فصل: تفسير الآيات رقم (24- 30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 30‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏24‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏25‏)‏ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏26‏)‏ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏27‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ يعني‏:‏ تقوله من ذات نفسه، ولم يأمره الله تعالى‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ‏}‏ يعني‏:‏ يحفظ قلبك، حتى لا تدخل في قلبك المشقة والأذى من قولهم‏:‏ ‏{‏وَيَمْحُ الله الباطل‏}‏ يعني‏:‏ يهلك الله تعالى الشرك ‏{‏وَيُحِقُّ الحق‏}‏ يعني‏:‏ يظهر دينه الإسلام ‏{‏بكلماته‏}‏ يعني‏:‏ بتحقيقه، وبنصرته، وبالقرآن ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ يعني‏:‏ يعلم ما في قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الحزن، ويعلم ما في قلوب الكافرين من التكذيب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات‏}‏ حتى يتجاوز عما عملوا قبل التوبة‏.‏ وروى عبد العزيز بن إسماعيل، عن محمد بن مطرف قال‏:‏ «يقول الله تعالى‏:‏ وَيْحَ ابْنَ آدَمَ، يُذْنِب الذَّنْبَ ثُمَّ يَسْتَغْفِر، فَأغْفِرَ لَهُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، فأغْفِر لَهُ، ثُمَّ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، فَأغْفِرَ لَهُ لاَ هُوَ يَتْرك ذُنُوبَهُ، وَلاَ هُوَ يَيْأس مِن رَّحْمَتِي‏.‏ أشْهَدُكُمْ أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ» ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ من خير أو شر‏.‏

قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية حفص ‏{‏تَفْعَلُونَ‏}‏ بالتاء على معنى المخاطبة، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم ‏{‏وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ يعني‏:‏ يجيب دعاءهم، ويعطيهم أكثر ما سألوا من المغفرة ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يزيدهم على أعمالهم من الثواب‏.‏ ويقال‏:‏ يعطيهم الثواب في الجنة، أكثر مما سألوا ‏{‏والكافرين لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ دائماً لا يقتر عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لو وسع الله تعالى عليهم المال ‏{‏لَبَغَوْاْ‏}‏ أي‏:‏ لطغوا ‏{‏فِى الارض‏}‏ وعصوا ‏{‏ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يوسع على كل إنسان، بمقدار صلاحه في ذلك، قال أبو الليث رحمه الله‏:‏ حدّثنا أبو القاسم، حمزة بن محمد قال‏:‏ حدّثنا أبو القاسم، أحمد بن حمزة، قال‏:‏ حدّثنا نصر بن يحيى، قال‏:‏ سمعت شقيق بن إبراهيم الزاهد يقول‏:‏ ‏{‏وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض‏}‏ قال‏:‏ لو أن الله تعالى رزق العباد من غير كسب، لتفرغوا وتفاسدوا في الأرض، ولكن شغلهم بالكسب، حتى لا يتفرغوا للفساد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ بالبر، والفاجر، والمؤمن، والكافر‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ عالم بصلاح كل واحد منهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ‏}‏ أي‏:‏ حبس عنهم ‏{‏وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏وَهُوَ الولى الحميد‏}‏ يعني‏:‏ الولي للمطر يرسله مرة بعد مرة ‏{‏الحميد‏}‏ يعني‏:‏ أهل أن يحمد على صنعه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ يعني‏:‏ من علامات وحدانيته ‏{‏خُلِقَ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ خلقين عظيمين، لا يقدر عليهما بنو آدم، ولا غيرهم ‏{‏وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما خلق في السموات والأرض من خلق أو بشر فيهما ‏{‏وَهُوَ على جَمْعِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ على إحيائهم للبعث ‏{‏إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ قادر على ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ في الأرض خاصة كما قال‏:‏ ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ يعني‏:‏ من أحدهما ثم قال ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما تصابون من مصيبة في أنفسكم، وأموالكم ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يصيبكم بأعمالكم، ومعاصيكم ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما عفى الله عنه، فهو أكثر‏.‏

وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ «ألا أخبركم بأرجى آية في كتاب الله، أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالوا بلى‏.‏ فقرأ عليهم‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ قال‏:‏ فالمصائب في الدنيا بكسب الأيدي، وما عفى الله تعالى عنه في الدنيا، ولم يعاقب، فهو أجود وأمجد، وأكرم من أن يعذب فيه يوم القيامة‏.‏

وعن الضحاك قال‏:‏ ما تعلم رجل القرآن، ثم نسيه، إلا بذنب‏.‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن‏.‏ قرأ نافع وابن عامر «بما كسبت أيديكم» بحذف الفاء‏.‏ ويكون ما بمعنى الذي، ومعناه الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ‏}‏ بالفاء، وتكون الفاء جواب الشرط، ومعناه‏:‏ ما يصيبكم من مصيبة، فبما كسبت أيديكم، ثم قال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 35‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏ وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ بفائتين من عذاب الله، حتى يجزيكم به ‏{‏وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ من عذاب الله ‏{‏مِن وَلِىّ‏}‏ يعني‏:‏ من حافظ ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ مانع يمنعكم من عذاب الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته الجوار‏}‏ قرأ ابن كثير ‏(‏الجَوَارِي‏)‏ بالياء في الوقف، والوصل‏.‏ وقرأ نافع، وأبو عمر بالياء في الوصل، وبغير الياء في الوقف، والباقون بغير ياء في الوقف، والوصل‏.‏ فمن قرأ بالياء فهو الأصل في اللغة، وهي جماعة السفن تجرين في الماء، واحدتها جارية‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حملناكم فِى الجارية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏ يعني‏:‏ السفينة‏.‏ ومن قرأ بغير ياء، فلأن الكسر يدل عليه ‏{‏فِى البحر كالاعلام‏}‏ يعني‏:‏ تسير في البحر كالجبال ‏{‏إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يبقين سواكن على ظهر الماء ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ‏}‏ يعني‏:‏ لعلامات لوحدانيتي ‏{‏لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ الذي يصبر على طاعة الله ‏(‏شَكُورٍ‏)‏ لنعم الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا‏}‏ يعني‏:‏ إن يشأ يهلك السفن، بما عملوا من الشرك وعبادة الأوثان ‏{‏وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ‏}‏ ولا يجازيهم ‏{‏وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى ءاياتنا‏}‏ قرأ ابن عامر ونافع بضم الميم، والباقون بالنصب‏.‏ فمن قرأ بالضم، فلأنه عطف على قوله‏:‏ ‏(‏ويعف‏)‏ وموضعه الرفع وأصله‏:‏ ‏(‏ويعفو‏)‏ فاكتفى بضم الفاء، والذين كان معطوفاً عليه، رفع أيضاً‏.‏ ومن قرأ بالنصب، صار نصباً للصرف، يعني‏:‏ صرف الكلام عن الإعراب الأول، ومعناه‏:‏ ولكي ‏{‏يَعْلَمُ الذين يجادلون فِى ءاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ في القرآن بالتكذيب ‏{‏مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ يعني‏:‏ من مفر من الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 42‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَئ‏}‏ يعني‏:‏ ما أعطيتم من الدنيا ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ منفعة الحياة الدنيا ‏{‏وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى‏}‏ أي‏:‏ ما عند الله في الآخرة من الثواب والكرامة، خير وأبقى‏.‏ يعني‏:‏ أدوم‏.‏ ثم بين لمن يكون ذلك الثواب فقال‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يثقون به تعالى، ويفوضون الأمر إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش‏}‏ وهذا نعت المؤمنين أيضاً، الذين يجتنبون كبائر الإثم، والفواحش‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏(‏كَبِير الإثْمِ‏)‏ بغير ألف، بلفظ الواحد، لأن الواحد يدل على الجمع، والباقون ‏(‏كبائر‏)‏ وهو جمع كبيرة، والكبيرة‏:‏ ما أوجب الله تعالى الحد عليها في الدنيا، أو العذاب في الآخرة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا غضبوا على أحد يتجاوزون، ويكظمون الغيظ‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين استجابوا لِرَبّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ أجابوا وأطاعوا ربهم فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به‏.‏ ‏{‏والذين يُمَسّكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أتموا الصلوات الخمس، في مواقيتها ‏{‏وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أرادوا حاجة، تشاوروا فيما بينهم‏.‏ وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ هم الذين إذا حزبهم أمر، استشاروا أولي الرأي منهم ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتصدقون في طاعة الله‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى‏}‏ يعني‏:‏ الظلم ‏{‏هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ينتقمون ويقتصون‏.‏

روى سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يستذلوا، ويحبون العفو إذا قدروا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ مِثْلِهَا‏}‏ يعني‏:‏ يعاقب مثل عقوبته لغيره ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ‏}‏ يعني‏:‏ عفا عن مظلمته، وأصلح بالعفو ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ ثوابه على الله ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ لمن يبدأ بالظلم‏.‏ روي عن زيد بن أسلم، أنه قال‏:‏ كانوا ثلاث فرق، فرقة بالمدينة، وفرقتان بمكة، إحداهم تصبر على الأذى، والثانية تنتصر، والثالثة تكظم، فنزلت الآية‏:‏ ‏{‏والذين استجابوا لِرَبّهِمْ‏}‏ نزلت في الذين بالمدينة ‏{‏والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ نزلت في الذين ينتصرون وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ‏}‏ نزلت في الذين يصبرون‏.‏ فأثنى الله تعالى عليهم جميعاً‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ‏}‏ ثم نزل في الظالمين ‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ وذكر أن أبا بكر رضي الله عنه، كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ورجل من المنافقين يسبه، وأبو بكر رضي الله عنه لم يجبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت يبتسم، فأجابه أبو بكر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وذهب، فقام إليه أبو بكر فقال‏:‏ يا رسول الله ما دام يسبني كنت جالساً، فلما أجبته قمت فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الملك كان يجيبه عنك، فلما أجبته ذهب الملك، وجاء الشيطان وأنا لا أجلس في مجلس يكون فيه الشيطان‏.‏

