فصل: تفسير الآيات رقم (27- 29)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ بيوتاً ليست لكم حتى تستأنسوا، يعني‏:‏ حتى تستأذنوا‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير‏:‏ أن عبد الله بن عباس كان يقرأ‏:‏ ‏{‏حتى‏}‏ ويقال‏:‏ تستأذنوا خطأ من الكاتب‏.‏ وروي عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أخطأ الكاتب في قوله‏:‏ ‏{‏بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏، وقراءة العامة ‏{‏تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الاستئناس أن تعلم من في الدار، يقال‏:‏ استأنست فما رأيت أحداً، أي استعلمت وتعرفت، ومنه‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وكفى بالله حَسِيباً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 6‏]‏، أي علمتم‏.‏ وروي، عن عدي بن ثابت، عن رجل من الأنصار قال‏:‏ جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد، فيأتي الأب فيدخل، فكيف أصنع‏؟‏ قال‏:‏ ارجعي‏.‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏كَرِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ‏}‏، ‏{‏حتى تَسْتَأْنِسُواْ‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو التنحنح‏.‏ ‏{‏وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ التسليم والاستئذان خير لكم من أن تدخلوا بغير إذن وسلام، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أن التسليم والاستئذان خير لكم‏.‏ قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً‏}‏، يعني‏:‏ في البيوت يأذن لكم في الدخول، ‏{‏فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ‏}‏ في الدخول، ‏{‏وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا‏}‏، ولا تقيموا على أبواب الناس، فلعل لهم حوائج‏.‏ ‏{‏هُوَ أزكى لَكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ الرجوع أصلح لكم من القيام والقعود على أبواب الناس‏.‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏، إذا دخلتم بإذن أو بغير إذن ثم رخص لهم في البيوت على طريق الناس مثل الرباطات والخانات، وذلك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ يا رسول الله، فكيف بالبيوت التي بين الشام ومكة والمدينة التي على ظهر الطريق، ليس لها ساكن، فنزل قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ‏}‏، مثل الخانات وبيوت السوق‏.‏ ‏{‏فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ منافع لكم؛ ويقال‏:‏ في الخربات التي يدخل فيها لقضاء الحوائج فيها منفعة لكم؛ ويقال‏:‏ في الخانات منفعة لكم من الحر والبرد‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ من التسليم والاستئذان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم‏}‏، يعني‏:‏ يكفوا أبصارهم ومن صلة في الكلام‏.‏ ‏{‏وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ‏}‏ عما لا يحل لهم؛ وقال أبو العالية الرياحي‏:‏ كلما ذكر حفظ الفرج في القرآن، أراد به الحفظ عن الزنى؛ إلا هاهنا، فإن المراد به هاهنا الستر عن النظر، يعني‏:‏ قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم عن عورات النساء، ويحفظوا فروجهم عن أبصار الناس؛ وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي رضي الله عنه‏:‏

«يا عَلِيُّ لا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإنَّ الأُولَى لَكَ وَالأُخْرَى عَلَيْكَ»‏.‏ وروي عن عيسى ابن مريم أنه قال‏:‏ إياكم والنظرة، فإنها تزرع في القلب‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏ذلك أزكى * لَكُمْ‏}‏ وأطهر من الزينة، يعني‏:‏ غض البصر والحفظ خير لكم من ترك الحفظ والنظر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏، يعني‏:‏ عالم بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن‏}‏، يعني‏:‏ يحفظن أبصارهن عن الحرام، ‏{‏وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ‏}‏ عن الفواحش، ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏؛ يعني‏:‏ لا يظهرن مواضع زينتهن، ‏{‏إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏‏.‏ روى سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ وجهها وكفيها، وهكذا قال إبراهيم النخعي‏.‏ وروي أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ الوجه والكفان، وهكذا قال الشعبي‏.‏ وروى نافع، عن ابن عمر أنه قال‏:‏ الوجه والكفان، وقال مجاهد‏:‏ الكحل والخضاب‏.‏ وروى أبو صالح، عن ابن عباس‏:‏ الكحل والخاتم‏.‏ وروي، عن ابن عباس في رواية أُخرى، إلا ما ظهر منها، أي فوق الثياب‏.‏ وروى أبو إسحاق، عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ ثيابها، وروي عن ابن مسعود رواية أُخرى أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا‏}‏ فتقنع عبد الله بن مسعود، وغطى وجهه وأبدى عن إحدى عينيه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ‏}‏، يعني‏:‏ على الصدر والنحر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان النساء قبل هذه الآية يسدلن خمرهن من ورائهن، كما تفعل النبط‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، سدلن الخمر على الصدر والنحر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ‏}‏، يعني‏:‏ لا يظهرن مواضع زينتهن، وهو الصدر والساق والساعد والرأس، لأن الصدر موضع الوشاح، والساعد موضع الخلخال، والساق موضع السوار، والرأس موضع الإكليل، فقد ذكر الزينة وأراد بها موضع الزينة‏.‏ ‏{‏إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ‏}‏، يعني‏:‏ لأزواجهن، ‏{‏وَقُل للمؤمنات‏}‏؛ يعني‏:‏ يجوز للآباء النظر إلى مواضع زينتهن، ‏{‏وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ‏}‏‏.‏ وقد ذكر في الآية بعض ذوي الرحم المحرم، فيكون فيه دليل على ما كان بمعناه، لأنه لم يذكر فيها الأعمام والأخوال، ولكن الآية إذا نزلت في شيء، فقد نزلت فيما هو في معناه، والأعمام والأخوال بمعنى الإخوة وبني الإخوة، لأنه ذو رحم محرم‏.‏ وقد ذكر الأبناء في آية أُخرى، وهي قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ إخوانهن وَلاَ أَبْنَآءِ أخواتهن وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَئ شَهِيداً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 55‏]‏‏.‏

والنظر إلى النساء على أربع مراتب‏:‏ في وجه يجوز النظر إلى جميع أعضائها، وهو النظر إلى زوجته وأمته، وفي وجه يجوز النظر إلى الوجه والكفين، وهو النظر إلى المرأة التي لا يكون محرماً لها، ويأمن كل واحد منهما على نفسه، فلا بأس بالنظر عند الحاجة؛ وفي وجه يجوز النظر إلى الصدر والرأس والساق والساعد، وهو النظر إلى امرأة ذي رحم أو ذات رحم محرم، مثل الأخت والأم والعمة والخالة وأولاد الأخ والأخت وامرأة الأب وامرأة الابن وأم المرأة سواء كان من قبل الرضاع أو من قبل النسب، وفي وجه لا يجوز النظر إلى شيء، وهو أن يخاف أن يقع في الإثم إذا نظر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ نِسَائِهِنَّ‏}‏ يعني‏:‏ نساء أهل دينهن ويكره للمرأة أن تظهر مواضع زينتها عند امرأة كتابية لأنها تصف ذلك عند غيرها ويقال‏:‏ نسائهن يعني‏:‏ العفائف ولا ينبغي أن تنظر إليها المرأة الفاجرة، لأنها تصف ذلك عند الرجال‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏، يعني‏:‏ الجواري، فإنها نزلت في الإماء؛ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تغرنكم هذه الآية‏.‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏، يعني‏:‏ الجواري، فإنها نزلت في الإماء لا ينبغي للمرأة أن ينظر العبد إلى شعرها، ولا إلى شيء من محاسنها؛ وقال مجاهد‏:‏ في بعض القراءات ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏، الذين لم يبلغوا الحلم‏.‏ وروى سفيان، عن ليث قال‏:‏ كان بعضهم يقرأ‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن‏}‏ من الصغار وقال الشعبي‏:‏ لا ينظر العبد إلى مولاته، ولا إلى شعرة منها‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة‏}‏، يعني‏:‏ الخادم أو الأجير للمرأة، يعني‏:‏ غير ذوي الحاجة مثل الشيخ الكبير ونحوه، وقال مجاهد‏:‏ هو الذي لا إرب له، أي لا حاجة له بالنساء، مثل فلان، وكذا روى الشعبي عن علقمة، وقال الحسن والزهري‏:‏ غير أولي الإربة هو الأحمق؛ وقال الضحاك هو الأبله؛ ويقال‏:‏ هو الذي طبعه طبع النساء، فلا يكون له شهوة الرجال‏.‏ وسئلت عائشة رضي الله عنها هل يرى الخصي حسن المرأة قالت‏:‏ لا، ولا كرامة، أليس هو رجل‏؟‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏غَيْرِ أُوْلِى الإربة‏}‏ بنصب الراء، وقرأ الباقون بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالكسر، يكون على النعت للتابعين، فيكون معناها التابعين الذين هذه حالهم؛ ومن نصب، أراد به الاستثناء، والمعنى إلا أولي الإربة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء‏}‏، يعني‏:‏ لم يطلعوا ولم يشتهوا الجماع‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ‏}‏، يعني‏:‏ لا يضربن بإحدى أرجلهن على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال، ‏{‏لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ‏}‏؛ يعني‏:‏ ما يواري الثياب من زينتهن‏.‏ وروى سفيان، عن السدي قال‏:‏ كانت المرأة تمر على المجلس وفي رجلها الخلخال؛ فإذا جازت بالقوم، ضربت رجلها ليصوت خلخالها، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ‏}‏ وقال بعض المفسرين‏:‏ قد علم الله تعالى أن من النساء من تكون حمقاء، فتحرك رجلها ليعلم أن لها خلخالاً، فنهي النساء أن يفعلن، كما تفعل الحمقاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً‏}‏، يعني‏:‏ من جميع ما وقع التقصير من الأوامر والنواهي التي ذكر من أول السورة إلى هاهنا‏.‏

