فصل: تفسير الآيات رقم (183- 187)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 187‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّحِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏، يعني فرض عليكم صيام رمضان، ‏{‏كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏، أي فرض على الذين من قبلكم من أهل الملل كلها‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الأكل والشرب والجماع بعد صلاة العشاء الآخرة وبعد النوم‏.‏ ويقال‏:‏ كما كتب في الذين من قبلكم في الفرض‏.‏ ويقال‏:‏ كما كتب على الذين من قبلكم في العدد ‏{‏أَيَّامًا معدودات‏}‏، أي معلومات؛ وإنما صارت الأيام نصباً لنزع الخافض، ومعناه في أيام معدودات‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين، وما زاد على ذلك لا يقال معدودة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏، فلم يقدر على الصوم ‏{‏أَوْ على سَفَرٍ‏}‏، فلم يصم‏.‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏، أي فعليه أن يقضيها بعد مضي الشهر مثل عدد الأيام التي فاتته‏.‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏، أي يطيقون الصوم ‏{‏فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏، أي يدفع لكل مسكين مقدار نصف صاع من حنطة ويفطر ذلك اليوم‏.‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏، أي تصدق على مسكينين مكان كل يوم أفطره، ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ‏}‏ من أن يطعم مسكيناً واحداً‏.‏ والصيام خير له من الإفطار وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ من أن تفطروا وتطعموا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كان هذا في أول الإسلام ثم نسخت هذه الآية بالآية التي بعدها، وهكذا قال القتبي، وهكذا روي، عن سلمة بن الأكوع أنه قال‏:‏ لمّا نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏، كان من أراد أن يفطر ويفدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏، كان الأغنياء يطعمون ويفطرون ويفتدون ولا يصومون، فصار الصوم على الفقراء، فنسختها هذه الآية ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏، فوجب الصوم على الغني والفقير، وقال بعضهم‏:‏ ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في الشيخ الكبير‏.‏ وروي عن عائشة أنها كانت تقرأ‏:‏ «وَعَلَى الَّذِينَ يَطُوقُونَهُ»، يعني يكلفونه فلا يطيقونه‏.‏ وروي عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ليست بمنسوخة وإنما هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان كل يوم مسكيناً‏.‏ قرأ نافع وابن عامر «فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ» بضم الهاء وكسر الميم بالألف على الإضافة‏.‏ وقرأ الباقون بتنوين الهاء ‏{‏فِدْيَةٌ طَعَامُ‏}‏ بضم الميم ‏{‏مّسْكِينٌ‏}‏ بغير ألف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏، قرأ عاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏شَهْرٍ‏}‏ بفتح الراء والباقون‏:‏ بالضم‏.‏ وإنما صار رفعاً لمعنيين‏:‏ أحدهما أنه مفعول ما لم يسم فاعله، يقول‏:‏ كتب عليكم شهر رمضان ومعنى آخر‏:‏ أنه خبر مبتدأ يعني هذا شهر رمضان‏.‏

ومن قرأ بالنصب احتمل أنه صار نصباً لوقوع الفعل عليه، أي صوموا شهر رمضان؛ ويقال‏:‏ صار نصباً لنزع الخافض، أي‏:‏ في شهر رمضان‏.‏ ويحتمل‏:‏ عليكم شهر رمضان‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 138‏]‏ يعني الزموا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏، قرأ ابن كثير ‏{‏القرءان‏}‏ بالتخفيف وقرأ الباقون‏:‏ بالهمز‏.‏ وقال ابن عباس في معنى قوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏، يعني أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في السماء الدنيا، ثم أنزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً، أي الآية والآيتين في أوقات مختلفة؛ أنزل عليه في إحدى وعشرين سنة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ كل عام في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، نزل إلى السفرة من اللوح المحفوظ في عشرين سنة‏.‏

حدثنا محمد بن الفضل قال‏:‏ حدثنا فارس بن مردويه قال‏:‏ حدثنا محمد بن الفضيل العابد قال‏:‏ حدثنا الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة قال‏:‏ أنزلت التوراة في ثنتي عشرة ليلة مضت من رمضان، والإنجيل في ثمانية عشرة ليلة، والقرآن في أربعة وعشرين ليلة‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم القطان قال‏:‏ حدثنا محمد بن صالح الترمذي قال‏:‏ حدثنا سويد بن نصر قال‏:‏ حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن جريح قال‏:‏ قال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏ قال‏:‏ أنزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كل شيء ينزل في تلك السنة‏.‏ فينزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، ولا ينزل جبريل من ذلك على محمد صلى الله عليه وسلم إلا كلما أمر به تعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ‏}‏ أي القرآن هدى للناس من الضلالة وبياناً لهم‏.‏ ‏{‏وبينات مِّنَ الهدى‏}‏، يعني بيان الحلال والحرام ‏{‏والفرقان‏}‏، أي المخرج من الشبهات ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏، أي من كان منكم شاهداً ولم يكن مريضاً ولا مسافراً فليصم الشهر‏.‏ ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ‏}‏ فأفطر، ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ يقضيه بعد ذلك‏.‏ روي عن عبد الله بن عمر‏:‏ أنه كان يكره قضاء رمضان متفرقاً‏.‏ وعن علي بن أبي طالب مثله‏.‏ وقال معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الصحابة‏:‏ أحصِ العدد وصم كيف شئت‏.‏ واختلفوا في حدّ المريض الذي يجوز له الإفطار‏.‏

قال بعضهم‏:‏ إذا كان بحال يخاف على نفسه التلف‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا استحق اسم المريض جاز له أن يفطر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا كان بحال يخاف أن يزيد الصوم في مرضه جاز له أن يفطر‏.‏ وهو قول أصحابنا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر‏}‏ في الإفطار في حال المرض والسفر، ‏{‏وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ بالصوم في المرض والسفر‏.‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏، قال الكلبي‏:‏ يعني لتتموا عدة ما أفطرتم من الصوم في السفر أو في المرض‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏، يعني إذا غمّ عليكم هلال شوال فأكملوا الشهر ثلاثين يوماً‏.‏ قرأ عاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية هارون‏:‏ «وَلِتُكَمِّلُوا»؛ بنصب الكاف وتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف وسكون الكاف؛ وهما لغتان يقال‏:‏ كملت الشيء وأكملته مثل وصَّيت وأوصيت ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ‏}‏، أي لتعظموا الله على ما هداكم لشرائعه وسننه وأمر دينه؛ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، أي لتشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث رخص لكم الفطر في المرض والسفر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لعلكم تشكرون في هذه النعم أن هداكم لأمر دينه‏.‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي‏}‏؛ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله في أي وقت ندعو الله حتى يستجاب دعاؤنا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏}‏، يعني أجيبكم في أي وقت تدعونني‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سأله بعض أصحابه فقالوا‏:‏ يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إن عمر واقع امرأته بعدما صلى العشاء، فندم على ذلك وبكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع من عنده مغتماً، وكان ذلك قبل الرخصة، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏‏.‏

قرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في إحدى الروايتين‏:‏ «دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي» بالياء والباقون كلهم بحذف الياء‏.‏ وأصله بالياء إلا أن الكسر يقوم مقام الياء‏.‏ ويقال فإني قريب في الإجابة، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ بالطاعة، ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِى‏}‏ وليصدقوا بوعدي‏.‏ قال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى‏}‏ الاستجابة أن تقولوا بعد صلاتكم‏:‏ لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك‏.‏ ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِى‏}‏ والإيمان أن تقول‏:‏ آمنت بالله وكفرت بالطاغوت، وأن وعدك حق وأن لقاءك حق، وأشهد أنك أحد فرد صمد، لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفواً أحد، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنك باعث من في القبور‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما تَرَكْتُ هذه الكلمات دبر كل صلاة منذ نزلت هذه الآية‏.‏ وروي عن الكلبي أنه قال‏:‏ ما تركتها منذ أربعين سنة‏.‏ ويقال‏:‏ معناه أجيبوا لي بالطاعة إذا دعاكم رسول الله ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِى‏}‏، أي ليصدقوا بتوحيدي‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏، أي يهتدون من الضلالة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَاءكُمْ‏}‏، يعني الجماع‏.‏ وروى بكر، عن عبد الله المزني، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الغشيان واللمس والإفضاء والمباشرة والرفث هو الجماع، ولكن الله حيي كريم يكني بما شاء‏.‏ وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع امرأته بعد صلاة العشاء في شهر رمضان بعد النوم، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا كُنْتَ جَدِيراً بذلك» فرجع مغتماً فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ‏}‏، أي رخص لكم الجماع مع نسائكم‏.‏ ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏، أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن‏.‏ ويقال‏:‏ هن ستر لكم من النار وأنتم ستر لهن من النار‏.‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏، أي تظلمون أنفسكم‏.‏ قال القتبي‏:‏ أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه‏.‏ وقد سمى الله تعالى هذا الفعل خيانة، لأن الإنسان قد اؤتمن على دينه فإذا فعل بخلاف ما أمر الله به ولم يؤد الأمانة فيه، فقد خانه بمعصيته‏.‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏، أي فتجاوز عنكم ‏{‏وَعَفَا عَنكُمْ‏}‏ ولم يعاقبكم بما فعلتم‏.‏

‏{‏فالن باشروهن‏}‏، أي جامعوهن ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏، يعني اطلبوا ما قضى الله لكم من الولد الصالح‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏، أي اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه وأمرتم به‏.‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا‏}‏، نزلت في شأن صرمة بن قيس عمل في النخيل بالنهار، فلما رجع منزله غلب عليه النوم قبل أن يأكل شيئاً، فأصبح صائماً فأجهده الصوم، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر النهار فقال له‏:‏ «مَا لَكَ يَا ابْنَ قَيْسٍ أَمْسَيْتَ طَليحاً‏؟‏» فقال‏:‏ ظللت أمس في النخيل نهاري كله أجر بالجرين، حتى أمسيت فأتيت أهلي، فأرادت أن تطعمني شيئاً سخناً فأبطأت علي فنمت فأيقظوني وقد حرم علي الطعام والشراب، فلم آكل فأصبحت صائماً فأمسيت وقد أجهدني الصوم‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ‏}‏، وهذا أمر أباحه الله وليس بأمر حتم‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الارض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

‏[‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ وكقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدى وَلاَ القلائد ولا ءَامِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ورضوانا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 2‏]‏‏.‏ فلفظه لفظ الأمر والمراد به الإباحة‏.‏ وقد أباح الله الأكل والشرب والجماع إلى وقت طلوع الفجر بقوله‏:‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود‏}‏، أي يستبين لكم بياض النهار من سواد الليل‏.‏

ويقال‏:‏ في الابتداء لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر‏}‏، كان بعضهم يأخذ خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود يجعل ينظر إليهما ويأكل ويشرب، حتى يتبين له الأسود من الأبيض‏.‏ وذكر عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال‏:‏ أخذت خيطين، فجعلت أنظر إليهما، فلم يتبين الأسود من الأبيض ما لم يسفر الفجر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فتبسم وقال‏:‏ «إِنّكَ لَعَرِيضُ القَفَا؛ إِنَّما هُوَ سَوادُ اللَّيْلِ وَبَيَاضُ النَّهَارِ»، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ فارتفع الاشتباه‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل‏}‏ أي إلى أول الليل وهو غروب الشمس‏.‏

‏{‏وَلاَ تباشروهن‏}‏، يقول‏:‏ ولا تجامعوهن ‏{‏وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏، يقول‏:‏ ولا تجامعوهن وأنتم معتكفون فيها، وذلك أنه لما رخص لهم الجماع في ليلة الصيام، فكان الرجل إذا كان معتكفاً فإذا بدا له، خرج بالليل إلى أهله فتغشاها ثم يغسل ويرجع إلى المسجد، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تباشروهن‏}‏، أي لا تجامعوهن ليلاً ولا نهاراً ‏{‏وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏؛ قال الكلبي‏:‏ يعني المباشرة في الاعتكاف معصية الله ‏{‏فَلاَ تَقْرَبُوهَا‏}‏ في الاعتكاف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحد في اللغة هو المنع، فكل من منع فهو حداد‏.‏ ولهذا سمي حد الدار حداً، لأنه يمنع الغير عن دخولها‏.‏ ‏{‏كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ‏}‏، يعني النهي عن الجماع ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ الجماع حتى يفرغوا من الاعتكاف‏.‏ ويقال ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏، أي جميع ما ذكر الله تعالى من أول الآية إلى آخرها في أمر الصيام وغيره، ونبين لهم الآيات لعلهم يتقون، فينتهون عما نهاهم ويتبعون ما أمرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل‏}‏، أي بالظلم وشهادة الزور‏.‏ ‏{‏وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام‏}‏، يقول تلجؤوا بالخصومة إلى الحكام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ تعملون بما يوجبه ظاهر الحكم، وتتركون ما علمتم أنه الحق‏.‏ ‏{‏لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا‏}‏، يعني طائفة ‏{‏مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم‏}‏، أي باليمين الكاذبة وشهادة الزور‏.‏ ويقال‏:‏ بالإثم أي بالجور‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه جور‏.‏ ويقال‏:‏ إنكم تعلمون أنكم تأخذون بالباطل‏.‏

وهذه الآية نزلت في شأن امرئ القيس بن عباس الكندي وعيدان بن أشوع الحضرمي، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على صاحبه شيئاً، فأراد الآخر أن يحلف بالكذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ وَأَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لا يَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّما أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ» فنزلت هذه الآية فيهما، وصارت عامة لجميع الناس‏.‏ وروى سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «شَاهِدُ الزُّورِ إِذَا شَهِدَ لا يَرْفَعُ قَدَمِيْهِ مِنْ مَكانِهِمَا، حَتَّى يَلْعَنُهُ الله مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة‏}‏‏.‏ الأهلة‏:‏ جمع هلال واشتقاقه من قولهم‏:‏ استهل الصبي إذا صاح؛ وأهلّ بالحج‏:‏ أي رفع صوته بالتلبية‏.‏ وكذلك الهلال يسمى هلالاً، لأنه يهل الناس بذكره أي يرفعون الصوت عند رؤيته؛ وإنما سمي الشهر شهراً لشهرته‏.‏ وقال الضحاك في معنى الآية‏:‏ إن المسلمين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خرص النخيل والتصرف في زيادة الشهر ونقصانه، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏، أي التصرف في حال زيادته ونقصانه سواء‏.‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ نزلت هذه الآية في شأن معاذ بن جبل، وثعلبة بن عنمة الأنصاري، لأنهما قالا‏:‏ يا رسول الله ما بال الهلال يبدو فيطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم ينقص‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ أي هي‏:‏ علامات للناس في حل ديونهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم ووقت الحج‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى‏}‏؛ قال الضحاك‏:‏ وذلك أن الكفار كانوا لا يدخلون البيت في أشهر الحج من بابه، وكانوا يدخلونه من أعلاه، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ وذلك أن الناس كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام، إذا أحرم رجل منهم قبل الحج، فإن كان من أهل المدن يعني من أهل البيوت، ثقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه؛ وإن كان من أهل الوبر يعني من أهل الخيام، يدخل من خلف الخيمة إلا من الحمس‏.‏ وإنما سموا الحمس، لأنهم يحمسون في دينهم، أي شددوا على أنفسهم، فحرموا أشياء أحلها الله لهم، وحللوا أشياء كانت حراماً على غيرهم وهو الدخول من الباب‏.‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر *** ءانٍ **تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا‏}‏، يعني ليس التقوى بأن تأتوا البيوت من خلفها إذا أحرمتم‏.‏ ‏{‏ولكن البر‏}‏، يعني التقوى ‏{‏مَنِ اتقى‏}‏، أي أطاع الله واتبع أمره‏.‏ ويقال‏:‏ ولكن ذو البر من اتقى الشرك والمعاصي‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها‏}‏، يعني ادخلوها محلين ومحرمين‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ ولا تقتلوا الصيد في إحرامكم؛ وهذا قول الكلبي‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ واتقوا الله ولا تعصوه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏، أي تنجون من العقوبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 194‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة، فنزل بالحديبية بقرب مكة، والحديبية‏:‏ اسم بئر فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر، فصده المشركون عن البيت، فأقام بالحديبية شهراً، فصالحه المشركون على أن يرجع من عامه كما جاء، على أن تخلى له مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وصالحوه على أن لا يكون بينهم قتال إلى عشر سنين، فرجع إلى المدينة وخرج في العام الثاني للقضاء، فخاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم المشركون وكرهوا القتال في الشهر الحرام، فنزلت هذه الآية ‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏، أي في طاعة الله ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏، يعني في الحرم أو في الشهر الحرام، ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ بأن تنقضوا العهد وتبدؤوهم بالقتال في الشهر الحرام أو في الحرم‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏، يعني من يبدأ بالظلم‏.‏

