فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


الجزء الثالث

سورة الروم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 6‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ غُلِبَتِ الرُّومُ ‏(‏2‏)‏ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ‏(‏3‏)‏ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏4‏)‏ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الروم‏}‏ يعني قهرت الروم ‏{‏فِى أَدْنَى الارض‏}‏ مما يلي فارس يعني أرض الأردن وفلسطين ‏{‏وَهُمْ‏}‏ يعني أهل الروم ‏{‏مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ أهلَ فارس، وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر، ملك الروم، يدعوه إلى الإسلام، فقرأ كتابه، وقبّله ووضعه على عينيه، وختمه بخاتمه، ثم أوثقه على صدره، ثم كتب جواب كتابه‏:‏ إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله لعيسى، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأَرْضِ مِنْهَا بِفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ»

وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزَّق كتابه، ورجع الرسول بعدما أراد قتله، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً‏.‏ إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ» فلمّا ظهرت فارس على الروم اغتمَّ المسلمون لذلك، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم الم غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الارض وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏‏.‏

وقال في رواية الكلبي‏:‏ إن مشركي قريش شتموا حين غلب المشركون أهل الكتاب، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه لمَ تشتمون‏؟‏ فوالله ليظهرنَّ الروم عليهم‏.‏ فقال أبيُّ بن خلف‏:‏ والله لا يكون ذلك أبداً فتبايعا أبو بكر وأبيّ بن خلف لتظهرن الروم على أهل فارس إلى ثلاث سنين على تسع ذود‏.‏ فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بالأمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «انْطلِقْ فَزِدْهُ فِي الخَطَرِ، وَمُدَّهُ فِي الأجَلِ» فرجعَ أبو بكر إلى أبيّ بن خلف، فقال‏:‏ أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة ذَود، فبايعه فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجراً أتاه فلزمه، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر‏.‏ فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحدُ أتاه محمد بن أبي بكر، فلزمه، فأعطاه كفيلاً، ثم خرج إلى أحدُ فظهرت الرُّوم على فارس عام الحديبية، وذلك عند رأس سبع سنين، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله‏}‏‏.‏

وروى أسباط، عن السدي، عن أصحابه، قال‏:‏ اقتتلت فارس والروم، فغلبتهم فارس، ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين، وقال‏:‏ الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب، فشقَّ ذلك على المسلمين، فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان، فقامره على ثلاثة أبكار على أنَّ الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال له‏:‏

«انْطَلِقْ فَزِدْ فِي الجَعْلِ، وَزِدْ في السِّنِينَ» فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار‏.‏ فالتقى الروم وفارس، فغلبتهم الروم، وظهر عليهم هرقل، فجاءه جبريل عليه السلام بهزيمة فارس، وظهور الرّوم عليهم، ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين، ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك‏.‏

ويقال إن أهل الروم كانوا أهل كتاب، وكان المسلمون يرجون إسلامهم، وأهل فارس كانوا مجوساً، فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم، وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم فنزل ‏{‏الم غُلِبَتِ الروم فِى أَدْنَى الارض‏}‏ أي أقرب الأرض إلى أرض فارس ‏{‏وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ‏}‏ روي عن الفراء أنه قال‏:‏ يعني من بعد غلبتهم، ولكن عند الإضافة سقطت الهاء، كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكواة وَكَانُواْ لَنَا عابدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 73‏]‏ ولم يقل‏:‏ وإقامة الصلاة‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هذا غلط، وإنا يجوز ذلك في المعتلّ خاصة‏.‏ والغلب والغلبة كلاهما مصدر‏.‏ و‏{‏سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ‏}‏ يعني إلى خمس سنين، ويقال‏:‏ إلى سبع سنين‏.‏

روي عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ البضع من واحد إلى أربعة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ البضع ما فوق الثلاثة إلى دون العشرة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، ويقال ‏{‏مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ‏}‏ وهذا اللفظ يكون للغالبين وللمغلوبين كقولهم من بعد قتلهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ‏}‏ يعني لله الأمر حين غلبت الروم فارس ‏{‏وَمِن بَعْدِ‏}‏ يعني حين غلبت الروم فارس‏.‏

ولفظ القبل والبعد إذا كان في آخر الكلام يكون رفعاً على معنى الإضافة للغاية، ولو كان إضافة إلى شيء يكون خفضاً، كقولك‏:‏ من بعدهم ومن قبلهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون‏}‏ لما يرجون من إسلامهم، ويقال‏:‏ يفرح أبو بكر رضي الله عنه خاصة، ويقال‏:‏ يفرح المؤمنون بتصديق وعد الله تعالى‏.‏ وروي عن الشعبي أنه قال‏:‏ كان ذلك عام الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبايعوه مبايعة الرضوان، ووعد لهم غنائم خيبر، وظهرت الروم على فارس، وكان تصديقاً لهذه الآية ‏{‏وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون‏}‏ وإنَّما جازت مخاطرة أبي بكر رضي الله عنه لأن المخاطرة كانت مباحة في ذلك الوقت، ثم حرمت بقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ الآية، ثم قال ‏{‏بِنَصْرِ الله‏}‏ يعني بفتح الله ‏{‏يَنصُرُ مَن يَشَاء‏}‏ يعني نصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏وَهُوَ العزيز الرحيم‏}‏ بالمؤمنين حين نصرهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ نصب الوعد لأنه مصدر، ومعناه وعد الله وعداً يعني انتصروا وعد الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ‏}‏ حيث وعد لهم غلبة الروم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني الكفار لا يعلمون أن الله عزَّ وجلَّ لا يخلف وعده، ويقال‏:‏ لا يعلمون الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ‏(‏8‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏10‏)‏ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا‏}‏ يعني يعلمون حرفتهم، وأمر معايشهم، ومتى يدرك زرعهم‏.‏ ويقال في أمر التجارة كانوا أكيس الناس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان الرجل منهم يأخذ درهماً ويقول وزنه كذا ولا يخطئ‏.‏ ‏{‏وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون‏}‏ أي لا يؤمنون بها‏.‏ ويقال‏:‏ عن أمر الآخرة، وما وعدوا فيها من الهول والعذاب هم غافلون‏.‏

ثم وعظهم فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ فيعتبروا في خلق السموات والأرض‏.‏ وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال‏:‏ تفكر ساعة خير من قيام ليلة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّا خَلَقَ الله السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق‏}‏ يعني للحق ‏{‏وَأَجَلٌ مُّسَمًّى‏}‏ يعني السموات والأرض لهن أجل ووقت معلوم ‏{‏وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الناس بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون‏}‏ يعني جاحدون للبعث‏.‏

ثم خوفهم، فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني الأمم الخالية كانت عاقبتهم الهلاك، ثم أخبر عنهم فقال‏:‏ ‏{‏كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الارض‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني ملكوا الأرض‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني حرثوها‏.‏ ويقال‏:‏ أثاروا الأرض إذا قلبوها للزراعة‏.‏ ‏{‏وَعَمَرُوهَا‏}‏ يعني عمروا الأرض ‏{‏أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا‏}‏ يعني أهل مكة‏.‏ ويقال‏:‏ عاشوا فيها أكثر مما عاش أهل مكة ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ يعني بالحجج الواضحات فكذبوهم، فأهلكهم الله عزَّ وجلَّ ‏{‏فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ‏}‏ أي ليعذبهم بغير ذنب ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ بالمعاصي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أَسَاءواْ‏}‏ يعني آخر أمر الذين أشركوا ‏{‏السوأى‏}‏ يعني العذاب، فيجوز أن تكون ثم على معنى التأخير، ويجوز أن يكون معناه‏:‏ ثم مع هذا كان عاقبة الذين‏.‏ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ‏{‏وَلِلَّهِ عاقبة‏}‏ بالضّمّ، وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم جعله اسم كان، وجعل ‏{‏السوء‏}‏ خبر كان، ومن قرأ بالنصب جعل العاقبة خبر كان والسوء اسم كان، ومعنى القراءتين يرجع إلى شيء واحد، يعني ثم كان عاقبة الكافرين النار لتكذيبهم بآيات الله عزَّ وجلَّ‏.‏ والسوء هاهنا جهنم، كما أن الحسنى الجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين‏}‏ يعني‏:‏ عاقبة جهنم، لأنهم كذبوا بآيات الله ما جاءت بها الرسل ‏{‏وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بآيات الله ‏{‏الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ يعني يحييهم بعد الموت ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ في الآخرة‏.‏ قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ بالياء على معنى الإخبار عنهم، وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 16‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏13‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ‏(‏14‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ‏(‏15‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ واذكر يوم تقوم الساعة ‏{‏يُبْلِسُ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ ييأس المشركون من كل خير‏.‏ ويقال‏:‏ أيسوا من إقامة الحجة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يُبْلِسُ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ يندمون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المبلس الساكت‏.‏ المنقطع الحجة، الآيس من أن يهتدي إليها ‏{‏وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء‏}‏ يعني‏:‏ من الملائكة، ومن الأصنام ‏{‏وَكَانُواْ بِشُرَكَائِهِمْ كافرين‏}‏ يعني‏:‏ تبرأت الملائكة عليهم السلام منهم، وتبرأت الأصنام عنهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بعد الحساب يتفرقون‏.‏ فريق في الجنة، وفريق في النار‏.‏

