، فحرَّمنا عليهم الأشياء عقوبة لهم ‏{‏ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة‏}‏ أي‏:‏ عملوا المعصية بجهالة‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل سوء يعمله العبد فهو فيه جاهل، وإن كان يعلم أن ركوبه سيئة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ‏}‏ أي‏:‏ العمل ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا‏}‏ أي‏:‏ من بعد السيئة ويقال‏:‏ من بعد التوبة ‏{‏لَغَفُورٌ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ إماماً يقتدى به ‏{‏قانتا‏}‏ أي‏:‏ مطيعاً لربه‏.‏ وروى عامر عن مسروق أنه قال‏:‏ ذكر عند عبد الله بن مسعود معاذ بن جبل فقال عبد الله بن مسعود‏:‏ كان معاذ بن جبل أمةً قانتاً‏.‏ فقال رجل‏:‏ وما الأُمة‏؟‏ قال الذي يعلِّم الناس الخير، والقانت الذي يطيع الله ورسوله‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إنَّما سماه أمةً، لأنه كان سبب الاجتماع‏.‏ قال‏:‏ وقد يجوز أنه سماه أمةً لأنه اجتمع عنده خصال الخير‏.‏ ويقال‏:‏ إنّما سماه أمةً، لأنه آمن وحده حين لم يكن مؤمن غيره‏.‏ وهذا كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يَجيءُ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ وَحْدَهُ»‏.‏ وقد كان أسلم قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم حين لَم يكن بمكة مؤمن غيره، وتابعه ورقة بن نوفل، وعاش ورقة بن نوفل إلى وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنزل عليه الوحي‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏حَنِيفًا مُّسْلِمًا‏}‏ أي‏:‏ مستقيماً مائلاً عن الأديان كلها ‏{‏وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين‏}‏ أي‏:‏ مع المشركين على دينهم‏.‏ وأصله ولم يكن فحذفت النون لكثرة استعمال هذا الحرف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏شَاكِراً لاّنْعُمِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما أنعم الله عليه ‏{‏اجتباه‏}‏ أي‏:‏ اصطفاه، واختاره للنبوة، ‏{‏وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى دين قائم وهو الإسلام ‏{‏وءاتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً‏}‏ يقول‏:‏ أكرمناه بالثناء الحسن‏.‏ ويقال‏:‏ بالنبوة‏.‏ ويقال‏:‏ بالولد الطيب ‏{‏وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين‏}‏ يعني‏:‏ مع الأنبياء في الجنة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ أي‏:‏ بعد هذه الكرامة التي أعطيناها إياك، أمرناك ‏{‏أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ أي‏:‏ دين إبراهيم‏.‏ يعني‏:‏ استقم عليه ‏{‏حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ على دينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 128‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏124‏)‏ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏125‏)‏ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ‏(‏126‏)‏ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ‏(‏127‏)‏ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ إنما أمروا في السبت بالقعود عن العمل ‏{‏على الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ في يوم الجمعة، وذلك أن موسى عليه السلام أمرهم أن يتفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوماً واحداً، فيعبدوه، ولا يعملوا فيه شيئاً من أمر الدنيا، وستة أيام لصناعتهم، ومعايشهم، ويتفرغوا في يوم الجمعة‏.‏ فأبوا أن يقبلوا ذلك اليوم، وقالوا‏:‏ إنَّما نختار السبت، اليوم الذي فرغ الله فيه من أمر الخلق‏.‏ فجعل ذلك عليهم، وشدد عليهم، ثم جاءهم عيسى بالجمعة، فاختاروا يوم الأحد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في السبت اتَّبعوه‏.‏ وتركوا الجمعة‏.‏ وروى همام عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ» يعني‏:‏ يوم الجمعة‏.‏ فهذا يومهم الذي فرض عليهم، فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، واليهود غداً، والنصارى بعد غد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يقضي بينهم ‏{‏يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين، فبيّن لهم الحق معاينة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ إلى دين ربك، وإلى طاعة ربك ‏{‏بالحكمة‏}‏ يعني‏:‏ بالنبوة والقرآن ‏{‏والموعظة الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ عظهم بالقرآن ‏{‏وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي‏:‏ حاجهم، وناظرهم بالحجة والبيان‏.‏ ويقال‏:‏ باللين‏.‏ وفي الآية دليل أن المناظرة، والمجادلة، في العلم جائزة، إذا قصد بها إظهار الحق‏.