فصل: سورة السجدة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


سورة السجدة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏الم ‏(‏1‏)‏ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏2‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏3‏)‏ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏4‏)‏ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الم تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ المنزل من الله عز وجل القرآن على معنى التقديم‏.‏ يعني‏:‏ أن هذا الكتاب تنزيل من الله عز وجل والكتاب وهو التنزيل‏.‏ ويقال‏:‏ معناه نزل به جبريل عليه السلام بهذا التنزيل ‏{‏الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا شك فيه أنه ‏{‏مِن رَّبّ العالمين‏}‏‏.‏

فلما نزله جبريل جحده قريش، وقالوا‏:‏ إنما يقوله من تلقاء نفسه‏.‏ فنزل ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افتراه‏}‏ يعني‏:‏ أيقولون اختلقه من ذات نفسه‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ فرى يفري إذا قطعه للإصلاح‏.‏ وأفرى يفري‏:‏ إذا قطعه للاستهلاك‏.‏

فأكذبهم الله عز وجل قال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ولو لم يكن من الله عز وجل، لم يكن حقاً وكان باطلاً، ويقال‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ نزل من عند ربك ‏{‏لِتُنذِرَ قَوْماً‏}‏ يعني‏:‏ كفار قريش ‏{‏مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ لم يأتهم في عصرك‏.‏ ولكن أتاهم من قبل، لأن الأنبياء المتقدمين عليهم السلام ما كانوا إلى جميع الناس‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ لم يشاهدوا نذيراً قبلك‏.‏ وإنما الإنذار قد كان سبق لأنه قال‏:‏ ‏{‏مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ وقد سبق الرسل‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ من قومهم من قريش‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يهتدون من الضلالة‏.‏ وأصل الإنذار هو الإسلام‏.‏ يقال‏:‏ أنذر العدو إذا أعلمه‏.‏

ثم دلّ على نفسه بصفة فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ من السحاب والرياح وغيره ‏{‏فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ولو شاء خلقها في ساعة واحدة لفعل‏.‏ ولكنه خلقها في ستة أيام، ليدل على التأني‏.‏ ويقال‏:‏ خلقها في ستة أيام لتكون الأيام أصلاً عند الناس ‏{‏ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ فيها تقديم يعني‏:‏ خلق العرش قبل السموات‏.‏ ويقال‏:‏ علا فوق العرش من غير أن يوصف بالاستقرار على العرش‏.‏ ويقال‏:‏ استوى أمره على بريته فوق عرشه، كما استوى أمره وسلطانه وعظمته دون عرشه وسمائه ‏{‏مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ‏}‏ يعني‏:‏ من قريب ينفعكم في الآخرة ‏{‏وَلاَ شَفِيعٍ‏}‏ من الملائكة ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أفلا تتعظون فيما ذكره من صفته فتوحّدونه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يُدَبّرُ الامر‏}‏ يقول‏:‏ يقضي القضاء ‏{‏مِنَ السماء إِلَى الارض‏}‏ يعني‏:‏ يبعث الملائكة من السماء إلى الأرض ‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ يصعد إليه‏.‏ قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدثنا عمرو بن محمد بإسناده عن الأعمش، عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط‏.‏

قال‏:‏ يدبر أمر الدنيا أربعة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل‏.‏ أما جبرائيل فموكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فموكل بالنبات والقطر، وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمور عليهم، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يُدَبّرُ الامر مِنَ السماء إِلَى الارض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏‏.‏

‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ‏}‏ يعني‏:‏ في يوم واحد من أيام الدنيا كان مقدار ذلك اليوم ‏{‏أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ‏}‏ أنتم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ معناه يقضي في السماء، وينزله مع الملائكة إلى الأرض، فتوقعه الملائكة عليهم السلام في الأرض‏.‏

‏{‏ثُمَّ يَعْرُجُ * إِلَى السماء‏}‏ فيكون نزولها ورجوعها في يوم واحد مقدار المسير، على قدر سيرنا ‏{‏أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ لأنّ بعد ما بين السماء والأرض خمسمائة عام‏.‏ فيكون نزوله وصعوده ألف عام في يوم واحد‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك ‏{‏فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ‏}‏ قال‏:‏ يصعد الملك إلى السماء مسيرة خمسمائة عام، ويهبط مسيرة خمسمائة عام في كل يوم من أيامكم وهو مسيرة ألف سنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 10‏]‏

‏{‏ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏8‏)‏ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ذلك عَالِمُ الغيب‏}‏ يعني‏:‏ ذلك الذي يفعل هذا هو عالم الغيب ‏{‏والشهادة‏}‏ يعني‏:‏ ما غاب من العباد، وما شاهدوه‏.‏ ويقال‏:‏ عالم بما كان، وبما يكون‏.‏ ويقال‏:‏ عالم السر والعلانية‏.‏ ويقال‏:‏ عالم بأمر الآخرة وأمر الدنيا ‏{‏العزيز‏}‏ في ملكه ‏{‏الرحيم‏}‏ بخلقه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَئ خَلَقَهُ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر‏:‏ ‏{‏خَلَقَهُ‏}‏ بجزم اللام‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب فمن قرأ بالجزم فمعناه‏:‏ الذي أحسن كل شيء‏.‏

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الإنسان في خلقه حسن، والخنزير في خلقه حسن، وكل شيء في خلقه حسن‏.‏ ومن قرأ بالنصب فعلى فعل الماضي يعني‏:‏ خلق كل شيء على إرادته، وخلق الإنسان في أحسن تقويم‏.‏ ويقال‏:‏ الذي علم خلق كل شيء خلقه‏.‏ يعني‏:‏ علم كيف خلق‏.‏ ويقال‏:‏ هل تحسن شيئاً‏.‏ يعني‏:‏ تعلم‏.‏ ومعناه‏:‏ الذي علم خلق كل شيء خلقه‏.‏ ويقال‏:‏ الحسن عبارة عن الزينة‏.‏ يعني‏:‏ الذي زين كل شيء خلقه وأتقنه كما قال‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَئ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ خلق آدم عليه السلام من طين من أديم الأرض ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ‏}‏ أي‏:‏ خلق ذريته من سلالة من النطفة التي تنسل من الإنسان‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ كل شيء على ميزان فعالة، فهو ما فضّل من شيء‏.‏ يقال‏:‏ نشارة ونخالة‏.‏

ثم رجع إلى آدم عليه السلام فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏مّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ‏}‏ يعني‏:‏ سوى خلقه ‏{‏وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏‏.‏

ثم رجع إلى ذريته فقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار‏}‏ ويقال‏:‏ هذا كله في صفة الذرية يعني‏:‏ ثم ‏{‏جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ من نطفة ضعيفة ‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ‏}‏ يعني‏:‏ جمع خلقه في رحم أمه ‏{‏وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏ يعني‏:‏ جعل فيه الروح بأمره، ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا تشكرون رب هذه النعم على حسن خلقكم، فتوحّدوه‏.‏ فلا تستعملوا سمعكم وأفئدتكم إلا في طاعتي‏.‏ ويقال‏:‏ ما هاهنا صلة‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ تشكرونه قليلاً‏.‏ ويقال‏:‏ ما بمعنى‏:‏ الذي‏.‏ فكأنه قال‏:‏ فقليل الذي تشكرون‏.‏ وقد يكون الكلام بعضه بلفظ المغايبة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ السمع‏}‏ بلفظ المخاطب، فكما قال‏:‏ هاهنا ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ‏}‏ ‏{‏ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ‏}‏ بلفظ المغايبة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمُ‏}‏ بلفظ المخاطبة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ هلكنا وصرنا تراباً ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ يعني‏:‏ أنبعث بعد الموت‏.‏ وأصله ضلّ الماء في اللبن إذا غاب وهلك‏.‏ وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قرأ ‏{‏أءذا ضللنا‏}‏ بالصاد، وتفسيره النتن‏.‏ يقال‏:‏ صل اللحم إذا أنتن‏.‏ وقراءة العامة بالضاد المعجمة أي‏:‏ هلكنا‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ إءِذَا ضَلَلْنَا‏}‏ إذ بغير استفهام ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ على وجه الاستفهام‏.‏ قال‏:‏ لأنهم كانوا يقرون بالموت ويشاهدونه‏.‏ وإنما أنكروا البعث‏.‏ ويكون الاستفهام في البعث دون الموت‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون‏}‏ يعني‏:‏ بالبعث جاحدون فلا يؤمنون به‏.‏

‏[‏بم قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏11‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ‏(‏12‏)‏ وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏13‏)‏ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ يتوفاكم‏}‏ يعني‏:‏ يقبض أرواحكم ‏{‏مَّلَكُ الموت‏}‏ واسمه عزرائيل‏.‏ وروي في الخبر أن له وجوهاً أربعة‏.‏ فوجه من نار يقبض به أرواح الكفار، ووجه من ظلمة يقبض به أرواح المنافقين، ووجه من رحمة يقبض به أرواح المؤمنين، ووجه من نور يقبض به أرواح الأنبياء والصديقين عليهم السلام والدنيا بين يديه كالكف، وله أعوان من ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب‏.‏ فإذا قبض روح المؤمن دفعها إلى ملائكة الرحمة، وإذا قبض روح الكافر دفعها إلى ملائكة العذاب‏.‏

وروى جابر بن زيد أن ملك الموت كان يقبض الأرواح بغير وجه، فأقبل الناس يسبونه ويلعنونه‏.‏ فشكى إلى ربه عز وجل‏.‏ فوضع الله عز وجل الأمراض والأوجاع‏.‏ فقالوا‏:‏ مات فلان بكذا وكذا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ‏}‏ بعد الموت أحياءً فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون‏}‏ يعني‏:‏ المشركون ‏{‏الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ استحياء من ربهم بأعمالهم يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَبْصَرْنَا‏}‏ الهدى ‏{‏وَسَمِعْنَا‏}‏ الإيمان‏.‏ ويقال ‏{‏أبصارنا‏}‏ يوم القيامة بالمعاينة، ‏{‏وَسَمِعْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أيقنوا حين لم ينفعهم يقينهم ‏{‏فارجعنا‏}‏ إلى الدنيا ‏{‏نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أيقنّا بالقيامة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا مُوقِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ قد آمنا ولكن لا ينفعهم‏.‏ وقد حذف الجواب لأن في الكلام دليلاً ومعناه‏:‏ ولو ترى يا محمد ذلك، لرأيت ما تعتبر به غاية الاعتبار‏.‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ لأعطينا ‏{‏كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ولكن حَقَّ القول مِنْى‏}‏ يعني‏:‏ وجب العذاب مني‏.‏ ويقال‏:‏ ولكن سبق القول بالعذاب وهو قوله‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ من كفار الإنس، ومن كفار الجن أجمعين‏.‏ فيقول لهم الخزنة‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ذوقوا العذاب بما تركتم ‏{‏لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ يعني‏:‏ تركتم العمل بحضور يومكم هذا‏.‏ قال القتبي‏:‏ النسيان ضد الحفظ، والنسيان الترك‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ أي‏:‏ تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم ‏{‏إِنَّا نسيناكم‏}‏ يعني‏:‏ تركناكم في العذاب‏.‏ ويقال‏:‏ نجازيكم بنسيانكم كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ لَكُمْ كتاب فِيهِ تَدْرُسُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد‏}‏ الذي لا ينقطع أبداً ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ من الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 20‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏15‏)‏ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏16‏)‏ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏17‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ‏(‏18‏)‏ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