ثم أخبر عن مرجع كل فريق فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني‏:‏ الذين صدقوا بالله ورسوله، وأدّوا الفرائض والسنن ‏{‏فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ بستان يكرمون وينعمون‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يفرحون ويكرمون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ينعمون‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يسرون وينعمون‏.‏ والحبرة‏:‏ السرور‏.‏ ومنه يقال مع كل حبرة عبرة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحسنون إليهم‏.‏ يقال للعالم‏:‏ حبر، وللمداد حبر، لأنه يحسن به الكتابة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يُحْبَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يسمعون أصوات المغنيات‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين كفروابئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ‏{‏وَلِقَاء الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ البعث بعد الموت ‏{‏فَأُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مقرنين‏.‏ ويقال‏:‏ يجتمعون هم وآلهتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 26‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ‏(‏17‏)‏ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ‏(‏18‏)‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏19‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ‏(‏20‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ‏(‏22‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏24‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ ‏(‏25‏)‏ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَسُبْحَانَ الله‏}‏ يعني‏:‏ صلوا لله ‏{‏حِينَ تُمْسُونَ‏}‏ يعني‏:‏ صلاة المغرب والعشاء ‏{‏وَحِينَ تُصْبِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ صلاة الفجر وعشياً‏.‏ يعني‏:‏ صلاة العصر وحين تظهرون‏.‏ على معنى التقديم والتأخير أي‏:‏ صلاة الظهر ‏{‏وَلَهُ الحمد فِى السموات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحمده أهل السموات، وأهل الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ له الألوهية في السموات والأرض، كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله وَهُوَ الحكيم العليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏ يقال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ الحمد‏}‏ يعني‏:‏ الحمد على أهل السموات وأهل الأرض، لأنهم في نعمته، فالحمد واجب علينا‏.‏

‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ يعني‏:‏ الدجاجة من البيضة، والإنسان من النطفة، والمؤمن من الكافر‏.‏ ‏{‏وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ يعني‏:‏ البيضة من الدجاجة، والكافر من المؤمن‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت‏}‏ يعني‏:‏ ينبت النبات من الأرض بعد يبسها، وقحطها بالمطر‏.‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحييكم بالمطر الذي يمطر من البحر المسجور كالمني فتحيون به‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يرسل الله عز وجل يوم القيامة ماء الحيوان من السماء السابعة من البحر المسجور على الأرض، بين النفختين، فينتشر عظام الموتى فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏‏:‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بفتح التاء‏.‏ والباقون برفع التاء‏.‏ يعني‏:‏ تخرجون من قبوركم يوم القيامة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني ومن علامات الرب، أنه واحد وإن لم يروه، وعرفوا توحيده بصنعه، ‏{‏أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ خلق آدم من تراب وأنتم ولده ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ‏}‏ ذريته من بعده ‏{‏بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تبسطون‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولى الحميد‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 28‏]‏ يعني‏:‏ ويبسط‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ يعني‏:‏ من العلامات التي تدل على أن الله عز وجل واحد لا مثل له، ظهور القدرة التي يعجز عنها المخلوقون ‏{‏أَنْ خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ آدم عليه السلام ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ‏}‏ منتشرون على وجه الأرض‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ يعني‏:‏ من علامات وحدانيته ‏{‏أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من جنسكم ‏{‏أزواجا‏}‏ لأنه لو كان من غير جنسه، لكان لا يستأنس بها‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خلقها من آدم‏.‏ ويقال‏:‏ من بعضكم بعضاً ‏{‏لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ لتستقر قلوبكم عندها‏.‏ لأن الرجل إذا طاف البلدان، لا يستقر قلبه، فإذا رجع إلى أهله، اطمأن واستقر‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ لتوافقوها ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ الحب بين الزوج والمرأة، ولم يكن بينهما قرابة‏.‏ ويحب كل واحد منهما صاحبه، ويقال‏:‏ وجعل منكم مودة للصغير على الكبير، ورحمة للكبير على الصغير‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ الولدان ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ فيما ذكر لعلامات لوحدانيته ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ أني خالق‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ * السموات والارض‏}‏ وأنتم تعلمون ذلك، لأنهم مقرون أن الله عز وجل خالقهم، وهو خالق الأشياء ‏{‏واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ عربي، وعجمي، ونبطي، ‏{‏وألوانكم‏}‏ أي‏:‏ أحمر، وأبيض، وأسود، وأسمر‏.‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لعلامات في خلق السموات والأرض، واختلاف الألسن، والألوان لعلامات‏.‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ فيعتبرون‏.‏ قرأ عاصم في روية حفص‏:‏ ‏{‏للعالمين‏}‏ بكسر اللام‏.‏ يعني‏:‏ جميع العلماء، يعني‏:‏ إن في ذلك علامة للعقلاء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بنصب اللام يعني‏:‏ علامة لجميع خلق الإنس والجن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته مَنَامُكُم باليل والنهار‏}‏ منامكم نومكم، فهو مصدر‏.‏ يقال‏:‏ نام نوماً، ومناماً بالليل والنهار، على معنى التقديم يعني‏:‏ منامكم بالليل ‏{‏وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ‏}‏ بالنهار يعني‏:‏ طلبكم الرزق بالنهار والمعيشة ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لعلامات على وحدانيتي ‏{‏لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ‏}‏ المواعظ ويعتبرون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً‏}‏ من الصواعق إذا كنتم بأرض قفر، ‏{‏وَطَمَعًا‏}‏ للمطر‏.‏ ‏{‏خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ منصوبان على المفعول له المعنى يريكم للخوف والطمع، خوفاً للمسافر وطمعاً للمقيم‏.‏

‏{‏وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاء‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏وَمِنْ ءاياته يُرِيكُمُ‏}‏ أي‏:‏ بالنبات ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لايات‏}‏ أي‏:‏ لعلامات ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ عن الله عز وجل فيوحدونه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن تَقُومَ السماء‏}‏ يعني‏:‏ فوق رؤوسكم بغير عمد لا يناله شيء، وتقوم الأرض على الماء تحت أقدامكم ‏{‏والارض بِأَمْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ بقدرته ‏{‏ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض‏}‏ يعني‏:‏ إسرافيل عليه السلام يدعوكم على صخرة بيت المقدس في الصور دعوة من الأرض ‏{‏إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ في الآية تقديم‏.‏ ومعناه‏:‏ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض يعني‏:‏ من قبوركم فإذا أنتم تخرجون‏:‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بنصب التاء وضم الراء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بضم التاء ونصب الراء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَهُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ من الخلق ‏{‏كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ يعني‏:‏ مقرّين بالعبودية‏.‏ يعلمون أن الله عز وجل ربهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏قانتون‏}‏ أي‏:‏ خاضعون له، لا يقدرون أن يغيروا أنفسهم عما خلقهم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه في كل شيء دليل ربوبيّته‏.‏ وهذا أيضاً من آياته‏.‏ ولكنه لم يذكر لأنه قد سبق ذكره مرات، فكأنه يقول ومن آياته أن له من في السموات والأرض كل له قانتون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ أي‏:‏ خلق آدم، فبدأ خلقهم ولم يكونوا شيئاً ‏{‏ثُمَّ يُعِيدُهُ‏}‏ يعني‏:‏ يبعثهم في الآخرة أحياء ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ في المثل عندكم، لأن إبداء الشيء أشدّ من إعادته‏.‏ ويقال‏:‏ إن ابتداءه كان نطفة، ثم جعله علقة، ثم جعله مضغة، ثم لحماً، ثم عظاماً‏.‏ وفي الآخرة حال واحد وذلك هو أهون عليه من هذا‏.‏ وقال القتبي عن أبي عبيدة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ هيّن عليه كما يقال الله أكبر أي‏:‏ الكبير‏.‏ ويقال‏:‏ الإعادة أهون عليه من البداية، والبداية عليه هين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَهُ المثل الاعلى فِى السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ الصفات العلى بأنه واحد لا شريك له ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ في ملكه ‏{‏الحكيم‏}‏ في أمره‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً‏}‏ نزلت في كفار قريش، كانوا يعبدون الآلهة، ويقولون في إحرامهم‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً‏}‏ أي‏:‏ وصف لكم شبهاً ‏{‏مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم‏}‏ يعني‏:‏ من العبد ‏{‏مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم‏}‏ من الأموال ‏{‏فَأَنتُمْ‏}‏ وعبيدكم ‏{‏فِيهِ سَوَآء‏}‏ في الرزق فيما أعطيناكم من الأموال والملك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ أتخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت، كما تخافون أن يرثكم الأحرار‏.‏ فقالوا‏:‏ لا‏.‏ فقال‏:‏ أترضون لله الشركة في ملكه وتكرهون لأنفسكم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ ‏{‏هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم‏}‏ من أموالكم، من عبيدكم وإمائكم، ‏{‏فَأَنتُمْ‏}‏ وهم ‏{‏فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ كما يخاف الرجل ابنه وعمه وأقاربه‏.‏ قالوا‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأنتم لا ترضون هذا لأنفسكم أن يكونوا فيما تملكون يشاركونكم في أموالكم‏.‏ فكيف ترضون لله ما لا ترضون به لأنفسكم‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً‏}‏ هذا مثل ضربه الله عز وجل في الميراث للآلهة‏.‏ يقول‏:‏ هل لكم مماليك شركاء في الميراث الذي ترثونه من آبائكم، وأنتم تخافون أن يدخل معكم مملوككم في ذلك الميراث، كما تدخلون أنتم فيه‏.‏ فكما لا يكون للملوك أن يدخل في مواريثكم، فكذلك لا يكون لهذا الوثن الذي تعبدونه من دون الله عز وجل، أن يدخل في ملكي‏.‏ وإنما خلقي وعبيدي‏.‏