‏ وهذا مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وقولوا ءَامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل ربى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ‏}‏ أي‏:‏ عن دينه ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ لدينه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك حين قتل المشركون حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ومثلوا به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَئِنْ أمْكَنَنَا اللَّهُ لَنُمَثِّلَنَّ بِالأحْيَاءِ فَضْلاً عَنِ الأمْوَاتِ»‏.‏ فنزل ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ الآية‏.‏ وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بالحال التي هو بها حين مثل به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لأمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ مِنْهُمْ»‏.‏ فلما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما به من الوجع‏.‏ قالوا‏:‏ لئن ظفرنا بهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب أحد‏.‏ فنزل ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ‏}‏ ‏{‏وَلَئِن صَبَرْتُمْ‏}‏ فلم تعاقبوا، ولم تمثلوا ‏{‏لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين‏}‏ من المثلة أي‏:‏ ثواب الصبر خير من المكافأة‏.‏ ثم صارت الآية عامة في وجوب القصاص، أنه لا يجوز إلا مثلاً بمثل، والعفو أفضل‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏واصبر‏}‏ يعني‏:‏ أثبت على الصبر ‏{‏وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله‏}‏ يعني‏:‏ ألهمك ووفقك للصبر ‏{‏وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على كفار قريش إن لم يسلموا ‏{‏وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ قرأ ابن كثير ‏{‏فِى ضَيْقٍ‏}‏ بكسر الضاد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب‏.‏ ومعناهما واحد‏.‏ أي‏:‏ لا يضيق صدرك مما يقولون لك، ويصنعون بك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت الآية في المستهزئين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا‏}‏ أي‏:‏ معين للذين اتقوا الشرك ‏{‏والذين هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ في العمل‏.‏ ويقال‏:‏ معين الذين اتقوا مكافأة المسيء ‏{‏والذين هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ إلى من أساء إليهم‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الإسراء

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ‏}‏ يقول‏:‏ عجبٌ من أمر الله الذي أسرى‏.‏ ويقال‏:‏ تنزيه لله تعالى‏.‏ وروى موسى بن طلحة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبحان‏.‏ فقال‏:‏ «نَزَّهَ الله نَفْسَهُ عَنِ السُّوءِ»‏.‏ وروي عن عليّ بن أبي طالب، أن ابن أبي الْكَوَّاءَ سأله عن سبحان، فقال عليّ‏:‏ كلمة الله لنفسه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه سبحوا الله ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ أدلج برسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لَيْلاً‏}‏ أي‏:‏ في ليلة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أسرى‏}‏ يعني‏:‏ سار بعبده ليلاً ‏{‏مّنَ المسجد الحرام‏}‏ أي‏:‏ مكة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ من بيت أم هانئ ‏{‏إلى المسجد الاقصى‏}‏ يعني‏:‏ إلى بيت المقدس‏.‏ قال الفقيه‏:‏ أخبرني الثقة بإسناده عن أبي سعيد الخدري‏.‏ قال‏:‏ حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن الليلة التي أسرى به فيها، فقال‏:‏ ‏"‏ أوتِيتُ بِدَابَّةٍ هِيَ أَشْبَهُ الدَّوَابِّ بِالبَغْلِ وَهُوَ البُرَاقُ، وَهُوَ الَّذِي كَان يَرْكَبُهُ الأَنْبِيَاءِ ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فَانْطَلَقَ بِي يَضَعُ يَدَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِهِ، فَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمِيني‏:‏ يا مُحَمَّدُ عَلَى رِسْلِكَ‏.‏ فَمَضَيْتُ وَلَمَّا أعَرِّجْ عَلَيْهِ، ثُمَّ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي فَمَضَيْتُ‏.‏ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينةٍ، فَمَدَّتْ يدَيْهَا، وَقَالَتْ‏:‏ عَلَى رِسْلِكَ فَمَضَيْتُ‏.‏ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْهَا‏.‏ ثُمَّ أَتَيْتُ البَيْتَ المَقْدِسَ‏.‏ أوْ قَالَ المَسْجِدَ فَنَزَلْتُ وَأَوْثَقْتَهُ بِالحَلقَةِ الَّتِي كَانَتِ الأنْبِياءُ يُوثِقُونَ بِهَا، ثُمَّ دَخَلْتُ، المَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ، فَقُلْتُ‏:‏ يا جِبْرِيلُ سَمِعْتُ نِداءً عَنْ يَمينِي، فَقَالَ‏:‏ ذاكَ داعِي اليَهُودِيَّةِ، أما إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَهَوَّدَتْ أُمَّتُكَ‏.‏ فَقُلْتُ‏:‏ وَسَمِعْتُ نِداءً عَنْ شِمَالِي‏.