ثم قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ يصدق بآياتنا‏.‏ يعني‏:‏ بالعذاب ‏{‏الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ وعظوا بها‏.‏ يعني‏:‏ بآيات الله عز وجل ‏{‏خَرُّواْ سُجَّداً‏}‏ على وجوههم ‏{‏وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ‏}‏ يقول‏:‏ وذكروا الله عز وجل بأمره ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن السجود كفعل الكفار‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الذين إِذَا ذُكّرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ دعوا إلى الصلوات الخمس‏.‏ أتوها فصلوها، ولا يستكبرون عنها‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في الأنصار‏.‏ كانت منازلهم بعيدة من المسجد‏.‏ فإذا صلوا المغرب كرهوا أن ينصرفوا، مخافة أن تفوتهم صلاة العشاء في الجماعة‏.‏ فكانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء‏.‏ ويقال‏:‏ الذي يصلي العشاء والفجر بجماعة‏.‏ وقال أنس بن مالك‏:‏ الذي يصلي ما بين المغرب والعشاء وهو صلاة الليل كما جاء في الخبر‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رَكْعَةٌ فِي اللَّيْلِ خَيْرٌ مِنْ ألْفِ رَكْعَةٍ فِي النَّهَارِ» قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد‏.‏ قال‏:‏ حدثنا السراج‏.‏ قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد العبسية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فيسِمعهمُ الدَّاعِي وَيَنْقُدُهُمْ البَصَرُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ اليَوْمَ مَنْ أوْلَى بِالكَرَمِ‏.‏ فَأيْنَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ حَالٍ‏؟‏ فَيَقُومُونَ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابِ‏.‏ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ‏:‏ أَيْنَ الَّذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ الله‏؟‏ فَيَقُومُونَ، وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ‏:‏ أيْنَ الَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ‏؟‏ وَهُمْ قَلِيلٌ فَيَدْخَلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏.‏ ثُمَّ يُؤْمَرُ بِسَائِرِ النَّاسِ فَيُحَاسَبُونَ»‏.‏ فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع‏}‏ يعني‏:‏ يصلون بالليل ويقومون عن فرشهم ‏{‏يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً‏}‏ خوفاً من عذابه، وطمعاً في رحمته ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتصدقون من أموالهم‏.‏ يعني‏:‏ صدقة التطوع، لأنه قرنه بصلاة التطوع‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ الزكاة المفروضة‏.‏ والأول أراد به العشاء والفجر‏.‏

ثم بيَّن ثوابهم فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ يعني‏:‏ ما أعدّ لهم ‏{‏مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ يعني‏:‏ من الثواب في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ من طيبة النفس‏.‏ وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»‏.‏ قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏‏.‏

قال مقاتل‏:‏ قيل لابن عباس، ما الذي أخفي لهم‏؟‏ قال‏:‏ في جنة عدن ما لم يكن في جناتهم‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏مَّا أُخْفِىَ‏}‏ بسكون الياء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بنصبها‏.‏ فمن قرأ بالسكون فهو على معنى الخبر عن نفسه‏.‏ فكأنه قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم‏}‏ ومن قرأ بالنصب فهو على فعل ما لم يسم فاعله على معنى أفعل‏.‏ وقرئ في الشاذ ‏{‏وَمَا أُخْفِىَ‏}‏ يعني‏:‏ ‏{‏وَمَا أُخْفِىَ الله عَزِيزٌ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ جزاء لأعمالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يستوون عند الله عز وجل في الفضل‏.‏ نزلت الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط‏.‏ وذلك أنه جرى بينهما كلام‏.‏ فقال الوليد لعلي‏:‏ بأي شيء تفاخرني‏؟‏ أنا والله أحد منك سناناً، وأبسط منك لساناً، وأملأ منك في الكتيبة عيناً‏.‏ يعني‏:‏ أكون أملأ مكاناً في العسكر‏.‏ فقال له علي رضي الله عنه‏:‏ اسكت فإنك فاسق فنزل ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ نزلت في عقبة بن أبي معيط‏.‏ قال‏:‏ ويجوز في اللغة لا يستويان‏.‏ ولم يقرأ‏.‏ والقراءة ‏{‏لاَّ يَسْتَوُونَ‏}‏ ومعناهما‏:‏ لا يستوي المؤمنون والكافرون‏.‏

ثم بيّن مصير كلا الفريقين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمَّا الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي‏:‏ أقروا بالله ورسوله والقرآن ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني‏:‏ الطاعات ‏{‏فَلَهُمْ جنات المأوى نُزُلاً‏}‏ يعني‏:‏ يأوي إليها المؤمنون‏.‏ ويقال‏:‏ يأوي إليها أرواح الشهداء، وهو أصح في اللغة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ يعني‏:‏ رزقاً‏.‏ والنزل في اللغة هو الرزق‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ يعني‏:‏ منزلاً ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بأعمالهم‏.‏

ثم بيّن مصير الفاسقين فقال‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ عصوا ولم يتوبوا ‏{‏فَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ فسقوا يعني‏:‏ نافقوا وهو الوليد بن عتبة ومن كان مثل حاله ‏{‏فَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ يعني‏:‏ مصيرهم إلى النار ومرجعهم إليها ‏{‏كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ من النار ‏{‏أُعِيدُواْ فِيهَا‏}‏ ويقال‏:‏ إن جهنم إذا جاشت، ألقتهم في أعلى الباب‏.‏ فطمعوا في الخروج منها، فتلقاهم الخزنة بمقامع فتضربهم، فتهوي بهم إلى قعرها ‏{‏وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ وقال في آية أُخرى‏:‏ ‏{‏فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 42‏]‏ بلفظ التأنيث‏.‏ لأنه أراد به النار وهي مؤنثة‏.‏ وهاهنا قال ‏{‏الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ بلفظ التذكير لأنه أراد به العذاب وهو مذكر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 24‏]‏

‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏23‏)‏ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى‏}‏ وهو المصيبات والقتل والجوع ‏{‏دُونَ العذاب الاكبر‏}‏ وهو عذاب النار‏.‏ يعني‏:‏ إن لم يتوبوا‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏العذاب الادنى‏}‏ هو السحر للفاسقين، والعذاب الأكبر النار إن لم يتوبوا‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏العذاب الادنى‏}‏ عذاب القبر‏.‏ وقال إبراهيم‏:‏ يعني‏:‏ سنين جدب أصابتهم‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ مصيبات في الدنيا ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتوبون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ وعظ بآيات ربه القرآن ‏{‏ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ يعني‏:‏ عن الإيمان بها فلم يؤمن بها ‏{‏إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ‏}‏ بالعذاب يعني‏:‏ منتصرون‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أعطينا موسى التوراة ‏{‏فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ فلا تكن في شك من لقاء موسى التوراة‏.‏ فإن الله عز وجل ألقى عليه الكتاب‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ‏}‏ من لقاء موسى عليه السلام، فلقيه ليلة أُسري به في بيت المقدس يعني‏:‏ لقي النبي صلى الله عليه وسلم موسى هناك‏.‏ ويقال‏:‏ لقيه في السماء‏.‏ وذكر الخبر المعروف أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم خمسون صلاة‏.‏ فقال له موسى عليه السلام‏:‏ ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك‏.‏ فلم يزل يرجع حتى حطّ الله عز وجل إلى الخمس ويقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ‏}‏ يعني‏:‏ من لقاء الله عز وجل وهو البعث بعد الموت‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لا تشكن أنك تلقى موسى يوم القيامة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وجعلناه هُدًى لّبَنِى إسراءيل‏}‏ يعني‏:‏ جعلنا التوراة بياناً لهم، وهدى من الضلالة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَاهُ هُدًى‏}‏ يعني‏:‏ جعلنا موسى هادياً لبني إسرائيل يدعوهم ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً‏}‏ يعني‏:‏ وجعلنا من بني إسرائيل قادة في الخير ‏{‏يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا‏}‏ يعني‏:‏ يدعون الناس إلى أمر الله عز وجل ‏{‏لَمَّا صَبَرُواْ‏}‏ أي‏:‏ حين صبروا ويقال‏:‏ هو حكاية المجازاة، يعني لما صبروا جعلنا منهم أئمة ومن قرأ بالتخفيف ‏{‏لَمَّا صَبَرُواْ‏}‏ أي بكسر اللام والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب والتشديد‏.‏ فمن قرأ بالتشديد ‏{‏لَمَّا صَبَرُواْ‏}‏ بما صبروا، وتشهد لها قراءة ابن مسعود، كان يقرأ ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏‏.‏ ويقال‏:‏ معناه كما صبروا عن الدنيا، وصبروا على دينهم، ولم يرجعوا عنه‏.‏ ويقال‏:‏ معناه وجعلناهم أئمة بصبرهم ‏{‏وَكَانُواْ بئاياتنا يُوقِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يصدقون بالعلامات التي أعطي موسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 30‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏25‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ ‏(‏26‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ ‏(‏27‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏29‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يقضي بينهم ‏{‏يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين‏.‏

ثم خوّف كفار مكة فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ *** يَهْدِ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أو لم يبيِّن لهم الله تعالى‏.‏ وقرئ في الشاذ ‏{‏أَوَ لَمْ *** عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ بالنون‏.‏ وقرأ العامة بالياء‏.‏

‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا‏}‏ يعني‏:‏ أو لم نبين لهم الهلاك ‏{‏مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون‏}‏ يعني‏:‏ قوم لوط وصالح وهود ‏{‏يَمْشُونَ فِى مساكنهم‏}‏ يعني‏:‏ يمرون في منازلهم ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ في إهلاكهم لآيات لعبرات ‏{‏أَفَلاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ أفلا يسمعون المواعظ فيعتبرون بها‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ *** يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز‏}‏ يعني‏:‏ اليابسة الملساء التي ليس فيها نبات‏.‏ يقال‏:‏ أرض جرز أي‏:‏ أرض جدب لا نبات فيها‏.‏ يقال‏:‏ جرزت الجراد إذا أكلت، وتركت الأرض جرزاً ‏{‏فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً‏}‏ يعني‏:‏ نخرج بالماء النبات ‏{‏تَأْكُلُ مِنْهُ أنعامهم‏}‏ أي‏:‏ من الكلأ والعشب والتبن ‏{‏وَأَنفُسِهِمْ‏}‏ من الحبوب والثمار ‏{‏أَفَلاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ هذه العجائب فيوحّدوا ربهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي متى هذا القضاء وهو البعث‏؟‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏الفتح‏}‏ القضاء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏الفتح‏}‏ يوم القيامة ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ تكذيباً منهم يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏يَوْمَ الفتح‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ‏{‏لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم‏}‏ قال في رواية الكلبي‏:‏ إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتذاكرون فيما بينهم وهم بمكة قبل فتح مكة لهم‏.‏ وكان ناس من بني خزيمة كانوا إذا سمعوا ذلك منهم، يستهزئون بهم ويقولون لهم‏:‏ متى فتحكم هذا الذي كنتم تزعمون‏؟‏ ويقولون‏:‏ فنزل يعني‏:‏ بني خزيمة‏.‏ ‏{‏متى هذا الفتح‏}‏ يا أصحاب محمد إن كنتم صادقين‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏يَوْمَ الفتح‏}‏ أي‏:‏ فتح مكة ‏{‏لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم‏}‏ من القتل ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ حتى يقتلوا‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، بعث خالد بن الوليد إلى بني خزيمة، وقد كانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية‏.‏ يعني‏:‏ الحقد‏.‏ فقالوا‏:‏ قد أسلمنا‏.‏ فقال لهم‏:‏ انزلوا‏.‏ فنزلوا فوضع فيهم السلاح فقتل منهم، وأسر‏.‏ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالَدُ بْنُ الوَلِيدِ»‏؟‏ فبعث إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالدية من غنائم خيبر، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم‏}‏ من القتل ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يؤجلون‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ يا محمد ‏{‏وانتظر‏}‏ لهم فتح مكة ويقال‏:‏ العذاب‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ‏}‏ بهلاكك‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل، وتبارك الذي بيده الملك‏.‏ وروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَنْ قَرَأ الم السَّجْدَة، وَتَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَى لَيْلَةَ القَدْرِ» والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم‏.‏

سورة الأحزاب

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏1‏)‏ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏2‏)‏ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور السلمي، قدموا المدينة بعد أحد، وبعد الهدنة‏.‏ فمروا على عبد الله بن أبي المنافق‏.‏ فقام معهم عبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق‏.‏ فجاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالوا له‏:‏ اترك ذكر آلهتنا‏.‏ وقل‏:‏ إن لها شفاعة في الآخرة ومنفعة لمن عبدها، وندعك وربك‏.‏ فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه ائذن لي في قتلهم‏.‏ فقال‏:‏ «قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الأَمَانَ»‏.‏ فلم يأذن له بالقتل وأمره بأن يخرجهم من المدينة‏.‏ فقال لهم عمر‏:‏ اخرجوا في لعنة الله وغضبه‏.‏ فنزل ‏{‏مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله‏}‏ وقال مقاتل في رواية الكلبي‏:‏ قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فنزلوا على عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، فتكلموا فيما بينهم‏.‏ فلما اجتمعوا في أمر فيما بينهم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياءً فكرهها منهم‏.‏ فهمّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون أن يقتلوهم فنزل ‏{‏مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله‏}‏ ولا تنقض العهد الذي بينك وبينهم إلى المدةَ‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُطِعِ الكافرين‏}‏ من أهل مكة ‏{‏والمنافقين‏}‏ من أهل المدينة فيما دعوك إليه‏.‏ ويقال‏:‏ إن المسلمين أرادوا أن ينقضوا العهد فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأذن لهم‏.‏ فنزل ‏{‏مُّنتَظِرُونَ ياأيها النبى اتق الله‏}‏ في نقض العهد‏.‏ وإنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأراده هو وأصحابه‏.‏ ألا ترى أنه قال في سياق الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً‏}‏ بما اجتمعوا عليه ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حيث نهاك عن نقض العهد وحكم بالوفاء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ ما في القرآن ‏{‏إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ من وفاء العهد ونقضه ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ ثق بالله، وفوض أمرك إلى الله تعالى ‏{‏وكفى بالله وَكِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ حافظاً وناصراً‏.‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ بالياء على معنى الخبر عنهم‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء على معنى المخاطبة يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ‏(‏4‏)‏ ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في جميل بن معمر، ويكنى أبا معمر‏.‏ وكان حافظاً بما يسمع، وأهدى الناس للطريق‏.‏ يعني‏:‏ طريق البلدان وكان مبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان يقول‏:‏ إن لي قلبين‏.‏ أحدهما أعقل من قلب محمد فنزل‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏ وكان الناس يظنون أنه صادق في ذلك، حتى كان يوم بدر فانهزم، وهو آخذ بإحدى نعليه في أصبعه، والأخرى في رجله حتى أدركه أبو سفيان بن حرب‏.‏ وكان لا يعلم بذلك، حتى أخبر أن إحدى نعليه في أصبعه، والأخرى في رجله‏.‏ فعرفوا أنه ليس له قلبان‏.‏ ويقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهى في صلاته، فقال المنافقون‏:‏ لو أن له قلبين أحدهما في صلاته، والآخر مع أصحابه، فنزل ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ‏}‏‏.‏

وروى معمر عن قتادة قال‏:‏ كان رجل لا يسمع شيئاً إلا وعاه‏.‏ فقال الناس‏:‏ ما يعي هذا إلا أن له قلبين‏.‏ وكان يسمى ذا القلبين فنزلت هذه الآية‏.‏ وروى معمر عن الزهري قال‏:‏ بلغنا أن ذلك في شأن زيد بن حارثة‏.‏ ضرب الله مثلاً يقول‏:‏ ليس ابن رجل آخر ابنك، كما لا يكون لرجل آخر من قلبين‏.‏

وذكر عن الشافعي أنه احتج على محمد بن الحسن قال‏:‏ ‏{‏مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام‏.‏ يعني‏:‏ لا يجوز أن يثبت نسب صبي واحد من أبوين‏.‏ ولكن هذا التفسير لم يذعن به أحد من المتقدمين‏.‏ فلو أراد به على وجه القياس لا يصح‏.‏ لأنه ليس بينهما جامع يجمع بينهما‏.‏ وذكر عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما أن جارية كانت بين رجلين، جاءت بولد فادعياه‏.‏ فقالا‏:‏ إنه ابنهما يرثهما ويرثانه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم‏}‏ قرأ عاصم ‏{‏تظاهرون‏}‏ بضم التاء وكسر الهاء والألف‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏تظاهرون‏}‏ بنصب التاء والهاء وتشديد الظاء‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو‏:‏ ‏{‏تُظْهِرُونَ‏}‏ بنصب التاء والهاء بغير ألف والتشديد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏تظاهرون‏}‏ بنصب التاء والتخفيف مع الألف‏.‏ وهذه كلها لغات‏.‏ يقال‏:‏ ظاهر من امرأته، وتظاهر، وتظهر بمعنى واحد‏.‏ وهو أن يقول لها‏:‏ أنت علي كظهر أمي‏.‏ فمن قرأ‏:‏ ‏{‏تُظْهِرُونَ‏}‏ بالتشديد، فالأصل تظهرون، فأدغم إحدى التاءين في الظاء وشددت‏.‏ من قرأ ‏{‏تظاهرون‏}‏ فالأصل يتظاهرون فأدغمت إحدى التاءين‏.‏ ومن قرأ بالتخفيف حذف إحدى التاءين، ولم يشدد للتخفيف كقوله‏:‏ ‏{‏تُسْأَلُونَ‏}‏ والأصل تتساءلون، والآية نزلت في شأن أوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته وذكر حكم الظهار في سورة المجادلة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ‏}‏ نزلت في شأن زيد بن حارثة حين تبنّاه النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ فكما لا يجوز أن يكون لرجل واحد قلبان، فكذلك لا يجوز أن تكون امرأته أمه، ولا ابن غيره يكون ابنه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بأفواهكم‏}‏ يعني‏:‏ قولكم الذي قلتم زيد بن محمد صلى الله عليه وسلم أنتم قلتموه بألسنتكم ‏{‏والله يَقُولُ الحق‏}‏ يعني‏:‏ يبيّن الحق، ويأمركم به كي لا تنسبوا إليه غير النسبة ‏{‏وَهُوَ يَهْدِى السبيل‏}‏ يعني‏:‏ يدلّ على طريق الحق‏.‏ يقال‏:‏ يدلّ على الصواب بأن تدعوهم إلى آبائهم‏.‏ وروى أبو بكر بن عياش عن الكلبي قال‏:‏ كان زيد بن حارثة مملوكاً لخديجة بنت خويلد، فوهبته خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، وتبناه، فكانوا يقولون زيد بن محمد فنزل قوله‏:‏ ‏{‏ادعوهم لاِبَائِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ انسبوهم لآبائهم‏.‏ فقالوا‏:‏ زيد بن حارثة ‏{‏هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله‏}‏ يعني‏:‏ أعدل عند الله عز وجل ‏{‏ادعوهم لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم ‏{‏فَإِخوَانُكُمْ فِى الدين‏}‏ أي‏:‏ قولوا ابن عبد الله وابن عبد الرحمن ‏{‏ومواليكم‏}‏ يعني‏:‏ قولوا مولى فلان‏.‏ وكان أبو حذيفة أعتق عبداً يقال له‏:‏ سالم وتبناه، فكانوا يسمونه سالم بن أبي حذيفة‏.‏ فلما نزلت هذه الآية سموه سالماً مولى أبي حذيفة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أن تنسبوهم إلى غير آبائهم قبل النهي‏.‏ ويقال‏:‏ ما جرى على لسانهم بعد النهي، لأن ألسنتهم قد تعودت بذلك ‏{‏ولكن‏}‏ الجناح فيما ‏{‏مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قصدت قلوبكم بعد النهي‏.‏