قال أبو الليث رحمه الله عز وجل‏:‏ وفي الآية دليل أن العبد لا ملك له، لأنه أخبر أن لا مشاركة للعبيد فيما رزقنا الله عز وجل من الأموال‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كذلك نُفَصّلُ الآيات‏}‏ يعني‏:‏ نبيّن العلامات ‏{‏لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ الأمثال فيوحدونه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اتبع الذين كفروا أهواءهم بعبادة الأوثان ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بغير حجة ‏{‏فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله‏}‏ يعني‏:‏ فمن يهدي إلى توحيد الله، من أضله الله وخذله وطرده‏.‏ ويقال‏:‏ فمن يرشد إلى الحق من خذله الله عز وجل ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ يعني‏:‏ مانعين من عذاب الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 35‏]‏

‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏30‏)‏ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏31‏)‏ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏32‏)‏ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً‏}‏ أي‏:‏ أخلص دينك الإسلام للدين حنيفاً‏.‏ يعني‏:‏ للتوحيد مخلصاً‏.‏ ويقال‏:‏ يذكر الوجه ويراد به هو، فكأنه يقول‏:‏ فأقم الدين مخلصاً‏.‏ ويقال‏:‏ معناه فأقبل بوجهك إلى الدين، وأقم عليه حنيفاً، أي‏:‏ مخلصاً، مائلاً إليه‏.‏ ويقال‏:‏ أخلص دينك وعملك لله تعالى، وكن مخلصاً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فِطْرَةَ الله‏}‏ يعني‏:‏ اتبع دين الله‏.‏ ويقال‏:‏ اتبع ملة الله‏.‏ ويقال‏:‏ الفطرة الخلقة يعني‏:‏ خلقة الله ‏{‏التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ أي‏:‏ خلق البشر عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ» وروي عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏فِطْرَةَ الله الذى فَطَرَكُمْ الناس عَلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ خلق الناس عليها‏.‏ وفي الخبر أنه قال‏:‏ «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ» لأنه شهد يوم الميثاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله‏}‏ يعني‏:‏ لا تغيير لدين الله‏.‏ ويقال‏:‏ لا تبديل لخلق الله عندما خلق الله الخلق، لم يكن لأحد أن يغير خلقته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ يعني‏:‏ التوحيد هو الدين المستقيم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة لا يعلمون بتوحيد الله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ انصرف إلى قوله ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ‏}‏ يعني‏:‏ فأقبل بوجهك منيباً إليه‏.‏ ويجوز أن يخاطب الرئيس بلفظ الجماعة، لأن له أتباعاً‏.‏ وإنما يراد به هو وأتباعه كما قال‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فاتقوا الله ياأولى الألباب الذين ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ راجعين إليه من الكفر إلى التوحيد‏.‏ ‏{‏واتقوه وَأَقِيمُواْ الصلاة‏}‏ يعني‏:‏ وأتموا الصلوات الخمس ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين‏}‏ على دينهم ‏{‏مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تركوا دين الإسلام الذي أمروا به‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ فجعلوه أدياناً يعني‏:‏ تركوا دينهم وصاروا فرقاً اليهود والنصارى والمجوس، قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏فارقوا‏}‏ بالألف‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏الذين فَرَّقُواْ‏}‏ بغير ألف‏.‏ فمن قرأ‏:‏ فارقوا يعني‏:‏ تركوا دينهم‏.‏ ومن قرأ ‏{‏فَرَّقُواْ‏}‏ دينهم يعني‏:‏ افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمون ثلاثة وسبعين فرقة ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كل أهل دين بما عندهم من الدين راضون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أصاب الكفار شدة ‏{‏دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ منقلبين إليه بالدعاء عند الشدة والقحط ‏{‏ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ إذا أصابهم من الله نعمة، وهي السعة في الرزق والخصب ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تركوا توحيد ربهم في الرخاء، وقد وحّدوه في الضراء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم‏}‏ قال مقاتل‏:‏ تقول أذاقهم رحمة لئلا يكفروا بالذي أعطاهم من الخير‏.‏ ويقال‏:‏ كانت النعمة سبيلاً للكفر فكأنه أعطاهم لذلك، كما قال ‏{‏فالتقطه ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وقرئ في الشاذ يشركون ليكفروا، بجزم اللام فيكون أمراً على وجه الوعيد والتهديد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ فتمتعوا قليلاً إلى آجالكم فسوف تعلمون ما يفعل بكم يوم القيامة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا‏}‏ يعني‏:‏ كتاباً من السماء ‏{‏فَهُوَ يَتَكَلَّمُ‏}‏ يعني‏:‏ ينطق ‏{‏بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بما كانوا يقولون من الشرك‏.‏ اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به النفي يعني‏:‏ لم ينزل عليهم حجة بذلك‏.‏ وقال القتبي‏:‏ فهو يتكلم فهو من المجاز ومعناه‏:‏ أنزلنا عليهم برهاناً يستدلون به، فهو يدلهم على الشرك‏.‏ ويقال‏:‏ أم أنزلنا عليهم عذراً بذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 40‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ‏(‏36‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ‏(‏39‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ المطر والسعة ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ الجوع والشدة ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ جزاء لذنوبهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ‏}‏ يعني‏:‏ آيسين من الرزق‏.‏ قرأ أبو عمرو الكسائي‏:‏ ‏{‏يَقْنَطُونَ‏}‏ بكسر النون‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب‏.‏ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

ثم وعظهم ليعتبروا ويطمئنوا بالرزق فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يوسع، وكان يرى صلاح العبد في ذلك‏.‏ ‏{‏وَيَقْدِرُ‏}‏ يعني‏:‏ يضيق العيش‏.‏ ويكون صلاحه في ذلك من البسط والتقتير ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ في البسط والتقتير ‏{‏لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني يصدقون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ فأعط ذا القربى حقه، وحق القرابة هو الصلة ‏{‏والمساكين‏}‏ يعني‏:‏ أعط السائل حقه، وحقه أن يتصدق عليه بشيء ‏{‏وابن السبيل‏}‏ يعني‏:‏ الضيف النازل، وحقه أن تحسن إليه ‏{‏ذلك خَيْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ الذي وصف من صلة القرابة، والمسكين، وابن السبيل، ذلك خير ‏{‏لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله‏}‏ يعني‏:‏ أي يريدون بذلك رضاء الله، خير من الإمساك عندهم‏.‏ ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ يعني‏:‏ الناجون‏.‏ ويقال‏:‏ الباقون في النعمة‏.‏ ويسمى السحور فلاحاً لأنه يبقي للصائم قوة ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً‏}‏ يعني‏:‏ ما أعطيتم من عطية ‏{‏لّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ الناس‏}‏ يعني‏:‏ ليزدادوا في أموال‏.‏ ومعناه‏:‏ ما أعطيتم من عطية لتلتمسوا بها الزيادة ‏{‏فَلاَ يَرْبُواْ *** عَندَ الله‏}‏ أي‏:‏ فلا تضاعف تلك العطية عند الله عز وجل، ما أعطيتم عند الله ولا يأثم فيه‏.‏ وروى معمر عن قتادة عن ابن عباس قال‏:‏ هي هبة يريد أن يثاب أفضل منها‏.‏ فذلك الذي لا يربو عند الله، ولا يؤجر فيه صاحبه، ولا إثم عليه‏.‏ ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ مّن رِباً‏}‏ قال‏:‏ هي الصدقة ‏{‏تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ المضعفون‏}‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الربا ربوان‏:‏ ربا حلال، وربا حرام‏.‏ فأما الحلال فهو هبة الرجل يريد أن يثاب ما هو أفضل منها‏.‏ وأما الحرام فزيادة خالية عن العوض في عقد المعاوضة‏.‏ وهو نوعان‏:‏ ربا الفضل، وربا النساء‏.‏ عرف ذلك في كتب الفقه‏.‏ قرأ ابن كثير ‏{‏وَمَا ءاتَيْتُمْ‏}‏ بغير مد يعني‏:‏ ما جئتم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالمد يعني‏:‏ ما أعطيتم‏.‏ واتفقوا في الثاني أنه بالمد‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏لتربو‏}‏ بالتاء والضم، والباقون بالياء والنصب‏.‏ فمن قرأ بالنصب‏.‏ فمعناه‏:‏ لتستزيدوا أنتم زيادة في المال‏.‏ يعني‏:‏ لتكثروا أموالكم بما أعطيتم‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏ليربو‏}‏ بالياء معناه‏:‏ ليربو المعطي فيكثر حتى يرد ما هو أكثر منه‏.‏

ثم بيّن ما يربو فيه فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا مّن كتاب زكواة‏}‏ يعني‏:‏ ما أعطيتم من صدقة تريدون وجه الله يعني‏:‏ رضا الله‏.‏ ففيه الإضعاف‏.‏ فأولئك هم المضعفون للواحد عشرة فصاعداً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏المضعفون‏}‏ أي‏:‏ الواجدين من الضعف‏.‏ كما يقال‏:‏ أكذبته إذا وجدته كاذباً‏.‏