فنزل ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏‏.‏

وروى محمد بن المنكدر قال‏:‏ ينادي المنادي يوم القيامة، من كان له عند الله حق، فليقم‏.‏ قال‏:‏ فيقوم من عفا وأصلح‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ انتصف بعد ظلمه، واقتص منه ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ‏}‏ يعني‏:‏ من مأثم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هذا، فيما يكون بين الناس من القصاص، فأما لو ظلمك، لا يحل لك أن تظلمه، يعني‏:‏ فيما لا يحتمل القصاص‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني‏:‏ إذا قال‏:‏ لعنك الله، أن تقول له‏:‏ يلعنك الله، وإذا سبك، فلك أن تسبه ما لم يكن فيه حد، أو كلمة لا تصلح‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السبيل‏}‏ يعني‏:‏ الإثم والحرج ‏{‏عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ يعني‏:‏ يبدؤون بالظلم ‏{‏وَيَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ يعني‏:‏ ويظلمون في الأرض، ويعملون المعاصي ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ وجيع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 46‏]‏

‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ‏}‏ يعني‏:‏ صبر عن مظلمته، فلم يقتص من صاحبه وغفر يعني‏:‏ تجاوز عنه ‏{‏إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور‏}‏ يعني‏:‏ الصبر والتجاوز من أفضل الأمور، وأصوب الأمور‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هذه الآيات مدنيات‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ مكيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ يخذله الله عن الهدى ويقال من يخذله ويتركه على ما هو فيه من ظلم الناس ‏{‏فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ‏}‏ يعني‏:‏ ليس له قريب يهديه، ويرشده إلى دينه من بعده، يعني‏:‏ من بعد خذلان الله تعالى إياه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ المشركين والعاصين ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ في الآخرة ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ‏}‏ يعني‏:‏ هل من رجعة إلى الدنيا من حيلة، فنؤمن بك يتمنون الرجوع إلى الدنيا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ يعني‏:‏ يساقون إلى النار ‏{‏خاشعين مِنَ الذل‏}‏ أي‏:‏ خاضعين من الحزن، ويقال ساكتين ذليلين، مقهورين من الحياء ‏{‏يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ ينظرون بقلوبهم، ولا يرونها بأعينهم، لأنهم يسحبون على وجوههم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ يستخفون بالنظر إليها، يعني‏:‏ إلى النار قال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ غضوا أبصارهم من الذل، وقال بعضهم‏:‏ مرة ينظرون إلى العرش بأطراف أعينهم ماذا يأمر الله تعالى بهم، ومرة ينظرون إلى النار‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين المظلومين ‏{‏إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يظلمون غيرهم، حتى تصير حسناتهم للمظلومين، فخسروا أنفسهم ‏{‏وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هذه حكاية كلام المؤمنين في الآخرة، بأنهم يقولون ذلك، حين رأوا الظالمين، الذين خسروا أنفسهم‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذه حكاية قولهم في الدنيا، فحكى الله تعالى قولهم، وصدقهم على مقالتهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ دائم وقال بعضهم هذا اللفظ، لفظ الخبر عنهم، والمراد به التعليم، أنه ينبغي لهم يقولوا هكذا يعني‏:‏ يصبروا على ظلمهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء‏}‏ يعني‏:‏ لا يكون للظالمين يوم القيامة مانع يمنعهم من عذاب الله ‏{‏يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ الله‏}‏ يعني‏:‏ يمنعونهم من عذاب الله ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ يضله الله عن الهدى ‏{‏فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ‏}‏ إلى الهدى من حجة‏.‏ ويقال‏:‏ ما له من حيلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏استجيبوا لِرَبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أجيبوا ربكم في الإيمان، وفيما أمركم به ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ لا رجعة له، إذا جاء لا يقدر أحد على دفعه ‏{‏مِنَ الله‏}‏ ويقال‏:‏ فيه تقديم‏.‏ يعني‏:‏ من قبل أن يأتي من عذاب الله، يوم لا مرد له‏.‏ يعني‏:‏ لا مدفع له ‏{‏مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما لكم من مفر، ولا حرز يحرزكم من عذابه ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ من مغير، يغير العذاب عنكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ‏}‏ عن الإيمان، وعن الإجابة، بعد ما دعوتهم ‏{‏فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ تحفظهم على الإيمان، وتجبرهم على ذلك ‏{‏إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ‏}‏ يعني‏:‏ ليس عليك، إلا تبليغ الرسالة، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ أصبنا الإنسان منا رحمة ‏{‏فَرِحَ بِهَا‏}‏ أي بطر بالنعمة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ أبا جهل‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ جميع الناس، والإنسان هو لفظ الجنس، وأراد به جميع الكافرين، بدليل أنه قال‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ‏}‏ ذكر بلفظ الجماعة يعني‏:‏ إن تصبهم ‏{‏سَيّئَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ القحط والشدة ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ بما عملوا من المعاصي ‏{‏فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏ لنعم الله‏.‏ يعني‏:‏ يشكو ربه عند المصيبة، ولا يشكره عند النعمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للَّهِ مُلْك السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ القدرة على أهل السموات والأرض ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ على أي صورة شاء ‏{‏يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا‏}‏ يعني‏:‏ من يشاء الأولاد الإناث، فلا يجعل معهن ذكوراً ‏{‏وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور‏}‏ يعني‏:‏ يعطي من يشاء الأولاد الذكور، ولا يكون معهم إناث ‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا‏}‏ يعني‏:‏ من يشاء الأولاد الذكور، والإناث ‏{‏وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً‏}‏ فلا يعطيه شيئاً من الولد ويقال‏:‏ ‏{‏يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا‏}‏ كما وهب للوط النبي ‏{‏وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور‏}‏ كما وهب لإبراهيم عليه السلام ‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا‏}‏ كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم، وكما وهب ليعقوب عليه السلام ‏{‏وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً‏}‏ كما جعل ليحيى، وعيسى عليهما السلام ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ عالم بما يصلح لكل واحد منهم‏.‏ قادر على ذلك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ يعني‏:‏ لأحد من خلق الله ‏{‏أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً‏}‏ يعني‏:‏ يرسل إليه جبريل، ليقرأ عليه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وَحْياً‏}‏ يعني‏:‏ إلهاماً ويقال‏:‏ يسمع الصوت فيفهمه وذلك، أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا يكلمك الله، أو ينظر إليك، إن كنت نبياً كما كلم موسى فنزل ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله‏}‏ يعني‏:‏ ما جاز لأحد من الآدميين، أن يكلمه الله، إلا وحياً يعني‏:‏ يسمع الصوت، أو يرى في المنام، ولا يجوز أن يكلمه مواجهة عياناً في الدنيا‏.‏

‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ فيكلمه، كما كلم موسى ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً‏}‏ كما أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ فيرسل بأمره‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ من أمره‏.‏ قرأ نافع وابن عامر ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ‏}‏ بضم اللام وقرأ الباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم، فمعناه أو هو يرسل رسولاً، ومن قرأ بالنصب، فعلى الإضمار أيضاً، ومعناه أو يرسل رسولاً ‏{‏فَيُوحِىَ‏}‏ قرأ نافع وابن عامر فيوحي بسكون الياء، ومعناه أو هو يرسل رسولاً فيوحي وقرأ الباقون بالنصب ‏{‏فَيُوحِىَ‏}‏ لإضمار أن ‏{‏إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ أعلى من أن يكلم أحداً في الدنيا مواجهة، ولا يراه فيها أحد عياناً ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ حكم ألا يكلم أحداً في المواجهة، ولا يراه أحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏ يعني‏:‏ جبريل بأمرنا‏.‏ ويقال‏:‏ أوحينا إليك روحاً، يعني‏:‏ القرآن‏.‏ وقال القتبي‏:‏ الروح روح الأجسام، ويسمى كلام الله تعالى، روحاً لأن فيه حياة من الجهل، وموت الكفر كما قال‏:‏ ‏{‏رَفِيعُ الدرجات ذُو العرش يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا‏}‏‏.‏ ‏{‏مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان‏}‏ يعني‏:‏ ما كنت تدري قبل الوحي، أن تقرأ القرآن، ولا تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان‏.‏

‏{‏ولكن جعلناه نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا جبريل بالقرآن‏.‏ ضياءً من العمى، وبياناً من الضلالة‏.‏ فإن قيل سبق ذكر الكتاب والإيمان ثم قال‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه نُوراً‏}‏ ولم يقل جعلناهما‏؟‏ قيل له‏:‏ لأن المعنى هو الكتاب، وهو دليل على الإيمان‏.‏ ويقال لأن شأنهما واحد كقوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وءاويناهمآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏ ولم يقل آيتين ويقال‏:‏ ‏{‏ولكن جعلناه نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ الإيمان كناية عنه، ولأنه أقرب‏.‏

‏{‏نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ يعني‏:‏ نوفق من نشاء للهدى، من كان أهلاً لذلك ‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ لتدعو الخلق إلى دين الإسلام‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏صراط الله‏}‏ يعني‏:‏ دين الله ‏{‏الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ من خلق ‏{‏أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الامور‏}‏ أي‏:‏ ترجع إليه عواقب الأمور، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً‏.‏