وروي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمرو عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «تَجَاوَزَ الله عَنْ أمَّتِي الخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»‏.‏ وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه حلف باللات والعزى ناسياً‏.‏ فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن ينفث عن يساره ثلاثاً، وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ يعني‏:‏ غفوراً لمن أخطأ ثم رجع ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏7‏)‏ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما يرى لهم رأياً فذلك أولى وأحسن لهم من رأيهم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه النبي أرحم بالمؤمنين من أنفسهم ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ يعني‏:‏ كأمهاتهم في الحرمة‏.‏ وذكر عن أبي أنه كان يقرأ ‏{‏النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ وهو أب لهم ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏{‏وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏ قال في رواية الكلبي‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الناس‏.‏ فكان يؤاخي بين الرجلين‏.‏ فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله‏.‏ فمكثوا في ذلك ما شاء الله حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين‏}‏ الذين آخى بينهم فصارت المواريث بالقرابات، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أَنَا وَلِيُّ كُلِّ مُسْلِمٍ فَمَنْ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْناً فَإلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ»‏.‏ فأمر بصرف الميراث إلى العصبة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً‏}‏ يعني‏:‏ إلا أن يوصي له بثلث ماله‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان المهاجرون والأنصار يرثون بعضهم من بعض بالقرابة، ولا يرث من لم يهاجر إلا أن يوصي للذي لم يهاجر‏.‏ ثم نسخ بما في آخر سورة الأنفال‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا‏}‏ يعني‏:‏ هكذا كان مكتوباً في التوراة‏.‏ ويقال‏:‏ في اللوح المحفوظ‏.‏ ويقال‏:‏ في القرآن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ‏}‏ وهو الوحي الذي أوحى إليهم أن يدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل، وأن يصدق بعضهم بعضاً‏.‏ ويقال‏:‏ الميثاق الذي أخذ عليهم من ظهورهم‏.‏ ويقال‏:‏ كل نبي أمر بأن يأمر من بعده بأن يخبروا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي إليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ‏}‏ في هذا تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قد ذكر جملة الأنبياء عليهم السلام ثم خصّه بالذكر قبلهم، وكان آخرهم خروجاً‏.‏ ثم ذكر نوحاً لأنه كان أولهم‏.‏ ثم ذكر إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم صلوات الله عليهم لأن كل واحد منهم كان على أثر بعض‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً‏}‏ يعني‏:‏ عهداً وثيقاً أن يعبدوا الله تعالى، ويدعوا الخلق إلى عبادة الله عز وجل، وأن يبشروا كل واحد منهم بمن بعده‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أخذ عليهم الميثاق لكي يسأل الصادقين عن صدقهم‏.‏ يعني‏:‏ يسأل المرسلين عن تبليغ الرسالة‏.‏ ويسأل الوفيّين عن وفائهم‏.‏

وروي في الخبر‏:‏ أنه يسأل القلم يوم القيامة‏.‏ فيقول له‏:‏ ما فعلت بأمانتي‏؟‏ فيقول‏:‏ يا رب سلمتها إلى اللوح‏.‏ ثم جعل القلم يرتعد مخافة أن لا يصدقه اللوح‏.‏ فيسأل اللوح بأن القلم قد أدى الأمانة، وأنه قد سلم إلى إسرافيل‏.‏ فيقول لإسرافيل‏:‏ ما فعلت بأماتني التي سلمها إليك اللوح‏؟‏ فيقول‏:‏ سلمتها إلى جبريل‏.‏ فيقول لجبريل عليه السلام‏:‏ ما فعلت بأمانتي‏.‏ فيقول‏:‏ سلمتها إلى أنبيائك‏.‏ فيسأل الأنبياء عليهم السلام فيقولون‏:‏ قد سلمناها إلى خلقك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ‏}‏ ‏{‏وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ يعني‏:‏ الذين كذبوا الرسل قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ احفظوا منة الله عليكم بالنصرة‏.‏ ‏{‏إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ يعني‏:‏ الأحزاب‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، صالح بني قريظة وبني النضير على أن لا يكونوا عليه، ولا معه‏.‏ فنقضت بنو النضير عهودهم، وأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم منها، وذكر قصتهم في سورة الحشر‏.‏

ثم إنّ بني قريظة جددوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم إن حيي بن أخطب ركب، وخرج إلى مكة‏.‏ فقال لأبي سفيان بن حرب‏:‏ إن قومي مع بني قريظة وهم سبعمائة وخمسون مقاتلاً‏.‏ فحثّه على الخروج إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم خرج من مكة إلى غطفان وحثهم على ذلك‏.‏ ثم خرج إلى كنانة وحثهم على ذلك‏.‏ فخرج أبو سفيان مع جماعة من أهل مكة‏.‏ وخرج غطفان وبنو كنانة حتى نزلوا قريباً من المدينة مع مقدار خمسة عشر ألف رجل‏.‏ ويقال‏:‏ ثمانية عشر ألف رجل‏.‏ ثم جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة‏.‏ فجاء إلى باب كعب بن الأشرف وهو رئيس بني قريظة‏.‏ فاستأذن عليه‏.‏ فقال لجاريته‏:‏ انظري من هذا‏؟‏ فعرفته الجارية فقالت‏:‏ هذا حيي بن أخطب‏.‏ فقال‏:‏ لا تأذني له عليّ‏.‏ فإنه مسؤوم إنه قد سأم قومه‏.‏ يريد أن يسأمنا زيادة‏.‏ فقالت له الجارية‏:‏ ليس هاهنا فقال حيي بن أخطب بلى هو ثم ولكن عنده قدر جيش لا يحب أن يشركه فيها أحد‏.‏ فقال كعب‏:‏ أحفظني أخزاه الله‏.‏ يعني‏:‏ أغضبني ائذني له في الدخول‏.‏ فدخل عليه‏.‏ فقال له‏:‏ يجيئُك مليكك، قد جئتك بعارض برد جئتك بقريش بأجمعها، وكنانة بأجمعها، وغطفان بأجمعها‏.‏ لا يذهب هذا الفوز حتى يقتل محمد‏.‏ فانقض الحلف بينك وبين محمد‏.‏ فقال له كعب بن الأشرف‏:‏ إن العارض ليسبب بنفحاته شيئاً‏.‏ ثم يرجع وأنا في بحر لجي، لا أقدر على أن أريم داري ومالي‏.‏ والله ما رأينا جاراً قط خيراً من محمد ما خفر لنا بذمة، ولا هتك لنا ستراً ولا آذانا، وإنما أخشى أن لا يقتل محمد، وترجع أنت وأقتل أنا‏.‏ فقال لكم ما في التوراة إن لم يقتل محمداً في هذا الغور، لأدخلنّ معكم حصنكم، فيصيبني ما أصابكم‏.‏ فنقض الحلف، وشقّ الصحيفة، فقدم بنعيم بن مسعود المدينة، وكان تاجراً يقدم من مكة‏.‏ فقال‏:‏ يا محمد شعرت أن بني قريظة نقضوا الحلف الذي كان بينك وبينهم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بذلك»‏.‏ فقال عمر‏:‏ إن كنت أمرتهم بذلك، وإن كنت تأمرهم بذلك، فقتالهم علينا هيّن‏.‏ فقال‏:‏ «مَا أَنا بِكَذَّابٍ، ولكن الحَرْبَ خُدْعَةٌ»‏.‏

ونعيم لم يسلم ذلك اليوم‏.‏ فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة إلى كعب بن الأشرف، يناشدوه الله الحلف الذي كان بينهم‏.‏ وأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل‏.‏ فأبى كعب بن الأشرف، وجرى بينهم كلام‏.‏ وسبّ سعد بن معاذ‏.‏ فقال أسيد بن حضير‏:‏ أتسب سيدك معاذاً يا عدو الله‏؟‏ ما هو لك بكفؤ‏.‏ فقال سعد بن معاذ‏:‏ اللهم لا تميتني حتى أشفي نفسي منهم‏.‏ فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثوه الحديث‏.‏

فانطلق نعيم بن مسعود إلى أبي سفيان‏.‏ فقال‏:‏ يا أبا سفيان والله ما كذب محمد قط كذبة‏.‏ أخبرني بأنه أمر بنقض الحلف بينه وبين بني قريظة‏.‏ فقال سلمان الفارسي‏:‏ إنا كنا يا رسول الله بأرض فارس إذا تخوفنا الجنود، خندقنا على أنفسنا‏.‏ فهل لك أن تخندق خندقاً‏؟‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل المدينة، وخندق وأخذ المعول بيده، فضرب لكي يقتدي الناس‏.‏ فضرب ضربةً فأبرق برقة، حتى ظهر ضوء بضربته‏.‏

ثم ضرب ضربة أخرى فأبرق برقة، ثم ضرب الثالثة فقال سلمان‏:‏ لقد رأيت أمراً عجيباً‏.‏ لقد رأيت ذلك‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقَدْ رَأَيْتُ بِالأُولَى قُصُورَ الشَّامِ، وَبِالثَّانِيَةِ قُصُورَ كِسْرَى؛ وَبِالثَّالِثَةِ قُصُورَ اليَمَنِ‏.‏ فهذه فُتُوحٌ يَفْتَحُ الله عَلَيْكُمْ»‏.‏ فقال ناس من المنافقين‏:‏ يعدنا أن تفتح الشام، وأرض فارس، واليمن‏.‏ وما يستطيع أحد منا أن يذهب إلى الخلاء‏.‏ ما يعدنا إلا غروراً‏.‏

فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة، فأرسل عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة، نرجع عنك بغطفان وكنانة، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا»‏.‏ فقال‏:‏ فنصف ذلك التمر‏.‏ قال‏:‏ «نعم»‏.‏ وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج‏.‏ فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة، والحارث بن عوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اكتب لنا كتاباً‏.‏ فدعى بصحيفة ليكتب بينهم‏.‏ فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة‏:‏ يا رسول الله أوحي إليك في هذا شيء‏.‏ فقال‏:‏ «لا ولكنني رَأَيْتُ العَرَبَ رَمَتْكُمْ مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَقُلْتُ أَرُدُّ هؤلاء وَأُقَاتِلُ هؤلاء» فقالا‏:‏ ما رجون بهذا منها في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا بشراء وقرًى‏.‏ فحين زادنا الله بك، وأمدنا بك، وأكرمنا بك، نعطيهم الدنية‏.‏ لا نعطيهم شيئاً إلا بالسيف‏.‏ فشق النبي صلى الله عليه وسلم الصحيفة قال‏:‏