ثم أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ‏}‏ ولم تكونوا شيئاً ‏{‏ثُمَّ رَزَقَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أطعمكم ما عشتم في الدنيا ‏{‏ثُمَّ يُمِيتُكُمْ‏}‏ عند انقضاء آجالكم ‏{‏ثُمَّ يُحْيِيكُمْ‏}‏ للبعث بعد الموت، لينْبّئكم بما عملتم في الدنيا ويجازيكم ‏{‏هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَئ‏}‏ يعني‏:‏ يفعل كفعله‏.‏

ثم نزّه نفسه فقال‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ وقد ذكرناه‏.‏ ويقال‏:‏ الله الذي خلقكم وطلب منكم العبادة، ثم رزقكم وطلب الطمأنينة، ثم يميتكم وطلب منكم الاستعداد للموت، ثم يحييكم وطلب منكم الحجة والبرهان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 45‏]‏

‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏41‏)‏ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ‏(‏42‏)‏ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ‏(‏43‏)‏ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ‏(‏44‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ يعني‏:‏ قحط المطر، ونقص الثمار للناس والدواب‏.‏ يعني‏:‏ نقص النبات في البر للدواب والوحوش؛ وفي البحر يعني‏:‏ القرى والأرضين ينقصان الثمار والزرع‏.‏ سمى القرى والمدائن بحراً لما يجري فيها من الأنهار‏.‏ ويقال‏:‏ البحر نفسه لأنه إذا لم يكن مطر، فإنه لا يخرج منه اللؤلؤ ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ أي‏:‏ بما عملوا من المعاصي‏.‏ ويقال‏:‏ من أذنب ذنباً فجميع الخلق من الإنس والجن، والدواب والوحوش، والطير والذر، خصماؤه يوم القيامة، لأنه يمنع المطر بالمعصية، فيضرّ بأهل البر والبحر‏.‏

وروي عن ثقيف الزاهد أنه قال‏:‏ من أكل الحرام، فقد خان جميع الناس، حيث لا يستجاب دعاؤه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ يعني‏:‏ ظهرت المعاصي في البر والبحر ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس‏}‏ يعني‏:‏ بكسب الناس‏.‏ فأول فساد البر كان من قابيل حيث قتل أخاه هابيل، وأول فساد البحر كان من جلندا حيث كان يأخذ كل سفينة غصباً‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ ظهور الفساد قحوط المطر‏.‏ قيل له‏:‏ هذا فساد البر فما فساد البحر‏؟‏ قال‏:‏ إذا قلّ المطر قلّ الغوص‏.‏ وقال قتادة ‏{‏ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر‏}‏ يعني‏:‏ امتلأت الضلالة والظلم في الأرض‏.‏

وروي عن أبي العالية أنه قال البر‏:‏ الأعضاء والبحر‏:‏ القلوب يعني‏:‏ ظهر الفساد في الناس في الأعضاء وفي القلوب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يعذبهم ببعض ذنوبهم في الدنيا، ويّدخر البعض في الآخرة‏.‏ والذوق إنما هو كناية عن التعذيب‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ يعذبهم بالجوع والقحط في الدنيا ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي يرجعوا عن الكفر‏.‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏لّنُذِيقَهُمْ‏}‏ بالنون أي‏:‏ لنذيقهم نحن‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء يعني‏:‏ ليذيقهم الله عز وجل‏.‏

ثم خوّفهم فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ سِيرُواْ فِى الارض‏}‏ أي‏:‏ سافروا فيها ‏{‏فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ كيف كان آخر أمر من كان قبلهم ‏{‏كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ‏}‏ فيعتبروا بذلك‏.‏ والنظر على وجهين‏.‏ يقال‏:‏ نظر إليه إذا نظر بعينه، ونظر فيه إذا تفكر بقلبه‏.‏ وهاهنا قال‏:‏ ‏{‏فانظروا‏}‏ ولم يقل فيه، ولا إليه‏.‏ فهو على الأمرين جميعاً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم‏}‏ يعني‏:‏ أخلص دينك الإسلام القيم‏.‏ يعني‏:‏ المستقيم‏.‏ ويقال‏:‏ أقبل بوجهك إليه‏.‏ ويقال‏:‏ اثبت عليه‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة لا يقدر أحد أن يرد ذلك اليوم من الله‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ ذلك اليوم من الله‏.‏ ويقال‏:‏ لا خلف لذلك الوعد من الله ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتصدعون‏.‏ فأدغم التاء في الصاد وشدد‏.‏ يعني‏:‏ يتفرقون فريق في الجنة، وفريق في السعير‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ يعني‏:‏ جزاء كفره وعقوبته ‏{‏وَمَنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ يعني‏:‏ وحّده وعمل بالطاعة بعد التوحيد ‏{‏فَلاِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي يقدمون‏.‏ وقال مجاهد‏.‏ يعني‏:‏ لأنفسهم يفرشون في القبر‏.‏ ويقال‏:‏ في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ فلأنفسهم يعملون ويستعدون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً‏}‏ ينصرف إلى قوله يصدعون‏.‏ يعني‏:‏ يتفرقون لكي يجزي الذين آمنوا ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من رزقه‏.‏ ويقال‏:‏ من ثوابه‏.‏ ويقال‏:‏ بفضله ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ بتوحيد الله عز وجل‏.‏ ويقال‏:‏ لا يرضى دين الكافرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 51‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ‏(‏49‏)‏ فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح‏}‏ يعني‏:‏ ومن علامات وحدانيته أن يعرفوا توحيده بصنعه، أن يرسل الرياح ‏{‏مبشرات‏}‏ بالمطر‏.‏ ويقال‏:‏ يستبشر بها الناس‏.‏ ويقال‏:‏ فإذا كان الاستبشار به ينسب الفعل إليه ‏{‏وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ليصيبكم من نعمته وهو المطر ‏{‏وَلِتَجْرِىَ الفلك بِأَمْرِهِ‏}‏ يعني‏:‏ السفن تجري في البحر بالرياح بأمره ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لتطلبوا في البحر من رزقه كل هذا بالرياح ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ رب هذه النعم فتوحدوه‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ * موسى بالبينات‏}‏ بالأمر والنهي، فكذبوهم كما كذب قومك ‏{‏فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ بالعذاب يعني‏:‏ من الذين كفروا ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ واجباً علينا ‏{‏نَصْرُ المؤمنين‏}‏ بالنجاة مع رسولهم‏.‏ وإنما هو وجوب الكرم، لا وجوب اللزوم‏.‏

ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا، فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏الله الذى يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً‏}‏ يعني‏:‏ تدفعه وتهيجه‏.‏ يقال‏:‏ ثار الغبار إذا ارتفع ‏{‏فَيَبْسُطُهُ فِى السماء كَيْفَ يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ كيف يشاء الله عز وجل‏.‏ إن شاء بسطه مسيرة يوم أو أكثر ‏{‏وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً‏}‏ يعني‏:‏ قطعاً ‏{‏فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ المطر يخرج من خلاله، من وسط السحاب ‏{‏فَإِذَا أَصَابَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالمطر ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يفرحون بنزول المطر عليهم قرأ ابن عامر ‏{‏كِسَفًا‏}‏ بالجزم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ‏}‏ أي‏:‏ من قبل نزول المطر عليهم‏.‏ ‏{‏لَمُبْلِسِينَ‏}‏ يعني‏:‏ آيسين من المطر‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ تكرير قبل للتأكيد‏.‏ وقال قطرب‏:‏ الأول للتنزيل، والثاني للمطر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ألوان النبات من أثر المطر منه الأخضر، والأحمر، والأصفر‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص وابن عامر ‏{‏فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ‏}‏ بلفظ الجماعة‏.‏ قرأ الباقون بلفظ الوحدان، لأن الوحدان يغني عن الجمع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ حين لم يكن فيها نبات ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ يعني‏:‏ هذا الذي فعل ‏{‏فانظر إلى‏}‏ في الآخرة ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ *** وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً‏}‏ يعني‏:‏ الزرع متغيّراً بعد خضرته ‏{‏لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لصاروا، وأصله العمل بالنهار‏.‏ ويستعمل في موضع صار كقوله أصبح وأمسى يوضع موضع صار ‏{‏مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ من بعد اصفراره يكفرون النعم‏.‏ يقول‏:‏ لو فعلت ذلك لفعلوا هكذا‏.‏ ويقال‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَرَأَوْهُ‏}‏ إشارة إلى النبات، لأن الريح مؤنثة‏.‏ وإنما أراد ما ينبت بالمطر‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أنهم يستبشرون إذا رأوا الغيث، ويكفرون إذا انقطع عنهم النبات‏.‏

ثم ضرب لهم مثلاً آخر فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 60‏]‏

‏{‏فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏53‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ‏(‏54‏)‏ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ ‏(‏55‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏56‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ‏(‏57‏)‏ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ ‏(‏58‏)‏ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏59‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى‏}‏ فشّبه الكفار بالموتى‏.‏ فكما لا يسمع الموتى النداء، فكذلك لا يجيب، ولا يسمع الكفار الدعاء، إذا دعوا إلى الإيمان ‏{‏وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أن الأصم إذا كان مقبلاً لا يسمع، فكيف إذا ولى مدبراً‏؟‏ فكذلك الكافر لا يسمع إذا كان يتصامم عند القراءة، والقراءة ذكرناها في سورة النمل‏.‏