‏{‏أَيُّهَ المؤمنون‏}‏، يعني‏:‏ أيها المصدقون بالله ورسوله، وفي هذه الآية دليل أن الذنب لا يخرج العبد من الإيمان، لأنه أمر بالتوبة‏.‏ والتوبة لا تكون إلا من الذنب، ولم يفصل بين الكبائر وغيرها، فقال، بعدما أمر بالتوبة ‏{‏أَيُّهَ المؤمنون‏}‏، سماهم مؤمنين بعد الذنب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏، أي تنجون من العذاب‏.‏ قرأ ابن عامر ‏{‏أَيُّهَ‏}‏ بضم الهاء، وكذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ يأَيُّهَ الساحر‏}‏، ‏{‏أَيُّهَا الثقلان‏}‏، وقرأ الباقون بالنصب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ‏}‏، والأيَامَى الرجال والنساء الذين لا أزواج لهم، يقال‏:‏ رجل أيم وامرأة أيم، كما يقال‏:‏ رجل بكر وامرأة بكر، ويقال‏:‏ الأيم من النساء خاصة كل امرأة لا زوج لها، فهي أيم؛ فأمر الأولياء بأن يزوجوا النساء، وأمر الموالي بأن يزوجوا العبيد والإماء إذا احتاجوا إلى ذلك، فقال للأولياء‏:‏ ‏{‏وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ من قومكم ومن عشيرتكم‏.‏ ثم قال المولى سبحانه‏:‏ ‏{‏والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ من عبيدكم زوجوهم امرأة، وهذا أمر استحباب وليس بحتم، ‏{‏وَإِمائِكُمْ‏}‏؛ يعني‏:‏ زوجوا إماءكم لكيلا يقعن في الزنى‏.‏ ‏{‏إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏، يعني‏:‏ يرزقهم الله من فضله وسعته‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذا منصرف إلى الحرائر خاصة دون العبيد والإماء؛ وقال بعضهم‏:‏ انصرف إلى جميع ما سبق ذكرهم من الأحرار والمماليك ‏{‏يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من رزقه، والغنى على وجهين، غني بالمال وهو أضعف الحالين، وغنى بالقناعة وهو أقوى الحالين‏.‏ كما روي في الخبر‏:‏ الغنى غنى النفس‏.‏ وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أنْكِحُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ»‏.‏ وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ ابتغوا الغنى في النكاح‏.‏ ثم قرأ ‏{‏يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏ وروي عن جعفر بن محمد أن رجلاً شكا إليه الفقر، فأمره أن يتزوج فتزوج الرجل، ثم جاء فشكا إليه الفقر، فأمره بأن يطلقها؛ فسأل عن ذلك، فقال‏:‏ قلت لعله من أهل هذه الآية ‏{‏إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏‏.‏ فلما لم يكن من أهلها قلت لعله من أهل آية أخرى ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والله واسع عَلِيمٌ‏}‏، أي واسع الفضل؛ ويقال‏:‏ واسع أي موسع في الرزق، يوسع على من يشاء عليم بقدر ما يحتاج إليه كل واحد منهم‏.‏ ثم أخبر أنه لا رخصة لمن لم يجد النكاح في الزنى، وأمر بالتعفف للذي لا امرأة له، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين‏}‏، أي ليحفظ نفسه عن الحرام الَّذِينَ ‏{‏لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً‏}‏، يعني‏:‏ سعة بالنكاح، المهر والنفقة ويقال‏:‏ يعني‏:‏ امرأة موافقة، ‏{‏حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏؛ يعني‏:‏ من رزقه بالنكاح‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنَّ الصبر والطلب خير من الهرب‏.‏

‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب‏}‏؛ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن مملوكاً لحُويطب، يقال له صبيح، سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه، فنزلت الآية ‏{‏والذين يَبْتَغُونَ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ يطلبون الكتابة ‏{‏مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏، يعني‏:‏ حرفة‏.‏ قال مجاهد وعطاء، يعني‏:‏ مالاً‏.‏

وروي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال أدَباً وصلاحاً، وقال إبراهيم‏:‏ يعني‏:‏ وفاءً وصدقاً‏.‏ وروى يحيى بن أبي كثير، قال‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏، أي حِرْفَةً وَلا تُرْسِلُوهُمْ كَلاًّ عَلَى النَّاسِ‏}‏ وقال ابن عباس‏:‏ الخير المال، كقوله ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حَقًّا عَلَى المتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏ أي مالاً، وقيل‏:‏ ‏{‏خَيْرًا‏}‏، يعني‏:‏ صلاحاً في دينه، لكيلا يقع في الفساد بعد العتق، وهذا أمر استحباب لا إيجاب؛ وقال بعضهم‏:‏ هو واجب‏.‏ وروى معمر، عن قتادة قال‏:‏ سأل سيرين أبو محمد بن سيرين، أنس بن مالك بأن يكاتبهُ، فأبى أنس بن مالك، فرفع عليه عمر الدرة وتلا عليه هذه الآية‏:‏ ‏{‏فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً‏}‏‏.‏

‏{‏وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى‏}‏، يعني‏:‏ أعطاكم، يعني‏:‏ يعطيه من الكتابة شيئاً، ويقال‏:‏ يعطى من بيت المال، حتى يؤدي كتابه‏.‏ وقال عمرو، عن علي رضي الله عنه‏:‏ يترك له ربع الكتابة، وقال قتادة‏:‏ يترك له العشر؛ وقال‏:‏ آتوهم أي حث الموالي وغيرهم أن يعينوهم، هذا أمر استحباب وليس بواجب، وقال بعضهم‏:‏ الحط واجب، والأول أصح‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء‏}‏، يعني‏:‏ لا تكرهوا إماءكم على الزنى‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ كانت جارية لعبد الله بن أبيّ، يقال لها معاذة، وكان يكلفها الخراج على الزنى، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً‏}‏ يعني‏:‏ تعففاً ‏{‏لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا‏}‏، يعني‏:‏ لتطلبوا بكسبهن وولدهن المال‏.‏ ‏{‏وَمَن يُكْرِههُنَّ‏}‏، يعني‏:‏ يجبرهن على الزنى، ‏{‏فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ‏}‏؛ يعني‏:‏ من بعد إجبارهن على الزنى، ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بهن، يعني‏:‏ الإماء، لأنهن كن مكرهات على فعل الزنى‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات‏}‏ يعني‏:‏ واضحات ‏{‏وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏، يعني‏:‏ فيه خير من قبلكم من الأمم الماضية ‏{‏وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ‏}‏، لكي يعتبروا بما أصابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله نُورُ * السموات والارض‏}‏؛ قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ هادي أهل السموات وأهل الأرض، ويقال‏:‏ هادي أهل السموات والأرض من يشاء، وبين ذلك في آخر الآية بقوله‏:‏ ‏{‏يَهْدِى لِنُورِهِ مَن يَشَاء‏}‏ ويقال‏:‏ معناه الله مُنَّورُ السموات والأرض، وقال ابن عباس‏:‏ بدليل قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏، فأضاف النور إليه، وبدليل ما قال في سياق الآية ‏{‏أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يغشاه مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏ وروي عن أبي العالية أنه قال‏:‏ معناه الله منور قلوب أهل السموات وقلوب أهل الأرض بالمغفرة والتوحيد، يعني‏:‏ من كان أهلاً للإيمان؛ ويقال‏:‏ الله منور السموات والأرض‏.‏ أما السموات، فنورها بالشمس والقمر والكواكب، وأما الأرض، فنورها بالأنبياء والعلماء والعباد عليهم السلام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏، يعني‏:‏ مثل نور المعرفة في قلب المؤمن، ‏{‏كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏؛ يعني‏:‏ كمثل كوة فيها سراج، ويقال‏:‏ المشكاة الكوة التي ليست بنافذة وهي بلغة الحبشة‏.‏ وروي في قراءة ابن مسعود ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ في قلب المؤمن، ‏{‏كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏‏.‏ ثم وصف المصباح، فقال‏:‏ ‏{‏المصباح فِى زُجَاجَةٍ‏}‏، يعني‏:‏ كمثل سراج في قنديل في كوة، فكذلك الإيمان والمعرفة في قلب المؤمن؛ والقلب في الصدر، والصدر في الجسد‏.‏ فشبه القلب بالقنديل، والماء الذي في القنديل شبه بالعلم، والدهن بالرفق‏.‏ وحسن المعاملة، وشبه الفتيلة باللسان، وشبه النار بالجوف في زجاجة‏.‏ يعني‏:‏ في قلب مضيء؛ ويقال‏:‏ إنما شبَّه القلب بالزجاجة، لأن ما في الزجاجة يرى من خارجها، فكذلك ما في القلب يرى من ظاهره، ويبيّن ذلك في أعضائه؛ ويقال‏:‏ لأن الزجاجة تسرع الكسر بأدنى آفة تصيبها؛ فكذلك القلب بأدنى آفة تدخل فيه فإنه يفسد‏.‏