«اذْهَبُوا فَلا نُعْطِيكُمْ شَيْئاً إلاَّ بِالسَّيْفِ»‏.‏ فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حييّ بن أخطب أن استعدَّ غداً إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يعدوا‏.‏ فلما جاء بني قريظة الرسول، فقالوا‏:‏ غداً يوم السبت لا نقاتل فيه‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد‏.‏ هاتوا لنا رهوناً أبناءكم نثلج إليهم أي‏:‏ نطمئن بذلك‏.‏

فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة، وقد أمسوا، فقالوا‏:‏ هذه الليلة لا يدخل علينا أحد، ولا يخرج من عندنا أحد‏.‏ فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه خوان حق، وأن نقض العهد كان مكراً منهم‏.‏

فلما كانت الليلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال‏:‏ «مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ القَوْمُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ»‏.‏ فما تحرك منهم أحد‏.‏ ثم صلى الثلث الثاني فقال‏:‏ «من رجل ينظر ما يفعل القوم» فما تحرك منهم أحد ثم صلى ساعة، ثم هتف مرة أخرى، فما تحرك منهم إنسان‏.‏ فقال‏:‏ «يَا حُذَيْفَةُ» فجاء حذيفة‏.‏ فقال‏:‏ «أَمَا سَمِعْتَ كَلامِي مُنْذُ اللَّيْلَة»‏.‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ ولكن بي من الجوع والقر يعني‏:‏ البرد لم أقدر على أن أجيبك‏.‏ قال‏:‏ «اذْهَبْ فَانْظُرْ ما فَعَلَ القَوْمُ، وَلاَ تَرْمِي بِسَهْمٍ، وَلاَ بِحَجَرٍ، وَلاَ تَطْعَنْ بِرمْحٍ، وَلاَ تَضْرِبْ بِسَيْفٍ»‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني، إني لميت‏.‏ ولكن أخشى أن يمثلوا بي‏.‏ فقال‏:‏ «لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ»‏.‏ فلما قال هذا، قال حذيفة‏:‏ آمنت وعرفت أنه لا بأس علي‏.‏ فلما ولى حذيفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ»‏.‏ فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش، فإذا هم يصطلون يعني‏:‏ مجتمعين على نار لهم‏.‏ فجلس حذيفة في حلقة منهم‏.‏ فقال‏:‏ أتدرون ما يريد الناس غداً‏؟‏ قالوا‏:‏ ماذا يريدون‏؟‏ قال‏:‏ يقولون‏:‏ يعني‏:‏ أهل العساكر أين قريش‏؟‏ أين سادات الناس وقادتهم‏؟‏ فتجيئون فيطرحونكم في نحور العدو‏.‏ فتقتلوا أو تفروا‏.‏ فما زال ذلك الحديث يفشو في العسكر‏.‏

ثم دخل عسكر بني كنانة‏.‏ فقال‏:‏ أتدرون ماذا يريد الناس غداً‏؟‏ قالوا‏:‏ ماذا يريدون‏؟‏ قالوا‏:‏ يقولون أين بنو كنانة‏؟‏ أين ذروة العرب‏؟‏ أين رماة الخندق‏؟‏ فتجيبون‏.‏ فيطرحونكم في نحور العدو‏؟‏ فتقتلوا أو تفروا‏.‏

ثم دخل عسكر غطفان، فقال‏:‏ أتدرون ماذا يريد الناس غداً‏؟‏ قولوا ماذا يريدون‏؟‏ قال‏:‏ يقولون أين غطفان‏؟‏ أين بنو فزارة بن حلاس الخيول‏؟‏ فتجيبون‏.‏

فيطرحونكم في نحور العدو‏.‏ فتقتلوا أو تفروا‏.‏

قال‏:‏ فبعث الله تعالى عليهم ريحاً شديدة، فلم تترك لهم خباء إلا قلعته، ولا إناء إلا أكفأته‏.‏ وقلعت أوتاد خيولهم، وجالت الخيول بعضها في بعض‏.‏ فقالوا فيما بينهم‏:‏ لقد بدا محمد بالسر‏.‏ فالنجاة النجاة‏.‏ فركب أبو سفيان جمله معقولاً، فما حلّ عقاله إلا بعد أن انبعث‏.‏ قال حذيفة‏:‏ ولو شئت أن أضربه بسيفي أو أطعنه برمحي لفعلت‏.‏ ولكن نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فترحلوا كلهم وذهبوا‏.‏

فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه عن العساكر وما فعل الله عز وجل بها‏.‏ فنزل ‏{‏الجحيم يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ في الدفع عنكم ‏{‏إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ‏}‏ من المشركين ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً‏}‏ شديدة ‏{‏وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ من الملائكة‏.‏ وذلك كبرت حوالي العسكر حتى انهزموا حين هبت بهم الريح، وهي ريح الصبا‏.‏ وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً‏}‏ في أمر الخندق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 17‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ‏(‏10‏)‏ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏16‏)‏ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِذْ جاؤوكم مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أتاكم المشركون من فوق الوادي‏.‏ يعني‏:‏ طلحة بن خويلد الأسدي ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ من قبل المغرب وهو أبو الأعور السلمي‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من قبل المشرق، مالك بن عوف، وعيينة بن حصن الفزاري، ويهود بني قريظة‏.‏ ‏{‏وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ أبو سفيان‏.‏ فلما رأى ذلك قالوا‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَاغَتِ الابصار‏}‏ يعني‏:‏ شخصت الأبصار فوقاً يعني‏:‏ أبصار المنافقين، لأنهم أشد خوفاً كأنهم خشب مسندة ‏{‏وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر‏}‏ خوفاً، هذا على وجه المثل‏.‏ ويقال‏:‏ اضطراب القلب يبلغ الحناجر‏.‏ ويقال‏:‏ إذا خاف الإنسان، تنتفخ الرئة، وإذا انتفخت الرئة، يبلغ القلب الحنجرة‏.‏ ويقال للجبان‏:‏ منتفخ الرئة‏.‏

‏{‏وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ يعني‏:‏ الإياس من النصرة‏.‏ يعني‏:‏ ظننتم أن لن ينصر الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم، قرأ ابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص‏:‏ الظنون بالألف عند الوقف، ويطرحونها عند الوصل‏.‏ وكذلك في قوله ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 66‏]‏ وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر‏:‏ بالألف في حال الوصل والوقف‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف في الحالتين جميعاً‏.‏ فمن قرأ بالألف في الحالين، فلاتباع الخط‏.‏ لأن في مصحف الإمام وفي سائر المصاحف بالألف‏.‏ ومن قرأ بغير ألف فلأن الألف غير أصلية، وإنما يستعمل هذه الألف الشعراء في القوافي‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أحب إلي في هذه الحروف أن يتعمد الوقف عليها بالألف، ليكون متبعاً للمصحف، واللغة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون‏}‏ يعني‏:‏ عند ذلك اختبر المؤمنون‏.‏ يعني‏:‏ أمروا بالقتال والحضور‏.‏ وكان في ذلك اختباراً لهم ‏{‏وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً‏}‏ أي‏:‏ حركوا تحريكاً شديداً واجتهدوا اجتهاداً شديداً‏.‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ وهم لم يقولوا رسول الله، وإنما قالوا باسمه‏.‏ ولكن الله عز وجل ذكره بهذا اللفظ‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ جماعة من المنافقين ‏{‏مّنْهُمْ ياأهل‏.‏ يَثْرِبَ‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل المدينة وكان اسم المدينة يثرب، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ‏{‏لاَ مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ بضم الميم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب‏.‏ فمن يقرأ بالضم فمعناه لا إقامة لكم‏.‏ ومن قرأ بالنصب، فهو بالمكان أي‏:‏ لا مكان لكم تقومون فيه، والجمع المقامات‏.‏ وكان أبو عبيدة يقرأ بالنصب، لأنه يحتمل المقام والمكان جميعاً‏.‏ يعني‏:‏ أن المنافقين قالوا‏:‏ خوفاً ورعباً منهم‏:‏ لا مقام لكم عند القتال‏.‏

‏{‏فارجعوا‏}‏ يعني‏:‏ فانصرفوا إلى المدينة ‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى‏}‏ وهم بنو حارثة وبنو سلمة، وذلك أن بيوتهم كانت من ناحية المدينة ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ ضائعة، نخشى عليها السراق‏.‏

ويقال‏:‏ معناه أن بيوتنا مما يلي العدو، وإنا لا نأمن على أهالينا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل العورة ما ذهب عنه الستر والحفظ‏.‏ وكان الرجال ستراً وحفظاً للبيوت‏.‏ فقالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ خالية والعرب تقول‏:‏ اعور منزلك أي‏:‏ إذا سقط جداره‏.‏

يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ‏}‏ لأن الله عز وجل يحفظها، يعني‏:‏ وما هي بخالية ‏{‏إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً‏}‏ أي‏:‏ ما يريدون إلا فراراً من القتال‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مّنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لو دخل العسكر من نواحي المدينة ‏{‏ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة‏}‏ يعني‏:‏ دعوهم إلى الشرك ‏{‏لاَتَوْهَا‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر‏:‏ ‏{‏لاَتَوْهَا‏}‏ بالهمزة بغير مد‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالهمز والمد‏.‏ فمن قرأ بالمد ‏{‏لاَتَوْهَا‏}‏ يعني‏:‏ لأعطوها‏.‏ ومن قرأ بغير مد معناه صاروا إليها وجاؤوها وكلاهما يرجع إلى معنى واحد يعني‏:‏ لو دعوا إلى الشرك لأجابوا سريعاً‏.‏

‏{‏وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً‏}‏ أي‏:‏ وما تحسبوا بالشرك إلا قليلاً‏.‏ يعني‏:‏ يجيبوا سريعاً‏.‏ ويقال‏:‏ لو فعلوا ذلك لم يلبثوا بالمدينة إلا قليلاً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل قتال الخندق حين كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، خرج سبعون رجلاً من المدينة إلى مكة‏.‏ فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة إلى السبعين، فبايعهم وبايعوه‏.‏ فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشترط لربك ولنفسك ما شئت‏.‏ فقال‏:‏ «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ ولا تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً وأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ به أَنْفُسَكُمْ وَأَوْلادَكُمْ»‏.‏ فقالوا‏:‏ قد فعلنا ذلك‏.‏ فما لنا‏؟‏ قال عليه السلام‏:‏ «لكم النصرة في الدنيا، والجنة في الآخرة»‏.‏ قالوا‏:‏ قد فعلنا ذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ‏}‏ ‏{‏لاَ يُوَلُّونَ الادبار‏}‏ منهزمين ‏{‏وَكَانَ عَهْدُ الله * مَسْؤُولاً‏}‏ يعني‏:‏ يسأل في الآخرة من ينقض العهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا تؤجلون إلا يسيراً، لأن الدنيا كلها قليلة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ يمنعكم من قضاء الله وعذابه ‏{‏إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً‏}‏ يعني‏:‏ القتل ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ عافية‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏سُوءا‏}‏ يعني‏:‏ الهزيمة ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ خيراً‏.‏ وهو النصر‏.‏ يعني‏:‏ من يقدر على دفع السوء عنكم وجر الخير إليكم ‏{‏وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ قريباً ومانعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 22‏]‏

‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏ يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يرى المثبطين منكم، المانعين من القتال منكم وهم المنافقون ‏{‏والقائلين لإخوانهم‏}‏ يعني‏:‏ لأوليائهم وأصدقائهم ‏{‏هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ ارجعوا إلينا إلى المدينة، وهذا بلغة أهل المدينة، يقولون للواحد وللاثنين والجماعة‏:‏ هلم وسائر العرب تقول للجماعة‏:‏ هلموا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ وذلك أن المنافقين كانوا يقولون‏:‏ إن لنا شغلاً، فيرجعون إلى المدينة، فإذا لقيهم أحد بالمدينة من المؤمنين يقولون‏:‏ دخلنا لشغل ونريد أن نرجع‏.‏ وإذا لقوا أحداً من المنافقين يقولون‏:‏ أي شيء تصنعون هناك‏؟‏ ارجعوا إلينا ‏{‏وَلاَ يَأْتُونَ البأس‏}‏ يعني‏:‏ ولا يحضرون القتال إلا قليلاً، رياءً وسمعةً‏.‏ ولو كان ذلك لله لكان كثيراً وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أشفقة عليكم، حباً لكم حتى يعوقكم يا معشر المسلمين‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ بخلاء في النفقة عليكمْ ويقال‏:‏ فيه تقديم‏.‏ فكأنه يقول‏:‏ ولا يأتون البأس شفقة عليكم أي‏:‏ لم يحضروا شفقة عليكم ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ لا قليلاً ولا كثيراً‏.‏

‏{‏فَإِذَا جَاء الخوف‏}‏ يعني‏:‏ خوف القتال ‏{‏رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ‏}‏ من الخوف ‏{‏تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت‏}‏ يعني‏:‏ تدور أعينهم كدوران الذي هو في غثيان الموت، ونزعاته جبناً وخوفاً ‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الخوف‏}‏ وجاءت قسمة الغنيمة ‏{‏سَلَقُوكُم‏}‏ يعني‏:‏ رموكم‏.‏ ويقال‏:‏ طعنوا فيكم ‏{‏بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ يعني‏:‏ سلاط باسطة بالشر ‏{‏أَشِحَّةً عَلَى الخير‏}‏ يعني‏:‏ حرصاً على الغنيمة‏.‏ ويقال‏:‏ بخلاً على الغنيمة ‏{‏أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ لم يصدقوا حقّ التصديق ‏{‏فَأَحْبَطَ الله أعمالهم‏}‏ يعني‏:‏ أبطل الله ثواب أعمالهم‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ يعني‏:‏ إبطال أعمالهم‏.‏ ويقال‏:‏ عذابهم في الآخرة على الله هيّن‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يظنون أن الجنود لم يذهبوا من الخوف والرعب ‏{‏وَإِن يَأْتِ الاحزاب‏}‏ مرة أخرى‏.‏ ويقال‏:‏ حكاية عن الماضي ‏{‏يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب‏}‏ يعني‏:‏ تمنوا أنهم خارجون في البادية مع الأعراب ‏{‏يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عن أخباركم وأحاديثكم ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ معكم في القتال ‏{‏مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ رياءً وسمعةً من غير حسبة‏.‏ وقرئ في الشاذ ‏{‏يُسْئَلُونَ‏}‏ بتشديد السين وأصله يتساءلون أي‏:‏ يسأل بعضهم بعضاً‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏يُسْئَلُونَ‏}‏ لأنهم يسألون القادمين‏.‏ ولا يسأل بعضهم بعضاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ قرأ عاصم ‏{‏أُسْوَةٌ‏}‏ بضم الألف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالكسر‏.‏ وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏ يعني‏:‏ لقد كان لكم اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقدوة حسنة، وسنة صالحة، لأنه كان أسبقهم في الحرب‏.‏

وكسرت رباعيته يوم أحد‏.‏ وَوَاسَاكُمْ بنفسه في مواطن الحرب‏.‏

‏{‏لّمَن كَانَ يَرْجُو الله‏}‏ يعني‏:‏ يخاف الله عز وجل ‏{‏واليوم الاخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً‏}‏ باللسان ‏{‏وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب‏}‏ يعني‏:‏ الجنود يوم الخندق والقتال ‏{‏قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ‏}‏ في سورة البقرة وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏ الآية‏.‏ ويقال‏:‏ إنه قد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نازل ذلك الأمر‏.‏ فلما رأوه ‏{‏قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏{‏وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً‏}‏ يعني‏:‏ لم يزدهم الجهد والبلاء إلا تصديقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم وَجُرْأَةً ‏{‏وَتَسْلِيماً‏}‏ يعني‏:‏ تواضعاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ثم نعت المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 27‏]‏

‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ‏(‏23‏)‏ لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏‏}‏

فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ وفوا بالعهد الذي عاهدوا ليلة العقبة ‏{‏فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ‏}‏ يعني‏:‏ أجله فمات‏.‏ أو قتل على الوفاء‏.‏ يعني‏:‏ وفاء بالعهد‏.‏ وقال القتبي‏:‏ النحب في اللغة النذر‏.‏ وذلك أنهم نذروا، إذا لقوا العدو أن يقاتلوا فقتل في القتال، فسمي قتله قضاء نحبه، واستعير النحب مكان الموت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ النحب العهد‏.‏

وروى عيسى بن طلحة قال‏:‏ جاء أعرابي فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين قضوا نحبهم فأعرض عنه‏.‏ وطلع طلحة بن عبيد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ»‏.‏ ثم قال عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ‏}‏ يعني‏:‏ ينتظر أجله ‏{‏وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ ما غيّروا بالعهد الذي عهدوا تغييراً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الوافين بوفائهم ‏{‏وَيُعَذّبَ المنافقين‏}‏ يعني‏:‏ إذا ماتوا على النفاق ‏{‏إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ يقبل توبتهم إن تابوا ‏{‏إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ لمن تاب منهم رحيماً بهم قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ صدهم وهم الكفار الَّذين جاؤوا يوم الخندق ‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ صرفهم عن المدينة مع غيظ منهم ‏{‏لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً‏}‏ يعني‏:‏ لم يصيبوا ما أرادوا من الظفر والغنيمة ‏{‏وَكَفَى الله المؤمنين القتال‏}‏ يعني‏:‏ دفع الله عنهم مؤنة القتال حيث بعث عليهم ريحاً وجنوداً‏.‏

‏{‏وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً‏}‏ فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل المدينة، ودخل على فاطمة رضي الله عنها، وأراد أن يغسل رأسه‏.‏ فجاءه جبريل عليه السلام‏:‏ وقال‏:‏ لا تغسل رأسك، ولكن اذهب إلى بني قريظة‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال‏:‏ إن جبريل عليه السلام قال له حين وضع سلاحه‏:‏ وضعت سلاحك‏؟‏ قال‏:‏ «نعم» قال‏:‏ ما وضعت الملائكة عليهم السلام سلاحها بعد، وقد أمرك الله عز وجل أن تنهض نحو بني قريظة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فقال‏:‏ «عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لا تُصَلُّوا العَصْرَ إلاّ بِبَنِي قُرَيْظَة»‏.‏ فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه وخرج المسلمون معه، واللواء في يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ فمر على بني عدي وبني النجار وقد أخذوا السلاح‏.‏ فقال‏:‏ «مَنْ أَمَرَكُمْ أنْ تَلْبَسُوا السِّلاحَ»‏.‏ فقالوا‏:‏ دحية الكلبي‏.‏ وكان جبريل عليه السلام يتمثل في صورته‏.‏

فلما جاء بني قريظة، وجد بعض الصحابة قد صلوا العصر قبل أن يأتوا بني قريظة مخافة أن تفوتهم عن وقتها، وأبى بعضهم فقالوا‏:‏ نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي حتى نأتي بني قريظة‏.‏ فلم ينتهوا إلى بني قريظة حتى غابت الشمس، ولم يصلوا العصر‏.‏ قال‏:‏ فلم يؤنب أحداً من الفريقين، أي‏:‏ رضي بما فعل الفريقان جميعاً‏.‏ وفيه دليل لقول بعض الناس‏:‏ إن لكل مجتهد نصيب‏.‏

فجاء علي رضي الله عنه باللواء حتى غرزه عند الحصن‏.‏ فسبت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، ورجع إليه علي رضي الله عنه، فقال‏:‏ تأخر يا رسول الله ونحن نكفيك فيهم‏.‏ قال‏:‏ «سَبُّونِي وَلَوْ كَانُوا دُونِي لَمْ يَسُبُّونِي»‏.‏ فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «يا إخْوَةَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ انزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وحُكْمِ رَسُولِهِ»‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم ما كنت فحاشاً‏.‏ ورجع حيي بن أخطب من الروحاء، وقد ذكر يمينه التي حلف بها لكعب بن الأشرف، ودخل معهم في حصنهم، ونزل بنو سعد بن شعبة أسد وثعلبة، فأسلموا‏.‏ وأبى من بقي‏.‏

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة بن عبد المنذر‏:‏ «اذْهَبْ فَقُلْ لِحُلَفَائِكَ وَمَوَالِيكَ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله تَعَالَى وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلامَ»‏.‏ فجاءهم أبو لبابة‏.‏ فقال‏:‏ انزلوا على حكم الله ورسوله‏.‏ فقالوا‏:‏ يا أبا لبابة نصرناك يوم بعاث، ويوم الحدائق والمواطن كلها التي كانت بين الأوس والخزرج، ونحن مواليك وحلفاؤك، فانصح لنا ماذا ترى‏؟‏ فأشار إليهم ووضع يده على حلقه يعني‏:‏ الذبح‏.‏ فقالوا‏:‏ لا تفعل يعني‏:‏ لا ننزل‏.‏ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خنت الله ورسوله»‏.‏ فقال‏:‏ نعم‏.‏