ثم قال عزّ وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى‏}‏ إلى الإيمان ‏{‏عَن ضلالتهم‏}‏ يعني‏:‏ لا تقدر أن توفقه وهو لا يرغب عن طاعتي في طلب الحق ‏{‏إِن تُسْمِعُ‏}‏ يعني‏:‏ ما تسمع ‏{‏وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى‏}‏ يعني‏:‏ بالقرآن ‏{‏فَهُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مخلصون‏.‏

ثم أخبرهم عن خلق أنفسهم ليعتبروا ويتفكروا فيه فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ‏}‏ يعني‏:‏ من نطفة‏.‏ ويقال‏:‏ صغيراً لا يعقل ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ شدة بتمام خلقه ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً‏}‏ يعني‏:‏ بعد الشباب الهرم ‏{‏وَشَيْبَةً‏}‏ أي‏:‏ شمطاً‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص وحمزة‏:‏ من ضعف بنصب الضاد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ من ضعف بالضم‏.‏ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ أي‏:‏ يحول الخلق كما يشاء من الصورة ‏{‏وَهُوَ العليم القدير‏}‏ ‏{‏العليم‏}‏ بتحويل الخلق، ‏{‏القدير‏}‏ يعني‏:‏ القادر على ذلك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ يحلف المشركون ‏{‏مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ في الدنيا‏.‏

يقول الله عز وجل‏:‏ كذلك كانوا يكذبون بالبعث كما أنهم كذبوا حيث قالوا ‏{‏مَا لَبِثُواْ‏}‏ يعني في القبور غير ساعة ويقال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ‏}‏ لأنهم يقولون مرة‏:‏ ‏{‏>يتخافتون بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 103‏]‏ ومرة يقولون‏:‏ ‏{‏>قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 119‏]‏ ومرة يقولون‏:‏ ‏{‏مَا لَبِثْنَا غَيْرَ سَاعَةٍ‏}‏ فيقول الله تعالى‏:‏ هكذا كانوا في الدنيا‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان‏}‏ يعني‏:‏ أكرموا بالعلم والإيمان ‏{‏لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله‏}‏ أي‏:‏ في علم الله‏.‏ ويقال‏:‏ فيما كتب الله عز وجل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الآية تقديم‏.‏ يعني‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ في كتاب الله ‏{‏والإيمان‏}‏ وهو ملك الموت ‏{‏لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ الذين أوتوا العلم بالكتاب وأوتوا ‏{‏الايمان‏}‏ وهم العلماء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تصدقون بهذا اليوم في الدنيا‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أشركوا ‏{‏مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمر‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنفَعُ‏}‏ بالتاء بلفظ التأنيث، لأن لفظ المعذرة مؤنثة‏.‏

وقرأ الباقون‏:‏ بالياء، فينصرف إلى المعنى يعني‏:‏ عذرهم ‏{‏وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ‏}‏ يقال‏:‏ عتب يعتب إذا غضب عليه، وأعتب يعتب إذا رجع عن ذنبه، واستعتب إذا طلب منه الرجوع‏.‏ يعني‏:‏ أنه لا يطلب منهم الرجوع في ذلك اليوم ليرجعوا‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ وصفنا وبيّنّا ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان‏}‏ أي‏:‏ شبه ‏{‏وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ‏}‏ كما سألوا ‏{‏لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ المشركون من أهل مكة ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يقولون ما أنت إلا كاذب، وليس هذا من الله عز وجل، كما كذبوا بانشقاق القمر‏.‏ يقال‏:‏ أبطل الرجل إذا جاء بالباطل‏.‏ وأكذب إذا جاء بالكذب‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ كاذبون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله‏}‏ يعني‏:‏ يختم الله عز وجل ‏{‏على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فاصبر‏}‏ يا محمد ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ فيما وعد لكم من النصر على عدوكم، وإظهار دين الإسلام حق‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ يعني‏:‏ صدق في العذاب ‏{‏وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ‏}‏ يعني‏:‏ يستنزلنك عن البعث ‏{‏الذين لاَ يُوقِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَخِفَّنَّكَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يحملنك تكذيبهم على الخفة‏.‏ يعني‏:‏ كن حليماً، صبوراً، وقوراً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَخِفَّنَّكَ‏}‏ فتدعو عليهم بتعجيل العذاب، فيهلك الذين لا يوقنون بالعذاب، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

سورة لقمان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏3‏)‏ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قول الله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏الم تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم‏}‏ يعني‏:‏ هذه آيات القرآن المحكم من الباطل‏.‏ ويقال‏:‏ أحكم حلاله وحرامه‏.‏ ويقال‏:‏ محكم لا يرد عليه التناقض ‏{‏هُدًى‏}‏ يعني‏:‏ بياناً من الضلالة‏.‏ ويقال‏:‏ هادياً ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ من العذاب ‏{‏لّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ الذين يحسنون العمل وهم المؤمنون‏.‏ لأن كل مؤمن محسن‏.‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ بالضم، والباقون بالنصب‏.‏ فمن قرأ‏:‏ بالضم، فعلى الإضمار‏.‏ ومعناه‏:‏ هو هدى ورحمة على معنى تلك هدى ورحمة‏.‏ ومن نصب فهو على الحال المعنى تلك آيات في حال الهداية والرحمة‏.‏

ثم نعت المحسنين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُقِيمُونَ الصلاة‏}‏ يعني‏:‏ يقرون بها ويتمونها‏.‏ قوله ‏{‏وَيُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ يعني‏:‏ يقرون بها ويؤدونها ‏{‏وَهُم بالاخرة‏}‏ يعني‏:‏ بالبعث الذي فيه جزاء أعمالهم ‏{‏هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ بأنها كائنة ‏{‏أولئك‏}‏ يعني‏:‏ أهل هذه الصفة ‏{‏على هُدًى مّن رَّبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ بيان من ربهم‏.‏ بيّن لهم طريقهم ووفّقهم لذلك ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ يعني‏:‏ الفائزون بالخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 11‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏9‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ‏(‏10‏)‏ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ يعني‏:‏ من الناس ناس يشترون أباطيل الحديث، وهو النضر بن الحارث كان يخرج إلى أرض فارس تاجراً، ويشتري من هنالك من أحاديثهم، ويحمله إلى مكة ويقول لهم‏:‏ إن محمداً يحدثكم بالأحاديث طرفاً منها، وأنا أحدثكم بالحديث تاماً ‏{‏لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ‏}‏ يعني‏:‏ يصرف الناس عن دين ‏{‏الله‏}‏ عز وجل‏.‏ ويقال‏:‏ يشتري جواري مغنيات‏.‏ قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدثني الثقة بإسناده عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لاَ يَحِلُّ بَيْعُ المُغَنِّيَاتِ وَلا شِرَاؤُهُنَّ وَلا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ وَأَكْلُ أثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ»‏.‏ وفيه أنزل الله عز وجل هذه الآية ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ قال‏:‏ شراء المغنية‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَهْوَ الحديث‏}‏ هاهنا الشرك‏.‏ يعني‏:‏ يختار الشرك على الإيمان ليضل عن سبيل الله عز وجل‏.‏ يعني‏:‏ ليصرف الناس بذلك عن سبيل الله ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بغير حجة ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً‏}‏ يعني‏:‏ سبيل الله عز وجل، لأن السبيل مؤنث كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هذه سبيلى أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى وَسُبْحَانَ الله وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً‏}‏ يعني‏:‏ آيات القرآن التي ذكر في أول السورة استهزاء بها، حيث جعلها بمنزلة حديث رستم واسفنديار‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ بنصب الياء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالضم‏.‏ فمن قرأ بالنصب فمعناه‏:‏ ليضل بذلك عن سبيل الله‏.‏ يعني‏:‏ بترك دين الإسلام‏.‏ ومن قرأ بالضم يعني‏:‏ بصرف الناس عن دين الإسلام، ويصرف نفسه أيضاً‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا‏}‏ بنصب الذال‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالضم‏.‏ فمن نصبها ردّها على قوله‏:‏ ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ يعني‏:‏ لكي يضل ولكي ‏{‏أُنْذِرُواْ هُزُواً‏}‏ ومن قرأ‏:‏ بالضم ردّها على قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث‏}‏ ‏{‏وَيَتَّخِذَهَا‏}‏ وقال ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يهانون به‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ إذا قرئ عليه القرآن ‏{‏ولى مُسْتَكْبِراً‏}‏ يعني‏:‏ أعرض مستكبراً عن الإيمان والقرآن ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ يعني‏:‏ كأن لم يسمع ما في القرآن من الدلائل والعجائب ‏{‏كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً‏}‏ أي‏:‏ ثقلاً فلا يسمع القرآن يعني‏:‏ يتصامم ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ فلما ذكر عقوبة الكافر ذكر على أثر ذلك ثواب المؤمنين فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم‏}‏ في الآخرة ‏{‏خالدين‏}‏ يعني‏:‏ دائمين ‏{‏فِيهَا وَعْدَ الله حَقّاً‏}‏ أوجبه الله عز وجل لأهل هذه الصفة ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ حكم بالعذاب للكافرين، والنعيم للمؤمنين‏.‏