سورة الزخرف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏حم والكتاب المبين‏}‏ يعني‏:‏ أقسم بحم، وبالكتاب الذي أبان طريق الهدى، من طريق الضلالة، وأبان كل ما تحتاج إليه الأمة، ويقال‏:‏ مُبين أي‏:‏ بين بلغة تعرفونها‏.‏ يعني‏:‏ بين فيه الحلال والحرام ‏{‏إِنَّا جعلناه‏}‏ فهذا جواب القسم‏.‏ يعني‏:‏ إنا جعلناه، ووصفناه أقسم بالكتاب المبين ‏{‏إِنَّا جعلناه‏}‏ يعني‏:‏ إنا قلناه ووصفناه وبيناه‏.‏ ويقال‏:‏ أنزلنا به جبريل ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ يعني‏:‏ بلغة العرب ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي تعقلوا وتفهموا‏.‏ ما فيه، ولو نزل بغير لغة العرب، لم تفهموا ما فيه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ فِى أُمّ الكتاب لَدَيْنَا‏}‏ يعني‏:‏ إن كذبتم بالقرآن، فإن نسخته في أصل الكتاب‏.‏ يعني‏:‏ اللوح المحفوظ لدينا‏.‏ يعني‏:‏ عندنا ‏{‏لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ شريف مرتفع، محكم من الباطل‏.‏ ويقال‏:‏ حكيم أحكم، حلاله وحرامه‏.‏ ويقال‏:‏ حَكِيمٌ أي حاكم على الكتب كلها‏.‏ ويقال‏:‏ حكيم أي ذو حكمة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏حِكْمَةٌ بالغة‏}‏ قرأ حمزة والكسائي «في أم الكتاب» بكسر الألف في جميع القرآن، لأن الياء أخت الكسرة، فاتبع الكسرة الكسرة والباقون «أم» بضم الألف، وهو الأصل في اللغة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 14‏]‏

‏{‏أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ ‏(‏5‏)‏ وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ ‏(‏6‏)‏ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏7‏)‏ فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ‏(‏9‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ‏(‏11‏)‏ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ‏(‏12‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً‏}‏ يعني‏:‏ أفندع ونترك، أن نرسل إليكم الوحي مبهماً، لا آمركم ولا أنهاكم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ معناه أن أمسك عنكم، فلا أذكركم إعراضاً‏.‏ يقال‏:‏ صفحت عن فلان، إذا أعرضت عنه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه تكذبون بالقرآن، ولا تعاقبون فيه‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر ‏{‏أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ‏}‏ بنصب الألف‏.‏ وقرأ الباقون بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالنصب، فمعناه‏:‏ أفنضرب عنكم ذكر العذاب بأن أسرفتم، يعني‏:‏ أشركتم وعصيتم‏.‏ ويقال أفنضرب عنكم ذكر العذاب، لأن أسرفتم وكفرتم ومن قرأ بالكسر، فمعناه إن كنتم قوماً مسرفين‏.‏ ويقال‏:‏ هو على معنى الاستقبال، ومعناه إن تكونوا مسرفين، نضرب عنكم الذكر‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الاولين‏}‏ يعني‏:‏ كم بعثنا من نبي في أمر الأمم الأولين، كما أرسلنا إلى قومك ‏{‏وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ‏}‏ يعني‏:‏ يسخرون منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً‏}‏ يعني‏:‏ من كان أشد منهم قوة ‏{‏ومضى مَثَلُ الاولين‏}‏ يعني‏:‏ سنة الأولين بالهلاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏مِنْ خلاق السموات والارض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم‏}‏ يعني‏:‏ يقولون خلقهن الله تعالى، الذي هو العزيز في ملكه، العليم بخلقه، فزادهم الله تعالى في جوابهم‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض مَهْداً‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي وعاصم مَهْداً، والباقون مَهاداً بالألف، يعني‏:‏ قراراً للخلق ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً‏}‏ يعني‏:‏ طرقاً ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي تعرفوا طرقها من بلد إلى بلد، ويقال‏:‏ لَعَلَّكُم تَهْتَدُونَ يعني‏:‏ لكي تعرفوا هذه النعم، وتأخذوا طريق الهدى، ثم ذكرهم النعم فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ‏}‏ يعني‏:‏ بمقدار ووزن ‏{‏فَأَنشَرْنَا بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أحيينا بالمطر ‏{‏بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ يعني‏:‏ أرضاً ميتة، لا نبات فيها ‏{‏كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ‏}‏ أنتم من قبوركم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذى خَلَقَ الازواج كُلَّهَا‏}‏ يعني‏:‏ الأصناف كلها من النبات، والحيوان وغير ذلك ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والانعام مَا تَرْكَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ جعل لبني آدم من السفن، والإبل، والدواب، ما يركبون عليها ثم قال‏:‏ ‏{‏لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ‏}‏ يعني‏:‏ لتركبوا ظهور الأنعام، ولم يقل ظهورها‏؟‏ لأنه انصرف إلى المعنى، وهو جنس الأنعام ‏{‏ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ إذا ركبتم فتحمدوا الله تعالى ‏{‏وَتَقُولُواْ‏}‏ عند ذلك ‏{‏سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا‏}‏ يعني‏:‏ ذلل لنا هذا ‏{‏وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مطيعين‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ أنا مقر لك أي‏:‏ مطيق لك‏.‏ ويقال‏:‏ مقرنين أي‏:‏ مالكين‏.‏ ويقال‏:‏ ضابطين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ راجعين إليه، في الآخرة‏.‏

وقد روى عثمان بن الأسود، عن مجاهد أنه قال‏:‏ إذا ركب الرجل دابته، ولم يذكر اسم الله تعالى، ركب الشيطان من ورائه، ثم صك في قفاه، فإن كان يحسن الغناء، قال له‏:‏ تغن، وإن كان لا يحسن الغناء، قال له تمن يعني‏:‏ تكلم بالباطل‏.‏

وعن علي بن ربيعة أنه قال‏:‏ كنت رديفاً لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فلما وضع رجله في الركاب، قال‏:‏ بسم الله، فلمَّا استوى قال‏:‏ الحمد لله، ثم قال‏:‏ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا، وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 25‏]‏

‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ‏(‏16‏)‏ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ‏(‏18‏)‏ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا‏}‏ يعني‏:‏ وصفوا لله من خلقه، شريكاً وولداً ‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ كَفُورٌ لنعمه ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ بين الكفر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ‏}‏ وهو رد على بني مليح، حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ معناه‏:‏ اختار لكم البنين، ولنفسه البنات، ثم وصف كراهيتهم البنات فقال‏:‏ ‏{‏وأصفاكم بالبنين‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً‏}‏ يعني‏:‏ بما وصفوا لله تعالى من البنات، وكرهوا لأنفسهم ذلك ‏{‏ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ تغير لونه، وهو حزين مكروب‏.‏ يعني‏:‏ أترضون لله، ما لا ترضون لأنفسكم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية‏}‏ يعني‏:‏ يغذى في الذهب والفضة‏.‏ ويقال‏:‏ أفمن زين في الحلي والحلل ‏{‏وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في الكلام غير فصيح‏.‏ ويقال‏:‏ هن في الخصومة، غير مبينات في الحجة ويقال‏:‏ أفمن زين في الحلي، وهو في الخصومة غير مبين، لأن المرأة لا تبلغ بخصومتها، وكلامها ما يبلغ الرجل‏.‏