‏ قالَ‏:‏ كانَ ذلك دَاعِيَ النَّصَارَى، أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهِ لَتَنَصَّرَتْ أُمَّتُكَ وَأمَّا المَرْأَةُ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزَيَّنَتْ لَكَ‏.‏ أمَا إنَّكَ لَوْ وَقَفْتَ عَلَيْهَا لاخْتَارَتْ أمَّتُكَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ‏.‏ قالَ‏:‏ ثُمَّ أوتِيتَ بِإنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا فِيهِ لَبَنٌ، وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ‏.‏ فَقَالَ لِي‏:‏ اشْرَبْ أيَّهُمَا شِئْتَ فأَخَذْتُ اللَّبَنَ وَشَربْتُ‏.‏ فَقَالَ أَصَبْتَ الفِطْرَةَ، أَيْ أُعْطِيَتْ أُمَّتُكَ الإسْلاَم‏.‏ أَمَا إنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَةَ لَغَوَتْ أمَّتُكَ‏.‏ ثُمَّ جِيءَ بِالمِعْرَاجِ الْذِي تَعْرُجُ فِيهِ أرْوَاحُ بَنِي آدَمَ‏.‏ فَإذا هُوَ أَحْسَنُ ما رَأَيْتُ فَعُرِجَ بِنَا فيهِ ‏"‏‏.‏ وذكر قصة طويلة فنزل ‏{‏سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم من أول الليل من المسجد الحرام‏.‏ يقول‏:‏ من الحرم من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، إلى المَسْجِدِ الأَقْصَى أي‏:‏ الأبعد‏.‏ يعني‏:‏ إلى مسجد إيلياء وهو بيت المقدس ‏{‏الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ‏}‏ بالماء، والأشجار، وهو المدائن التي حوله مثل دمشق، والأردن، وفلسطين‏.‏ ‏{‏لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا‏}‏ أي‏:‏ لكي نريه من آياتنا‏.‏ أراه الله تعالى في تلك الليلة من عجائب السموات والأرض‏.‏

‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لمقالة أهل مكة وإنكارهم ‏{‏البصير‏}‏ أي‏:‏ العليم بهم‏.‏ وذلك أنه لما أخبرهم عن قصة تلك الليلة، أنكروا‏.‏ وروى الزهري عن عروة قال‏:‏ إنه لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، فأخبر الناس بذلك، فارتد ناس كثير ممن كان صدقه، وفتنوا بذلك، وكذبوا به، وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر، فقالوا له‏:‏ هذا صاحبك يزعم أنه قد أُسري به الليلة إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ أو قال ذلك‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فإني أشهد إن كان قال ذلك أنه قد صدق‏.‏ فقالوا‏:‏ أتصدقه بأنه جاء إلى الشام في ليلة واحدة‏:‏ ورجع قبل أن يصبح‏.‏ فقال أبو بكر‏:‏ نعم‏.‏ إني أصدقه في أبعد من ذلك‏.‏ أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية‏.‏ فبذلك سمي أبا بكر الصديق‏.‏ قال الزهري‏:‏ أخبرني أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم فرضت عليه الصلاة ليلة أسري به خمسين، ثم نقصت إلى خمس، ثم نودي يا محمد ما يبدل القول لدي، وإن لك بالخمس خمسين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 5‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ‏(‏2‏)‏ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ‏(‏3‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَءاتَيْنَآ مُوسَى الكتاب‏}‏ أي التوراة جملةً واحدةً ‏{‏وجعلناه‏}‏ أي‏:‏ الكتاب ‏{‏هُدًى لّبَنِى إسراءيل‏}‏ أي‏:‏ بياناً لهم من الضلالة‏.‏ أي‏:‏ دللناهم به على الهدى ‏{‏أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ ألاَّ تعبدوا من دوني ربّاً‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ذُرّيَّةِ‏}‏ يعني‏:‏ بالذرية ‏{‏مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ في السفينة، في أصلاب الرجال، وأرحام النساء‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ألاّ تعبدوا ذُريةً من حملنا مع نوح مثل عيسى وعزير‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏يَتَّخِذُواْ‏}‏ بالياء على معنى المغايبة‏.‏ والخبر عنهم أي‏:‏ أعطيناك الكتاب لكيلا يتخذوا إلها غيري‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ أي‏:‏ قل لهم لا تتخذوا إلها غيري‏.‏

ثم أثنى على نوح فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا‏}‏ أي‏:‏ كان يحمد الله إذا شرب، وأكل، واكتسى‏.‏ ويقال‏:‏ الشكور هو المبالغ في الشكر‏.‏ أي‏:‏ كان شاكراً في الأحوال كلها‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسراءيل‏}‏ يقول‏:‏ أعلمنا وبينّا كقوله‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر‏}‏ أي‏:‏ أعلمناه، وبينّاه ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أخبرناهم في التوراة ‏{‏لَتُفْسِدُنَّ‏}‏ أي‏:‏ لتعصن ‏{‏فِى الارض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً‏}‏ والعلو العتو على الله تعالى، والجرأة‏.