ثم بيّن علامة وحدانيته فقال‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ أي‏:‏ خلقها بغير عمد ترونها بأعينكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ أنتم يعني‏:‏ لها عمد ولكن لا ترونها‏.‏ والعمد جماعة العماد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ‏}‏ يعني‏:‏ الجبال الثوابت ‏{‏أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لكيلا تزول بكم الأرض‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ وخلق فيها في الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ وبسط فيها ‏{‏مِن كُلّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ‏}‏ وقد ذكرناه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هذا خَلْقُ الله‏}‏ يقول‏:‏ هذا الذي خلقت أنا ‏{‏فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ يعني‏:‏ الذين تدعونه إلها من دونه يعني‏:‏ الأصنام‏.‏ ويقال‏:‏ هذا خلق الله‏.‏ يعني‏:‏ مخلوق الله‏.‏ ويقال‏:‏ هذا صنع الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ أي‏:‏ الكافرون في خطأ بيّن، لا يعتبرون ولا يتفكرون فيما خلق الله عز وجل فيعبدونه ويقال في ضلال مبين يعني‏:‏ في خسران بيّن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 20‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ‏(‏13‏)‏ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ‏(‏14‏)‏ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ‏(‏16‏)‏ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏18‏)‏ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ أعطينا لقمان العقل والفقه والإصابة في غير نبوة‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ الحكمة والعقل والإصابة في القول‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «ما زَهِدَ عَبْدٌ فِي الدُّنْيَا إلاَّ أَثْبَتَ الله تَعَالَى الحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ، وَأَنْطَقَ بِهَا لِسَانَهُ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ الدُّنْيَا وَعُيُوبَ نَفْسِهِ‏.‏ وَإذَا رَأيْتُمْ أَخَاكُمْ قَدْ زَهِدَ فِي الدُّنْيَا فَاقْتَرِبُوا إلَيْهِ فَاسْتَمِعُوا مِنْهُ، فإنه يُلَقَّى الحِكْمَةَ»‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة‏}‏ يعني‏:‏ النبوة‏.‏ وعن عكرمة قال‏:‏ كان لقمان نبياً‏.‏ وعن وهب بن منبه قال‏:‏ كان لقمان رجلاً حكيماً، ولم يكن نبياً‏.‏

وروي عن ابن عباس قال‏:‏ كان لقمان عبداً حبشياً‏.‏ ويقال‏:‏ إن أول ما ظهرت حكمته أن مولاه قال له يوماً‏:‏ اذبح لنا هذه الشاة فذبحها‏.‏ ثم قال‏:‏ أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب‏.‏ ثم مكث ما شاء الله‏.‏ ثم قال له‏:‏ اذبح لنا هذه الشاة فذبحها‏.‏ فقال‏:‏ أخرج لنا أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب‏.‏ فسأله عن ذلك فقال لقمان‏:‏ إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا‏.‏

وذكر عن وهب بن منبه أن لقمان خُيِّرَ بين النبوة والحكمة، فاختار الحكمة‏.‏ قال‏:‏ فبينما كان يعظ الناس يوماً وهم مجتمعون عليه، إذ مرّ به عظيم من عظماء بني إسرائيل‏.‏ فقال‏:‏ ما هذه الجماعة‏؟‏ فقيل له‏:‏ جماعة اجتمعت على لقمان الحكيم‏.‏ فأقبل إليه‏.‏ فقال له‏:‏ ألست عبد بني فلان‏؟‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ فما الذي بلغ بك ما أرى‏؟‏ فقال‏:‏ صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني‏.‏ فانصرف عنه متعجباً وتركه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَنِ اشكر للَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ حكماً من أحكام الله ‏{‏أَنِ اشكر للَّهِ‏}‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة‏}‏ وقلنا له‏:‏ اشكر لله بما أعطاك من الحكمة ‏{‏وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ثواب الشكر لنفسه ‏{‏وَمَن كَفَرَ‏}‏ أي‏:‏ جحد فلا يوحّد ربه ‏{‏فَإِنَّ الله غَنِىٌّ‏}‏ عن خلقه وعن شكرهم ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ في فعاله ‏{‏وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كان اسم ابنه أنعم ‏{‏وَهُوَ يَعِظُهُ‏}‏ ويقال‏:‏ معناه قال لابنه واعظاً ‏{‏يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ذنب عظيم لا يغفر أبداً، وكان ابنه وامرأته كافرين، فما زال بهما حتى أسلما‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ زعموا أنه كان ابن خالة أيوب‏.‏ وذكر القاسم بن عباد بإسناده عن عبد الله بن دينار‏:‏ أن لقمان قدم من سفر، فلقيه غلامه، قال‏:‏ ما فعل أبي‏؟‏ قال‏:‏ مات‏.‏ فقال‏:‏ ملكت أمري‏.‏ قال‏:‏ وما فعلت أمي‏؟‏ قال‏:‏ قد ماتت‏.‏

قال‏:‏ ذهب همي‏.‏ قال‏:‏ فما فعلت أختي‏؟‏ قال‏:‏ ماتت فقال‏:‏ سترت عورتي‏.‏ قال‏:‏ فما فعلت امرأتي‏؟‏ قال‏:‏ قد ماتت‏.‏ فقال‏:‏ جدد فراشي‏.‏ قال‏:‏ فما فعل أخي‏؟‏ قال‏:‏ مات‏.‏ قال‏:‏ انقطع ظهري‏.‏

وفي رواية أُخرى قال‏:‏ ما فعل أخي‏؟‏ قال‏:‏ مات‏.‏ فقال‏:‏ انكسر جناحي‏.‏ ثم قال‏:‏ فما فعل ابني‏؟‏ قال‏:‏ مات‏.‏ فقال‏:‏ انصدع قلبي‏.‏ وقال وهب بن منبه كان لقمان عبداً حبشياً لرجل من بني إسرائيل في زمن داود عليه السلام، فاشتراه، فأعتقه وكان حبشياً أسود، غليظ الشفتين والمنخرين، غليظ العضدين والساقين، وكان رجلاً صالحاً أبيض القلب، وليس يصطفي الله عز وجل عباده على الحسن والجمال، وإنما يصطفيهم على ما يعلم من غائب أمرهم‏.‏

قرأ عامر في رواية حفص وابن كثير في إحدى الروايتين‏:‏ ‏{‏أَوْ بَنِى‏}‏ بالنصب‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالكسر وقد ذكرناه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان‏}‏ فكأنه يقول‏:‏ آمركم بما أمر به لقمان لابنه بأن لا تشركوا بالله شيئاً، وآمركم بأن تحسنوا إلى الوالدين فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَوَصَّيْنَا الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ أمرناه بالإحسان ‏{‏بوالديه‏}‏‏.‏

ثم ذكر حق الأم وما لقيت من أمر الولد من الشدة فقال‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ‏}‏ يعني‏:‏ ضعفاً على ضعف، لأن الحمل في الابتداء أيسر عليها‏.‏ فكلما ازداد الحمل يزيدها ضعفاً على ضعف ‏{‏وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ فطامه بعد سنتين من وقت الولادة ‏{‏أَنِ اشكر لِى ولوالديك‏}‏ يعني‏:‏ وصّيناه وأمرناه بأن اشكر لي بما هديتك للإسلام، واشكر لوالديك بما فعله إليك ‏{‏إِلَىَّ المصير‏}‏ فأجازيك بعملك‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن جاهداك‏}‏ يعني‏:‏ وإن قاتلاك‏.‏ يعني‏:‏ أن حرمة الوالدين وإن كانت عظيمة، فلا يجوز للولد أن يطيعهما في المعصية‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَإِن جاهداك‏}‏ يعني‏:‏ وإن قاتلاك‏.‏ ويقال‏:‏ وإن أراداك ‏{‏على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ما ليس لك به حجة بأن معي شريكاً ‏{‏فَلاَ تُطِعْهُمَا‏}‏ في الشرك ‏{‏وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً‏}‏ يعني‏:‏ عاشرهما في الدنيا معروفاً بالإحسان، وإنما سمي الإحسان معروفاً لأنه يعرفه كل واحد‏.‏

قال وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «حُسْنَ المُصَاحَبَةِ أنْ يُطْعِمَهُمَا إذا جَاعَا، وَأَنْ يَكْسُوَهُمَا إذا عَرِيَا»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ‏}‏ يعني‏:‏ اتبع دين من أقبل إلي بالطاعة‏.‏

ثم استأنف فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في الآخرة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنما أتمّ الكلام عند قوله‏:‏ ‏{‏واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ‏}‏ يعني‏:‏ دين من أقبل على الطاعة‏.‏

ثم استأنف الكلام فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ تكراراً على وجه التأكيد ‏{‏فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ فأجازيكم بها‏.‏

ثم رجع إلى حديث لقمان فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا‏}‏ يعني‏:‏ الخطيئة ‏{‏إِن تَكُ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن ابن لقمان قال لأبيه‏:‏ يا أبتاه إن عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد، فكيف يعلمها الله سبحانه وتعالى‏.‏