فانطلق فربط نفسه بخشبة من خشب المسجد حتى تاب الله عليه، والتمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده‏.‏ فقالوا‏:‏ إنه قد ربط نفسه بخشبة من خشبة المسجد‏.‏ فقال‏:‏ «لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ فأمَّا إذ رَبَطَ نَفْسَهُ فَدَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ الله عَلَيْهِ»‏.‏ ثم أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فحلّه، فقال كعب بن أسد لأصحابه من بني قريظة‏:‏ أما تعلمون أنه قد جاءنا ابن فلان اليهودي من الشام‏؟‏ فقال لنا‏:‏ جئتكم لنبي ينتهي إلى هذه الأرض من قريش، وأنه يبعث بالذبح والقتل والسب، فلا يهولنكم ذلك، وكونوا أولياءه وأنصاره‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة، لا نتبع قوماً أميين ما درسوا كتاباً قط، فلا نفعل‏.‏

فقال كعب بن أسد‏:‏ أطيعوني في إحدى ثلاث‏:‏ قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ فقال‏:‏ إنكم لتعرفون أنه رسول الله‏.‏ فاتبعوه، وانصروه، وكونوا أنصاره وأولياءه‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نكون تبعاً لغيرنا‏.‏

فقال‏:‏ إما إذا أبيتم، فإن هذه ليلة السبت، هم يأمنونكم، انزلوا إليهم فبيتوهم حتى تقتلوهم‏.‏ فقالوا لا نكسر سبتنا‏.‏ فقد كسر قوم من بني إسرائيل سبتهم، فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير‏.‏ قال‏:‏ فإن أبيتم هذا‏.‏ فإذا كان يوم الأحد فاقتلوا أبناءكم ونساءكم‏.‏ ثم انزلوا إليهم بأسيافكم فقاتلوهم حتى تموتوا كراماً‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نفعل‏.‏ فلبثوا خمسة عشر ليلة محاصرين‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «عَلَى حُكْمِ مَنْ تَنْزِلُونَ‏؟‏» قالوا‏:‏ ننزل على حكم سعد بن معاذ‏.‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، وكان جريحاً قد رمته بني قريظة، فأصاب أكحله، فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يشفي صدره من بني قريظة‏.‏ فأتي به على حمار، فتبعه قوم كان ميلهم إلى بني قريظة، وكانوا يقولون له‏:‏ يا أبا عمرو أحسن في حلفائك ومواليك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية وقد نصروك يوم بعاث، ويوم حدائق، فلم يكلمهم حتى نظر إلى بيوت بني قريظة‏.‏ فقال سعد‏:‏ قد آن لي أن لا أخاف في الله لومة لائم‏.‏ فعرفوا أنه سوف يقتلهم‏.‏ فرجعوا عنه‏.‏ فلما دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لمن حوله‏:‏ «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ»‏.‏ فقام إليه الأنصار، فأنزلوه‏.‏ فقال‏:‏ «احْكُمْ فِيهِمْ يَا أبا عَمْرٍو»‏.‏ فقال سعد لليهود‏:‏ أترضون بحكمي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهاب أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ وَعَلَيَّ مِنْ هَاهُنَا مثل ذلك، وإنه ليغض بصره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نَعَمْ نَعَمْ وَعَلَيْنَا»‏.‏ فقال لبني قريظة‏:‏ انزلوا فلما نزلوا‏.‏ قال‏:‏ احكم فيهم يا رسول الله أن تقتل مقاتليهم، وتسبي ذراريهم، وتقسم أموالهم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ مَنْ فَوْقَ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ»‏.‏ فأتى حيي بن أخطب مأسوراً في حلة‏.‏ فجاءه رجل من الأنصار، فنزع رداءه، فبقي في إزاره، فجعل يمزق إزاره لكي لا يلبسه أحد وهو يقول‏:‏ لا بأس بأمر الله‏.‏ فلما جاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ألَمْ يُمَكِنِّي الله مِنْكَ يَا عَدُوَّ الله» فقال‏:‏ بلى وما ألوم نفسي فيك قد التمست العز في مظانه، وقلقلت في كل مقلقل، فأبى الله إلا أن يمكّنك مني‏.‏ فأمر بضرب عنقه‏.‏

ثم جاؤوا بعزاز بن سموأل فقال‏:‏ «أَلَمْ يُمْكِنِّي الله مِنْكَ» فقال‏:‏ بلى يا أبا القاسم، فضرب عنقه‏.‏

ثم قال لسعد‏:‏ ‏"‏ عَلَيْكَ بِمَنْ بَقِيَ ‏"‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لاَ تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّيْنِ حَرَّ الهَاجِرَةِ، وَحَرَّ السَّيْف ‏"‏‏.‏ فحسبهم كذلك في دار الحارث، وفي بعض الروايات ببيت خراب»‏.‏

ثم أخرجهم رسلاً فقتلهم على الولاء والترتيب‏.‏ فقال بعضهم لبعض‏:‏ ما تراهم يصنعون بنا‏؟‏ فقال واحد‏:‏ ألا تعقلون أنهم يقتلون‏؟‏ ألا ترون أن الداعي لا يسكت‏؟‏ ومن ذهب لا يرجع‏؟‏ فقتلوا كلهم ولم يسلم أحد منهم‏.‏

كان فيهم رجل يقال له‏:‏ زبير بن باطا‏.‏ فكلم ثابت بن قيس بن شماس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره فقال‏:‏ إن الزبير بن باطا له عندي يد، وقد أعانني يوم بعاث فهبهُ لي يا رسول الله حتى أعتقه‏.‏ فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ هُوَ لَكَ ‏"‏‏.‏ فجاء إليه‏.‏ فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن أتعرفني‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ وهل ينكر الرجل أخاه، أنت ثابت بن قيس‏.‏ قال‏:‏ أتذكر يداً لك عندي يوم بعاث‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ إن الكريم يجزي باليد، فاجز بها‏.‏ فقال‏:‏ قد وهبك النبي صلى الله عليه وسلم لي، وقد أعتقتك‏.‏ قال‏:‏ شيخ كبير لا أهل له كيف يعيش‏.‏ فجاء ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمه في أهله، فقال‏:‏ ‏"‏ لَكَ أهْلُهُ ‏"‏‏.‏ فجاء إليه‏.‏ فقال‏:‏ قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك فهي لك‏.‏ فقال‏:‏ شيخ كبير أعمى وامرأة ضعيفة، وأطفال صغار لا مال لهم كيف يعيشون‏؟‏ فقام ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ماله‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ لَكَ مَالُهُ ‏"‏‏.‏ فجاء إليه‏.‏ فقال‏:‏ قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك لي فهو لك‏.‏ فقال‏:‏ فما فعلت بكعب بن أسد الذي وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏ قال‏:‏ فما فعل بعزاز بن سموأل مقدم اليهود إذا حملوا وحاميهم إذا انصرفوا‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏ قال‏:‏ فما فعل بسيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏ قال فما فعل بفلان وفلان‏؟‏ قال‏:‏ قتل‏.‏ قال‏:‏ فقال يا ابن الأخ لا خير في الحياة بعد أولئك ألا أصبر فيه قدر فراغ دلو ماء حتى ألقى الأحبة‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ ويلك يا ابن باطا، والله ما هو إفراغ دلو ماء، ولكنه عذاب الله أبداً‏.‏ يا ابن الأخ قدمني إلى مصارع قومي، فاضرب ضربة أجهز بها، وأرفع يدك عن العصام، وألصق بالرأس‏.‏ فإن أحسن الجسد أن يكون فيه شيء من العنق‏.‏ فقال ثابت‏:‏ ما كنت لأقتلك‏.‏ قال‏:‏ ما أبالي من قتلني‏.‏ فتقدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب عنقه‏.‏

وغنم الله عز وجل رسوله أموال بني قريظة، وذراريها، فقسمها بين المسلمين‏.‏

فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم‏}‏ يعني‏:‏ عاونوهم ‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ وهم بنو قريظة ‏{‏مِن صَيَاصِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ من قصورهم، وحصونهم، وأصل الصياصي في اللغة‏:‏ قرون الثور لأنه يتحصن به‏.‏ فقيل‏:‏ للحصون صياصي لأنها تمنع‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ حين انهزم الأحزاب ‏{‏فَرِيقاً تَقْتُلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ رجالهم ‏{‏وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً‏}‏ تسبون طائفة وهم النساء والصبيان‏.‏ قال مقاتل‏:‏ قتل أربعمائة وخمسون رجلاً، وسبي من النساء والصبيان ستمائة وخمسون‏.‏ وقال في رواية الكلبي‏:‏ كانوا سبعمائة فقسمها بين المهاجرين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ مزارعهم ‏{‏وديارهم‏}‏ يعني‏:‏ منازلهم ‏{‏وأموالهم‏}‏ يعني‏:‏ العروض والحيوان ‏{‏وَأَرْضاً لَّمْ‏}‏ يعني‏:‏ لم تملكوها ولم تقدروا عليها‏.‏ يعني‏:‏ ورثكم تلك الأرض أيضاً وهي أرض خيبر‏.‏ وروي عن الحسن وغيره في قوله ‏{‏أَرْضًا لَمْ‏}‏ قال‏:‏ كل ما فتح على المسلمين إلى يوم القيامة ‏{‏تَطَئُوهَا وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً‏}‏ يعني‏:‏ على فتح مكة وغيرها من القرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 33‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏قَدِيراً ياأيها النبى قُل لازواجك‏}‏ وذلك أنه رأى منهن الميل إلى الدنيا، وطلبن منه فضل النفقة ‏{‏ياأيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ وزهرتها ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ‏}‏ متعة الطلاق ‏{‏وَأُسَرّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ أطلقكن طلاق السنة من غير إضرار‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ تطلبن رضي الله ورضى رسوله ‏{‏والدار الاخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً جزيلاً في الجنة‏.‏ فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه شهراً‏.‏ فلما نزلت هذه الآية، جمع نساءه‏.‏ فبدأ بعائشة فقال‏:‏ «يا عَائِشَةُ إنِّي أُرِيدُ أنْ أَعْرِضَ عَلَيْكِ أمْراً أُحِبُّ أَنْ لا تَعْجَلي فِيهِ حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْكِ»‏.‏ قالت‏:‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ فتلا عليها الآية‏.‏ فقالت‏:‏ أفيك يا رسول الله أستشير أبوي‏؟‏ بل اختار الله ورسوله والدار الآخرة‏.‏