‏ وهذا قول ابن عباس‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ لتهلكن في الأرض مرتين ‏{‏وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً‏}‏ يعني‏:‏ لتقهرن قهراً شديداً‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال‏:‏ أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت، حتى بعث الله طالوت، ومعه داود، فقتله داود‏.‏ ثم رُدَّت الكرة لبني إسرائيل‏.‏ ثم جاء وعد الآخرة من المرتين ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاًّنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏ أي‏:‏ يقبحوا وجوهكم، وليدمروا تدميراً، وهو بُخْتَنَصَّر‏.‏ وإن عدتم عدنا‏.‏ فعادوا، فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فهم يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ وَعْدُ أُولاهُمَا جاءتهم فارس معهم بختنصر، ثم رجعت فارس يعني‏:‏ أهل فارس ولم يكن قتال، ونصرت بنو إسرائيل عليهم‏.‏ فذلك وعد الأولى‏.‏ فإذا جاء وَعْدُ الآخرة، جاءهم بختنصر، ودمر عليهم‏.‏

وروى أسباط عن السدي، أن وعد الأولى كان ملك النبط، فجاسوا خلال الديار‏.‏ ثم إن بني إسرائيل تجهزوا، وغزوا النبط، فأصابوا منهم، واستنقذوا ما في أيديهم، فردت الكرة عليهم‏.‏ وكان بختنصر في ذلك الوقت يتيماً في ذلك العسكر، وخرج ليسأل شيئاً‏.‏ فلما رأى كبر جمع الجيوش، وجاء بهم، وخوفهم، وخرب البلدة‏.‏

قال القتبي‏:‏ إن بختنصر غزاهم، فرغبوا إلى الله، وتابوا، فردَّ الله عنهم بعد أن فتحوا المدينة، وجالوا في أسواقها، ثم أحدثوا، فبعث الله إليهم أرميا النبي عليه السلام فقام فيهم بوحي الله، فضربوه، وقيدوه، وحبسوه، فبعث الله تعالى إليهم عند ذلك بختنصر، ففعل ما فعل‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ لما عصوا الله، وهو أول الفسادين، سلط الله عليهم بختنصر، خرج من بابل فأتاهم بالشام، وظهر على بيت المقدس، فقتل منهم أربعين ألفاً ممن كان يقرأ التوراة، وأدخل بقيتهم أرضه‏.‏ فمكثوا كذلك سبعين سنة حتى مات ثم إن رجلاً من أهل همدان يقال له‏:‏ كورش غزا أهل بابل، فظهر عليهم، وسكن الدار، وتزوج امرأة من بني إسرائيل، وطلبت إلى زوجها أن يرد قومها إلى أرضهم، ففعل، فردهم إلى أرض بيت المقدس، فمكثوا فيها، فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه‏.‏ ثم عادوا فعصوا المرة الثانية، فسلط الله عليهم ملكاً من ملوك الروم يقال له‏:‏ إسبسيانوس، فحاصرهم سنين ثم مات‏.‏ فبعث الله عليهم ابنه ططيوس بن إسبسيانوس، فحاصرهم سنين‏.‏ ثم فتحها بعد ذلك، فقتل منهم مائة ألف، وثمانين ألفاً حتى قتل يحيى بن زكريا، وحبس منهم مثل ذلك، وخرب بيت المقدس فلم يزل خراباً حتى بناه المؤمنون في زمن عمر رضي الله عنه‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما‏}‏ يقول‏:‏ أول الفسادين ‏{‏بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ سلطنا عليكم ‏{‏عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ ذوي قتال شديد ‏{‏فَجَاسُواْ خلال الديار‏}‏ يقول‏:‏ قتلوكم وسط الأزقة‏.‏ وقال القتبي ‏{‏فَجَاسُواْ‏}‏ أي‏:‏ عاثوا، وأفسدوا‏.‏ ويكون جاسوا بمعنى دخلوا بالفساد ‏{‏وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً‏}‏ يعني‏:‏ كائناً لئن فعلتم، لأفعلن بكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ‏(‏6‏)‏ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ‏(‏7‏)‏ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ أعطيناكم الدولة‏.‏ ويقال‏:‏ الرجعة عليهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ يعني‏:‏ أكثر رجالاً وعدداً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصله من نفر، ينفر مع الرجل من عشيرته، وأهل بيته، والنفير والنافر مثل القدير والقادر‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَحْسَنتُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إن وحدتم الله وأطعتموه ‏{‏أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يثاب لكم الجنة ‏{‏وَإِنْ أَسَأْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ أشركتم بالله ‏{‏فَلَهَا‏}‏ ويقال‏:‏ في الآية مضمر‏.‏ ومعناه‏:‏ وإن أسأتم فلها رب يغفر لها ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاخرة‏}‏ أي‏:‏ آخر الفسادين ‏{‏لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ‏}‏ أخذ من السوء أي‏:‏ بعثناهم إليكم، ليقبحوا وجوهكم بالقتل، والسبي‏.‏ قرأ حمزة، وابن عامر، وعاصم، في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏***لِيَسُوءَ‏}‏ بالياء، وفتح الهمزة‏.‏ يعني‏:‏ الوعد‏.‏ ويقال‏:‏ يعني الملك سلط عليهم‏.‏ وقرأ الكسائي ‏{‏***لنَسُوءَ‏}‏ بالنون، ونصب الواو‏.‏ فيكون الفعل لله تعالى‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏الاخرة لِيَسُوءواْ‏}‏ بالياء، وضم الهمزة، بلفظ الجماعة‏.