ثم وصف ‏{‏الزجاجة‏}‏، فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ‏}‏، يعني‏:‏ استنار القنديل بصفاء الزجاجة‏.‏ من قرأ بضم الدال، فهو منسوب إلى الدر، يعني‏:‏ يشبه في ضوئه الدر، ومن قرأ بكسر الدال، يعني‏:‏ الذي يدرأ عن نفسه، يعني‏:‏ لا يكاد يقدر النظر إليه من شدة ضوئه‏.‏ قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية حفص ‏{‏دُرّىٌّ‏}‏ بضم الدال غير مهموز، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال وبهمز الياء، وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بالضم والهمز‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة‏}‏، يعني‏:‏ السراج يوقد بدهن من شجرة مباركة ‏{‏زَيْتُونَةٍ‏}‏؛ قرأ أبو عمر وابن كثير ‏{‏***توقد‏}‏ بنصب التاء والواو والقاف بلفظ التأنيث؛ وأصله تتوقد فحذف إحدى التاءين، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي بضم التاء والتخفيف بلفظ التأنيث، على فعل ما لم يسم فاعله؛ وقرأ الباقون ‏{‏***توقد‏}‏ بلفظ التذكير والتفسير، على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

فمن قرأ بالتأنيث، انصرف إلى الزجاجة؛ ومن قرأ بالتذكير، انصرف إلى المصباح والسراج‏.‏

ثم وصف الشجرة المباركة، فقال‏:‏ زَيْتُونَةٍ ‏{‏زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏، أي لم تكن بحال تصيبها الشمس في أول النهار وآخره، فكذلك هذا المؤمن تكون كلمة الإخلاص في قلبه ثابتة مثل ثبوت الشجرة، فلا يكون مشبهياً، ولا معطلياً، ولا قدرياً، ولا جبرياً؛ ولكنه على الاستقامة؛ ويقال‏:‏ ‏{‏لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏، يعني‏:‏ تكون في وسط الأشجار، حتى لا تحرقها الشمس؛ فكذلك هذا المؤمن بين أصحاب صلحاء، يثبتونه على الاستقامة‏.‏ وروي، عن الحسن أنه قال‏:‏ ليس هذه من أشجار الدنيا، لكن من أشجار الآخرة، يعني‏:‏ أن أشجار الدنيا لا تخلو من أن تكون شرقية أو غربية، ولكن هذه من أشجار الآخرة، فكذلك هذا المؤمن أصاب المعرفة بتوفيق الله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏ يعني‏:‏ أن الزيت في الزجاجة‏.‏ يكاد أن يضيء، وإن لم يكن موقداً؛ فكذلك المؤمن يعرف الله تعالى ويخافه ويطيعه، وإن لم يكن له أحد يذكره ويأمره وينهاه‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏، يعني‏:‏ الزجاجة نور، والسراج نور، والزيت نور، فكذلك المؤمن اعتقاده نور، وقوله نور، وفعله نور‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ فهو يتقلب في خمسة أنوار، فكلامه نور، وعمله نور، ومخرجه نور، ومدخله نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة‏.‏

‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء‏}‏، يعني‏:‏ يوفق ويعطي من يشاء، يعني‏:‏ الهدى وللآية وجه آخر ‏{‏الله نُورُ * السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ الله مرسل الرسل لأهل السموات وأهل الأرض ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ يعني‏:‏ مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم، فسماه نوراً كقوله‏:‏ «ياأهل الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وكتاب مُّبِينٌ» ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏، يعني‏:‏ مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم في صلب أبيه، كالقنديل يضيء البيت المظلم‏.‏ فكما أن البيت يكون مضيئاً بالقنديل، فإذا أخذ منه القنديل يبقى البيت مظلماً؛ فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم كان كالقنديل في صلب أبيه فلما خرج بقي صلب أبيه مظلماً‏.‏ ‏{‏يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة‏}‏، يعني‏:‏ نور محمد صلى الله عليه وسلم من نور إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ‏{‏زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏، يعني‏:‏ لم يكن إبراهيم عليه السلام يهودياً ولا نصرانياً، ولكن كان حنيفاً مسلماً؛ ويقال‏:‏ ‏{‏لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏، يعني‏:‏ يعطي الله النبوة لمن يشاء، ولها وجه آخر ‏{‏الله نُورُ * السموات والارض‏}‏، يعني‏:‏ منزل القرآن، فنور بالقرآن السموات والأرض‏.‏

‏{‏مَثَلُ نُورِهِ‏}‏ يعني‏:‏ مثل نور القرآن في قلب المؤمن ‏{‏كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ‏}‏، يعني‏:‏ قلب المؤمن بالقرآن، ‏{‏يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة‏}‏ يعني‏:‏ ينزل القرآن من رب كريم ذي بركة ‏{‏لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ‏}‏، أي ليس القرآن بلغة السريانية ولا بلغة العبرانية، ولكنه عربي مبين ‏{‏يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِئ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ‏}‏، يعني‏:‏ القرآن يضيء وألفاظه مهذبة، وإن لم تفهم معانيه ‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء‏}‏، يعني‏:‏ يوفق ويكرم بفهم القرآن من يشاء‏.‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ الله الامثال لِلنَّاسِ‏}‏؛ يعني‏:‏ الله عز وجل يبيِّن الأشياء للناس لكي يفهموا، ويقال‏:‏ المثل كالمرآة يظهر عنده الحق ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ من ضرب الأمثال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

ثم قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ‏}‏، يعني‏:‏ ما ذكر من القنديل المضيء، يعني‏:‏ هو في المساجد‏.‏ ثم وصف المساجد؛ ويقال هذا ابتداء القصة، وفيه معنى التقديم، يعني‏:‏ أذن الله أن ترفع البيوت وهي المساجد ‏{‏أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ‏}‏، أي تبنى وتعظم، ‏{‏وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه‏}‏؛ يعني‏:‏ توحيده؛ ويقال‏:‏ بالأذان والإقامة‏.‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ‏}‏ فيها، يعني‏:‏ يصلي لله في المساجد ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏، يعني‏:‏ عند الغداة والعشي‏.‏ قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏ بنصب الباء على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة‏}‏ يعني‏:‏ هم رجال، وقرأ الباقون ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏ بكسر الباء، ويكون الفعل للرجال، يعني‏:‏ يسبح فيها ‏{‏رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ‏}‏، يعني‏:‏ لا يشغلهم البيع والشراء عن ذكر الله، يعني‏:‏ عن طاعة الله، وعن مواقيت الصلاة‏.‏ ‏{‏وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة‏}‏، يعني‏:‏ عن إتمام الصلاة‏.‏

قال بعضهم‏:‏ نزلت الآية في أصحاب الصفة وأمثالهم، الذين تركوا التجارة ولزموا المسجد؛ وقال بعضهم‏:‏ هم الذين يتجرون ولا تشغلهم تجارة عن الصلوات في مواقيتها، وهذا أشبه، لأنه قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً‏}‏، وأصحاب الصفة وأمثالهم لم يكن عليهم الزكاة، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة‏}‏‏.‏ أما أنهم كانوا يتجرون، ولم تكن تشغلهم تجارة عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا بياعاتهم، وقاموا إلى الصلاة، فقال‏:‏ هؤلاء من الذين‏.‏ ‏{‏لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يخافون يَوْماً‏}‏ يعني‏:‏ من اليوم الذي ‏{‏تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والابصار‏}‏ يعني‏:‏ يتردد فيه القلوب والأبصار في الصدر، إن كان كافراً فإنه يبلغ الحناجر من الخوف، وإن كان تقيّاً مؤمناً تقول الملائكة ‏{‏هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ فبين ما في قلبه في البصر، وإن كان حزناً فحزن، وإن كان سروراً فسرور، ويقال يتقلب يعني‏:‏ يتحول حالاً بعد حال مرة، يعرفون ومرة لا يعرفون، ويقال ينقلب يعني‏:‏ يتحول عما كانت عليه في الدنيا من الشك حين رأى بالمعاينة فيتحول قلبه وبصره من الشك إلى اليقين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يجزيهم الله بإحسانهم، ويقال‏:‏ يجزيهم أحسن وأفضل من أعمالهم وهو الجنة، ويقال‏:‏ ويجزيهم أكثر من أعمالهم بكل حسنة عشرةً وأضعافاً مضاعفة ويقال يجزيه ويغفر له بأحسن أعماله ويبقى سائر أعماله فضلاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ أي يرزقهم من عطائه ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ أي يرزقه ولايحاسبه، ويقال‏:‏ يرزقه رزقاً لا يدرك حسابه، ويقال‏:‏ ليس أحد يحاسبه فيما يُعطي، ويقال‏:‏ بغير حساب، أي من غير حساب، أي من حيث لا يحتسب‏.‏

ثم ضرب مثلاً لعمل الكفار، فقال عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ مثل أعمالهم الخبيثة في الآخرة ‏{‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ كمثل سراب في مفازة، ويقال‏:‏ قاع وقيعة وقيعان، يعني‏:‏ أرضاً مستوية كما يقال‏:‏ صبي وصبية وصبيان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُهُ الظمان مَاء‏}‏ يعني‏:‏ العطشان إذا رأى السراب من بعيد يحسبه ماء ‏{‏حتى إِذَا جَاءهُ‏}‏ يعني‏:‏ فإذا أتاه ليشرب منه ‏{‏لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏، يعني‏:‏ لم يجده ماء ويقال لم يجده شيئاً مما طلبه وأراده، فكذلك الكافر يظن أنه يثاب في صدقته وعتقه وسائر أعماله، فإذا جاءه يوم القيامة وجده هباءً منثوراً ولا ثواب له‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ الله عِندَهُ‏}‏ أي يوم القيامة عند عمله وهذا كما قال ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد‏}‏، يعني‏:‏ مصير الخلائق إليه ‏{‏فوفاه حِسَابَهُ‏}‏، يعني‏:‏ يوفيه ثواب عمله ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏، فكأنه حاسب، ويقال‏:‏ سريع الحفظ، ويقال‏:‏ إذا حاسب فحسابه سريع، فيحاسبهم جميعاً، فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة، فلا يشغله حساب أحدهم عن الآخر، لأنه لا يحتاج إلى أخذ الحساب، ولا يجري فيه الغلط، ولا يلتبس عليه، ويحفظ على كل صاحب حسابٍ حسابه ليذكره، فهذا المثل لأعمال الكفار، والتي في ظاهرها طاعة، فأخبر أنه لا ثواب لهم بها‏.‏