ثم خيّر نساءه فاخترنه سائر النساء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ‏}‏ يعني الزنى ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ تعاقب مثلي ما يعاقب غيرها‏.‏ ويقال‏:‏ الجلد والرجم، وهذا قول الكلبي‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ بمعصية، يضاعف لها العذاب ضعفين‏.‏ لأن كرامتهن كانت أكثر‏.‏ فجعل العقوبة عليهن أشد‏.‏ وهذا كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ يغفر للجاهل سبعون ما لا يغفر للعالم واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً‏}‏ يعني‏:‏ هيّناً‏.‏ قرأ ابن كثير وعاصم في إحدى الروايتين ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ بنصب الياء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالكسر‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر‏:‏ ‏{‏نُضَعِّفْ‏}‏ بالنون وتشديد العين، لها العذابَ بنصب الباء، ومعناه‏:‏ لها العذاب‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏والله يضاعف‏}‏ بالياء والتشديد وضم الباء في العذاب على معنى فعل ما لم يسم فاعله‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏يضاعف‏}‏ وهما لغتان‏.‏ والعرب تقول‏:‏ تضعف الشيء وضاعفه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ أي‏:‏ تطع منكن الله ورسوله ‏{‏وَتَعْمَلْ صالحا‏}‏ يعني‏:‏ تعمل بالطاعات فيما بينها وبين ربّها ‏{‏نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ ثوابها ضعفين ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً حسناً في الجنة‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وَيَعْمَلْ صالحا‏}‏ بالياء‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء‏.‏ فمن قرأ بالياء فللفظ مَنْ لأن لفظها لفظ واحد مذكر‏.‏ كما اتفقوا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَقْنُتْ‏}‏‏.‏ ومن قرأ بالياء ذهب إلى المعنى، وصار منكن فاصلاً بين الفعلين‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يؤتها‏}‏ بالياء يعني‏:‏ يؤتها الله‏.‏ وقرأ الباقون بالنون على معنى الإضافة إلى نفسه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَرِيماً يانساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء‏}‏ يعني‏:‏ لستنّ كسائر النساء‏.‏

فقال‏:‏ لستن كأحد‏.‏ ولم يقل‏:‏ كواحد‏.‏ لأن لفظ الأحد يصلح للواحد والجماعة، وأما لفظ الواحد لا يصلح إلا للواحد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنِ اتقيتن‏}‏ يعني‏:‏ إن اتقيتن المعصية وأطعتن الله ورسوله ‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ يعني‏:‏ لا تلنَّ بالقول‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء إِنِ اتقيتن‏}‏ فأنتن أحق الناس بالتقوى وتم الكلام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول‏}‏ يعني‏:‏ لا ترفقن بالقول وهو اللين من الكلام‏.‏ ومعلوم أن الرجل إذا أتى باب إنسان والرجل غائب، فلا يجوز للمرأة أن تلين القول معه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ يعني‏:‏ فجور‏.‏ وقال عكرمة هو شهوة الزنى‏.‏ ويقال‏:‏ الميل إلى المعصية ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ يعني‏:‏ صحيحاً جميلاً‏.‏ ويقال‏:‏ قولاً حسناً يعني‏:‏ ليناً‏.‏ ويقال‏:‏ لا يقلن باللين فيفتن، ولا بالخشن فتؤذين ‏{‏وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً‏}‏ بين ذلك‏.‏

قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ قرأ نافع وعاصم ‏{‏وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ بالنصب‏.‏ والباقون‏:‏ بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالكسر فمعناه‏:‏ اسكن في بيوتكنَّ بالوقار‏.‏ وهو من وقر يقر وقاراً‏.‏ ويقال‏:‏ هو من التقرير‏.‏ ويقال‏:‏ قر يقر وأصلهُ قررن‏.‏ ولكن المضاعف يراد به التخفيف‏.‏ فحذف إحدى الراءين للتخفيف‏.‏ فلما طرحوا إحدى الراءين، استثقلوا الألف ولم تكن أصلية، وإنما دخلت للوصل‏.‏ فحذفت الألف‏.‏ ومن قرأ ‏{‏وَقَرْنَ‏}‏ بنصب القاف لا يكون إلا للتقرير‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى‏}‏ يعني‏:‏ لا تتزين كتزين الجاهلية الأولى‏.‏ والتبرج إظهار الزينة‏.‏ ويقال‏:‏ التبرج‏:‏ الخروج من المنزل‏.‏ و‏{‏الجاهلية الاولى‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ الأزمنة التي ولد فيها إبراهيم عليه السلام‏.‏ فكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتخذ الدروع من اللؤلؤ، ثم تمشي وسط الطريق‏.‏ وكان ذلك في زمن النمرود الجبار‏.‏

وروي عن الحكم بن عيينة قال ‏{‏الجاهلية الاولى‏}‏ كانت بين نوح وآدم عليهما السلام‏.‏ وكانت نساؤهم أقبح ما يكون من النساء، ورجالهم حسان‏.‏ وكانت المرأة تريد الرجل على نفسها‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أن ‏{‏الجاهلية الاولى‏}‏ كانت بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ الجاهلية الأولى كانت قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما سمى جاهلية الأولى لأنه كان قبله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَرْنَ فِى‏}‏ يعني‏:‏ أتممن الصلوات الخمس ‏{‏وَقَرْنَ فِى‏}‏ يعني‏:‏ إن كان لكن مال ‏{‏وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيما ينهاكن وفيما يأمركن ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس‏}‏ يعني‏:‏ الإثم‏.‏ وأصله في اللغة كل خبيث من المأكول وغيره‏.‏ ‏{‏أَهْلَ البيت‏}‏ يعني‏:‏ يا أهل البيت وإنما كان نصباً للنداء‏.‏ ويقال‏:‏ إنما صار نصباً للمدح‏.‏ ويقال‏:‏ صار نصباً على جهة التفسير، فكأنه يقول‏:‏ أعني أهل البيت‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏عَنْكُمْ‏}‏ بلفظ التذكير، ولم يقل‏:‏ عنكن لأن لفظ أهل البيت يصلح أن يذكر ويؤنث‏.‏

قوله ‏{‏وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ يعني‏:‏ من الإثم والذنوب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ‏}‏ يعني‏:‏ احفظن ما يقرأ عليكن ‏{‏مِنْ آيات الله‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني‏:‏ أمره ونهيه في القرآن‏.‏ فوعظهن ليتفكرون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً‏}‏ لطيف علمه، فيعلم حالهن إن خضعن بالقول‏.‏ ويقال‏:‏ لطيفاً أمر نبيه بأن يلطف بهن ‏{‏خَبِيراً‏}‏ يعني‏:‏ عالماً بأعمالهن‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ وذلك أن أم سلمة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، فأخشى أن لا يكون فيهن خير، ولا لله عز وجل فيهن حاجة‏؟‏ فنزل ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ ويقال‏:‏ إن النساء اجتمعن وبعثن أنيسة رسولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالت‏:‏ إن الله تبارك وتعالى خالق الرجال والنساء، وقد أرسلك إلى الرجال والنساء، فما بال النساء ليس لهن ذكر في الكتاب فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لما ذكر الله عز وجل أزواج النبي يعني‏:‏ دخل نِسَاءٌ مسلماتٌ عليهن، فقلن‏:‏ ذكرتن ولم نذكر‏.‏ ولو كان طفينا خير ذكرنا‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّ المسلمين والمسلمات‏}‏ يعني‏:‏ المسلمين من الرجال، والمسلمات من النساء‏.‏ ‏{‏والمؤمنين‏}‏ يعني‏:‏ المصدقين الموحدين من الرجال ‏{‏والمؤمنات‏}‏ يعني‏:‏ المصدقات الموحدات من النساء ‏{‏والقانتين‏}‏ يعني‏:‏ المطيعين، وأصل القنوت القيام‏.‏ ثم يكون للمعاني، ويكون للطاقة‏.‏ كقوله ‏{‏والقانتين‏}‏ ويكون للإقرار بالعبودية كقوله‏:‏ ‏{‏وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 109‏]‏ ‏{‏وَلَهُ مَن فِى السماوات والارض كُلٌّ لَّهُ قانتون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116 والروم‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏والقانتات‏}‏ أي‏:‏ المطيعات من النساء ‏{‏والصادقين‏}‏ يعني‏:‏ الصادقين في إيمانهم من الرجال ‏{‏والصادقات‏}‏ من النساء ‏{‏والصابرين والصابرات‏}‏ على أمر الله تعالى من الرجال والنساء ‏{‏والخاشعين والخاشعات‏}‏ يعني‏:‏ المتواضعين من الرجال والنساء ‏{‏والمتصدقين والمتصدقات‏}‏ يعني‏:‏ المنفقين أموالهم في طاعة الله من الرجال والنساء ‏{‏والصائمين والصائمات‏}‏ قال مقاتل‏:‏ من صام رمضان، وثلاثة أيام من كل شهر فهو من الصائمين والصائمات‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات‏}‏ يعني‏:‏ من الفواحش من الرجال والنساء ‏{‏والذكرين الله كَثِيراً والذكرات‏}‏ يعني‏:‏ باللسان من الرجال والنساء‏.‏ فذكر أعمالهم‏.‏

ثم ذكر ثوابهم فقال‏:‏ ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً‏}‏ في الدنيا لذنوبهم ‏{‏وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ في الآخرة وهو الجنة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ الآية‏.‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب بنت جحش الأسدية وهي بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب‏:‏

«إنِّي أُرِيدُ أنْ أُزَوِّجَكِ مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ»‏.‏ فقالت‏:‏ يا رسول الله لا أرضاه لنفسي‏.‏ وأنا أرفع قريش لأنني من قريش وابنة عمتك‏.‏ فنزل ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما جاز لمؤمن يعني‏:‏ زيد بن حارثة، ‏{‏وَلاَ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ زينب بنت جحش ‏{‏إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً‏}‏ يعني‏:‏ حكم حكماً في تزويجهما ‏{‏أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ اختيار من أمرهم بخلاف ما أمر الله ورسوله‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وعاصم‏:‏ أن يكون بالياء بالتذكير‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتاء بلفظ التأنيث‏.‏ فمن قرأ بالتاء‏:‏ فلأن لفظ الخيرة مؤنث‏.‏ ومن قرأ بالياء‏:‏ فإنه ينصرف إلى المعنى، ومعناهما الاختيار لتقديم الفعل ‏{‏وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضلالا مُّبِيناً‏}‏ فلما سمعت زينب بنت جحش نزول هذه الآية قالت‏:‏ أطعتك يا رسول الله‏.‏