‏ يعني‏:‏ إن القوم يفعلون ذلك ‏{‏وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ بيت المقدس ‏{‏وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا‏}‏ يقول‏:‏ وليخربوا ما ظهروا عليه تخريباً‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أي ليدمروا، وليخربوا، ‏{‏مَا عَلَوْاْ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ ما ظهروا ‏{‏تَتْبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ إهلاكاً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يقال لكل شيء متكسر من الحديد، والذهب، والفضة، والزجاج تبر، ومعنى ما علوا أي‏:‏ وليدمروا في حال علوهم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ‏}‏ بعد هذين الموتين‏.‏ فرحمهم وعادوا إلى ما كانوا عليه وبعث فيهم الأنبياء، وكانوا رحمة لهم ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا‏}‏ أي‏:‏ إن ‏{‏عُدتُّمْ‏}‏ إلى المعصية ‏{‏عُدْنَا‏}‏، إليكم بالعذاب‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ءانٍ *** عُدتُّمْ‏}‏ إلى تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم كما كذبتم سائر الأنبياء ‏{‏عُدْنَا‏}‏ يعني‏:‏ سلطناه عليكم، فيعاقبكم بالقتل، والجزية في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ سجناً ومحبساً‏.‏ قال الحسن‏:‏ أي سجناً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أي وحبساً يحبسون فيها‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أي محبساً ينحبسون فيها، ولا يخرجون أبداً، كقوله‏:‏ ‏{‏لِلْفُقَرَاء الذين أُحصِرُواْ‏}‏ ويقال‏:‏ هذا فعيل بمعنى فاعل‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏حَصِيرًا‏}‏ أي حبيساً‏.‏ أخذ من قوله‏:‏ حصرت الرجل إذا حبسته، وهو محصور، والحسير المنسوج وإنما سمي ‏{‏حَصِيرًا‏}‏ لأنه حصرت طاقاته بعضها فوق بعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ‏(‏9‏)‏ وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏10‏)‏ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ‏}‏ أي‏:‏ يدعو، ويدل، ويرشد إلى التي هي أقوم‏.‏ وهو توحيد الله تعالى، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان برسله، والعمل بطاعته‏.‏ هذه صفة الحال التي هي أقوم، ‏{‏وَيُبَشّرُ المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ القرآن بشارة للمؤمنين ‏{‏الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا‏}‏ في الجنة ‏{‏وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون بالبعث ‏{‏أَعْتَدْنَا لَهُمْ‏}‏ أي هيّأنا لهم ‏{‏عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ أي‏:‏ وجيعاً‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وَيُبَشّرُ‏}‏ بنصب الياء، وجزم الباء، والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏وَيُبَشّرُ‏}‏ بضم الياء والتشديد‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَدْعُ الإنسان بالشر‏}‏ وأصله في اللغة‏.‏ ويدعو بالواو إلا أنه حذف الواو في الكتابة، لأن الضمة تقوم مقامه مثل قوله‏:‏ ‏{‏سَنَدْعُ الزبانية‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏ وأصله سندعو أي‏:‏ يدعو الإنسان باللعن على نفسه، وأهله، وولده، وماله، وخدمه، ‏{‏دُعَاءهُ بالخير‏}‏ أي‏:‏ دعاءه بالرزق، والعافية، والرحمة، وما يستجاب له‏.‏ فلو استجيب له إذا دعا باللعن، كما يستجاب له بالخير هلك‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت في النضر بن الحارث حيث قال‏:‏ ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا *** مّنَ السماء‏}‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏ يستعجل‏.‏ يعني‏:‏ إن آدم عجل بالقيام، قبل أن يتم فيه الروح‏.‏ وكذلك النضر بن الحارث يستعجل بالدعاء على نفسه، ويستعجل بالعذاب‏.‏ ويروي الحكم، عن إبراهيم، عن سلمان أنه قال‏:‏ لما خلق الله تعالى آدم، بدأ بأعلاه قبل أسفله‏.‏ فجعل آدم ينظر، وهو يخلق، فلما كان بعد العصر، قال‏:‏ يا رب عجّل قبل الليل‏.‏ فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما جعل فيه الروح، فإذا جاوز عن نصفه، أراد أن يقوم فسقط، فقيل له‏:‏ لا تعجل، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الإنسان عَجُولاً‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ خلقنا الشمس والقمر علامتين يدلان على أن خالقهما واحد ‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ يعني‏:‏ ضوء القمر، وهو السواد الذي في جوف القمر‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ كانت شمس بالليل، وشمس بالنهار، فمحيت شمس الليل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان في الزمان الأول لا يعرف الليل من النهار‏.