‏{‏واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏، أي حيث وجدتموهم في الحل والحرم، والشهر الحرام‏.‏ فأمرهم الله تعالى بقتل المشركين الذين ينقضون العهد وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ من مكة ‏{‏والفتنة‏}‏، أي الشرك بالله ‏{‏أَشَدَّ‏}‏، أي أعظم عند الله ‏{‏مِنَ القتل‏}‏ في الشهر الحرام‏.‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام‏}‏، أي في الحرم، ‏{‏حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏، أي يبدؤوكم بالقتال‏.‏ ‏{‏فَإِن قاتلوكم‏}‏، أي بدؤوكم بالقتال ‏{‏فاقتلوهم كذلك جَزَاء الكافرين‏}‏، أي هكذا جزاؤهم القتل في الحرم وغيره‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم‏}‏ بغير ألف ‏{‏حتى يقاتلوكم‏}‏، ‏{‏فَإِن قاتلوكم‏}‏ وقرأ الباقون في هذه المواضع الثلاثة‏:‏ بالألف‏.‏ فمن قرأ بالألف فهو من المقاتلة؛ ومن قرأ بغير ألف فمعناه لا تقتلوهم حتى يقتلوا منكم‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن قتالكم، ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏؛ أي إذا أسلموا‏.‏ وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ ‏{‏وقاتلوهم‏}‏، يعني أهل مكة ‏{‏حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏، يعني الشرك بالله، ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ‏}‏ كله ‏{‏لِلَّهِ‏}‏، يعني الإسلام‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن قتالكم وتركوا الشرك ‏{‏فَلاَ عدوان‏}‏، يقول لا سبيل ولا حجة عليهم في القتل، ‏{‏إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ الذين بدؤوكم بالقتال‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل العدوان الظلم، يعني لا جزاء للظلم إلا على الظالمين‏.‏

فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة، وطافوا بالبيت، ونحروا الهدي، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ثم انصرفوا فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏، يعني الشهر الحرام الذي دخلت فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم عنه العام الأول وهو ذو القعدة ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ أي ما اقتصصت لكم في ذي القعدة كما صدوكم‏.‏

ويقال‏:‏ إذا قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏، يعني قتالكم يكون لِقتالهم قصاصاً، فكما تركوا الحرمة فأنتم تتركون أيضاً ذلك‏.‏

ويقال‏:‏ إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين سألوا المسلمين فقالوا‏:‏ في أي شهر يحرم عليكم القتال‏؟‏ وأرادوا أن يقفوا على ذلك، حتى يقاتلوهم في الشهر الذي حرم القتال على المؤمنين، فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏، أي في وقت قاتلكم المشركون حل لكم قتالهم‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏، أي قاتلكم في الشهر الحرام ‏{‏فاعتدوا عَلَيْهِ‏}‏، أي قاتلوهم فيه وإنما سمي الثاني اعتداء، لأنه مجازاة الاعتداء فسمي بمثل اسمه‏.‏ وهذا كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏؛ ثم صارت هذه الآية حكماً في جميع الجنايات‏.‏ إن من جنى على إنسان أو في ماله، فله أن يجازيه بمثل ذلك بظاهر هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏ ثم قال ‏{‏واتقوا الله‏}‏ عن الاعتداء قبل أن يعتدوا عليكم ‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏، يعني يعين من اتقى الاعتداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 195‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏‏}‏

‏{‏أَنْقِقُوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏، أي في طاعة الله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد، قام إليه ناس من الأعراب حاضري المدينة فقالوا‏:‏ بماذا نجهز‏؟‏ فوالله ما لنا زاد ولا يطعمنا أحد‏.‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏، يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله أي في طاعة الله‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏، يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا وهكذا قال مقاتل‏.‏ ومعنى قول ابن عباس ولا تمسكوا عن الصدقة فتهلكوا، أي لا تمسكوا عن النفقة والعون للضعفاء، فإنهم إذا تخلفوا عنكم غلب عليكم العدو فتهلكوا‏.‏ ومعنى آخر‏:‏ ولا تمسكوا، فيرث منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم‏.‏ معنى آخر‏:‏ ولا تمسكوا، فيذهب عنكم الخلف في الدنيا والثواب في الآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏، يعني لا تنفقوا من حرام، فيرد عليكم فتهلكوا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التهلكة‏:‏ معناه الهلاك‏.‏ يقال‏:‏ هلك يهلك هلاكاً وتهلكة‏.‏ معناه إن لم تنفقوا عصيتم الله فهلكتم‏.‏ وروي عن البراء بن عازب، أن رجلاً سأله عن التهلكة فقال‏:‏ أهو الرجل إذا التقى الجمعان، فحمل فيقاتل حتى يقتل‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن الرجل يذنب ثم لا يتوب‏.‏ وقال قتادة قيل لأبي هريرة‏:‏ ألم تر سعد بن هشام لما التقى الصفان حمل فقاتل حتى قتل، ألقى بيده إلى التهلكة‏؟‏ فقال أبو هريرة‏:‏ كلا والله ولكنه تأويل آية من كتاب الله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَءُوفٌ بالعباد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏

وقال أبو عبيدة السلماني‏:‏ التهلكة أن يذنب الرجل فيقنط من رحمة الله فيهلك‏.‏

وروي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال‏:‏ نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثرنا قلنا فيما بيننا‏:‏ إن أموالنا قد ضاعت، فلو أقمنا فيها وأصلحنا منها ما ضاع؛ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏، فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا أن نقيم في أموالنا ونصلحها، فأمرنا بالغزو‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏، أي أحسنوا النفقة من الصدقة‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ في النفقة ويقال‏:‏ وأحسنوا في النفقة، أي أخلصوا النية في النفقة‏.‏ ويقال‏:‏ أحسنوا الظن بالله تعالى فيما أنفقتم، إنه يخلف عليكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 202‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏، قرأ الشعبي‏:‏ ‏{‏والعمرة لِلَّهِ‏}‏ بالضم على معنى الابتداء، وقرأ العامة ‏{‏والعمرة‏}‏ بالنصب على معنى البناء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تمام العمرة إلى البيت، وتمام الحج إلى آخر الحج‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏ من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم؛ وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم‏.‏ ومعنى قول مقاتل‏:‏ أنهم كانوا يشركون فيقولون‏:‏ لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك‏.‏ فقال‏:‏ وأتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً آخر‏.‏ ثم خوَّفهم فقال‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏، فيما تعديتم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏، أي حبستم عن البيت بعدما أحرمتم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الإحصار هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عدو‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الإحصار ما ابتلي به الرجل في إحرامه من المرض أو العدو وغيره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يكون الإحصار إلا من العدو‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يكون من العدو وغيره، وبه قال علماؤنا رحمهم الله‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏، أي ابعثوا إلى البيت ما استيسر من الهدي، والله تعالى رخص لمن عجز عن الوصول إلى البيت بالعدو أن يبعث الهدي، فينزع عنه بمكة، ويحل الرجل من إحرامه إذا ذبح هديه، ويرجع إلى أهله، ثم يقضي حجه وعمرته بعد ذلك‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ‏}‏، يعني المحصر إذا بعث بالهدي، لا يجوز له أن يحل من إحرامه ما لم يذبح هديه‏.‏ يقول‏:‏ لا يحلق رأسه، حتى يكون اليوم الذي واعده فيه، ويعلم أن هديه قد ذبح‏.‏ ثم صار هذا أصلاً لجميع الحجاج من كان قارناً أو متمتعاً، لا يجوز له أن يحلق رأسه إلا بعد أن يذبح هديه وإن لم يكن محصراً‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ‏}‏، يعني إذا حلق رأسه على وجه الإضمار مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَّامًا معدودات فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ يعني إذا كان أفطر‏.‏ وروي عن كعب بن عجرة أنه قال‏:‏ فيَّ نزلت هذه الآية‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي، فقال‏:‏ «أيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ‏؟‏» فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فأمر بي بأن أحلق رأسي فقال‏:‏ «احْلِقْ رَأْسَكَ، وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِين، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَنْسِكْ نَسِيكَةً»

يعني اذبح شاة، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏، أي شاة يذبحها حتى يبلغ الهدي محله‏.‏ ويروى عن عبد الرحمن الأعرج أنه قرأها‏:‏ بتشديد الياء‏.‏ وواحدها هدية‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالتخفيف يقال للواحدة‏:‏ هدي وهدية‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ وهذا على سبيل الاختصار والإضمار‏.‏ ومعناه فإذا أمنتم من العدو، فاقضوا ما وجب عليكم من الحج والعمرة‏.‏ ويقال‏:‏ إذا أمنتم من العدو وبرأتم من المرض، فحجوا واعتمروا‏.‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدى‏}‏، يعني فعليه ما تيسر من الهدي؛ وللمتمتع أن يحج ويعتمر في سفرة واحدة من أشهر الحج‏.‏ والمحرمون أربعة‏:‏ مفرد بالحج ومفرد بالعمرة والمتمع والقارن، فأما المفرد بالحج أن يحج ويعتمر والمفرد بالعمرة أن يعتمر ولا يحج، وأما المتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ويمكث بمكة حتى يحج بعدما فرغ من عمرته، وأما القارن فهو الذي يحرم بالحج والعمرة جميعاً‏.‏ فمن كان مفرداً بالحج أو بالعمرة، فلا يجب عليه الهدي؛ ومن كان متمتعاً أو قارناً، فعليه الهدي‏.‏ وقال عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ الهدي‏:‏ الجزور‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أقله شاة؛ وبه قال علماؤنا‏.‏

ثم قال ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ الهدي ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ آخرها يوم عرفة‏.‏ ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ إذا رجعتم إلى أهليكم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا رجعتم من منى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إذا رجعتم إلى الأمر الأول، يعني إذا فرغتم من أمر الحج؛ وبهذا القول نقول‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏، في البدل يعني العشرة الكاملة كلها بدل عن الهدي، يعني ‏{‏ذلك‏}‏ الفداء ‏{‏لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام‏}‏، أي ذلك الفداء لمن لم يكن منزله في الحرم‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏:‏ ذلك يعني التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام يعني الحرم‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما أمركم به ونهاكم عنه‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ إن خالفتم‏.‏

‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏، أي وقت الحج أشهر معلومات وهو‏:‏ شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة‏.‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏؛ قال القتبي‏:‏ الفرض وجوب الشيء، يقال‏:‏ فرضت عليك كذا، أي أوجبته‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ‏}‏، أي ما ألزمتم أنفسكم، وقال‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتى ءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فى أزواجهم وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏

‏[‏الأحزاب‏:‏ 50‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏، أي فمن أحرم في هذه الأشهر بالحج، ‏{‏فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ‏}‏‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو‏:‏ «فَلاَ رِفْثٌ وَلاَ فُسُوقٌ» بالرفع مع التنوين، والباقون بالنصب بغير تنوين‏.‏ واتفقوا في قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ جِدَالَ‏}‏ بالنصب؛ غير أبي جعفر المدني فإنه قرأ بالرفع‏.‏ وهذا يقال له‏:‏ لا التبرية؛ فكل موضع يدخل فيه لا التبرية، فصاحبه بالخيار إن شاء نصبه بغير تنوين، وإن شاء ضمه بالتنوين مثل قوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامنوا أَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة والكافرون هُمُ الظالمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 254‏]‏‏.‏

وتفسير الرفث هو الجماع كقوله‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فالن باشروهن وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 187‏]‏؛ وقال بعضهم‏:‏ الرفث‏:‏ التعرض بذكر النساء، والفسوق‏:‏ هو السباب، والجدال‏:‏ أن تماري صاحبك حتى تغيظه‏.‏ أي من كان محرماً لا يجامع في إحرامه ولا يسب ولا يماري‏.‏ ويقال‏:‏ الفسوق الذبح للأصنام‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَ أَجِدُ فِى مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 145‏]‏، والجدال هو أن قريشاً كانت تقف بالمزدلفة وكانوا يجادلون كل فريق يقولون‏:‏ نحن أصوب سبيلاً‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ قد استقر الحج في ذي الحجة، فلا جدال فيه؛ وذلك أن المشركين كانوا يحجون عامين في ذي القعدة وعامين في ذي الحجة، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، بعث أبا بكر ليحج بالناس فوافق ذلك آخر عام ذي القعدة؛ فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وافق ذلك أول عام في ذي الحجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أَلا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السموات وَالأَرْضَ ‏"‏ يعني رجع أمر الحج إلى ذي الحجة كما كان، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلاَ جِدَالَ فِي الحج‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏، يعني من ترك الفسوق والمرأة والجدال‏.‏ ‏{‏يَعْلَمْهُ الله‏}‏، أي يقبله الله فيجازيكم به‏.‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ‏}‏ في سفركم للحج والعمرة ما تكفون به وجوهكم عن المسألة‏.‏

‏{‏فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏‏.‏ قال مقاتل وذلك أن أناساً من أهل اليمن كانوا يخرجون بغير زاد، ويصيبون من أهل الطريق ظلماً، فنزلت في شأنهم ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ تزودوا لسفر الدنيا بالطعام، وتزودوا لسفر الآخرة بالتقوى فإن خير الزاد التقوى‏.‏ ويقال خير الزاد التقوى، هو التوكل على الله وأن لا يؤذي أحدٌ لأجل الزاد والطعام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏واتقون يأُوْلِي الالباب‏}‏، يعني اطيعوني يا ذوي الألباب أي العقول فيما أمرتكم به‏.‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏؛ وذلك أنهم كانوا إذا حجوا، كفوا عن التجارة وطلب المعيشة في الحج، فلم يشتروا ولم يبيعوا حتى تمضي أيام حجهم، فجعل الله تعالى لهم رخصة في ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏، أي لا مأثم عليكم أن تطلبوا رزقاً من ربكم من التجارة في أيام الحج‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز في الجاهلية كنا نقوم في التجارة قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء في أيام حجنا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ ومعنى آخر‏:‏ ما روي عن عبد الله بن عمر‏:‏ أن رجلاً سأله فقال‏:‏ إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزيني عن حجي‏؟‏ فقال‏:‏ أولست تلبي، وتقف بعرفات وترمي الجمار‏؟‏ فقال‏:‏ بلى فقال‏:‏ سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ما سألتني، فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عباس نحوه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات‏}‏، يقول إذا رجعتم من عرفات بعد غروب الشمس؛ ‏{‏فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام‏}‏، يعني بالمزدلفة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ إنما سميت عرفات، لأن جبريل كان يعلَّم إبراهيم عليه السلام أمور المناسك فكان يقول له‏:‏ عرفت‏؟‏ فيقول‏:‏ عرفت‏.‏ فسميت عرفات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إنما سميت منى، لأن جبريل قال لآدم عليهما السلام‏:‏ تمنَّ‏.‏ قال‏:‏ أتمنى الجنة‏.‏ فسميت منى‏.‏ قال‏:‏ وإنما سمي الجمع جمعاً، لأنه اجتمع فيه آدم وحواء والجمع أيضاً‏:‏ هو المزدلفة وهو المشعر الحرام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏، يقول‏:‏ اشكروا الله كما هداكم لدين الإسلام ‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏، أي وقد كنتم ‏{‏مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالين‏}‏ عن الهدى، وكانت قريش لا تخرج من الحرم إلى عرفات، وكان الناس يقفن خارج الحرم من كان من أهل اليمن وغيرهم بعرفات، ويفيضون منها؛ فأمر الله تعالى قريشاً أن يقفوا من حيث وقف الناس، ويفيضوا من حيث أفاض الناس؛ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله‏}‏ تعالى لذنوبكم في الموقف‏.‏

‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ متجاوز عن ذنوبكم‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالناس جميعاً إلى عرفات فيقف بها‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إنَّ الله تَعَالَى يُبَاهِي مَلائِكَتَهُ بِأَهْلِ عَرَفَات وَيَقُولُ‏:‏ انْظُرُوا إِلى عِبَادِي جَاؤُوا مِنْ كُلِّ فَجَ عَمِيقٍ شُعْثاً غُبْراً‏.‏ اشْهَدُوا، أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏، أي فرغتم من أمر حجكم ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ باللسان ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ في ذلك الموقف ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏؛ يقول‏:‏ أو أكثر ذكراً، وذلك أن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم، وقفوا بين المسجد الذي بمنى وبين الجبل، ثم ذكر كل واحد منهم أباه بما كان يعلم منه من الخير ثم يتفرقون، قال الله تعالى‏:‏ فَاذْكُرُونِي بالخير ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ بالخير، فإن ذلك الخير مني‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ هو كقول الصبي‏:‏ أبه أبه، يعني أن الصبي إذا كان أول ما يتكلم فإن أكثر قوله‏:‏ أب أب‏.‏ ويقال فاذكروا الله كذكركم آباءكم لأبيكم آدم، لأنه لا أب له، بل أشد ذكراً، لأني خلقته من غير أب ولا أم وخلقتكم من الآباء والأمهات‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا‏}‏، وهم المشركون كانوا يقولون إذا وقفوا‏:‏ اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماءً وأموالاً، ولم يكونوا يسألون لأنفسهم التوبة ولا المغفرة، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق‏}‏، أي من نصيب‏.‏ ‏{‏وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً‏}‏؛ قال ابن عباس‏:‏ يعني الشهادة والمغفرة والغنيمة ‏{‏وَفِي الاخرة حَسَنَةً‏}‏، أي الجنة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الحسنة النعمة كقوله‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏، أي نعمة‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي‏}‏، أي العلم والعبادة ‏{‏وَفِي الاخرة حَسَنَةً‏}‏، أي الجنة قال الإمام‏:‏ حسنة الدنيا، ثوابك، وقوت من الحلال يكفيك، وزوجة صالحة ترضيك، وعلم إلى الحق يهديك، وعمل صالح ينجيك‏.‏ وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات، وعفو السيئات، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات، والفوز بالدرجات ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏، أي ادفع عنا عذاب النار‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏، يعني المؤمنين الذين يدعون بهذا الدعاء ‏{‏لَهُمْ نَصِيبٌ‏}‏، أي حظ ‏{‏مِمَّا كَسَبُواْ‏}‏ من حجهم‏.‏ ويقال‏:‏ لهم ثواب مما عملوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن رجلاً كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا؛ فأضني الرجل في مرضه حتى نحل جسمه، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فأخبره بأنه كان يدعو بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

«يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُومَ بِعُقُوبَةِ الله تَعَالَى ولكن قُلْ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏» فدعا بها الرجل فبرأ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏؛ قال الكلبي‏:‏ إذا حاسب فحسابه سريع‏.‏ ويقال‏:‏ والله سريع الحفظ‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني لا يخالطه العباد في الحساب يوم القيامة ولا يشغله ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏وَاذْكُرُواْ الله فِي أيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ‏}‏، أي معروفات وهي أيام التشريق‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أيام التشريق‏.‏ والمعلومات أيام العشر‏.‏ وقال يحيى بن سعيد‏:‏ سألت عطاء عن الأيام المعدودات وعن المعلومات، قال‏:‏ الأيام المعدودة‏:‏ أيام النحر، والمعلومات‏:‏ أيام العشر‏.‏ وقال بعضهم الأيام المعدودات أيام التشريق بدليل ما سبق في سياق الآية‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏، والمعلومات‏:‏ أيام النحر بدليل قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فى أَيَّامٍ معدودات فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 203‏]‏ فذكر النحر في تلك الأيام‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏، أي معروفات وهي أيام التشريق، أي كبروا دبر كل صلاة من يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؛ ويقال‏:‏ ‏{‏واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات‏}‏، يعني التكبير عند رمي الجمار‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ‏}‏، أي رجع إلى أهله، بعدما رمى في يومين وترك الرمي في اليوم الثالث ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ في تعجيله، ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ‏}‏ إلى آخر النفر ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ في تأخيره‏.‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏، يعني قتل الصيد في الإحرام وفي الحرم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ابن مسعود قال‏:‏ إنما جعلت المغفرة لمن اتقى في حجه‏.‏ ويقال‏:‏ لمن اتقى بعد انصرافه من حجه عن جميع المعاصي؛ وإنما حذرهم الله تعالى، لأنهم إذا رجعوا من حجهم، يجترئون على الله تعالى بالمعاصي، فحذرهم عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏، فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 206‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُه‏}‏، يعني كلامه وحديثه، وهو أخنس بن شريق، كان حلو الكلام، حلو المنظر، فاجر السريرة‏.‏ وروى أسباط عن السدي قال‏:‏ أقبل أخنس بن شريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال‏:‏ إنما جئت أريد الإسلام وقال‏:‏ الله يعلم أني صادق، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ثم خرج من عنده، فمر بزرع للمسلمين فأحرقه، ومر بحمار للمسلمين فعقره، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا‏}‏، أي يعجبك كلامه وحديثه‏.‏ ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ‏}‏ من الضمير أنه يحبه وهو يريد الإسلام ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏، أي شديد الخصومة‏.‏ قال القتبي‏:‏ أي أشدهم خصومة‏.‏ يقال‏:‏ رجل ألد بين اللّد واللدد، وقوم لد‏.‏ كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الارض‏}‏، يقول‏:‏ إذا فارقك رجع عنك، سعى في الأرض، أي مضى في الأرض بالمعاصي‏.‏ ‏{‏لِيُفْسِدَ فِيهَا‏}‏، أي يعصي الله في الأرض ‏{‏وَيُهْلِكَ الحرث والنسل‏}‏، أي يحرق الكدس ويعقر الدواب‏.‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏، أي لا يرضى بعمل المعاصي‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله‏}‏ في صنعك، ‏{‏أَخَذَتْهُ العزة‏}‏، أي الحمية ‏{‏بالإثم‏}‏، يعني الحمية في الإثم، يعني تكبراً‏.‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد‏}‏، أي ولبئس الفراش ولبئس القرار‏.‏ فهذه الآية نزلت في شأن أخنس بن شريق، ولكنها صارت عامة لجميع الناس؛ فمن عمل مثل عمله، استوجب تلك العقوبة‏.‏ وقال بعض الحكماء، إن من يقتل حماراً ويحرق كدساً، استوجب الملامة ولحقه الشين إلى يوم القيامة؛ فالذي يسعى بقتل مسلم كيف يكون حاله‏؟‏ وذكر أن يهودياً كانت له حاجة إلى هارون الرشيد، فاختلف إلى بابه سنة، فلم تنقض حاجته؛ فوقف يوماً على الباب، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال‏:‏ اتق الله يا أمير المؤمنين‏.‏ فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجداً لله تعالى، فلما رفع رأسه أمر به، فقضيت حاجته‏.‏ فلما رجع قيل‏:‏ يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن تذكرت قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم‏}‏ إلى آخره‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا؛ فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كَانُوا كَذَلِكَ»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في شأن صهيب بن سنان الرومي، مولى عبد الله بن جدعان، وفي نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ياسر أبو عمار بن ياسر، وسمية أم عمار، وخباب بن الأرت وغيرهم؛ أخذهم المشركون فعذبوهم‏.‏ فأما صهيب فإنه كان شيخاً كبيراً وله مال ومتاع، فقال لأهل مكة‏:‏ إني شيخ كبير، وإني لا أضركم إن كنت معكم أو مع عدوكم، فأنا أعطيكم مالي ومتاعي وذروني وديني، أشتريه منكم بمالي‏.‏ ففعلوا ذلك، فأعطاهم ماله إلا مقدار راحلته، وتوجه إلى المدينة، فلما دخل المدينة لقيه أبو بكر فقال له‏:‏ ربح البيع يا صهيب‏.‏ فقال له‏:‏ وبيعك فلا يخسر‏.‏ فقال‏:‏ وما ذلك يا أبا بكر فأخبره بما نزل فيه ففرح بذلك صهيب‏.‏ وقتل ياسر أبو عمار وأم عمار سمية، فنزلت هذه الآية في شأن صهيب ‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاةَ الله‏}‏، أي يشري نفسه ودينه‏.‏ وهذا من أسماء الأضداد، يقال‏:‏ شرى واشترى وباع وابتاع‏.‏ ‏{‏ابتغاء مَرْضَاة الله‏}‏، أي طلب يشتري نفسه ودينه رضاء الله‏.‏ ‏{‏والله رَءوفٌ بالعباد‏}‏، أي رحيم بهم‏.‏ ثم صارت هذه الآية عامة لجميع الناس؛ من بذل ماله ليصون به نفسه ودينه، فهو من أهل هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏208- 209‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