فرد عليه لقمان وقال‏:‏ ‏{‏تَعْمَلُونَ يابنى إِنَّهَا إِن تَكُ‏}‏ يعني‏:‏ الخطيئة ‏{‏إِن تَكُ‏}‏ ‏{‏مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ‏}‏ يعني‏:‏ وزن خردلة ‏{‏فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ الصخرة التي هي أسفل الأرضين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد بها كل صخرة، لأنه قال بلفظ النكرة‏.‏ يعني‏:‏ ما في جوف الصخرة الصماء‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هي الصخرة التي في أسفل الأرض، وهي خضراء مجوفة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ فِى السموات أَوْ فِى الارض يَأْتِ بِهَا الله‏}‏ يعني‏:‏ يجازي بها الله‏.‏ أي‏:‏ يعطيه ثوابها‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يَأْتِ بِهَا الله‏}‏ عند الميزان، فيجازيه بها‏.‏ ويقال‏:‏ هذا مثل لأعمال العباد ‏{‏يَأْتِ بِهَا الله‏}‏ يعني‏:‏ يعطيه ثوابها عز وجل كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7‏]‏ يعني‏:‏ يرى ثوابه‏.‏ قرأ نافع ‏{‏مِثْقَالَ‏}‏ بضم اللام‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب‏.‏ فمن قرأه بالضم جعله اسم يكن‏.‏ ومن قرأ بالنصب جعله خبراً‏.‏ والاسم فيه مضمر ومعناه‏:‏ إن تكن صغيرة قدر مثقال حبة‏.‏ وإنما قال‏:‏ إن تكن بلفظ التأنيث لأن المثقال أضيف إلى الحبة‏.‏ فكان المعنى للحبة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به الخطيئة‏.‏ ومن قرأ‏:‏ بالضم جعله اسم تكن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ لطيف باستخراج تلك الحبة، خبير بمكانها‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ اللطيف في اللغة يعبر به عن أشياء‏.‏ يقال للشيء الرقيق وللشيء الحسن‏:‏ لطيف‏.‏ وللشيء الصغير؛ لطيف‏.‏ ويقال للمشفق‏:‏ لطيف‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً أَقِمِ الصلاة‏}‏ يعني‏:‏ أتمّ الصلاة ‏{‏وَأْمُرْ بالمعروف‏}‏ يعني‏:‏ التوحيد‏.‏ ويقال‏:‏ أظهر العدل ‏{‏وانه عَنِ المنكر‏}‏ وهو كل ما لا يعرف في شريعة، ولا سنة، ولا معروف في العقل ‏{‏واصبر على مَا أَصَابَكَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر، فأصابك من ذلك ذلّ أو هوان أو شدة، فاصبر على ذلك ف ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامور‏}‏ يعني‏:‏ من حق الأمور‏.‏ ويقال‏:‏ من واجب الأمور‏.‏ وصارت هذه الآية بياناً لهذه الأمة، وإذناً لهم، أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ينبغي أن يصبر على ما يصيبه في ذلك، إذا كان أمره ونهيه لوجه الله تعالى، لأنه قد أصاب ذلك في ذات الله عز وجل‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ‏}‏ قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُصَعّرْ‏}‏ بالتشديد بغير ألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ولا تصاعر بالألف والتخفيف‏.‏ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏ يقال‏:‏ صعر خده وصاعره ومعناهما‏:‏ الإعراض على جهة الكبر‏.‏ يعني‏:‏ لا تعرض بوجهك عن الناس متكبراً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لا تعرض وجهك عن فقراء المسلمين، وهكذا قال الكلبي‏.‏

وقال العتبي‏:‏ أصله الميل‏.‏ ويقال‏:‏ رجل أصعر إذا كان به داء، فيميل رأسه وعنقه من ذلك إلى أحد الجانبين‏.‏ ويقال‏:‏ معناه لا تكلم أحداً وأنت معرض عنه، فإن ذلك من الجفاء والإذاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا‏}‏ يعني‏:‏ لا تمشي بالخيلاء، والمرح والبطر والأشر كله واحد، وهو أن يعظم نفسه في النعم ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ مختالاً في مشيته، فخوراً في نعم الله عز وجل‏.‏

‏{‏واقصد فِى مَشْيِكَ‏}‏ يعني‏:‏ تواضع لله تعالى في المشي، ولا تختل في مشيتك‏.‏ ويقال‏:‏ أسرع في مشيتك، لأن الإبطاء في المشي يكون من الخيلاء‏.‏ ‏{‏واغضض مِن صَوْتِكَ‏}‏ يعني‏:‏ اخفض‏.‏ ومن صلة في الكلام اخفض كلامك، ولا تكن سفيهاً‏.‏

ثم ضرب للصوت الوضيع مثلاً فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَنكَرَ الاصوات‏}‏ يعني‏:‏ أقبح الأصوات ‏{‏لَصَوْتُ الحمير‏}‏ لشدة أصواتها‏.‏ وإنما ذكر صوت الحمير، لأن صوت الحمار كان هو المعروف عند العرب وسائر الناس بالقبح، وإن كان قد يكون ما سواه أقبح منه في بعض الحيوان‏.‏ وإنما ضرب الله المثل بما هو المعروف عند الناس‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قل يا محمد لأهل مكة‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله‏}‏ ذلل لكم ‏{‏مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ كل ذلك من الله تعالى‏.‏ يعني‏:‏ ومن قدرة الله ورحمته وحده لا شريك له ‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً‏}‏ فالظاهرة التي يراها الناس، والباطنة ما غاب عن الناس‏.‏ ويقال‏:‏ النعم الظاهرة شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأما الباطنة فالمعروفة بالقلب‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الظاهرة‏:‏ تسوية الخلق والرزق‏.‏ والباطنة‏:‏ تستر عن العيون‏.‏

عن ابن عباس قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله‏:‏ ‏{‏وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً‏}‏ فقال‏:‏ «الظَّاهِرَةُ الإسْلامُ، وَالبَاطِنَةُ مَا سَتَرَ سَوْأَتَكَ»‏.‏ قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏نِعَمَهُ‏}‏ بنصب العين وميم، وضم الهاء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏نِعَمَهُ‏}‏ بجزم العين ونصب الهاء والميم‏.‏ فمن قرأ ‏{‏نِعَمَهُ‏}‏ بالجزم فهي نعمة واحدة وهي ما أعطاه الله من توحيده‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏{‏نِعَمَهُ‏}‏ فهو على معنى جميع ما أنعم الله عز وجل عليهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله‏}‏ يعني‏:‏ يخاصم في دين الله عز وجل ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ بغير حجة وهو النضر بن الحارث ‏{‏وَلاَ هُدًى‏}‏ أي‏:‏ بغير بيان من الله عز وجل ‏{‏وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ مضيئاً فيه حجة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 25‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ‏(‏22‏)‏ وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏23‏)‏ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏24‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لكفار مكة ‏{‏اتبعوا مَا أَنزَلَ الله‏}‏ على نبيه من القرآن، فآمنوا به، وأحلّوا حلاله، وحرموا حرامه ‏{‏قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ يقول الله عز وجل؛ ‏{‏أَوْ لَّوْ كَانَ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ أو ليس الشيطان ‏{‏يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير‏}‏ يعني‏:‏ يدعوهم إلى تقليد آبائهم بغير حجة، فيصيروا إلى عذاب السعير‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله‏}‏ أي‏:‏ يخلص دينه‏.‏ ويقال‏:‏ يخلص عمله لله ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ يعني‏:‏ موحد‏.‏ ويقال‏:‏ ذكر الوجه، وأراد به هو‏.‏ يعني‏:‏ ومن أخلص نفسه لله عز وجل بالتوحيد، وبأعمال نفسه، وهو محسن في عمله‏.‏ قرأ عبد الرحمن السّلمي‏:‏ ‏{‏وَمَن يُسْلِمْ‏}‏ بنصب السين، وتشديد اللام من سلم يسلم‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏وَمَن يُسْلِمْ‏}‏ بجزم السين وتخفيف اللام من سلم يسلم ‏{‏فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى‏}‏ يعني‏:‏ قد أخذ بالثقة ‏{‏وإلى الله عاقبة الامور‏}‏ يعني‏:‏ إليه مرجع وعواقب الأمور‏.‏ ويقال‏:‏ العباد إليه فيجازيهم بأعمالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ‏}‏ وذلك أنهم لما كذبوا بالقرآن وقالوا‏:‏ إنه يقول من تلقاء نفسه، شقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فنزل ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ‏}‏ بالقرآن ‏{‏إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إلينا مصيرهم ‏{‏فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يجازيهم بجحودهم ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ بما في قلبك من الحزن مما قالوا وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ من خير أو شر‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ يسيراً في الدنيا، فكل ما هو فانٍ فهو قليل ‏{‏ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ نلجئهم ‏{‏إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏ يعني‏:‏ شديد لا يفتر عنهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ‏}‏ على إقراركم ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 32‏]‏