ثم ضرب مثلاً آخر للكافر، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ قال بعضهم‏:‏ الألف زيادة، ومعناه وكظلمات، يعني‏:‏ مثلهم أيضاً كظلمات‏.‏ ويقال‏:‏ أو للتخيير، يعني‏:‏ إن شئت فاضرب لهم المثل بالسراب، وإن شئت بالظلمات، فقال‏:‏ ‏{‏أَوْ كظلمات‏}‏ ‏{‏فِى بَحْرٍ لُّجّىّ‏}‏ يعني‏:‏ مثل الكافر كمثل رجل يكون في بحر عميق في الليل، كثير الماء ‏{‏يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظلمات‏}‏ يعني‏:‏ يكون في ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة السحاب، فكذلك الكافر في ظلمة الكفر، وظلمة الجهل، وظلمة الجور والظلم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يغشاه مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ‏}‏ يعني‏:‏ المعاصي، ومن فوقه العداوة والحسد والبغضاء، و‏{‏مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ‏}‏ يعني‏:‏ الخذلان من الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ كما قال للمؤمن‏:‏ ‏{‏نُّورٌ على نُورٍ‏}‏ فيكون للكافر ظلمة على ظلمة، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، واعتقاده ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة ومصيره إلى الظلمة، وهو النار‏.‏ ويقال‏:‏ شبه قلب الكافر بالبحر العميق، وشبه أعضاءه بالأمواج الثلاث، طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فهذه الظلمات الثلاث تمنعه عن الحق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ لم يكن أقرب إليه من نفسه، فإذا أبرز يده لم يكد يراها من شدة الظلمة، ومع ذلك لم ير نفسه/

فكذلك الكافر لم ينظر إلى القبر ولم يتفكر في أمر نفسه أيضاً، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وفى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 21‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ من لم يكرمه الله بالهدى فما له من مكرم بالمعرفة‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏ظلمات‏}‏ بكسر التاء والتنوين، فكأنه يجعله بمنزلة قوله كظلمات‏.‏ وقرأ الباقون بالضم على معنى الابتداء‏.‏ وقرئ في الشاذ‏:‏ سحاب ظلمات، على معنى الإضافة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 44‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يصلي له ويذكر له‏.‏ ويقال‏:‏ يخضع له‏.‏ ‏{‏مَن فِى *** السموات والارض‏}‏ أي من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من الخلق‏.‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏ يعني‏:‏ مفتوحة الأجنحة‏.‏ وأصل الصّفّ هو البسط، ولهذا يُسمى اللحم القديد صفيفاً لأنه يبسط ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كل واحد من المسبحين يعلم كيف يصلي، وكيف يسبح، يعني‏:‏ والله يعلم عمل كل عامل، فيجازيهم بأعمالهم، إلا أنه لا يعجل بعقوبة المذنبين والكافرين، لأنه قادر عليهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض‏}‏ وهذا معنى قوله وَلِلَّهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‏}‏ الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه، ثم قال‏:‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ يعني‏:‏ إليه المرجع في الآخرة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً‏}‏ يعني‏:‏ يسوق سحاباً ‏{‏ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يجمع بينه ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً‏}‏ يعني‏:‏ قطعاً قطعاً، ويقال‏:‏ يجعل بعضها فوق بعض‏.‏ ‏{‏فَتَرَى الودق‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من وسط السحاب‏.‏ قرأ ابن عباس‏:‏ يخرج من خلله وقراءة العامة ‏{‏مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏، وهي جمع خلل‏.‏ ‏{‏وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ‏}‏ يعني‏:‏ من جبال في السماء‏.‏ قال مقاتل‏:‏ روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ جبال السماء أكثر من جبال الأرض، فيها من برد أي في الجبال من برد، ويقال‏:‏ وهو الجبال من البرد، أي‏:‏ ينزل من السماء من جبال البرد‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ البرد هو الثلج، وما رأيته‏.‏ ويقال‏:‏ الجبال عبارة عن الكثرة، يعني‏:‏ ينزل الثلج مقدار الجبال، كما يقال‏:‏ عند فلان جبال من مال، أي‏:‏ مقدار جبال من كثرته‏.‏ ويقال البرد هو الذي له صلابة كهيئة الجمد ‏{‏فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ البرد، يصيب الزرع والإنسان إذا كان في مفازة‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَيَصْرِفُهُ *** مَا يَشَاء‏}‏ فلا يصيبه، ويقال‏:‏ يصيب به، يعني‏:‏ يعذب به من يشاء، ويصرفه عمن يشاء فلا يعذبه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ضوء برقه‏.‏ ‏{‏يَذْهَبُ بالابصار‏}‏ يعني‏:‏ من شدة نوره‏.‏ قرأ أبو جعفر المدني‏:‏ يذهب، بضمِّ الياء وكسر الهاء، وقراءة العامة يذهب بنصب الياء والهاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يُقَلّبُ الله اليل والنهار‏}‏ يعني‏:‏ يذهب الله بالليل ويجيء بالنهار، ويقال ينقص من النهار، ويزيد من الليل‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ في تقلبهما، واختلاف ألوانهما ‏{‏لَعِبْرَةً‏}‏ يعني‏:‏ لآية ‏{‏لاِوْلِى الابصار‏}‏ يعني‏:‏ لذوي العقول والفهم في الدين‏.‏ وسئل سعيد بن المسيب‏:‏ أي العبادة أفضل‏؟‏ فقال‏:‏ التفكير في خلقه والتَّفَقُّه في دينه‏.‏ ويقال العِبَرُ بِالوِقَارِ، وَالْمُعْتَبِرُ بِمِثْقَالٍ‏.‏

ثم قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء‏}‏ يعني‏:‏ من ماء الذكور‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏خالق كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ على معنى الإضافة‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ‏}‏ على معنى فعل الماضي، ويقال هذا معطوف على ما سبق‏.‏ ‏{‏يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء‏}‏ فكأنَّه يقول‏:‏ يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء كما أنه يخلق ما يشاء من الخلق ألواناً‏.‏

ثم وصف الخلق فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ‏}‏ مثل الحية ونحو ذلك فإن قيل لا يقال للدواب منهم، وإن هذا اللفظ يستعمل للعقلاء، قيل له‏:‏ الدابة اسم عام وهو يقع على ذي روح، فيقع ذلك على العقلاء وغيرهم، فإذا كان هذا اللفظ يقع على العقلاء وغيرهم فذكر بلفظ العقلاء، ولو قال‏:‏ فمنه كان جائزاً، وينصرف إلى قوله كل، ولكنه لم يقرأ، وإنما قال‏:‏ يمشي على وَجْهِ المجاز، وإن كان حقيقته المشي بالرِّجل، لأنه جمعه مع الذي يمشي على وجه التبع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى على رِجْلَيْنِ‏}‏ مثل الإنسان ونحوه ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ‏}‏ أي على أربع قوائم مثل الدوابّ وأشباهها، فإن قيل‏:‏ إيش الحكمة في خلق كل شيء من الماء‏؟‏ قيل له‏:‏ لأن الخلق من الماء أعجب، لأنه ليس شيء من الأشياء أشدّ طوعاً من الماء، لأن الإنسان لو أراد أن يمسكه بيده، أو أراد أن يبني عليه، أو يتخذ منه شيئاً لا يمكنه، والناس يتخذون من سائر الأشياء أنواع الأشياء، قيل‏:‏ فالله تعالى أخبر أنه يخلق الماء ألواناً من الخلق، وهو قادر على كل شيء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ كما يشاء، وكيف يشاء ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ‏}‏ من الخلق وخلقه ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ أي قادر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءايات مبينات‏}‏ قرأ أبو عمرو وعاصم ونافع وابن كثير وأبو بكر‏:‏ ‏{‏مبينات‏}‏ بنصب الياء في جميع القرآن، يعني‏:‏ مفصلات‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر ‏{‏مبينات‏}‏ بكسر الياء، يعني‏:‏ يبين للناس دينهم‏.‏

‏{‏والله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ أي يرشد من كان أهلاً لذلك ‏{‏إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ دين مستقيم وهو دين الإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 51‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول‏}‏ قال مقاتل نزلت في شأن بشر المنافق وذلك أن رجلاً من اليهود كانت بينه وبين خصومة، وأن اليهودي دعا بشراً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال بشر، نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، فإنَّ محمداً يحيف علينا فنزل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ‏}‏ وقال في رواية أخرى‏:‏ كان عثمان بن عفان رضي الله عنه اشترى أرضاً من عليّ، فَنَدَّمَهُ قومه، وقالوا‏:‏ عمدت إلى أرض سَبْخَةٍ لا ينالها الماء فاشتريتها‏:‏ رُدَّها عليه، فقال‏:‏ قد ابتعتها منه، فقالوا‏:‏ ردها، فلم يزالوا به حتى أتاه فقال‏:‏ اقبض مني أرضك، فإني قد اشتريتها، ولم أرضها لأنه لا ينالها الماء، فقال له عليّ رضي الله عنه‏:‏ بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها مني، وأنت تعرفها، وتعلم ما هي، فلا أقبلها منك‏.‏ قال‏:‏ فدعا عليٌّ عثمان رضي الله عنهما أن يخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال قوم عثمان‏:‏ لا تخاصمه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن أنت خاصمته إليه قَضَى له عليك، وهو ابن عمه، وأكرم عليه منك، ثم اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقضى لعليّ على عثمان، فنزل في قوم عثمان ‏{‏وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول‏}‏ ‏{‏وَأَطَعْنَا‏}‏ يعني‏:‏ صدقنا بالله وبالرسول، وأطعنا‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ‏}‏ أي يعرض عن طاعتهما طائفة منهم ‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ الإقرار ‏{‏وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ بمصدقين‏.‏