‏{‏بالعباد يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏‏.‏ قرأ نافع وابن كثير والكسائي‏:‏ ‏{‏السلام‏}‏ بنصب السين وقرأ الباقون‏:‏ بالكسر‏.‏ ‏{‏والسلام‏}‏ بالكسر هو الإسلام والسَّلم بالنصب هو المسالمة والصلح‏.‏ ويقال‏:‏ السَّلم والسَّلم في اللغة‏:‏ هو الصلح‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا يتقون السبت، ويحرمون أكل لحوم الجمال فنزلت‏:‏ ‏{‏بالعباد يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏، أي في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏، يعني طاعات الشيطان‏.‏

قال مقاتل‏:‏ استأذن عبد الله بن سلام وأصحابه بأن يقرؤوا التوراة في الصلاة وأن يعملوا ببعض ما في التوراة فنزل قوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا فِي السلم كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏، فإن اتباع السنة الأولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم من خطوات الشيطان‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏، أي اثبتوا على شرائع محمد صلى الله عليه وسلم ولا تخرجوا منها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَافَّةً‏}‏ أي عبارة عن الجميع، فيجوز أن يكون معناه‏:‏ ادخلوا جميعاً ويجوز أن يكون معناه‏:‏ ادخلوا في جميع شرائعه ولا تتبعوا خطوات الشيطان، أي لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليها الشيطان‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏، أي ظاهر العداوة ‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ‏}‏، أي ملتم عن شرائع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات‏}‏، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وشرائعه، ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ عزيز بالنعمة حكيم في أمره، وقال مقاتل أي حكيم حكم عليهم بالعذاب الشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها ‏(‏قد‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 1‏]‏ أي قد أتاك‏.‏ ومرة يراد بها ‏(‏الاستفهام‏)‏، كقوله ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 44‏]‏ ومرة يراد بها ‏(‏السؤال‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 44‏]‏‏.‏ ومرة يراد بها ‏(‏التفهيم‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 10‏]‏ ومرة يراد بها ‏(‏التوبيخ‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 221‏]‏‏.‏ ومرة يراد بها ‏(‏الأمر‏)‏، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 91‏]‏، أي انتهوا، ومرة يراد بها ‏(‏الجحد‏)‏، كقوله في هذا الموضع‏:‏ ‏{‏أَلِيمٍ هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏، أي ما ينظرون‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ هذا من المكتوم الذي لا يفسر‏.‏‏.‏‏.‏ وروى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري قال‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ تفسير القرآن على أربعة أوجه‏:‏ تفسير يعلمه العلماء، وتفسير تعرفه العرب، وتفسير لا يقدر أحد عليه لجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه فهو كاذب‏.‏ وهذا موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغآء الفتنة وابتغآء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 7‏]‏ وكذلك هذه الآية سكت بعضهم عن تأويلها وقالوا‏:‏ لا يعلم تأويلها إلا الله‏.‏ وبعضهم تأولها فقال‏:‏ هذا وعيد للكفار، فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏، أي ما ينتظرون ولا يؤمنون ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏ يعني أمر الله تعالى، كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاًّوَّلِ الحشر مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين فاعتبروا ياأولى الابصار‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 2‏]‏، يعني أمر الله‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏، يعني بما وعد لهم من العذاب‏.‏ ‏{‏فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام‏}‏‏.‏ يعني في غمام فيه ظلمة‏.‏ وقيل في ظلل يعني بظلل‏.‏ وقال‏:‏ على غمام فيه ظلمة‏.‏

‏{‏والملئكة‏}‏ قرأ أبو جعفر بكسر الهاء، يعني في ظلل من الغمام وفي الملائكة‏.‏ قال قتادة‏:‏ وهي قراءة شاذة؛ والقراءة المعروفة بالضم يعني تأتيهم الملائكة‏.‏ وقال قتادة ‏{‏والملئكة‏}‏، يعني تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم‏.‏ ويقال‏:‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَقُضِىَ الامر‏}‏، أي فرغ مما يوعدون، يعني دخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏، يعني عواقب الأمور‏.‏ قرأ حمزة والكسائي وابن عامر ‏{‏تُرْجَعُ‏}‏ بنصب التّاء ويكون الفعل للأمور‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بضم التاء على فعل ما لم يسم فاعله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَلْ بَنِى إسراءيل كَمْ آتيناهم‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ معناه سل علماء بني إسرائيل كما أعطيناهم‏.‏ ‏{‏مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ‏}‏ حين فرق لهم البحر وأغرق عدوهم وأنزل عليهم المن والسلوى‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ‏}‏، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله‏}‏، أي يغيّر نعمة الله تعالى‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏، يعني يقول إذا لم يشكر نعمة الله، تزول عنهم النعم ويستوجبوا العقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا‏}‏، قال الكلبي‏:‏ نزلت في شأن رؤساء قريش، زين لهم ما بسط لهم في الدنيا من الخير‏.‏ ‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ في أمر المعيشة، لأنهم كانوا فقراء‏.‏

‏{‏والذين اتقوا‏}‏، أي أطاعوا الله وهم فقراء المؤمنين‏.‏ ‏{‏فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏، أي فوق المشركين في الجنة والحجة في الدنيا‏.‏ وقد اختلفوا في قوله‏:‏ ‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏‏.‏ قال بعضهم‏:‏ يعني زينها لهم إبليس، لأن الله تعالى قد زهد فيها وأعلم أنها متاع الغرور، ولكن الشيطان زيَّن لهم الأشياء، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 24‏]‏ وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم فَهُمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 4‏]‏، فكان ذلك مجازاة لكفرهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه أن الله تعالى زين لهم، لأنه خلق فيهم الأشياء العجيبة، فنظر إليها الذين كفروا فاغتروا بها‏.‏