‏ فبعث الله جبريل، فمسح جناحه بالقمر، فذهب ضوءه، وبقي علامة جناحه وهو السواد الذي في القمر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل‏}‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ وتركنا علامة النهار مضيئة مبينة ‏{‏لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لكي تطلبوا رزقاً من ربِّكم في النهار ‏{‏وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب‏}‏ أي‏:‏ حساب الشهور والأيام ‏{‏وَكُلَّ شَئ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً‏}‏ أي‏:‏ بينّاه في القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ‏(‏13‏)‏ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ‏(‏14‏)‏ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي خيره وشره مكتوب عليه لا يفارقه‏.‏ وقال قتادة‏:‏ سعادته، وشقاوته‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يوسف‏.‏ قال‏:‏ حدثنا يزيد بن ربيع عن يونس عن الحسن‏.‏ قال‏:‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ طائره عمله، وإليه هداه أُمِّيَّاً كان أو غير أمي‏.‏ وروى الحكم عن مجاهد أنه قال‏:‏ ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ‏}‏ الشقاوة، والسعادة، والأجل، والرزق‏.‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً‏}‏ أي‏:‏ مفتوحاً‏.‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏يلقاه‏}‏ بضم الياء، وتشديد القاف‏.‏ يعني‏:‏ يعطاه‏.‏ والباقون ‏{‏يلقاه‏}‏ أي‏:‏ يراه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ شاهداً‏.‏ ويقال‏:‏ محاسباً‏.‏ لما ترى فيه كل حسنة، وسيئة محصاة عليك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فإن كان مؤمناً، أعطي كتابه بيمينه وهي صحيفة يقرأ سيئاته في باطنها، وحسناته في ظاهرها‏.‏ فيجد فيها‏:‏ عملت كذا وكذا وصنعت كذا وكذا، وقلت كذا وكذا، في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، وفي يوم كذا وكذا، وفي ساعة كذا وكذا، وفي مكان كذا وكذا‏.‏ فإذا انتهى إلى أسفلها، قيل له‏:‏ قد غفرها الله لك‏.‏ اقرأ ما في ظهرها فيقرأ حسناته، فيسره ما يرى فيها، ويشرق لونه، عند ذلك يقول‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ قال‏:‏ ويعطى الكافر بشماله، ويقرأ حسناته في باطنها، وسيئاته في ظاهرها‏.‏ فإذا انتهى إلى آخره، قيل له‏:‏ هذه حسناتك قد ردت عليك‏.‏ اقرأ ما في ظهرها‏.‏ فيرى فيها سيئاته، قد حفظت عليه كل صغيرة وكبيرة فيسوءه ذلك، ويسود وجهه، وتزرق عيناه، ويقول عند ذلك‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏ وهو قوله‏:‏ ‏{‏كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ حفيظاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وذلك حين جحد، فختم على لسانه، وتكلمت جوارحه‏.‏ فشهدت جوارحه على نفسه، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ شهيداً‏.‏ فلا شاهد عليك أفضل من نفسك‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مَّنِ اهتدى‏}‏ يعني‏:‏ من اجتهد حتى اهتدى ‏{‏فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ فثوابه لنفسه ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ أي‏:‏ ومن تغافل حتى ضل ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ إثمه على نفسه ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ أي‏:‏ لا تؤاخذ نفس بذنب نفس أُخرى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ حجة عليهم مع علمه أنهم لا يطيعون، وينذرهم ما هم عليه من المعصية، فإن أجابوا وإلاّ عذبوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ‏(‏18‏)‏ وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً‏}‏ يعني‏:‏ أهل قرية ‏{‏أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا‏}‏ أي‏:‏ أكثرنا جبابرتها، يقال‏:‏ أَمَرَ إِذَا أكثر وآمَرَ أيضاً‏.‏ هما لغتان‏.‏ وروي عن زينب بنت جحش أنها قالت‏:‏ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا وحلق إبهامه بالتي تليها‏.‏ قالت‏:‏ قلت يا رسول الله‏:‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ نعم إذا كثر الخبث‏.‏ ويقال‏:‏ أمَرَ وآمر مثل فعل وأفعل يعني‏:‏ أكثر‏.‏ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ خير المال مهرة مأمورة ‏"‏ أي‏:‏ خيل كثير النتاج قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين ونافع في إحدى الروايتين وابن كثير في إحدى الروايتين «أَمَّرْنَا» بالتشديد بغير مد، وفي إحدى الروايتين عن ابن كثير ونافع «آمَرْنَا» بالمد والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف بغير مد‏.‏ فمن قرأ بالتشديد فمعناه‏:‏ سلطنا جبابرتها، ومن قرأ بالمد يعني‏:‏ أكثرنا جبابرتها‏.