قال بعضهم‏:‏ هذا التفسير الذي ذكره الكلبي غير صحيح، لأن قوم عثمان إن كانوا مؤمنين من الذين هاجروا معه إلى المدينة، وقد ذكر أنهم ليسوا بمؤمنين‏.‏ وقال بعضهم هو الصحيح لأن قوم عثمان بعضهم منافقون مبغضون لبني هاشم لعداوة كانت بينهم في الجاهلية، وكان عثمان يميل إلى قرابته، ولا يعرف نفاقهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أُوْلَئِكَ بالمؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ ليس عملهم عمل المؤمنين المخلصين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إلى حكم الله ورسوله ويقال‏:‏ إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليقضي بينهم بالقرآن ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ‏}‏ يعني‏:‏ طائفة منهم معرضون عن طاعة الله ورسوله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق‏}‏ يعني‏:‏ القضاء ‏{‏يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ خاضعين، مسرعين، طائعين قال الزجاج‏:‏ الإذعان الإسراع مع الطاعة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ شك ونفاق ‏{‏أَمِ ارتابوا‏}‏ يعني‏:‏ شكوا في القرآن ‏{‏أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ‏}‏ يعني‏:‏ يجور الله عليهم ورسوله‏.‏ قال بعضهم‏:‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الإفهام، فكأن الله تعالى يعلمنا بأن في قلوبهم مرضاً، وأنهم شكوا‏.‏

ويقال في قلوبهم مرض، يعني‏:‏ بل في قلوبهم مرض أم ‏{‏ارتابوا‏}‏ بل شكوا ونافقوا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون‏}‏ يعني‏:‏ هم الظالمون لا النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ المصدقين ‏{‏إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إلى كتاب الله ورسوله يعني‏:‏ أمر رسوله ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليقضي بينهم بالقرآن ‏{‏أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ أي‏:‏ سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، فإن فعلوا ذلك ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ يعني‏:‏ الناجون الفائزون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يطع الله في الفرائض، ويطع الرسول في السنن‏.‏ ‏{‏وَيَخْشَ الله‏}‏ فيما مضى ‏{‏وَيَتَّقْهِ‏}‏ فيما يستقبل ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفائزون‏}‏ أي الناجون‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيوحده، ورسوله فيصدقه بالرسالة، ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبه، ويتقه فيما بقي من عمره، فأولئك هم الفائزون، يعني‏:‏ الناجون من العذاب آمنون عند سكرات الموت‏.‏ قال‏:‏ فلما نزلت هذه الآية أقبل، عثمان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله إن شئت لأخرجن من أرضي ولأدفعنها إليه، وحلف على ذلك، فمدحه الله عز وجل بذلك فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ يعني‏:‏ حلفوا بالله، وإذا حلفوا بالله كان ذلك جهد اليمين‏.‏ ‏{‏لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ‏}‏ من الأموال‏.‏ قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ تُقْسِمُواْ‏}‏ أي لا تحلفوا ‏{‏طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذه منكم طاعة معروفة، لا طاعة نفاق، فكأن فيه مضمراً، لأن بعض الناس منافقون، فأخبر أن هذه طاعة ليس فيها نفاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ في السر والعلانية ثم قال عز وجل ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ يعني‏:‏ أطيعوا الله في الفرائض، وأطيعوا الرسول في السنن‏.‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرضوا عن الطاعة لله والرسول ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ‏}‏ يعني‏:‏ ما أمر بتبليغ الرسالة وليس عليه من وزركم شيء، ‏{‏وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما أمرتم، والإثم عليكم، وإذا تركتم الإجابة ‏{‏وَإِن تُطِيعُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏تَهْتَدُواْ‏}‏ من الضلالة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ وفي الآية مضمر، فكأنه يقول‏:‏ وإن تعصوه ‏{‏وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين‏}‏ يعني‏:‏ ليس عليه إلا التبليغ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ وذلك أن كفار مكة لما صَدُّوا المسلمين عن مكة عام الحديبية، فقال المسلمون‏:‏ لو فتح الله مكة ودخلناها آمنين، فنزل قوله ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ لينزلنهم في أرض مكة ‏{‏كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل وغيرهم، ‏{‏وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليظهرن لهم ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ الإسلام ‏{‏الذى ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً‏}‏ من الكفار ‏{‏يَعْبُدُونَنِى‏}‏ يعني‏:‏ لكي يعبدوني ‏{‏لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً‏}‏ ويقال‏:‏ معناه يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، أي‏:‏ يظهر عبادة الله تعالى، ويبطل الشرك‏.‏

وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة زماناً، نحواً من عشر سنين، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى إذا أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، أمرهم الله تعالى بالقتال، فكانوا بها خائفين يُمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فقال رجل من أصحابه يا رسول الله نحن أبداً خائفون، هل يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ يَكُونُ إلاّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي المَلإ العَظِيمِ مُحْتَبِياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ» ونزلت هذه الآية ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات *** ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ الآية‏.‏

ويقال‏:‏ نزلت في شأن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم ‏{‏لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يكونوا خلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً بعد واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك‏}‏ يعني‏:‏ بعد الأمن والتمكين ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ أي العاصون‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏كَمَا استخلف‏}‏ بضم التاء على فعل ما لم يُسَمَّ فاعله‏.‏ وقرأ الباقون بنصب التاء لأنه سبق ذكر الله تعالى‏.‏ وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بتشديد الدال من بدَّل يبدِّل والأول من أبْدَلَ يُبْدِلُ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 59‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أقروا بها وأتموها‏.‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أقروا بها وأعطوها‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ فيما يأمركم به من التوحيد والطاعة ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ فلا تعذبون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ فائتين، ويقال سابقين أمر الله تعالى، ويقال‏:‏ معناه لا تظن أنهم يهربون منا وأنهم يفوتون من عذابنا‏.‏ ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ *** المصير‏}‏ يعني‏:‏ صاروا إليه وبئس المرجع‏.‏ قرأ حمزة وابن عامر ‏{‏لا * يَحْسَبَنَّ‏}‏ بالياء ونصب السين، وقرأ الباقون بالتاء بلفظ المخاطبة وكسر السين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غلاماً من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظهيرة ليدعوه فانطلق الغلام ليدعوه، فوجده نائماً قد أغلق الباب، فأخبر الغلام أنه في هذا البيت، فقرع الباب على عمر فلم يستيقظ، فدخل فاستيقظ عمر، فجلس، فانكشف منه شيء، فرآه الغلام، فعرف عمر أنه قد رآه، فقال عمر‏:‏ وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا علينا هذه الساعة إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ‏{‏المصير ياأيها الذين ءامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ يعني‏:‏ العبيد والإماء والولاية ‏{‏والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم، يعني‏:‏ الاحتلام، وهم الأحرار من الغلمان ‏{‏ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ لأنها ساعات غرة وغفلة، ثم بين الساعات الثلاث، فقال‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ صلاة الفجر‏}‏ لأن ذلك وقت لبس الثياب ‏{‏وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مّنَ الظهيرة‏}‏ أي وقت القيلولة ‏{‏وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء‏}‏ وذلك وقت النوم ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ثلاث ساعات وقت غرة، أي‏:‏ عورة وغفلة، وهن أوقات التجرد وظهور العورة‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية واحدة ‏{‏ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ‏}‏ بنصب الثاء، وقرأ الباقون بالضم، فمن قرأ بالنصب فمعناه ليستأذنكم ثلاث عورات أي ثلاث ساعات، ومن قرأ بالضم معناه هي ثلاث عورات، فيكون خبراً عن الأوقات الثلاثة‏.‏