قرأ حمزة والكسائي، وعاصم في رواية حفص، أو من يُنَشَّأُ بضم الياء، ونصب النون وتشديد الشين ومعناه‏:‏ أومن يربى في الحلية، لفظه لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ‏.‏ وقرأ الباقون، أوَمَنْ يَنْشَأ، بنصب الياء وجزم النون مع التخفيف، يعني‏:‏ يشب وينبت في الحلي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا‏}‏ يعني‏:‏ وصفوا الملائكة بالأنوثة‏.‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع الَّذِينَ هُمْ عَنْدُ الرَّحْمَنِ ‏{‏إناثا‏}‏ يعني‏:‏ وصفوا الملائكة بالأنوثة‏.‏ قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع عبيد يعني‏:‏ الملائكة الذين هم في السماء، والباقون عِبَادُ يعني‏:‏ جمع عبد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أحضروا خلق الملائكة حين خلقهم الله تعالى، فعلموا أنهم ذكوراً أو إناثاً‏؟‏ هذا استفهام فيه نفي، يعني‏:‏ لم يشهدوا خلقهم على وجه التوبيخ، والتقريع‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏سَتُكْتَبُ شهادتهم‏}‏ يعني‏:‏ ستكتب مقالتهم ‏{‏وَيُسْئَلُونَ‏}‏ عنه يوم القيامة‏.‏ وروي عن الحسن‏:‏ أنه قرأ سَتُكْتَبُ شَهَادَاتُهُم بالألف يعني‏:‏ أقوالهم‏.‏ وقرأ عبد الرحمن الأعرج سَنَكْتُبُ بالنون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم‏}‏ يعني‏:‏ ما عبدنا الملائكة ويقال‏:‏ الأصنام ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ ما لهم بذلك القول من حجة ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يكذبون بغير حجة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الآية تقديم يعني‏:‏ عباد الرحمن إناثاً، ما لهم بذلك من علم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا عليهم كتاباً، من قبل هذا القرآن ‏{‏فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ آخذون به عاملون، اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به النفي‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ لكنهم قالوا‏:‏ إنا وجدنا آباءنا على دين وملة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الأمة الجماعة، والصنف‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الارض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أمثالكم مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَئ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ ثم يستعار في أشياء منها‏:‏ الدين‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا‏}‏ أي‏:‏ على دين، لأن القوم كانوا يجتمعون على دين واحد، فتقام الأمة مكان الدين، ولهذا قيل للمسلمين‏:‏ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم على ملة واحدة، وهي الإسلام‏.‏ وروى مجاهد، وعمر بن عبد العزيز، أنهما قرآ ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ بكسر الألف، أي‏:‏ على نعمة‏.‏ ويقال‏:‏ على هيئة، وقراءة العامة بالضمة، يعني‏:‏ على دين وروى أبو عبيدة، عن بعض أهل اللغة، أن الأُمة والأمة لغتان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا‏}‏ يعني‏:‏ مستيقنين ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا‏}‏ يعني‏:‏ جبابرتها ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ‏}‏ يعني‏:‏ بسنتهم مقتدون‏.‏ أي‏:‏ بأعمالهم‏.‏ قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ *** جِئْتُكُمْ بأهدى‏}‏ يعني‏:‏ أليس هذا الذي جئتكم به، هو أهدى ‏{‏مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بأصوب وأبين من ذلك‏.‏ قرأ ابن عامر، وعاصم في رواية حفص ‏{‏قَالَ أَوَلَوْ‏}‏ على معنى الخبر والباقون ‏(‏قُلْ‏)‏ بلفظ الأمر‏.‏ وقرأ أبو جعفر المدني ‏(‏جِئْنَاكُم‏)‏ بلفظ الجماعة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏ يعني‏:‏ إن الجبابرة قالوا لرسلهم‏:‏ إنا بما أرسلتم به جاحدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 30‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏(‏26‏)‏ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ‏(‏27‏)‏ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏29‏)‏ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ بالعذاب ‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ يعني‏:‏ آخر أمرهم‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بريء من معبودكم‏.‏ ذكر عن الفراء أنه قال‏:‏ براء مصدر صرف أسماء، وكل مصدر صرف إلى اسم، فالواحد، والجماعة، والذكر، والأنثى فيه سواء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذى فَطَرَنِى‏}‏ يعني‏:‏ إلا الذي خلقني، فإني لا أتبرأ منه‏.‏ ‏{‏فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ ويقال‏:‏ إلا بمعنى لكن‏.‏ يعني‏:‏ لكن الذي خلقني، فهو سيهدين، يعني‏:‏ يثبتني على دين الإسلام ‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ‏}‏ يعني‏:‏ جعل تلك الكلمة ثابتة في نسله ‏{‏وَذُرّيَّتَهُ‏}‏ وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عن كفرهم إلى الإيمان‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هو التوحيد والإخلاص، لا يزال في ذريته‏.‏ من يوحدوا الله تعالى، ويعبدوه وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ كلمة لا إله إلا الله في عقبه وولده‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ذو البراءة كما يقال‏:‏ رجل عدل ورجال عدل، أي‏:‏ ذو عدل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء‏}‏ يعني‏:‏ أجلت هؤلاء، وأمهلتهم‏.‏ يعني‏:‏ قومك ‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ويقال‏:‏ الدعوة إلى التوحيد ‏{‏وَرَسُولٌ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ بين أمره بالدلائل‏.‏ والحجج‏.‏ ويقال‏:‏ مبين، يعني‏:‏ بين لهم الحق من الباطل‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون‏}‏ يعني‏:‏ جاحدون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ‏(‏31‏)‏ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ على رجل عظيم من رجلي القريتين، وهو الوليد بن المغيرة، من أهل مكة، وأبو مسعود الثقفي بالطائف يعني‏:‏ لو كان حقاً، لأنزل على أحد هذين الرجلين‏.‏ وروى وكيع، عن محمد بن عبد الله بن أفلح الطائفي، قال‏:‏ عن خالد بن عبد الله بن يزيد، قال‏:‏ كنت جالساً عند عبد الله بن عباس بالطائف، فسأله رجل عن هذه الآية وهي قوله‏:‏ ‏{‏مّنَ القريتين‏}‏ فقال‏:‏ القرية التي أنت فيها‏.‏ يعني‏:‏ الطائف والقرية التي جئت منها، يعني‏:‏ مكة‏.‏ وسئل عن الرجلين فقال‏:‏ جبار من جبابرة قريش، وهو الوليد بن المغيرة بمكة، وعروة بن مسعود، جد المختار‏.‏ يعني‏:‏ أبا مسعود يقال اسمه عمرو بن عمير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ أبأيديهم مفاتيح الرسالة والنبوة، فيضعوها حيث شاؤوا، ولكننا نختار للرسالة، من نشاء من عبادنا ‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ نحن قسمنا أرزاقهم فيما بينهم، وهو أدنى من الرسالة، فلم نترك اختيارها إليهم، فكيف نفوض اختيار ما هو أفضل منه، وأعظم، وهي الرسالة إليهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات‏}‏ يعني‏:‏ فضلنا بعضهم على بعض، بالمال في الدنيا‏.‏ ‏{‏لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً‏}‏ يعني‏:‏ الاستهزاء ويقال‏:‏ فضل بعضهم على بعض في العز، والرياسة، ليستخدم بعضهم بعضاً، ويستعبد الأحرار العبيد، ثم أخبر‏:‏ أن الآخرة أفضل مما أعطوا في الدنيا‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ خير مما يجمع الكفار من المال في الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 39‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏35‏)‏ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏(‏36‏)‏ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏37‏)‏ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ‏(‏38‏)‏ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ يقول لولا أن يرغب الناس في الكفر، إذا رأوا الكفار في سعة المال‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لولا أن يتتابعوا في الكفر‏.‏ ‏{‏لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ‏}‏ وهي‏:‏ سماء البيت ‏{‏وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الدرج عليها يرتقون ويرتفعون‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يصلح أن يكون لبيوتهم بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏لِمَن يَكْفُرُ‏}‏ ويكون المعنى لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن، ويصلح أن يكون معناه‏:‏ لجعلنا لمن يكفر بالرحمن على بيوتهم‏.‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لِبُيُوتِهِم سَقْفاً» بنصب السين، وجزم القاف، ويكون عبارة عن الواحد، فدل على الجمع‏.‏ والمعنى‏:‏ لجعلنا لبيت كل واحد منهم، سقفاً من فضة‏.‏ وقرأ الباقون سُقُفاً، بالضم على معنى الجمع‏.‏ ويقال‏:‏ سقف ومسقف مثل رهن ورهن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يجلسون وينامون ‏{‏وَزُخْرُفاً‏}‏ وهو الذهب يعني‏:‏ لجعلنا هذا كله من ذهب وفضة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لَوْلاَ أنْ يَجْزَعَ عَبْدِي المُؤْمن، لَعَصَّبْتُ الكَافِرَ بِعِصَابةٍ مِن حَدِيدٍ، وَلَصَبَبْتُ عَلَيه الدُّنْيَا صَبّاً ‏"‏ وإنما أراد بعصابة الحديد، كناية عن صحة البدن، يعني‏:‏ لا يصدع رأسه، ثم أخبر أن ذلك كله مما يفنى‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا والاخرة عِندَ رَبّكَ‏}‏ وما ها هنا زيادة ومعناه‏:‏ وإن كل ذلك لمتاع‏.‏ ويقال‏:‏ وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، يفنى ولا يبقى ‏{‏والاخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنة للذين يتقون الشرك، والمعاصي والفواحش‏.‏ قرأ عاصم، وابن عامر في رواية هشام‏:‏ ‏{‏وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا‏}‏ بتشديد الميم، وقرأ الباقون بالتخفيف‏.‏ فمن قرأ بالتخفيف، فما للصلة والتأكيد‏.‏ ومن قرأ بالتشديد فمعناه‏:‏ وما كل ذلك إلا متاع‏.‏ وقال مجاهد كنت لا أعلم ما الزخرف، حتى سمعت في قراءة عبد الله بيتاً من ذهب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ يعرض عن الإيمان والقرآن، يعني‏:‏ لا يؤمن‏.‏ ويقال‏:‏ من يعمى بصره عن ذكر الرحمن‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ من يظلم بصره عن ذكر الرحمن‏.‏ ‏{‏نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً‏}‏ يعني‏:‏ نسيب له شيطاناً، مجازاة لإعراضه عن ذكر الله‏.‏ ويقال‏:‏ نسلط عليه ويقال نقدر له، ويقال‏:‏ نجعل له شيطاناً ‏{‏فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ يكون له صاحباً في الدنيا، فيزين له الضلالة‏.‏ ويقال‏:‏ فهو له قرين‏.‏ يعني‏:‏ قرينه في سلسلة واحدة، لا يفارقه‏.‏ يعني‏:‏ في النار‏.‏ وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال‏:‏ ليس مثل من أمثال العرب، إلا وأصله في كتاب الله تعالى‏.‏ قيل له‏:‏ من أين قول الناس، أعطى أخاك تمرة، فإن أبى فجمرة‏.‏

فقال قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً‏}‏ الآية ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل‏}‏ يعني‏:‏ الشياطين يصرفونهم عن الدين ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار يظنون أنهم على الحق‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءنَا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، روعاصم في رواية أبي بكر ‏(‏جَانَا‏)‏ بالمد، بلفظ التثنية، يعني‏:‏ الكافر وشيطانه الذي هو قرينه‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏جَاءنَا‏}‏ بغير مد، يعني‏:‏ الكافر يقول لقرينه‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين‏}‏ يعني‏:‏ ما بين المشرق والمغرب‏.‏ ويقال‏:‏ بين مشرق الشتاء، ومشرق الصيف ‏{‏فَبِئْسَ القرين‏}‏ يعني‏:‏ بئس الصاحب معه في النار‏.‏ ويقال‏:‏ هذا قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ القرين‏}‏ يعني‏:‏ بئس الصاحب معه في النار‏.‏ ويقال هذا قول الكافر يعني‏:‏ بئس الصاحب كنت أنت في الدنيا، وبئس الصاحب اليوم‏.‏ فيقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم‏}‏ الاعتذار ‏{‏إِذ ظَّلَمْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كفرتم، وأشركتم في الدنيا ‏{‏أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أنكم جميعاً في النار، التابع والمتبوع في العذاب، سواء قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 45‏]‏

‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى‏}‏ إلى الهدى ‏{‏وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ من كان في علم الله في الضلالة‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إنك لا تقدر أن تُفهم من كان أصم القلب، ويعمى عن الحق، ومن كان في ضلال مبين، يعني‏:‏ ظاهر الضلالة، قوله‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ‏}‏ يعني‏:‏ نميتك قبل أن نرينك الذي وعدناهم، يعني‏:‏ قبل أن نريك النقمة ‏{‏فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ننتقم منهم‏.‏ بعد موتك‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم، وبقيت النقمة‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم، «أُرَى مَا يُصِيب أُمَّتَهُ مِنْ بَعْدِهِ، فما رُئِيَ ضَاحِكاً مُسْتَبْشِراً، حَتَّى قُبِضَ»‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم‏}‏ يعني‏:‏ في حياتك ‏{‏فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إنا لقادرون على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ اعمل بالذي أوحي إليك من القرآن ‏{‏إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ على دين الإسلام ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن شرف لك ولمن آمن به ويقال‏:‏ ‏{‏وَلِقَوْمِكَ‏}‏ يعني‏:‏ العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم ‏{‏وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ‏}‏ عن هذه النعم، وعن شكر هذا الشرف‏.‏ يعني‏:‏ القرآن إذا أديتم شكره، أو لم تؤدوه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا‏}‏ قال مقاتل، والكلبي‏:‏ يعني‏:‏ سل مؤمني أهل الكتاب ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن‏}‏ يعني‏:‏ هل جاءهم رسول، يدعوهم إلى عبادة غير الله‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا‏}‏ يعني‏:‏ سل المرسلين، فلقي النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء ليلة المعراج، وصلى بهم ببيت المقدس‏.‏ فقيل له‏:‏ فسلهم فلم يشك، ولم يسألهم‏.‏ ويقال‏:‏ إنما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد أمته يعني‏:‏ سلوا أهل الكتاب كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 94‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 56‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏ وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا إلى فِرْعَوْنَ وَمَلاَيْهِ فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُم بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ باليد والعصا ‏{‏إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يعجبون ويسخرون‏.‏ ‏{‏وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا‏}‏ يعني‏:‏ أعظم من التي كانت قبلها، وهي السنين والنقص، من الثمرات والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم فلم يؤمنوا بشيء‏.‏ ‏{‏وأخذناهم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ عاقبناهم بهذه العقوبات لكي يرجعوا، ويعرفوا ضعف معبودهم ‏{‏وَقَالُواْ يأَيُّهَا الساحر‏}‏ وكان الساحر فيهم، عظيم الشأن يعني‏:‏ قالوا لموسى‏:‏ يا أيها العالم ‏{‏ادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ أي‏:‏ سل لنا ربك ‏{‏بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ يعني‏:‏ بحق ما أمرك به ربك، أن تدعو إليه ‏{‏إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ نؤمن بك، ونوحد الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ينقضون عهودهم ‏{‏ونادى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ‏}‏ يعني‏:‏ خطب فرعون لقومه ‏{‏قَالَ يَا قَوْمٌ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ وهي أربعون فرسخاً، في أربعين فرسخاً ‏{‏وهذه الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِى‏}‏ يعني‏:‏ من تحت يدي‏.‏ ويقال‏:‏ من حولي، وحول قصوري وجناني ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ فضلي على موسى ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ خير، وأم للصلة من هذا الذي هو مهين، يعني‏:‏ ضعيف ذليل‏.‏

‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ يعني‏:‏ لا يكاد يعبر حجة‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ ألا تنظرون إلى فصاحتي، وإلى عيِّ كلام موسى ‏{‏فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ‏}‏ يعني‏:‏ هلا أعطي أسورة من ذهب‏.‏ يعني‏:‏ لو كان حقاً وكان رسولاً كما يقول، لأعطي له المال، فيكون حاله خيراً من هذا، وكان آل فرعون يلبسون الأساور‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص ‏(‏أسْوَرَةٌ‏)‏ بغير ألف والباقون ‏(‏أسَاوِرَةٌ‏)‏ فمن قرأ أسورة فهو جمع السوار، ومن قرأ أساورة، فهو جمع الجمع‏.‏ ويقال‏:‏ أساور جمع سوار‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاء مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لو كان حقاً، لأتته الملائكة متتابعين، فيصدقون على مقالته ويقال ‏{‏مُقْتَرِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ متعاونين ‏{‏فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ فاستذل قومه فأطاعوه‏.‏ يعني‏:‏ حملهم على الخفة، فانقادوا له ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ يعني‏:‏ كافرين عاصين، وذلك أن فرعون قال لهم‏:‏ مَا أُريكُم إلاَّ مَا أرَى، فأطاعوه على تكذيب موسى عليه السلام ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ يعني‏:‏ ناقضي العهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاسَفُونَا‏}‏ يعني‏:‏ أغضبونا قال أهل اللغة‏:‏ الأسف‏:‏ الغضب‏.‏ وروى معمر عن سماك بن الفضل‏.‏ قال‏:‏ كنا عند عروة بن محمد، وعنده وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وأثبتوا على ذلك، فتناول وهب عصا كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل حتى أدماه، فاستعابها عروة، وكان حليماً وقال‏:‏ يعيب علينا أبو عبد الله الغضب وهو يغضب، فقال وهب‏:‏ وما لي لا أغضب، وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله تعالى يقول ‏{‏فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أغضبونا‏.‏

ويقال‏:‏ فلما آسفونا، يعني‏:‏ وجب عليهم عذابنا ‏{‏انتقمنا مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهلكناهم ‏{‏فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لم نبق منهم أحداً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناهم سَلَفاً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ كفار قوم فرعون، سلفاً لكفار مكة أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة‏:‏ جعلناهم سلفاً إلى النار‏.‏ قرأ حمزة والكسائي ‏(‏سُلْفاً‏)‏ بالضم، وقرأ الباقون ‏(‏سَلفاً‏)‏ بنصب السين واللام، فمن قرأ بالنصب فمعناه‏:‏ جعلناهم سلفاً متقدمين، ليتعظ بهم الآخرون‏.‏ ومن قرأ بالضم، فهو جمع سليف، أي‏:‏ جمع قد مضى‏.‏ ويقال‏:‏ سلفاً واحدها سلفة من الناس، أي‏:‏ قطعة‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ عبرة لمن بعدهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 62‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً‏}‏ يعني‏:‏ وصف ابن مريم شبهاً ‏{‏إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ يعني‏:‏ يعرضون عن ذكره‏.‏ ويقال‏:‏ لما قالت النصارى إن عيسى ابن الله إذا قومك منه يصدون‏.‏ قرأ ابن عامر، والكسائي ونافع ‏(‏يَصُدُّونَ‏)‏ بضم الصاد‏.‏ وقرأ الباقون ‏(‏يَصِدُّونَ‏)‏ بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه يعرضون، ومن قرأ بالكسر فمعناه يضجون، ويرفعون أصواتهم تعجباً، وذلك أنهم قالوا‏:‏ لما جاز أن يكون عيسى ابن الله، جاز أن تكون الملائكة بناته، فعارضوه بذلك، يعني‏:‏ أهل مكة، ورفعوا أصواتهم بذلك‏.‏ ويقال‏:‏ إن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ذكرنا في سورة الأنبياء، ففرح المشركون بذلك، ورفعوا أصواتهم تعجباً من قوله آلهتنا خير‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ أم عيسى فإذا جاز أن يكون هو ولداً، جاز أن تكون الأصنام والملائكة كذلك‏.‏ ويقال‏:‏ فإذا جاز أن يكون هو في النار، جاز أن تكون معه الأصنام في النار‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ‏}‏ يعني‏:‏ ما عارضوك بهذه المعارضة، إلا جدلاً ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يجادلونك شديد المجادلة بالباطل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ ما كان عيسى إلاَّ عبداً لله، أنعم الله تعالى عليه بالنبوة، وأكرمه بها ‏{‏وجعلناه مَثَلاً لّبَنِى إسراءيل‏}‏ يعني‏:‏ عبرة لبني إسرائيل، ليعتبروا به، حين ولد ابن من غير أب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الارض يَخْلُفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لو شاء الله، لجعل مكانكم في الأرض ملائكة يخلفون، فكانوا خلفاً منكم‏.‏ ثم رجع إلى صفة عيسى عليه السلام فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ‏}‏ يعني‏:‏ نزول عيسى، علامة لقيام الساعة‏.‏ ويقال‏:‏ نزول عيسى آية للناس‏.‏ وروى وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن أبي يحيى، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ‏}‏ قال‏:‏ خروج عيسى ابن مريم‏.‏ وروى معمر، عن قتادة قال‏:‏ نزول عيسى وروى عبادة، عن حميد، عن أبي هريرة قال‏:‏ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى يُرى عيسى عليه السلام في الأرْض إمَاماً مُقْسِطاً، وَكُنْتُ أرْجُو ألاَّ أمُوتَ حَتَّى آكُل مع عيسى عليه السلام، عَلَى مَائِدَةٍ، فَمَنْ لَقِيهُ مِنْكُمْ، فَلْيُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَم» قرأ بعضهم ‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ‏}‏ بكسر العين أي‏:‏ بنزول المسيح يعلم أنه قد قربت الساعة‏.‏ ومن قرأ‏:‏ ‏(‏وَإنَّهُ لَعَلَمٌ‏)‏ بالنصب، فإنه بمعنى الدليل، والعلامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لا تشكن في القيامة والبعث ‏{‏وَاتَّبِعُونِي‏}‏ يعني‏:‏ أطيعونني ‏{‏فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ عني هذا التوحيد صراط مستقيم ‏{‏وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ لا يصرفنكم الشيطان عن طريق الهدى ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 76‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات‏}‏ يعني‏:‏ بالآيات والعلامات، وهو إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص‏.‏ ويقال‏:‏ بالبينات، يعني‏:‏ بالإنجيل ‏{‏قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة‏}‏ يعني‏:‏ بالنبوة ‏{‏وَلابَيّنَ لَكُم بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ قال‏:‏ بعضهم، يعني‏:‏ كل الذي تختلفون فيه‏.‏ وقال بعضهم معناه‏:‏ لأبين تحليل بعض الذي تختلفون فيه‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَلاٌّحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 50‏]‏ وكانوا في ذلك التحريم مختلفين، فمصدق ومكذب ‏{‏فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم به من التوحيد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خالقي وخالقكم ‏{‏فاعبدوه‏}‏ يعني‏:‏ وحدوه وأطيعوه ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ دين الإسلام ‏{‏فاختلف الاحزاب مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ تفرقوا في أمر عيسى، وهم النسطورية، والماريعقوبية، والملكانية‏.‏ وقد ذكرناه من قبل‏.‏ ويقال‏:‏ الأحزاب تحزبوا وتفرقوا في أمر عيسى، وهم اليهود‏.‏ فقالوا فيه قولاً عظيماً، وفي أمه‏.‏ فقالوا‏:‏ إنه ساحر‏.‏ ويقال‏:‏ اختلفوا في قتله ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أشركوا ‏{‏مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ عذاب يوم شديد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ ما ينظرون إذا لم يؤمنوا إلا الساعة ‏{‏أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏ يعني‏:‏ فجأة ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ بقيامها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الأخلاء في معصية الله تعالى في الدنيا، يومئذٍ متعادين في الآخرة ‏{‏إِلاَّ المتقين‏}‏ الموحدين‏.‏ قال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي بن خلف، وعقبة بن أبي معيط‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كل خليل في غير طاعة الله، فهو عدوٌّ لخليله‏.‏