وروي، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «يقول الله تعالى لملائكته‏:‏ لَوْلا أَنْ يَحْزَنَ عَبْدِي المُؤْمِنُ، لَعَصَبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَلَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الدُّنْيَا صَبّاً» ومصداق ذلك في القرآن ‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ الآية‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ما سَقَى الكافِرَ مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏، أي يرزق من يشاء رزقاً كثيراً لا يعرف حسابه‏.‏ ويقال‏:‏ أي يرزقه ولا يطلب منه حسابه بما يرزقه‏.‏ ويقال‏:‏ بغير حساب أي ليس له أحد يحاسبه منه بما يرزقه ويقال‏:‏ بغير حساب أي بغير احتساب‏.‏ كما قال في آية أخرى ‏{‏وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَئ قَدْراً‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكل ما في القرآن‏:‏ ‏{‏يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏، فهو على هذه الوجوه الأربعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الأمة على وجوه منها القرن من الناس، كما يقال‏:‏ مضت أمم أي قرون، والأمة‏:‏ الرجل الذي لا نظير له‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏ والأمة‏:‏ الدين وهو الذي قال ها هنا‏:‏ ‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏، أي على دين واحد وعلى ملة واحدة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان الناس كلهم على دين الإسلام، جميع من كان مع نوح في السفينة ثم تفرقوا‏.‏ ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كان الناس كلهم كفاراً في عهد نوح وعهد إبراهيم عليهما السلام فبعث الله للناس النبيين إبراهيم وإسماعيل، ولوطاً وموسى ومن بعدهم ‏{‏مُبَشّرِينَ‏}‏ بالجنة لمن أطاع الله، ‏{‏وَمُنذِرِينَ‏}‏ بالنار لمن عصى الله ‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق‏}‏، يقول‏:‏ بالعدل ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس‏}‏، أي يقضي بينهم ‏{‏فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ من أمور الدين‏.‏ ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ‏}‏، أي في الدين‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الذين أُوتُوهُ‏}‏، يعني أعطوا الكتاب‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏، أي البيان من الله‏.‏ ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏، يعني اختلفوا فيه حسداً بينهم‏.‏ ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ‏}‏، أي هداهم ووفقهم حتى أبصروا الحق من الباطل ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بتوفيقه ويقال‏:‏ برحمته‏.‏ ‏{‏والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏، يعني الإسلام‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه أي بعصمته ‏{‏والله يَهْدِى‏}‏ أي يوفق من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ يقول‏:‏ ظننتم أن تدخلوا الجنة‏.‏ ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ من أتباع الرسل من قبلكم، أي لم يأتكم صفة الذين مضوا من قبلكم، يعني لم يصبكم مثل الذي أصاب من قبلكم‏.‏ ويقال‏:‏ لم تبتلوا بمثل الذي ابتلي من قبلكم‏.‏ ‏{‏مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء‏}‏‏.‏ البأساء‏:‏ الشدة والبؤس، والضراء‏:‏ الأمراض والبلاء‏.‏ ‏{‏وَزُلْزِلُواْ‏}‏، أي حركوا وأجهدوا، ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني شعيب النبي صلى الله عليه وسلم وهو اليسع‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هذا في كل رسول بعث إلى أمته، واجتهد في ذلك حتى قال‏:‏ ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏‏.‏

روي عن الضحاك أنه قال‏:‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى ذلك أظننتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا كما ابتلي الذين من قبلكم، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا فيصيبكم مثل ذلك، حتى يقول‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏متى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏، يعني فتح الله تعالى قريب، أي فتح الله تعالى إلى مكة عاجلٌ‏.‏ وإنما ظهر لهم ذلك في يوم الأحزاب، فأصابهم خوف شديد وكانوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الابصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10‏]‏، فصدق الله وعده وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً، وهزم الكفار‏.‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏ قرأ نافع‏:‏ ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول‏}‏ بالرفع على معنى المستأنف‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب على معنى الماضي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏215‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حثّهم على الصدقة، قال عمرو بن الجموح‏:‏ يا رسول الله، كم ننفق وعلى من ننفق‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏، أي ماذا يتصدقون من أموالهم‏؟‏ ‏{‏قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ‏}‏، أي من مال ‏{‏فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏، يعني أنفقوا على الوالدين والقرابة وعلى جميع المساكين‏.‏ فهذا جواب لقولهم‏:‏ على من ننفق‏؟‏ ونزل في جواب قولهم‏:‏ ماذا ننفق‏؟‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْألُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏، أي الفضل من المال ثم نسخ ذلك بآية الزكاة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ آية الزكاة نسخت كل صدقة كانت قبلها‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذه الآية ليست بمنسوخة؛ وإنما فيها بر الوالدين وصلة الأرحام‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏، أي يجازيكم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏216- 217‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال‏}‏ ‏{‏أي فرض عليكم القتال‏.‏ ‏{‏وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏، أي شاق عليكم‏.‏ وذلك أن الله تعالى، لما أمرهم بالجهاد، كرهوا الخروج‏.‏ وإنما كانت كراهيتهم له، لأنه كان في الخروج عليهم مشقة، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى‏:‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا‏}‏، يعني الجهاد‏.‏ ‏{‏وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏، لأن فيه فتحاً وغنيمة وشهادة وفيه إظهار الإسلام‏.‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏، وهو الجلوس عن الجهاد، لأنه يسلط عليكم عدوكم‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ أن الجهاد خير لكم‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن ذلك خير، حين أحببتم القعود عن الجهاد‏.‏ ويقال‏:‏ والله يعلم ما كان فيه صلاحكم وأنتم لا تعلمون‏.‏ ذلك قوله تعالى‏.‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ‏}‏‏.‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش مع تسعة رهط، في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين إلى عير لقريش، فلقوا العير‏.‏ وكان ذلك في آخر الشهر، فأمر عبد الله بن جحش بعض أصحابه، فحلق رأسه‏.‏ فلما رآهم المشركون آمنوا وظنوا أنه دخل رجب، فقاتلهم المسلمون وأخذوا أموالهم، فعيَّرهم المشركون بذلك، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معناه يسألونك عن القتال في الشهر الحرام‏.‏ وقال القتبي يسألونك عن القتال في الشهر الحرام هل يجوز‏؟‏ فأبدل قتالاً من الشهر الحرام‏.‏ ‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏، أي عظيم عند الله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله‏}‏، يقول منع الناس عن الكعبة أن يطاف بها‏.‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏، أي بالله تعالى ويقال‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ أي بالحج‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏؛ وإنما صار خفضاً، لأنه عطف على سبيل الله، كأنه قال‏:‏ وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفر بالله تعالى‏.‏ ‏{‏وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ‏}‏‏.‏ أي من المسجد ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏، أي أعظم عقوبة عند الله من القتال في الشهر الحرام‏.‏ ‏{‏والفتنة‏}‏، يعني الشرك ‏{‏أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏، أعظم عقوبة من القتل في الشهر الحرام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ‏}‏ الإسلام إلى دينهم الكفر‏.‏ ‏{‏إِنِ اسْتَطَاعُواْ‏}‏، يعني إن قدروا على ذلك ولكنهم لا يقدرون عليه‏.‏ ثم هدد المسلمين ليثبتوا على دينهم الإسلام، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ‏}‏ الإسلام‏.‏ ‏{‏فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ‏}‏ بالله تعالى ‏{‏فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏، أي بطلت حسناتهم‏.‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏، يعني لا يكون لأعمالهم التي عملوا ثواب، كما قال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً‏}‏

‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين كَفَرُواْ بأايات رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏‏.‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏، أي دائمون‏.‏