وروى عكرمة أن رجلين من أهل العراق سألا ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ إنَّ الله تعالى سِتِّيرٌ يحب الستر، وكان الناس لم يكن لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فاجأ الرجلَ ولده أو خادمه أو يتيم في حجره وهو مع أهله، فأمرهم الله تعالى أن يستأذنوا في ثلاث ساعات التي سمى الله تعالى، ثم جاء الله باليسر، وبسط الرزق عليهم، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي قد أمروا به، وقد قيل إن فيه دليلاً أن ذلك الحكم إذا ثبت فإذا زال المعنى زال الحكم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الاستئذان هو التنحنح‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي ليس عليكم معشر المؤمنين، ولا عليهم، يعني‏:‏ الخدم ‏{‏جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ بعد الساعات الثلاث ‏{‏طَوفُونَ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يتقلبون فيكم ليلاً ونهاراً يدخلون عليكم بغير استئذان في الخدمة ‏{‏بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ‏}‏ أي يدخل بعضكم على بعض بغير إذن ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ يعني‏:‏ أمره ونهيه في الاستئذان ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بصلاح الناس ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم بالاستئذان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بَلَغَ الاطفال مِنكُمُ الحلم‏}‏ يعني‏:‏ الاحتلام ‏{‏فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الكبار من ولد الرجل وأقربائه معناه فليستأذنوا في كل وقت، كما استأذن الذين من قبلكم، يعني‏:‏ من الرجال ‏{‏كَذَلِكَ يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏ أي أمره ونهيه في كل وقت، ‏{‏والله عَلِيمٌ‏}‏ بِصَلاَحِكُم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم بالاستئذان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏والقواعد مِنَ النساء‏}‏ يعني‏:‏ الآيسات من الحيض‏.‏ والقاعدة‏:‏ المرأة التي قعدت عن الزوج، وعن الحيض والولد، والجماعة قواعد ‏{‏اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يحتجن إلى الزوج، ولا يرغب فيهن‏.‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ‏}‏ أي جلبابهن ويخرجن بغير جلباب ‏{‏غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ‏}‏ والتبرج‏:‏ إظهار الزينة، يعني‏:‏ لا يردن بوضع الجلباب أن ترى زينتهن‏.‏ ‏{‏وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ‏}‏ يعني‏:‏ يتعففن، فلا يضعن الجلباب‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّهُنَّ‏}‏ من الوضع‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لمقالتهن يعني‏:‏ أن العجوز إذا وضعت جلبابها، وتبدي زينتها وتقول‏:‏ من يرغب فيَّ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنيتها وبفعلها‏.‏ ويقال‏:‏ سميع عليم بجميع ما سبق في هذه السورة‏.‏ ويقال‏:‏ سميع عليم انصرف إلى ما بعده فيما يتحرجون عن الأكل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ‏}‏ قال في رواية الكلبي‏:‏ كانت الأنصار يتنزهون عن الأكل مع الأعمى والمريض والأعرج، وقالوا‏:‏ إن هؤلاء لا يقدرون أن يأكلوا مثل ما نأكل، فنزل ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ‏}‏ يعني‏:‏ ليس على من أكل مع الأعمى حَرَجٌ ‏{‏وَلاَ عَلَى‏}‏ من أكل مع ‏{‏الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى‏}‏ من أكل مع ‏{‏المريض حَرَجٌ‏}‏ إذا أنصف في مؤاكلته‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا التفسير خطأ، وهو غير محتمل في اللغة، لأنه أضاف الحرج إلى الأعمى لا إلى من أكل معه، وقد قيل‏:‏ إن هذا صحيح، لأنه ذكر الأعمى، وأراد به الأكل مع الأعمى، كقوله ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 93‏]‏ أي حب العجل، قال‏:‏ وكما قال‏:‏ ‏{‏واسئل القرية‏}‏ وللآية وجه آخر، وهو أن الأعمى كان يتحرج عن الأكل مع الناس مخافة أن يأكل أكثر منهم وهو لا يشعر، والأعرج أيضاً يقول‏:‏ إني أحتاج لزمانتي أن يوسع لي في المجلس، فيكون عليهم مضرة، والمريض يقول‏:‏ الناس يتأذون مني لمرضي، ويقذرونني، فيفسد عليهم الطعام، فنزل ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ يعني‏:‏ لا بأس بأن يأكلوا مع الناس، ولا مأثم عليهم‏.‏ ولها وجه آخر وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ كان الناس يخرجون إلى الغزو، ويدفعون مفاتيحهم إلى الزَّمْنى والمرضى، ويقولون‏:‏ قد أحللنا لكم أن تأكلوا في منازلنا‏.‏ وكانوا يتورعون منازلهم حتى نزلت هذه الآية، وإلى هذا يذهب الزهري رضي الله عنه‏.‏

وذكر أيضاً أن مالك بن زيد، وكان صديقه الحارث بن عمرو خرج غازياً، وخلف مالكاً في أهله وماله وولده، فلما رجع الحارث رأى مالكاً متغيراً لونه، فقال‏:‏ ما أصابك، فقال‏:‏ لم يكن عندي شيء آكله، فجهدت من الشدة والجوع، ولم يكن يحل لي أن آكل شيئاً من مالك، فنزلت هذه الآية إلى قوله ‏{‏أَوْ صَدِيقِكُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم، أو من بيوت عيالكم وأزواجكم‏.‏

ويقال‏:‏ بيوتكم أي بيوت أولادكم‏.‏ ويقال‏:‏ من بيوتكم، يعني‏:‏ من بيوت بعضكم، وذلك أنه لما نزل ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل‏}‏ امتنع الناس من أن يأكل بعضهم من طعام بعض، فنزل في ذلك‏:‏ ‏{‏وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من بيوت بعضكم بعضاً‏.‏ ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا بأس أن يأكل من بيت هؤلاء بغير إذنهم، لأنه يجري بينهما من الانبساط ما يغني عن الإذن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ‏}‏ أي‏:‏ خزائنه يعني‏:‏ عبيدكم وإماءكم، إذا كان له عبد مأذون، فلا بأس أن يأكل من ماله، لأن ذلك من مال مواليه‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ حافظ البيوت، فلا بأس أن يأكل مقدار حاجته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏***وَصَدِيقِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا جناح على الصديق أن يأكل من بيت صديقه إذا كان بينهما انبساط‏.‏ وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ لو دخلت على صديق، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه كان حلالاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ جماعة أو متفرقين في بيت هؤلاء‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم كانوا يمتنعون عن الأكل وحده، وذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 6‏]‏ يعني‏:‏ الذي يأكل وحده، ويمنع رفده، ويضرب عبده، فرخص في هذه الآية، لأن الإنسان لا يمكنه أن يطلب في كل مرة أحداً يأكل معه‏.‏ وروى معمر عن قتادة قال‏:‏ نزلت الآية في حي من العرب كان الرجل منهم لا يأكل طعامه وحده، وكان يحمله بعض يوم حتى يجد من يأكل معه، فنزل ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ دخلتم بيوتاً للمسلمين ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بعضكم على بعض، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بعضكم بعضاً‏.‏ وروى عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً‏}‏ قال‏:‏ هو المسجد ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ فقولوا السلام علينا من ربنا ‏{‏تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله‏}‏ يعني‏:‏ السلام ‏{‏مباركة‏}‏ بالأَجْرِ ‏{‏طَيّبَةً‏}‏ بالمغفرة‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ إذا كان في البيت إنسان يقول‏:‏ السلام عليكم، وإذا لم يكن فيه أحد يقول‏:‏ السلام علينا من ربنا، وعلى عباد الله الصالحين، وهكذا قال مجاهد، وقال الحسن والكلبي‏:‏ ‏{‏فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بعضكم على بعض‏.‏

وروى أبو ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أبْخَلُ النَّاسِ الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلامِ» ويقال‏:‏ معنى السلام‏:‏ إذا قال السلام عليكم يعني‏:‏ السلامة لكم مني، فكأنه أمنه من شر نفسه‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ حفظكم الله من الآفات‏.‏ ويقال‏:‏ السلام هو الله، فكأنه الله حفيظ عليكم، ومطلع على ضمائركم، فإن كنتم في خير فزيدوا، وإن كنتم في شر فانزجروا ‏{‏تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله‏}‏ وأصل التحية هو البقاء والحياة كقوله‏:‏ حَيَّاكَ الله‏.‏ وإنما صار نصباً على المصدر، ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏ يعني‏:‏ أمره ونهيه في أمر الطعام والشراب ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي لكي تعقلوا وتفهموا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏62‏)‏ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏63‏)‏ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ يعني‏:‏ المصدقين ‏{‏الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ‏}‏ يعني‏:‏ مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا جمعهم على أمر لتدبير في أمر جهاد، أو في أمر من أمور الله تعالى فيه طاعة لله ولرسوله ‏{‏لَّمْ يَذْهَبُواْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يفارقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏حتى يَسْتَذِنُوهُ‏}‏‏.‏

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمعهم يوم الجمعة، فيستشيرهم في أمر الغزو، فكان يثقل على بعضهم المقام، فيخرجون بغير إذنه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ نزلت في يوم الخندق، وكان بعض الناس يرجعون إلى منازلهم بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فنهاهم الله تعالى عن ذلك، وأمرهم بأن لا يرجعوا إلا بإذنه عليه السلام، وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو، ولا ينبغي لأحد أن يرجع بغير إذنه‏.‏

وفي الآية بيان حفظ الأدب، بأن الإمام إذا جمع الناس لتدبير أمر من أمور المسلمين ينبغي أن لا يرجعوا إلا بإذنه، وكذلك إذا خرجوا إلى الغزو، لا ينبغي لأحد أن يرجع إلا بإذنه، ولا يخالف أمر السرية‏.‏ وروي عن مكحول أنه سئل عن هذه الآية وعنده عطاء، فقال‏:‏ هذا في الجمعة، وفي الزحف، وفي كل أمر جامع‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ وليسوا بمنافقين، وكان المؤمنون بعد نزول هذه الآية لم يكونوا يرجعون حتى يستأذنوا وأما المنافقون فيرجعون بغير إذن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ لبعض أمورهم وحوائجهم ‏{‏فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ‏}‏ ولا تأذن لمن شئت لأن بعض المنافقين لم يكن لهم في الرجوع حاجة، فإن أرادوا أن يرجعوا فلم يأذن لهم، وأذن للمؤمنين‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في شأن عثمان حين استأذن في غزوة تبوك بالرجوع إلى أهله، فأذن له‏.‏ ‏{‏واستغفر لَهُمُ الله‏}‏ أي فيما استأذنوك من الرجوع بغير حاجة لهم‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ رَحِيمٌ لمن تاب ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ به‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا تدعوا محمداً باسمه صلى الله عليه وسلم ‏{‏كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً‏}‏ ولكن وقِّروه وعظموه، وقولوا‏:‏ يا رسول الله، ويا نبي الله، ويا أبا القاسم‏.‏