وروى عبيد بن عمير‏.‏ قال‏:‏ كان لرجل ثلاثة أخلاء، بعضهم أخص به من بعض، فنزلت به نازلة، فلقي أخص الثلاثة‏.‏ فقال‏:‏ يا فلان‏:‏ إني قد نزل بي كذا وكذا، وإني أحب أن تعينني‏.‏ فقال له‏:‏ ما أنا بالذي أعينك، ولا أنفعك، فانطلق إلى الذي يليه‏.‏ فقال له‏:‏ أنا معك حتى أبلغ المكان الذي تريده، ثم رجعت وتركتك‏.‏ فانطلق إلى الثالث فقال له‏:‏ أنا معك حيثما دخلت‏.‏ قال‏:‏ فالأول ماله، والثاني أهله وعشيرته، والثالث عمله‏.‏ وروى أبو إسحاق عن الحارث، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه سئل عن قوله‏:‏ ‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين‏}‏ فقال‏:‏ خليلان مؤمنان، وخليلان كافران، فتوفي أحد المؤمنين فيثني على صاحبه خيراً، ثم يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما فيقول‏:‏ كل واحد منهما لصاحبه، نعم الأخ ونعم الصاحب، ويموت أحد الكافرين، فيثني على صاحبه شراً، ثم يموت الآخر، فيجمع بين أرواحهما فيقول‏:‏ كل واحد منهما لصاحبه، بئس الأخ وبئس الصاحب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المتقين ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ثم وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مخلصين بالتوحيد‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم تُحْبَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تكرمون وتنعمون‏.‏ ويقال‏:‏ ترون والحبرة‏:‏ السرور‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مّن ذَهَبٍ‏}‏ قال كعب‏:‏ يطاف عليهم بسبعين ألف صحفة من ذهب، في كل صحفة لون وطعام، ليس في الأخرى، والصحفة هي القصعة‏.‏ ‏{‏وَأَكْوابٍ‏}‏ وهي‏:‏ الأباريق التي لا خراطيم لها، يعني‏:‏ مدورة الرأس‏.‏ ويقال‏:‏ التي لا عُرى لها، واحدها كوب‏.‏

‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفس‏}‏ يعني‏:‏ تتمنى كل نفس ‏{‏وَتَلَذُّ الاعين‏}‏ من النظر إليها ‏{‏وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون وَتِلْكَ الجنة‏}‏ يعني‏:‏ هذه الجنة ‏{‏التى أُورِثْتُمُوهَا‏}‏ يعني‏:‏ أنزلتموها ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ دخلتموها برحمة الله تعالى، بإيمانكم واقتسمتموها بأعمالكم‏.‏ ‏{‏لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ‏}‏ لا تنقطع‏.‏ لقوله‏:‏ ‏{‏لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏مّنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ من الفواكه متى تشاؤوا‏.‏

ثم وصف المشركين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ المجرمين‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ أي‏:‏ دائمون، لا يموتون ولا يخرجون ‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا ينقطع عنهم العذاب طرفة عين ‏{‏وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ‏}‏ يعني‏:‏ آيسين من رحمة الله تعالى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا ظلمناهم‏}‏ يعني‏:‏ لم نعذبهم بغير ذنب ‏{‏ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين‏}‏ لأنهم كانوا يستكبرون عن الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَوْاْ يامالك‏}‏ وذلك أنه لما يشتد عليهم العذاب، يتمنون الموت، ويقولون لخازن جهنم‏:‏ يَا مَالِك ‏{‏لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ يعني‏:‏ ادع ربك لقبض أرواحنا، فأجابهم بعد أربعين سنة ‏{‏قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون‏}‏ وروى عطاء بن السائب، عن رجل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ يجيبهم بعد ألف سنة ‏{‏إِنَّكُمْ ماكثون‏}‏ ويقال‏:‏ إنهم ينادون ‏{‏وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ فأوحى الله تعالى إلى مالك ليجيبهم، فيقول لهم مالك قَالَ‏:‏ إنَّكُمْ مَاكِثُونَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جئناكم بالحق‏}‏ يعني‏:‏ جاءكم جبريل في الدنيا، بالقرآن والتوحيد ‏{‏ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارهون‏}‏ يعني‏:‏ جاحدون‏.‏ وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك حين اجتمعوا في دار الندوة، ودخل إبليس عليهم، وقد ذكرناه في سورة الأنفال‏.‏ فنزل ‏{‏أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أجمعوا أمرهم بالشر على النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مجمعون أمرنا على ما يكرهون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ وذلك أن ثلاثة نفر، اجتمعوا وقالوا‏:‏ إنه يقول‏:‏ بأن ربي يعلم السر‏.‏ أترى أنه يعلم مَا نقول بيننا‏؟‏ فنزل ‏{‏أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً‏}‏ يعني‏:‏ أقاموا على المعصية ‏{‏فَإِنَّا مُبْرِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ معذبون عليها‏.‏ قال القتبي‏:‏ أي‏:‏ أحكموه، والمبرم‏:‏ المفتول على طاقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بل يظنون‏.‏ ويقال‏:‏ أيظنون، والميم صلة ‏{‏أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم‏}‏ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به التوبيخ، ومعناه إن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الذين يتناجون خلف الكعبة، يعني‏:‏ الذين يقولون‏:‏ إن الله لا يسمع مقالتنا‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ يعني‏:‏ نسمع ذلك ‏{‏وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ مقالتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين‏}‏ يعني‏:‏ الموحدين من أهل مكة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لما نزلت هذه الآية، وقرئت عليهم فقال النضر بن الحارث‏:‏ ألا ترونه صدقني‏.‏ فقال له الوليد‏:‏ ما صدقك، ولكنه يقول‏:‏ ما كان للرحمن ولد‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ إن بمعنى ما قال‏:‏ ‏{‏فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين‏}‏ يعني‏:‏ الموحدين من أهل مكة‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أنا أول الآنفين أن لله ولداً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إن كان هذا في زعمكم، فأنا أول الموحدين، لأنكم تزعمون أن له ولداً، فأنَّا أوَّلِ الآنفين من ذلك، فلم توحدوه ومن وحد الله، فقد عبده، ومن جعل له ولداً، فليس من العابدين كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ أي‏:‏ ليوحدون ثم نزه نفسه فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 89‏]‏

‏{‏سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏سبحان رَبّ السموات والارض رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ عما يقولون إن لله ولداً ‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كفار مكة، حين كذبوا بالعذاب ‏{‏يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يخوضوا في أباطيلهم، ويستهزئوا ‏{‏حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ حتى يعاينوا يومهم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الارض إله‏}‏ يعني‏:‏ إله كل شيء، ويعلم كل شيء‏.‏ ويقال‏:‏ هو إله في السماء يعبد، وفي الأرض إله يعبد‏.‏ ويقال‏:‏ يوحد في السماء ويوحد في الأرض ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ في أمره ‏{‏العليم‏}‏ بخلقه وبمقالتهم، ثم عظم نفسه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَبَارَكَ الذى‏}‏ يعني‏:‏ تعالى عما وصفوه الَّذي ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ خزائن السموات المطر، وخزائن الأرض النبات ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ قيام الساعة ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ قرأ أبو عمرو، ونافع، وعاصم ‏(‏تُرْجَعُونَ‏)‏ بالتاء، على معنى المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يقدر الذين يعبدون ‏{‏مِن دُونِهِ الشفاعة إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق‏}‏ يعني‏:‏ بلا إله إلا الله مخلصاً ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه الحق، حين شهدوا بها من قبل أنفسهم، وأنهم يشفعون لهؤلاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ يعني‏:‏ كفار قريش ‏{‏فأنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أنى يصرفون بعد التصديق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَقِيلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ وقوله‏.‏ قرأ عاصم وحمزة ‏(‏قِيلِهِ‏)‏ بكسر اللام، والباقون بالنصب‏.‏ وقرئ في الشاذ ‏(‏وَقِيلُهُ‏)‏ بضم اللام، فمن قرأ بالنصب، فنصبه من وجهين‏:‏ أحدهما على العطف على قوله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله علام الغيوب‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 78‏]‏ ‏(‏وقيله‏)‏ ومعنى آخر وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب‏.‏ يعني‏:‏ يعلم الغيب ومن قرأ بالكسر معناه وعنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب‏.‏ ومن قرأ بالرفع فمعناه‏:‏ وقيله قول يا رب ‏{‏إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون ‏{‏فاصفح عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعرض عنهم، وهذا قبل أن يؤمر بالقتال ‏{‏وَقُلْ سلام‏}‏ يعني‏:‏ سداداً من القول ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وهذا وعيد منه‏.‏ قرأ نافع وابن عامر ‏(‏تَعْلَمُونَ‏)‏ بالتاء، على معنى المخاطبة لهم، والباقون بالياء على معنى الخبر عنهم، والله أعلم‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏حم والكتاب المبين إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة‏}‏ يعني‏:‏ الكتاب أنزلناه في ليلة القدر سميت مباركة لما فيها من البركة، والمغفرة للمؤمنين، وذلك أن القرآن، أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر إلى السفرة‏.‏ ثم أنزله جبريل متفرقاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال‏:‏ كان ينزل من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، مقدار ما ينزل به جبريل عليه السلام، متفرقاً إلى السنة الثانية ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مخوفين بالقرآن‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ في ليلة القدر، يقضى كل أمر محكم، ما يكون في تلك السنة إلى السنة الأخرى، وهذا قول عكرمة‏.‏ وروى منصور، عن مجاهد قال فيها‏:‏ يقضى أمر السنة إلى السنة، من المصائب والأرزاق وغير ذلك‏.‏ وهذا موافق للقول الأول‏.‏ ويقال‏:‏ في تلك الليلة، يفرق يعني‏:‏ ينسخ من اللوح المحفوظ، ما يكون إلى العام القابل من الرزق، والأجل، والأمراض، والخصب، والشدة‏.‏ وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ إنك لتلقى الرجل في الأسواق، وقد وقع اسمه في الأموات‏.‏

ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ في تلك الليلة، يفرق كل أمر الدنيا إلى مثلها إلى السنة من قابل ‏{‏أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا‏}‏ يعني‏:‏ قضاء من عندنا‏.‏ ويقال‏:‏ معناه بأمر من عندنا، فنزع حرف الخافض فصار نصباً ‏{‏إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الرسل إلى الخلق‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ الملائكة في تلك الليلة ‏{‏رَحْمَةً مّن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ إنزال الملائكة، رحمة من الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ الرسالة رحمة من الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ هذا القرآن رحمة لمن آمن به ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع‏}‏ لقولهم ‏{‏العليم‏}‏ بهم وبأعمالهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏رَبّ السموات والارض‏}‏ قرأ أهل الكوفة رب، بكسر الباء، والباقون بالضم، فمن قرأ بالكسر رده إلى قوله‏:‏ رحمة من ربك رب السموات‏.‏ ومن قرأ بالضم، رده إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السميع العليم‏}‏ رب السموات‏.‏ ويقال‏:‏ على الاستئناف‏.‏ ومعناه‏:‏ هو ربكم، وهو رب السموات والأرض ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مؤمنين بتوحيد الله ‏{‏لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ‏}‏ وقد ذكرناه ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خالقكم ورازقكم ‏{‏وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاولين‏}‏ يعني‏:‏ هو خالقهم ورازقهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 16‏]‏

‏{‏بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ‏(‏9‏)‏ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏(‏12‏)‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏13‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ‏(‏14‏)‏ إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏(‏15‏)‏ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يستهزئون‏.‏ ويقال‏:‏ هذا جواب قوله‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ‏}‏ فكأنه قال‏:‏ لا يوقنون، بل هم في شك يلعبون يعني‏:‏ يخوضون في الباطل‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب‏}‏ يعني‏:‏ فانتظر يا محمد ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ الجدب والقحط قال القتبي‏:‏ سمي الجدب والقحط‏.‏ دخاناً، وفيه قولان‏:‏ أحدهما أن الجائع كأنه يرى بينه وبين السماء دخاناً من شدة الجوع، والثاني‏:‏ أنه سمي القحط دخاناً، ليبس الأرض، وانقطاع النبات، وارتفاع الغبار، فشبه بالدخان‏.‏ وروى الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ «خمس مضين، الدخان واللزام يعني‏:‏ العذاب الأكبر، والروم، والبطشة، والقمر‏.‏

وروي عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال‏:‏ بينما رجل يحدث في المسجد، فسئل عن قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ فقال‏:‏ إذا كان يوم القيامة، نزل دخان من السماء، فأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، وأخذ المؤمنون منه بمنزلة الزكام‏.‏ قال مسروق‏:‏ فدخلت على عبد الله فأخبرته، وكان متكئاً، فاستوى قاعداً‏.‏ ثم أنشأ فقال‏:‏ يا أيها الناس‏:‏ من كان عنده علم فسئل عنه، فليقل به، ومن لم يكن عنده علم، فليقل الله أعلم‏.‏ إن قريشاً حين كذبوه يعني‏:‏ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال‏:‏ ‏"‏ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كسِنِّي يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام ‏"‏ فأصابهم سنة، وشدة الجوع، حتى أكلوا الكلاب، والجيف والعظام، حتى كان يرى أحدهم كأن بينه وبين السماء دخاناً‏.‏

فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ انتظر بهلاكهم يوم تأتي السماء بدخان مبين ‏{‏يَغْشَى الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ يقولون‏:‏ هذا الجوع عذاب أليم ثم إن أبا سفيان وعتبة بن ربيعة والعاص بن وائل وأصحابهم قالوا‏:‏ يا رسول الله استسق الله لنا، فقد أصابنا شدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب‏}‏ يعني‏:‏ الجوع ‏{‏إِنَّا مْؤْمِنُونَ أنى لَهُمُ الذكرى‏}‏ يعني‏:‏ من أين لهم التوبة والعظة والتذكرة ‏{‏وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ‏}‏ بلغتهم ومفقه لهم ‏{‏ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ‏}‏ يعني‏:‏ أعرضوا عما جاء به، فلم يصدقوه ومع ذلك ‏{‏وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ‏}‏ يعلمه جبر ويسار أسماء الرجلين غلامي الخضر ‏{‏إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ‏}‏ إلى المعصية، فعادوا فانتقم منهم يوم بدر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى‏}‏ يعني‏:‏ نعاقب العقوبة العظمى ‏{‏إِنَّا مُنتَقِمُونَ‏}‏ منهم بكفرهم ويقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة‏.‏ ويقال‏:‏ آية الدخان لم تمض، وستكون في آخر الزمان‏.‏

وروى إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لم تمض آية الدخان يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينتفخ الكافر حتى يصير كهيئة الجمل‏.‏ وروى ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال‏:‏ ‏"‏ أخْبِرْتُ أنَّ الكَوْكَب ذَا الذَّنب قد طَلَعَ، فَخَشِيتُ أنْ يَكونَ الدُّخَانَ قَد طَرق ‏"‏ ويقال‏:‏ هذا كله يوم القيامة، إذا خرجوا من قبورهم، تأتي السماء بدخان مبين، محيط بالخلائق فيقول الكافرون‏:‏ ‏{‏رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب‏}‏ أي‏:‏ ردنا إلى الدنيا ‏{‏إِنَّا مْؤْمِنُونَ‏}‏ يقول الله تعالى‏:‏ من أين لهم الرجعة، وقد جاءهم رسول مبين فلم يجيبوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ‏(‏17‏)‏ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ‏(‏18‏)‏ وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏19‏)‏ وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ‏(‏20‏)‏ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ ‏(‏21‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ ‏(‏22‏)‏ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ ‏(‏23‏)‏ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ‏(‏24‏)‏ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏25‏)‏ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ‏(‏26‏)‏ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ ‏(‏27‏)‏ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ ‏(‏28‏)‏ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ ابتلينا قبل قومك قوم فرعون‏.‏ ‏{‏وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ‏}‏ على ربه، وهو موسى عليه السلام‏.‏ ويقال‏:‏ رسول كريم‏.‏ أي‏:‏ شريف ‏{‏أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله‏}‏ يعني‏:‏ أرسلوا معي بني إسرائيل، واتبعوني على ديني ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ قد جئتكم من عند الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ كريم لأنه كان يتجاوز عنهم، ويقال أمين فيكم قبل الوحي، فكيف تتهموني اليوم‏.‏ ويقال كريم حيث يتجاوز عنهم، حين دعا موسى، ورفع عنهم الجراد، والقمل، والضفادع والدم ‏{‏إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ‏}‏ فيما بينكم وبين ربكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ لا تخالفوا أمر الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ لا تستكبروا عن الإيمان، ولا تعلوا بالفساد، لأن فرعون لعنه الله، كان عالياً من المسرفين ‏{‏وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى‏}‏ يعني‏:‏ آتيكم بحجة بينة اليد والعصى، وغير ذلك‏.‏ ‏{‏وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعوذ بالله ‏{‏أَن تَرْجُمُونِ‏}‏ يعني‏:‏ أن تقتلون‏.‏ ومعناه‏:‏ أسأل الله تعالى، أن يحفظني لكي لا تقتلوني‏.‏ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ‏{‏عُذْتُ‏}‏ بإدغام الذال في التاء، لقرب مخرجيهما، والباقون بغير إدغام، لتبيين الحرف‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون‏}‏ يعني‏:‏ إن لم تصدقوني فاتركوني‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ دعا موسى ربه، كما ذكر في سورة يونس ‏{‏وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاّهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 88‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 86‏]‏ ‏{‏أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مشركون فأبوا أن يطيعوني ‏{‏فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً‏}‏ فأوحى الله تعالى إليه، أن أدلج ببني إسرائيل ‏{‏إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ فرعون يتبع أثركم، فخرج موسى ببني إسرائيل، وضرب بعصاه البحر، فصار طريقاً يابساً‏.‏

وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 77‏]‏ فلما جاوز موسى مع بني إسرائيل البحر، فأراد موسى أن يضرب بعصاه البحر، ليعود إلى الحالة الأولى، فأوحى الله تعالى إليه بقوله ‏{‏واترك البحر رَهْواً‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ طريقاً يابساً واسعاً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ رَهْواً يعني‏:‏ سهلاً‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ منفرجاً‏.‏ وقال القتبي‏:‏ يعني‏:‏ طريقاً سالكاً‏.‏ كما هو‏.‏ ويقال‏:‏ رهواً أي‏:‏ سككاً جدداً، طريقاً يابساً ‏{‏إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏ وذلك، أن بني إسرائيل خشوا أن يدركهم فرعون، فقالوا لموسى‏:‏ اجعل البحر كما كان، فإننا نخشى أن يلحق بنا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ سيغرقون، فدخل فرعون وقومه البحر، فأغرقهم الله تعالى، وبقيت قصورهم وبساتينهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ بساتين وأنهاراً جارية ‏{‏وَزُرُوعٍ‏}‏ يعني‏:‏ الحروق ‏{‏وَمَقَامٍ كَرِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ مساكن ومنازل حسن‏.‏