قال الفقيه‏:‏ حدثنا أبو إبراهيم محمد بن سعيد قال‏:‏ حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن داود قال‏:‏ حدثنا المقدمي، عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال‏:‏ حدثنا الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عبد الله بن جحش وكتب له كتاباً، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا وقال‏:‏ «لَا تُكْرِه أَحَداً مِنْ أَصْحَابِكَ عَلَى المَسِيرِ» فلما بلغ المكان، قرأ الكتاب فاسترجع ثم قال‏:‏ السمع والطاعة لله ولرسوله، فرجع رجلان ومضى بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب فقال المشركون‏:‏ قتلهم محمد في الشهر الحرام، فأنزل الله تعالى الآية‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام‏}‏‏.‏ فقال المشركون‏:‏ إن لم يكن عليهم وزر فليس لهم أجر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

فنزل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ‏}‏ من مكة ‏{‏وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏، أي في طاعة الله بقتل ابن الحضرمي‏.‏ ‏{‏أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله‏}‏، أي ينالون جنة الله‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بقتالهم في الشهر الحرام، ثم نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام وصار مباحاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والارض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يقاتلونكم كَآفَّةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏؛ فنهاهم الله عن ظلم أنفسهم بالسيئات والخطايا، وأمرهم بالقتال عاماً‏.‏ وروى أبو يوسف عن الكلبي أن القتال في الشهر الحرام لا يجوز‏.‏ وقال أبو جعفر الطحاوي‏:‏ لا نعلم أن أهل العلم اختلفوا أن قتال المشركين في الشهر الحرام غير جائز‏.‏ وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن قتال الكفار في الشهر الحرام، فقال‏:‏ لا بأس به، وكذلك قال سليمان بن يسار وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏219- 220‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ‏(‏219‏)‏ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏220‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر، إلا وقد أعطى هذه الأمة‏.‏ ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة؛ فكذلك في تحريم الخمر، كانوا مولعين على شربها، فنزلت هذه الآية ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار‏.‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ في تجارتهم‏.‏ ‏{‏وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا‏}‏‏.‏ فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا‏:‏ نأخذ منفعتها ونترك إثمها‏.‏ ثم نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فتركها بعض الناس وقالوا‏:‏ لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة، حتى نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏ فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول‏:‏ ما حرم علينا شيء أشد من الخمر‏.‏ وقيل‏:‏ إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها‏.‏

وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له‏:‏ أين تذهب‏؟‏ فأخبرهم أنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالوا‏:‏ لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة‏.‏ فقال‏:‏ إن خدمة الرب واجبة‏.‏ فقالوا له‏:‏ إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء‏.‏ فقال‏:‏ إن اصطناع المعروف واجب‏.‏ فقيل له إنه ينهى عن الزنى‏.‏ فقال‏:‏ إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً، فلا أحتاج إليه‏.‏ فقيل له‏:‏ إنه ينهى عن شرب الخمر‏.‏ قال‏:‏ أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع‏.‏ وقال‏:‏ أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يبلغ إلى منزله، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ في هذه الآية ما يدل على تحريمه، لأنه سماها إثماً، وقد حرم الإثم في آية أخرى وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سلطانا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أراد بالإثم، الخمر بدليل قول الشاعر‏:‏

شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي *** كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ

وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول‏:‏ الناس يطلبون زيادة العقل، فأنا لا أنقص عقلي‏.‏

وأما الميسر، فكانوا يشترون جزوراً ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه أولاً، يأخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخراً، فكان عليه ثمن الجزور كله وليس له من اللحم شيئاً‏.‏ وقال عطاء ومجاهد‏:‏ الميسر القمار كله، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب‏.‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ‏}‏ بالثاء من الكثرة، والباقون ‏(‏بالياء‏)‏ كبير أي ذنب عظم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر‏}‏، أي ماذا يتصدقون‏؟‏ ‏{‏قُلِ العفو‏}‏، أي الفضل من المال، يريد أن يعطي ما فضل من قوته وقوت عياله، ثم نسخ بآية الزكاة‏.‏ وقرأ أبو عمرو‏:‏ «قُلِ العَفْوُ» بالرفع، يعني الإنفاق وهو الزكاة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالنصب، يعني أنفقوا الفضل‏.‏ ‏{‏كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات‏}‏، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم، ولا يدوم إلا العمل الصالح؛ وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا، لعلكم تتفكرون في الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏، يقول‏:‏ عن مخالطة اليتامى؛ وذلك أنه لما نزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 10‏]‏، تركوا مخالطتهم فشق عليهم ذلك‏.‏ وكان عند الرجل منهم يتيم، فجعل له بيتاً على حدة وطعاماً على حدة، ولا يخالطه بشيء من ماله‏.‏ فقال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله، قد أنزل الله آية في أموال اليتامى، ما قد أنزل من الشدة فعزلناهم على حدة‏.‏ أفيصلح لنا أن نخالطهم‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى‏}‏، أي عن مخالطة اليتامى‏.‏ ‏{‏قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ‏}‏‏.‏ يقول‏:‏ أي لمالهم خير من ترك مخالطتهم‏.‏ ‏{‏وَإِن تُخَالِطُوهُمْ‏}‏، أي تشاركوهم في النفقة والخدمة والدابة، ‏{‏فَإِخوَانُكُمْ‏}‏ في الدين‏.‏ ويقال‏:‏ الامتناع منه خير وإن تخالطوهم فهم إخوانكم‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ المفسد‏}‏ لمال اليتيم ‏{‏مِنَ المصلح‏}‏ بماله، يعني لا بأس بالخلطة، وإذا قصدت به الإصلاح ولم تقصد به الإضرار به‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏ قال القتبي‏:‏ ولو شاء الله، لضيق عليكم ولشدد عليكم، ولكنه لم يشأ إلا التسهيل عليكم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏لاعْنَتَكُمْ‏}‏، معناه لأهلككم‏.‏ وأصل العنت في اللغة من قول العرب‏:‏ عنت البعير، إذا انكسرت رجله وحقيقته ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم‏.‏ وقال الكلبي ‏{‏وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ‏}‏ في مخالطتهم فجعلها حراماً‏.‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏، وقد ذكرناها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏221‏]‏

‏{‏وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏221‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ‏}‏‏.‏ نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وكان يأتي مكة ويخرج منها أناساً من المسلمين كانوا بها سراً من أهل مكة؛ فلما قدم مكة، جاءته امرأة يقال لها عناق، كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت له‏:‏ هل لك أن تخلو بي‏؟‏ فقال لها‏:‏ يا عناق إن الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك، وقد حرمت علينا‏.‏ ولكني أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتزوجك إن شئت‏.‏ فلما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن ذلك، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ‏}‏، يقول‏:‏ نكاح أمة مؤمنة ‏{‏خَيْرَ مَنِ‏}‏ نكاح حرة ‏{‏مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ‏}‏، أي أعجبكم نكاحها‏.‏

‏{‏وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين‏}‏، يقول‏:‏ لا تنكحوا نساءكم المشركين، ‏{‏حتى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن‏}‏ تزويج ‏{‏مُشْرِكٌ‏}‏ حر‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار‏}‏، يعني إلى عمل أهل النار‏.‏ ‏{‏والله يَدْعُو إلى * الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ‏}‏، يعني إلى التوحيد والتوبة ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏، أي بأمره ويقال‏:‏ يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين، لأن ذلك أوصل إلى الجنة والمغفرة بإذنه، أي بعلمه الذي يعلم أنه أوصل لكم إليها ‏{‏وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ‏}‏، أي أمره ونهيه في أمر التزويج‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏، ينتهون عن المعاصي والنكاح الحرام‏.‏ ويقال‏:‏ إن رجلاً من الأنصار أعتق جارية له، فأراد رجل من قريش أن يتزوجها فعيّروه بذلك، فنزلت هذه الآية ‏{‏وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ‏}‏‏.‏