وفي الآية بيان توقير معلم الخير، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم الخير، فأمر الله عز وجل بتوقيره وتعظيمه، وفيه معرفة حق الأستاذ، وفيه معرفة أهل الفضل‏.‏

ثم ذكر المنافقين فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله‏}‏ يعني‏:‏ يرى الله ‏{‏الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يخرجون من المسجد ‏{‏لِوَاذاً‏}‏ يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يشقُّ عليهم المقام هناك يوم الجمعة وغيره، فيتسللون من بين القوم، ويلوذ الرجل بالرجل، أو بالسارية لئِلاَّ يراه النبي صلى الله عليه وسلم حتى يخرج من المسجد‏.‏

يقال‏:‏ لاذ يلوذ إذا عاذ وامتنع بشيء‏.‏ ويقال‏:‏ معنى ‏(‏لِوَاذاً‏)‏ هنا من الخلاف، يعني‏:‏ يخالفون خلافاً، فخوفهم الله تعالى عقوبته فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ يعني‏:‏ عن أمر الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال‏:‏ عن‏:‏ زيادة في الكلام للصلة‏.‏ ومعناه‏:‏ يخالفون أمره إلى غير ما أمرهم به ‏{‏أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ الكفر، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب، فمن تركه على وجه الجحود كفر‏.‏ ويقال‏:‏ فتنة، يعني‏:‏ بلية في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ فساد في القلب‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ يصيبهم عذاب عظيم في الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ القتل بالسيف‏.‏ ويقال‏:‏ يجعل حلاوة الكفر في قلبه‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ‏}‏ على معنى الإبهام، لا على وجه الشك والتخيير‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى *** السموات والارض‏}‏ من الخلق عبيده وإماؤه في مملكته ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ من خير أو شر، فيجازيكم بذلك ‏{‏وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ‏}‏ في الآخرة ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ من خير أو شر، فيجازيهم بذلك‏.‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ من أعمالهم وأقوالهم، وبما في أنفسهم‏.‏ وروي عن الأعمش، عن سفيان بن سلمة، قال‏:‏ شهدت ابن عباس ولي الموسم، وقرأ سورة النور على المؤمنين، وفسرها على المنبر، فلو سمعتها الروم لأسلمت‏.‏ وقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ تعلموا سورة براءة، وَعَلِّموا نساءكم سورة النور، والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.‏

سورة الفرقان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ‏(‏1‏)‏ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني‏:‏ تعالى وتعظم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ويقال‏:‏ تفاعل من البركة، وهذه لفظة مخصوصة، ولا يقال‏:‏ يتبارك، كما يقال يتعالى‏.‏ ولا يقال‏:‏ متبارك، كما يقال متعالٍ‏.‏ ويقال تبارك أي ذو بركة‏.‏ والبركة هي كثرة الخير‏.‏ ويقال‏:‏ أصله من بروك الإبل‏.‏ ويقال للواحد بارك، وللجماعة برك‏.‏ وكان الإنسان إذا كان له إبل كثيرة وقد برك هو على الباب يقولون‏:‏ فلان ذو بركة، ويقولون للذي كان له إبل تحمل إليه الأموال من بلاد بعيدة‏:‏ فلان ذو بركة، فصار ذلك أصلاً، حتى أنه لو كان له مال سوى الإبل لا يقال فلان ذو بركة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ أي ذو البركة‏.‏ ويقال‏:‏ أصله من الدوام‏.‏ ويقال‏:‏ بارك في موضوع إذا دام فيه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه البركة في اسمه وفي الذي ذكر عليه اسمه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏الذى نَزَّلَ الفرقان‏}‏ يعني‏:‏ أنزل جبريل عليه السلام بالقرآن والفرقان هو المخرج من الشبهات ‏{‏على عَبْدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ يعني‏:‏ ليكون الفرقان نذيراً للإنس والجن‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم ويقال يعني‏:‏ الله تبارك وتعالى وأراد ها هنا جميع الخلق، وقد يذكر العام ويراد به الخاص من الناس، كقوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِىَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 47و122‏]‏ أي‏:‏ على عالمي زمانهم، ويذكر ويراد به جميع الخلائق، كقوله‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذى لَهُ مُلْكُ *** السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ خزائن السموات والأرض‏.‏ ويقال‏:‏ له نفاذ الأمر في السموات والأرض‏.‏ ‏{‏وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً‏}‏ ليورثه ملكه ‏{‏وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك‏}‏ فينازعه في عظمته‏.‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَئ‏}‏ كما ينبغي أن يخلقهم‏.‏ ‏{‏فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ يعني‏:‏ بين الصلاح في كل شيء، وجعله مقدراً معلوماً‏.‏ ويقال‏:‏ كل شي خلقه من الخلق فقدره تقديراً، أي‏:‏ قدر لكل ذكر وأنثى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً‏}‏ يعني‏:‏ تركوا عبادة الله الذي خلق هذه الأشياء، وعبدوا غيره‏.‏ ‏{‏لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ عبدوا شيئاً لا يقدر أن يخلق ذباباً، ولا غيره ‏{‏وَهُمْ يُخْلَقُونَ‏}‏ يتخذونها بأيديهم ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ضَرّاً‏}‏ أي‏:‏ لا تقدر الآلهة أن تمتنع ممن أراد بها سوءاً ‏{‏وَلاَ نَفْعاً‏}‏ أي لا تقدر أن تسوق إلى نفسها خيراً‏.‏ ويقال‏:‏ لا يملكون دفع مضرة، ولا جر منفعة‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يقدرون أن يميتوا أحداً ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا يحيون أحداً ‏{‏وَلاَ نُشُوراً‏}‏ يعني‏:‏ بعث الأموات‏.‏ ويقال‏:‏ ولا يملكون موتاً، يعني‏:‏ الموت الذي كان قبل أن يخلقوا، ولا حياة، يعني‏:‏ أن يزيدوا في الأجل، ولا نشوراً بعد الموت‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَمْلِكُونَ *** مَوْتاً وَلاَ حياة‏}‏ يعني‏:‏ أن يبقوا أحداً ‏{‏وَلاَ نُشُوراً‏}‏ يعني‏:‏ أن يحيوه بعد الموت‏.‏ وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء، لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء، فخاطبهم بلغتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏5‏)‏ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏ انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ‏}‏ يعني‏:‏ ما القرآن إلا كذب ‏{‏افتراه‏}‏ يعني‏:‏ كذباً اختلقه من ذات نفسه ‏{‏وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ ءاخَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ جبراً ويساراً ‏{‏فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا قول الله تعالى ردّاً على الكفار بقولهم هذا ‏{‏فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً‏}‏ يعني‏:‏ شركاً وكذباً ‏{‏وَقَالُواْ أساطير الاولين اكتتبها‏}‏ يعني‏:‏ أباطيل اكتتبها، أي كتبها من جبر ويسار يعني‏:‏ أساطير الأولين‏.‏ ‏{‏فَهِىَ تملى عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ تقرأ وتملى عليه ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ غدوة وعشية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏أَنزَلَهُ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏الذى يَعْلَمُ السر فِى * السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ يعلم السِّرَّ والعلانية، ومعناه‏:‏ لو كان هذا القول من ذات نفسه لعلمه الله تعالى، وإذا علمه عاقبه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44، 45‏]‏ ثم قال ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فكأنه يقول‏:‏ ارجعوا وتوبوا، فإنه كان غفوراً لمن تاب، رحيماً بالمؤمنين‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ *** مَّالِ *** هذا ***** الرسول يَأْكُلُ الطعام‏}‏ مثل ما نأكل ‏{‏وَيَمْشِى فِى الاسواق‏}‏ يعني‏:‏ يتردد في الطريق ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏ يعني‏:‏ معيناً يخبره بما يراد به من الشر ‏{‏أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ‏}‏ يعني‏:‏ يعطى له كنز ‏{‏أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ‏}‏ يعني‏:‏ بستاناً ‏{‏يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ أي وذلك أن كفار قريش اجتمعوا في بيت، فبعثوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم، فقال له العاص بن وائل السهمي وقريش معه‏:‏ قد تعلم يا محمد أن لا بلاد أضيق من بلادنا ساحة، ولا أقل أنهاراً ولا زرعاً، ولا أشدَّ عيشاً، فادع ربك أن يسير عنا هذه الجبال، حتى يفسح لنا في بلادنا، ثم يفجر لنا فيها أنهاراً، حتى نعرف فضلك عند ذلك‏.‏ ونراك تمشي في الأسواق معنا تبتغي من سير العيش، فاسأل ربك أن يجعل لك قصوراً أو جناناً، وليبعث معك ملكاً يصدقك، فنزل حكاية عن قولهم‏:‏ ‏{‏أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ نأكل بالنون، وقرأ الباقون بالتاء‏.‏