‏ ومن قرأ بالتخفيف له معنيان‏:‏ أحدهما‏:‏ أكثرنا جبابرتها وأشرافها، ومعنى آخر‏:‏ أمرناهم بالطاعة وخذلناهم حتى تركوا الأمر وعصوا الله تعالى ‏{‏فَفَسَقُواْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ عصوا فيها ‏{‏فَحَقَّ عَلَيْهَا القول‏}‏ أي‏:‏ وجب عليها السخط بالعذاب ‏{‏فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا‏}‏ أي‏:‏ أهلكناها بالعذاب إهلاكاً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ وكفى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا‏}‏ يعني‏:‏ إن الله تعالى عالم بذنوبهم قادر على أخذهم ومجازاتهم، فيه تهديد لهذه الأمة لكي يطيعوا الله تعالى ولا يعصوه فيصيبهم مثل ما أصابهم، قوله‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة‏}‏ أي‏:‏ من كان يريد بعمله الذي افترض الله عليه ثواب الدنيا ‏{‏عَجَّلْنَا لَهُ‏}‏ أي‏:‏ أعطينا له ‏{‏فِيهَا مَا نَشَاء‏}‏ من عرض الدنيا ‏{‏لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ أن نهلكه ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ‏}‏ أي‏:‏ أوجبنا له جهنم ‏{‏يصلاها‏}‏ أي‏:‏ يدخلها ‏{‏مَذْمُومًا‏}‏ ملوماً في عمله ‏{‏مَّدْحُورًا‏}‏ أي‏:‏ مطروداً مقصيَّاً من كل خير قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَرَادَ الاخرة‏}‏ من المؤمنين بعمله الذي افترض الله عليه ‏{‏وسعى لَهَا سَعْيَهَا‏}‏ يعني‏:‏ عمل للآخرة عملها ‏{‏وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا‏}‏ يعني‏:‏ عملهم مقبولاً ويقال‏:‏ معناه‏:‏ من كان غرضه وقصده وعزمه الدنيا وحطامها وزهرتها عجلنا له فيها أي للمزيد في الدنيا ما نشاء لمن نريد يعني لمن نريد أن نعطيه بإرادتنا لا بإرادته ومن كان قصده وعزمه الآخرة فنعطي له ما نريد من الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ‏(‏20‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ‏(‏21‏)‏ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ‏(‏22‏)‏ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء‏}‏ يعني‏:‏ كلا الفريقين من المؤمنين والكافرين نعطي هؤلاء من أهل المعصية ‏{‏وَهَؤُلاء‏}‏ من أهل الطاعة ‏{‏مِنْ عَطَاء رَبّكَ‏}‏ أي‏:‏ من رزق ربك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كلاًّ نمد‏.‏ نعطي من الدنيا البر والفاجر ‏{‏وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ مَحْظُورًا‏}‏ يعني‏:‏ محبوساً عن البر والفاجر في الدنيا‏.‏ ‏{‏انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ‏}‏ في الدنيا بالمال ‏{‏وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات‏}‏ يقول‏:‏ ولفضائل الآخرة أرفع درجات مما فضلوا في الدنيا ‏{‏وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً‏}‏ أي‏:‏ وأرفع في الثواب‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ «وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ» في الجنة، الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أَن فوقه أحداً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فضل المؤمنين في الآخرة على الكفار أكبر من فضل الكفار على المؤمنين في المال في الدنيا، وقال بعض الحكماء‏:‏ إذا أردت هذه الدرجات وهذا التفضيل فاستعمل هذه الخصال التي ذَكَرَ في هذه الآيات إلى قوله ‏{‏عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى عليه السلام حيث كتب الله له فيها، أنزلها الله تعالى على نبيه محمد عليه السلام وهي كلها في التوحيد وهي في الكتب كلها موجودة لم تنسخ قط وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا‏}‏ يعني‏:‏ تبقى شقياً مذموماً يذمك الله ويذمك الناس بفعلك ‏{‏مَّخْذُولاً‏}‏ يعني‏:‏ يخذلك الذي تعبده‏.‏ ويقال‏:‏ فتبقى في النار يذمك الله ويذمك الناس وتذم نفسك مخذولاً أي‏:‏ يخذلك معبودك ولا ينصرك‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وقضى رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ أمر ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ أي أمر ربك ألا تطيعوا أحداً إلا إياه، يعني‏:‏ إلا الله تعالى يعني‏:‏ لا تطيعوا أحداً في المعصية وتطيعوا الله في الطاعة، ويقال لا تحدوا إلا الله‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود وَوَصَّى رَبُّكَ ألا تطيعوا إلاَّ إيَّاهُ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ أي‏:‏ أمر بالإِحسان إلى الوالدين بِراً بهما وعطفاً عليهما ‏{‏إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر‏}‏ قرأ حمزة والكسائي «إِمَّا يَبْلَغَانِ» بلفظ التثنية لأنه سبق ذكر الوالدين‏.‏ وقرأ الباقون «يَبْلُغَنَّ» بلفظ الوحدان‏.