‏{‏لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏27‏)‏ مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏28‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏للَّهِ مَا فِى السموات والارض‏}‏ من الخلق ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الغنى‏}‏ عن عبادة خلقه ‏{‏الحميد‏}‏ في فعاله‏.‏ ويقال‏:‏ حميد أي‏:‏ محمود‏.‏ يعني‏:‏ يحمد ويشكر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّمَا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏}‏ الآية‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذلك أن المشركين قالوا‏:‏ هذا كلام يوشك أن ينفد وينقطع‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنّ مَّا فِى الارض‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ إن اليهود أعداء الله‏.‏ سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح فنزل ‏{‏وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ قالوا‏:‏ كيف تقول هذا وأنت تزعم أن من أُوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً‏.‏ فكيف يجتمع علم قليل وخير كثير‏؟‏ فنزل ‏{‏وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ‏}‏ يقول‏:‏ لو أن الشجر تبرى وتجعل أقلاماً ‏{‏والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‏}‏ تكون كلها مداداً، يكتب بها علم الله عز وجل، لانكسرت الأقلام، ولنفد المداد، ولم ينفد علم الله تعالى‏.‏ فما أعطاكم الله من العلم قليل فيما عنده من العلم‏.‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏والبحر يَمُدُّهُ‏}‏ بنصب الراء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالضم‏.‏ فمن قرأ بالنصب نصبه‏.‏ لأنّ معناه‏:‏ ولو أن ما في الأرض وأن البحر يمده‏.‏ ومن قرأ بالضم‏:‏ فهو على الاستئناف ‏{‏والبحر يَمُدُّهُ‏}‏ يعني‏:‏ أمد إلى كل بحر مثله ما نفدت ‏{‏مَّا نَفِدَتْ كلمات الله‏}‏ يعني‏:‏ علمه وعجائبه‏.‏ ويقال‏:‏ معاني كلمات الله‏.‏ لأن لكل آية ولكل كلمة من المعاني ما لا يدرك ولا يحصى‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏مَّا نَفِدَتْ كلمات الله‏}‏ لأن كلمات الله لا تدرك ما تكلم به في الأزل سبحانه وتعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ عزيز بالنعمة على الكافر، حكيم حكم أنه ليس لعلمه غاية، وأن العلم للخلق غاية‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي بن خلف وابني أسد منبه ونبيه كلاهما ابني أسد قالوا‏:‏ إن الله عز وجل خلقنا أطواراً، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم يقول‏:‏ إنه بعث في ساعة واحدة، فقال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ أيها الناس جميعاً‏.‏ يقال‏:‏ هاهنا مضمر‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ إلا كخلق نفس واحدة، وكبعث نفس واحدة‏.‏ ويقال‏:‏ معناه قدرته على بعث الخلق أجمعين، وعلى خلق الخلق أجمعين، كقدرته على خلق نفس واحدة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏كَنَفْسٍ واحدة‏}‏ أي‏:‏ إلا كخلق آدم عليه السلام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لمقالتهم ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ بهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ يعني‏:‏ انتقاص كل واحد منها بصاحبه‏.‏ ويقال‏:‏ يدخل الليل في النهار، والنهار في الليل ‏{‏وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ يعني‏:‏ ذللهما لبني آدم ‏{‏كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ يعني‏:‏ يجريان في السماء إلى يوم القيامة، وهو الأجل المسمى‏.‏ ويقال‏:‏ يجري كل واحد منهما إلى أجله في الغروب، حتى ينتهى إلى وقت نهايته ‏{‏وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏‏.‏

روي عن أبي عمرو في إحدى الروايتين أنه قرأ ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ بالياء بلفظ المغايبة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ يعني‏:‏ هذا الذي ذكر من صنع الله عز وجل بالنهار والليل والشمس والقمر ‏{‏بِأَنَّ الله هُوَ الحق‏}‏ يعني‏:‏ ليعلموا أن الله هو الحق ‏{‏وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل‏}‏ يعني‏:‏ من الآلهة لا يقدرون على شيء من ذلك يعني‏:‏ لا تنفعهم عبادتها‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية حفص‏:‏ وإنما ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالياء على معنى الخبر عنهم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتاء على معنى المخاطبة لهم‏.‏

ثم عظّم نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير‏}‏ يعني‏:‏ ليعلموا أن الله هو الرفيع الكبير‏.‏ يعني‏:‏ العظيم، وهو الذي يعظم ويحمد‏.‏

ثم بيّن قدرته فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك‏}‏ يعني‏:‏ السفن ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى‏}‏ أي‏:‏ برحمة الله لمنفعة الخلق ‏{‏لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته‏}‏ يعني‏:‏ من علامات وحدانيته‏.‏ ويقال‏:‏ من عجائبه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ إن الذي ترون في البحر ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لعبارات ‏{‏لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ على أمر الله عز وجل عند البلاء‏.‏ ويقال‏:‏ الذي يصبر في الأحوال كلها، شكوراً لله عز وجل في نعمه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ لكل مؤمن موحد‏.‏ وإنما وصفه بأفضل خصلتين في المؤمن، لأن أفضل خصال المؤمن‏:‏ الصبر والشكر‏.‏ والصبار هو للمبالغة في الصبر‏.‏ والشكور على ميزان فعول هو للمبالغة في الشكر‏.‏

وروي عن قتادة أنه قال‏:‏ إن أحب العباد إلى الله من إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر‏.‏ فأعلم الله عز وجل أن المتفكر المعتبر في خلق السموات والأرض هو الصبار والشكور‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل‏}‏ يعني‏:‏ أتاهم موج، كما يقال‏:‏ من غشي سدد السلطان يجلس ويقوم‏.‏ ويقال‏:‏ علاهم‏.‏ ويقال‏:‏ غطاهم موج كالظلل يعني‏:‏ كالسحاب‏.‏ ويقال‏:‏ كالجبال، وهو جمع ظلة‏.‏ يعني‏:‏ يأتيهم الموج بعضه فوق بعض وله سواد لكثرته‏.‏

‏{‏دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ يعني‏:‏ أخلصوا له بالدعوة ‏{‏فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر‏}‏ يعني‏:‏ إلى القرار ‏{‏فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ يعني‏:‏ فمنهم من يؤمن، ومنهم من يكفر ولا يؤمن‏.‏

ثم ذكر المشرك الذي ينقض العهد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَجْحَدُ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ لا يترك العهد ‏{‏إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ غدار بالعهد‏.‏ كفور لله عز وجل في نعمه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الختر أقبح الغدر‏.‏ ‏{‏كَفُورٌ‏}‏ على ميزان فعول‏.‏ وإنما يذكر هذا اللفظ إذا صار عادة له كما يقال‏:‏ ظلوم‏.‏ وقد ذكر الكافر بأقبح خصلتين فيه، كما ذكر المؤمن بأحسن خصلتين فيه وهو قوله‏:‏ ‏{‏صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ‏}‏ يعني‏:‏ وحّدوه وأطيعوه ‏{‏واخشوا‏}‏ يعني‏:‏ واخشوا عذاب يوم ‏{‏يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ هو جاز عن والده شيئاً، ولا ينفع والد عن ولده‏.‏ ويقال‏:‏ لا يقضي والد عن ولده ما عليه ‏{‏وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يقدر الولد أن ينفع والده شيئاً، وهذا في الكفار خاصة‏.‏ وأما المؤمن فإنه ينفع كما قال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ ألتناهم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَئ كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 21‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ يعني‏:‏ البعث بعد الموت كائن ولا خلف فيه ‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ لا يغرّنكم ما في الدنيا من زينتها وزهوتها، فتركنوا إليها، وتطمئنوا بها، وتتركوا الآخرة والعمل لها ‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ يعني‏:‏ لا يغرنكم الشيطان عن طاعة الله عز وجل‏.‏ ويقال‏:‏ كل مضل هو شيطان‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ ‏{‏الغرور‏}‏ بنصب الغين هو الشيطان‏.‏ وبالضم أباطيل الدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في رجل يقال له‏:‏ الوليد بن عمرو من أهل البادية، أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنّ أرضنا أجدبت، فمتى ينزل الغيث‏؟‏ وتركت امرأتي حبلى، فماذا تلد‏؟‏ وقد علمت بأيِّ أرض ولدت، فبأيِّ أرض أموت‏؟‏ وقد علمت ما عملت اليوم، فماذا أنا عامل غداً‏؟‏ ومتى الساعة‏؟‏ فنزل ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ علم القيامة لا يعلمه غيره ‏{‏وَيُنَزّلُ الغيث‏}‏ يعني‏:‏ وهو الذي ينزل الغيث متى شاء ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام‏}‏ من ذكر وأنثى ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ في سهل أو جبل‏.‏ وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَفَاتِيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ الله فَقَرَأ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ الآية»‏.‏ وقال ابن مسعود كل شيء أوتي نبيكم إلا مفاتيح الغيب الخمس‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ من حدثكم بأنه يعلم ما في غد فقد كذب‏.‏ ثم قرأت‏:‏ ‏{‏وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ‏}‏ يعني‏:‏ بأي مكان تموت، وبأي قدم تؤخذ، وبأي نفس ينقضي أجله‏.‏

وروى شهر بن حوشب قال‏:‏ دخل ملك الموت على سليمان بن داود عليه السلام فقال رجل من جلسائه لسليمان‏:‏ من هذا‏؟‏ فقال ملك الموت‏.‏ فقال‏:‏ لقد رأيته ينظر إليّ كأنه يريدني‏.‏ فأريد أن تحملني على الريح حتى تلقيني بالهند‏.‏ ففعل‏.‏ ثم أتى ملك الموت إلى سليمان فسأله عن نظره ذلك‏.‏ فقال‏:‏ إني كنت أعجب أني كنت أمرت أقبض روحه في أرض الهند في آخر النهار وهو عندك‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ بهذه الأشياء التي ذكرها‏.‏