‏{‏وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما تطيعون يا أصحاب محمد ‏{‏إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ يعني‏:‏ مغلوب العقل‏.‏ ويقال‏:‏ مسحوراً أي مخلوقاً، لأن الذي يكون مخلوقاً يكون حياته بالمعالجة بالأكل والشرب، فيسمى مسحوراً‏.‏ ويقال‏:‏ مسحوراً أي سحر به‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال‏}‏ يعني‏:‏ انظر يا محمد كيف وصفوا لك الأشباه إلى ماذا شبهك قومك بساحر وكاهن وكذاب ‏{‏فُضّلُواْ‏}‏ عن الهدى، ويقال ذهبت حيلتهم، وأخطؤوا في المقالة‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يجدون حيلة، ولا حجة على ما قالوا لك، ولا مخرجاً لأنه تناقض كلامهم، حيث قالوا مرة‏:‏ مجنون، ومرة‏:‏ ساحر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 16‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏ لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏ وتعالى، وقد ذكرناه ‏{‏الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك‏}‏ يعني‏:‏ خيراً مما يقول الكفار في الآخرة ‏{‏جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏ في الجنة، ويقال في الدنيا إن شاء أعطاك‏.‏ وروى سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال‏:‏ عن خيثمة قال‏:‏ قيل للنبيِّ صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتحها ما لم نعط من قبلك أحداً، ولا نعطي من بعدك أحداً، ولا ينقص ذلك مما عند الله شيئاً وإن شئت جمعناها لك في الآخرة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «بَلْ اجْمَعُوها لِي في الآخِرَة» فنزل ‏{‏تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك‏}‏ الآية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ‏(‏وَيَجْعَلُ‏)‏ بضم اللام على معنى خبر الابتداء والباقون بالجزم لأنه جواب الشرط ثم قال عز وجل ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ معناه ولكن كذبوا بالساعة يعني‏:‏ بالقيامة ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً‏}‏ يعني‏:‏ هيأنا لمن كذب بالقيامة وقوداً، وهُوَ نار جهنم ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ‏}‏ جهنم ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ من مسيرة خمسمائة عام‏.‏ ويقال‏:‏ من مسيرة خمسمائة سنة ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا‏}‏ يعني‏:‏ منها ‏{‏تَغَيُّظاً‏}‏ على الكفار ‏{‏وَزَفِيراً‏}‏ يعني‏:‏ صوتاً كصوت الحمار‏.‏ وقال قوم‏:‏ معناه يسمعون منها تغيظ المعذبين وزفيرهم، كما قال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ وقال عامة المفسرين‏:‏ التغيظ زفير يسمع من النار، ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا‏}‏، ولم يقل‏:‏ سمعوا منها، ولا فيها‏.‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8‏]‏ وروي في الخبر «أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا خرَّ على وجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم الخليل عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول‏:‏ يا رب لا أسألك إلا نفسي» ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ فيها ‏{‏مَكَاناً ضَيّقاً‏}‏ يعني‏:‏ يضيق عليهم المكان كتضييق الزُّجِّ من الرُّمح ‏{‏مُقْرِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ مسلسلين في القيود، موثقين في الحديد قرنوا مع الشياطين ‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً‏}‏ فعند ذلك دعوا بالويل، يعني‏:‏ يقولون‏:‏ واهلاكاه، فتقول لهم الخزنة ‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً‏}‏ يعني‏:‏ ادعوا ويلاً كثيراً دائماً‏.‏

قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لكفار مكة ‏{‏أذلك خَيْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذا الذي وصف من العذاب خير ‏{‏أَمْ جَنَّةُ الخلد‏}‏ فإن قيل كيف يقال خير وليس في النار خير‏؟‏ قيل له‏:‏ قد يقال على وجه المجاز، وإن لم يكن فيه خير، والعاقبة تقول العاقبة خير من البلاء، وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم ‏{‏التى وُعِدَ المتقون‏}‏ يعني‏:‏ الذين يتقون الشرك والكبائر‏.‏

‏{‏كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ جزاء بأعمالهم الحسنة ومرجعاً إليها‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءونَ‏}‏ أي‏:‏ يحبون ‏{‏خالدين‏}‏ أي‏:‏ دائمين في الجنة ‏{‏كَانَ على رَبّكَ وَعْداً‏}‏ منه في الدنيا ‏{‏مَسْؤُولاً‏}‏ يسأله المتقون‏.‏ ويقال ‏{‏مَسْؤُولاً‏}‏ يسأل لهم الملائكة عليهم السلام، وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءَابَآئِهِمْ وأزواجهم وذرياتهم إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏ ويقال‏:‏ وعداً على لسان رسولهم، وقد سألوا الله عز وجل ذلك، وهو قوله‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ ويقال‏:‏ وعداً لا خلف فيه لمن سأله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 19‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ نجمعهم ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ونحشر ما يعبدون ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام‏.‏ ويقال المسيح وعزير‏.‏ ويقال‏:‏ الملائكة عليهم السلام ‏{‏فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أأنتم أمرتم ‏{‏عِبَادِى هَؤُلاَء‏}‏ أن يعبدوكم ‏{‏أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل‏}‏ يعني‏:‏ أم هم أخطؤوا الطريق، فتبرأت الملائكة والأصنام‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سبحانك‏}‏ أي‏:‏ تنزيهاً لك ‏{‏مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا‏}‏ أي‏:‏ ما يجوز لنا ‏{‏أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ وقرأ الحسن وأبو جعفر المدني أن ‏{‏نَّتَّخِذَ‏}‏ بضم النون ونصب الخاء، ومعناه‏:‏ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك إلها فيعبد‏.‏ وقراءة العامة بنصب النون وكسر الخاء، يعني‏:‏ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فيعبدوننا‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ما كان فينا روح نأمرهم بطاعتنا‏.‏ ويقال‏:‏ ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فنعبدهم، فكيف نأمر غيرنا بعبادتنا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏ قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏ بالياء‏.‏ ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ بالياء وقرأ ابن عامر كليهما بالنون‏.‏ وقرأ الباقون الأول بالنون والثاني بالياء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أن هذا كان بكرمك وفضلك، حيث لما عصوك لم تمنع عنهم الدنيا حتى اغتروا بذلك، وظنوا أنهم على الحق، حيث لم يصبهم بلاء ولم تمنع منهم النعمة، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن مَّتَّعْتَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تركتهم في الدنيا يتمتعون، وأجلتهم وآباءهم في المتاع والسعة‏.‏ ‏{‏حتى نَسُواْ الذكر‏}‏ يعني‏:‏ تركوا التوحيد والإيمان بالقرآن‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً‏}‏ أي هلكى فاسدين‏.‏ وأصله الكساد يقال‏:‏ بارت السوق إذا كسدت‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ بوراً يعني‏:‏ هالكين، فاسدة قلوبهم، غير متقين، ولا محسنين‏.‏ يقول الله تعالى لعبدة الأوثان ‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام، ويقال الملائكة ‏{‏فَمَا * يَسْتَطِيعُونَ ***** صَرْفاً وَلاَ نَصْراً‏}‏ يعني‏:‏ لا يستطيع الكفار انصرافاً إلى غير حجتهم التي تكلموا بها‏.‏ ويقال‏:‏ لا يستطيعون صرفاً، أي‏:‏ انصرافاً عن حجتهم ولا نصراً، يعني‏:‏ ولا ينتصرون من آلهتهم حين كذبتهم‏.‏ ويقال‏:‏ لا يقدرون، يعني‏:‏ الأصنام، ولا الملائكة صرف العذاب عنهم ‏{‏وَلاَ نَصْراً‏}‏ يعني‏:‏ لا يمنعونهم منه‏.‏ ويقال‏:‏ الصرف الحيلة‏.‏ ويقال‏:‏ لا يقبل منهم فدية أن يصرفوا عن أنفسهم بالفدية‏.‏

قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏فَمَا تَسْتَطِيعُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة، يعني‏:‏ يقال لهم‏:‏ لا تستطيعون صرف ذلك‏.‏ وقرأ الباقون بالياء، ومعناه أن الله تعالى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فما يستطيعون صرف ذلك عنهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يشرك بالله في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏{‏نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً‏}‏ في الآخرة، وهو عذاب النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين‏}‏ جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام‏}‏ ‏{‏إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق‏}‏ يعني‏:‏ كانت الرسل من الآدميين، ولم يكونوا من الملائكة عليهم السلام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ ابتلينا بعضكم ببعض، الفقير بالغني، والضعيف بالقوي، وذلك أن الشريف إذا رأى الوضيع قد أسلم، أنف عن الإسلام‏.‏ وقال‏:‏ أأسلم، فأكون مثل هذا، فثبت على دينه حمية‏.‏ يقول الله تعالى للشريف‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ أن تكونوا شرعاً، سواء في الدين ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ أي عالماً بمن يؤمن، ومن لا يؤمن، ويقال‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا *** بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً‏}‏ يعني بلية الغني للفقير، والقوي للضعيف، لأن ضعفاء المسلمين وفقراءهم، إذا رأوا الكفار في السعة والغنى، يتأذون منهم، وكان في ذلك بلية لهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر، يعني‏:‏ اصبروا كقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 74‏]‏ يعني‏:‏ توبوا إلى الله‏.‏ ويقال‏:‏ أهل النعم بلية لأهل الشدة، لأن أهل الشدة إذا رأوا أهل النعمة تنغص عيشهم، فأمرهم الله تعالى بالصبر‏.‏

وذكر عن بعض المتقدمين أنه كان إذا رأى غنياً من الأغنياء‏.‏ يقول‏:‏ نصبر يا رب نصبر يا رب، أراد جواباً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ عالماً بمن يصلح له الغنى والفقر ويقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ عالماً بثواب الصابرين‏.‏