‏ لأنه انصرف إلى قوله‏:‏ ‏{‏أَحَدُهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ إن بلغ الكبر أحدهما ‏{‏أَوْ كِلاَهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ إن بلغ أحد الأبوين عندك الهرم أو كلا الأبوين ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ‏}‏ أي‏:‏ لا تقذرهما ولا تقل لهما قولاً رديئاً عند خروج الغائط منهما إذا احتاجا إلى معالجتهما عند ذلك‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا أبو عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضل قال‏:‏ حدثنا أصرم عن عيسى بن عبد الله الأشعري عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لَوْ عَلِمَ الله شَيْئَاً مِنَ العَقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍ لحرمه فَلْيَعْمَلِ العَاقّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَلْيَعْمَلَ البَارّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلِ النَّار»‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا كبرا فلا تأف لهما لأنهما قد رأيا منك مثل ذلك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أُفٍ بكسر وفتح وبضم وهو ما غلظ من الكلام يعني‏:‏ لا تستثقل شيئاً من أمورهما ولا تغلظ لهما القول‏.‏ قرأ ابن كثير وابن عامر بنصب الفاء، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص أُفٍّ بكسر الفاء مع التنوين وقرأ الباقون أفِّ بكسر الفاء بغير تنوين ومعنى ذلك كله واحد‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْهَرْهُمَا‏}‏ يعني‏:‏ لا تغلظ عليهما بالقول ‏{‏وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا‏}‏ أي ليناً حسناً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ‏(‏24‏)‏ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ‏(‏25‏)‏ وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة‏}‏ أي‏:‏ كن ذليلاً رحيماً عليهما‏.‏ وروى هشام عن عروة عن أبيه في قوله‏:‏ ‏{‏واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة‏}‏ قال‏:‏ كن لهما ذليلاً ولا تمتنع من شيء أحباه‏.‏ وقال عطاء‏:‏ جناحك يعني‏:‏ يداك لا ينبغي أن ترفع يدك على والديك ولا ينبغي لك أن تحد بصرك إليهما تغيظاً‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إِذَا دَعَاكَ أَبَوَاكَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ فَأَجِبْ أُمَّكَ وَلاَ تُجِبْ أَبَاكَ»‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «لَوْ كَانَ جُرَيْجٌ الرَّاهِبِ فَقِيهاً لَعَلِمَ أَنَّ إِجَابَةَ أُمِّهِ أَفْضَلَ مِنْ صَلاتِهِ»‏.‏ قال الفقيه أبو الليث رضي الله عنه لأن في ذلك الوقت كان الكلام الذي تحتاج إليه مباحاً في الصلاة‏.‏ وكذلك في أول شريعتنا ثم نسخ الكلام في الصلاة فلا يجوز أن يجيبها إلا إذا علم أنه وقع لها أمر مهم فيجوز له أن يقطع ثم يستقبل‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُل رَّبّ ارحمهما‏}‏ أي‏:‏ عند معالجتك إياهما في الكبر‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ رب اجعل رحمتهما في قلبي حتى أربيهما في كبرهما ‏{‏كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا‏}‏ أي‏:‏ كما عالجاني في صغري، ويقال‏:‏ معناه‏:‏ ادع لهما بالرحمة بعد موتهما أي‏:‏ كن باراً بهما في حياتهما وادع لهما بعد موتهما‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ‏}‏ من اللين لهما ‏{‏إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ أي بارين بالوالدين محسنين إليهما ‏{‏فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُوراً‏}‏ أي‏:‏ للراجعين من الذنوب إلى طاعة الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ في الآية مضمر ومعناه‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صالحين‏}‏ فإِن لم تكونوا صالحين فارجعوا إلى الله وتوبوا إليه تعالى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلوة ويستغفر منها‏.‏‏.‏ وقال سعيد بن جبير الأواب‏:‏ الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب‏.‏ وقال الحسن الأواب‏:‏ الذي يقبل إلى الله بقلبه وعمله‏.‏ وقال السدي الأواب‏:‏ المحسن وقال القتبي‏:‏ الأواب‏:‏ التائب مرة بعد مرة من قولك آب يؤوب‏.‏ ويقال‏:‏ الأواب‏:‏ الذي يصلي بين المغرب والعشاء‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ أي‏:‏ صلته ‏{‏والمساكين‏}‏ أي‏:‏ أعط السائلين ‏{‏وابن السبيل‏}‏ أي‏:‏ الضيف النازل وحقه ثلاثة أيام‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لا تنفق مالك في غير طاعة الله تعالى‏.‏ وروي عن عمثان بن الأسود أنه قال سمعت مجاهداً ونحن نطوف بالبيت، ورفع رأسه إلى أبي قبيس فقال‏:‏ لو كان أبو قبيس ذهباً لرجل فأنفقه في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفاً ولو أنفق درهماً في معصية الله تعالى كان مسرفاً‏.‏ وروى الأعمش عن الحكم عن أبي عبيد وكان ضريراً وكان عبد الله بن مسعود يدنيه فجاءه يوماً فقال‏:‏ من نسأل إن لم نسألك‏؟‏ فقال سل‏.‏ قال فما الأواب‏؟‏ قال الرحيم قال فما التبذير‏؟‏ قال إنفاق المال في غير حقه‏.‏ قال فما الماعون‏؟‏ قال‏:‏ ما يعاون الناس فيما بينهم‏.‏ قال فما الأمة‏؟‏ قال الذي يعلم الناس الخير‏.‏