كذلك يعني‏:‏ هكذا أخرجناهم من النعم ‏{‏وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فاكهين‏}‏ يعني‏:‏ معجبين‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ النِّعمة بكسر النون هي المنة، واليد الصالحة، والنُّعمة بالضم هي الميسرة، وبالنصب هي السعة في العيش‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ يعني‏:‏ هكذا أخرجناهم من السعة والنعمة ‏{‏كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً‏}‏ يعني‏:‏ جعلناها ميراثاً لبني إسرائيل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والارض‏}‏ قال بعضهم‏:‏ هذا على سبيل المثل، والعرب إذا أرادت تعظيم ملك، عظيم الشأن، عظيم العطية تقول‏:‏ كَسَفَ القَمَرُ لِفَقْدِهِ، وبَكَت الرِّيحُ والسَّمَاءُ وَالأرْضُ، وقد ذكروا ذلك في أشعارهم، فأخبر الله تعالى، أن فرعون لم يكن ممن يجزع له جازع، ولم يقم لفقده فقد، وقال بعضهم‏:‏ ‏{‏فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والارض‏}‏ يعني‏:‏ أهل السماء، وأهل الأرض‏.‏ فأقام السماء والأرض مقام أهلها‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لصادقون‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ يعني‏:‏ بكت السماء بعينها، وبكت الأرض‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ «لِكُلِّ مُؤْمِنٍ بَابٌ في السَّمَاءِ، يَصْعَدُ فِيهِ عَمَلُهُ، وَيَنْزِلُ مِنهُ رِزْقُهُ، فَإذا مَاتَ بَكَى عَلَيْهِ بَابُه فِي السَّمَاءِ، وَبَكَتْ عَلَيْهِ آثَارُهُ فِي الأرْضِ» وذكر عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه سئل‏:‏ أتبكي السماء والأرض على أحد‏؟‏ قال نعم، إذا مات المؤمن، بكت عليه معادنه من الأرض، التي كان يذكر الله تعالى فيها ويصلي، وبكى عليه بابه الذي كان يرفع فيه عمله، فأخبر الله تعالى‏:‏ أن قوم فرعون، لم تبك عليهم السماء والأرض ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مؤجلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 37‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏30‏)‏ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ ‏(‏34‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ ‏(‏35‏)‏ فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏36‏)‏ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين‏}‏ يعني‏:‏ من العذاب الشديد‏.‏ ويقال‏:‏ المهين يعني‏:‏ الهوان‏.‏ وهو قتل الأبناء، واستخدام البنات ‏{‏مِن فِرْعَوْنَ‏}‏ يعني‏:‏ من عذاب فرعون ‏{‏إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين‏}‏ يعني‏:‏ كان عاصياً، عاتياً، مستكبراً، متعظماً وكان من المسرفين‏.‏ يعني‏:‏ من المشركين ‏{‏وَلَقَدِ اخترناهم‏}‏ يعني‏:‏ اصطفينا بني إسرائيل ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ على علم من الله تعالى، أنهم أهل لذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏على عِلْمٍ‏}‏ الله فيهم من صبرهم ‏{‏عَلَى العالمين‏}‏ يعني‏:‏ على عالمي زمانهم ‏{‏وءاتيناهم مِنَ الايات‏}‏ يعني‏:‏ أعطيناهم من العلامات ‏{‏مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ‏}‏ يعني‏:‏ ابتلاء بيناً، مثل انفلاق البحر، وأشباه ذلك‏.‏

ثم ذكر كفار مكة فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَؤُلاَء لَيَقُولُون إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الاولى‏}‏ يعني‏:‏ ما هي إلا موتتنا الأولى ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ‏}‏ بعدها ‏{‏فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أنا نبعث بعد الموت، يعني‏:‏ قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ‏}‏ يعني‏:‏ قومك خير أم قوم تبع، وإنما ذكر قوم تبع، لأنهم كانوا أقرب إلى أهل مكة في الهلاك من غيرهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وكانوا أشراف حمير ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ أهلكناهم‏}‏ فكيف لا نهلك قومك إذا كذبوك قال‏:‏ وكان تبع اسم ملك منهم، مثل فرعون‏.‏ ويقال‏:‏ إنما سمي تبع، لكثرة أتباعه، فأسلم فخالفوه فأهلكهم الله تعالى، وكان اسمه سعد بن ملكي كرب‏.‏

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ إن تبع كان رجلاً صالحاً‏.‏ وكان كعب الأحبار يقول‏:‏ ذم الله قومه، ولم يذمه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن تبعاً كسا البيت، يعني‏:‏ الكعبة‏.‏ وقال القتبي‏:‏ هم ملوك اليمن، كل واحد منهم يسعى تبعاً، لأنه يتبع صاحبه، وكذلك الظل يسمى‏:‏ تبعاً لأنه يتبع الشمس، وموضع التبع في الجاهلية، موضع الخليفة في الإسلام، وهم ملوك العرب‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل تبع ‏{‏أهلكناهم‏}‏ يعني‏:‏ عذبناهم عند التكذيب ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مشركين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 42‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ‏(‏38‏)‏ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏40‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏41‏)‏ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ عابثين لغير شيء ‏{‏مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق‏}‏ يعني‏:‏ إلا لأمر هو كائن‏.‏ ويقال‏:‏ خلقناهما للعبرة، ومنفعة الخلق ويقال‏:‏ للأمر والنهي، والترهيب والترغيب ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يصدقون، ولا يفقهون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفصل‏}‏ أي‏:‏ يوم القضاء بين الخلق، وهو يوم القيامة ‏{‏ميقاتهم أَجْمَعِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ميعادهم أجمعين، الأولين والآخرين‏.‏ ويقال‏:‏ يوم الفصل، يعني‏:‏ يوم يفصل بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والزوج والزوجة، والخليل والخليلة، ثم وصف ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ لا يدفع ولي عن ولي، ولا قريب عن قريب شيئاً في الشفاعة ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يمنعون مما نزل بهم من العذاب‏.‏ يعني‏:‏ الكافرين‏.‏ ثم وصف المؤمنين، فإنه يشفع بعضهم لبعض فقال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله إِنَّهُ هُوَ العزيز‏}‏ في نعمته للكافرين ‏{‏الرحيم‏}‏ بالمؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 50‏]‏

‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ‏(‏43‏)‏ طَعَامُ الْأَثِيمِ ‏(‏44‏)‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ‏(‏45‏)‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ‏(‏46‏)‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الاثيم‏}‏ يعني‏:‏ الفاجر وهو الوليد، وأبو جهل، ومن كان مثل حالهما ‏{‏كالمهل يَغْلِى فِى البطون‏}‏ يعني‏:‏ كالصفر المذاب‏.‏ قرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص ‏{‏كالمهل يَغْلِى‏}‏، بالياء بلفظ التذكير‏.‏ والباقون بلفظ التأنيث، فمن قرأ بلفط التذكير، رده إلى المهل‏.‏ ومن قرأ بلفظ التأنيث، رده إلى الشجرة ‏{‏كَغَلْىِ الحميم‏}‏ يعني‏:‏ الماء الحار الذي قد انتهى حره‏.‏

ثم قال للزبانية‏:‏ ‏{‏خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَاء الجحيم‏}‏ يعني‏:‏ فسوقوه وادفعوه إلى وسط الجحيم‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر فَاعْتُلُوه بضم التاء، والباقون بالكسر، وهما لغتان، معناهما واحد، يعني‏:‏ امضوا به بالعنف والشدة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ ادفعوه على وجهه‏.‏ وقال القتبي‏:‏ خذوه بالعنف ‏{‏ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم‏}‏ ويقال له‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ وذلك أن أبا جهل قال‏:‏ أنا في الدنيا أعز أهل هذا الوادي، وأكرمه فيقال له في الآخرة‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏، يعني‏:‏ المتعزز المتكرم، كما قلت في الدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تشكون في الدنيا‏.‏ قرأ الكسائي ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ‏}‏ بنصب الألف، والباقون بالكسر‏.‏ فمن قرأ بالنصب فمعناه ذق يا أبا جهل، لأنك قلت‏:‏ أنك أعز أهل هذا الوادي فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ‏}‏ القائل أنا ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ ومن قرأ بالكسر، فهو على الاستئناف‏.‏ ثم وصف حال المؤمنين في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

فقال تعالى ‏{‏إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ أَمِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في منازل حسنة، آمنين من العذاب‏.‏ قرأ نافع، وابن عامر فِي مُقَامٍ، بضم الميم‏.‏ والباقون بالنصب، فمن قرأ بالنصب يعني‏:‏ المكان والموضع، ومن قرأ بالضم يعني‏:‏ الإقامة ‏{‏فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ في بساتين، وأنهار جارية ‏{‏يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما لطف من الديباج ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ يعني‏:‏ ما ثخن منه ‏{‏متقابلين‏}‏ يعني‏:‏ متواجهين كما قال في آية أخرى ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏ ثُم قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ يعني‏:‏ هكذا، كما ذكرت لهم في الجنة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ بيض الوجوه حسان الأعين ‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءامِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ما يتمنون من الفواكهة، آمنين من الموت ومن زوال المملكة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ءامِنِينَ‏}‏ مما يلقى أهل النار ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة ‏{‏إِلاَّ الموتة الاولى‏}‏ يعني‏:‏ سوى ما قضى عليهم من الموتة الأولى في الدنيا ‏{‏ووقاهم عَذَابَ الجحيم‏}‏ يعني‏:‏ يصرف عنهم عذاب النار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضْلاً مّن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ هذا الثواب، عطاء من ربك للمؤمنين المخلصين ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏ يعني‏:‏ النجاة الوافرة ‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه بِلَسَانِكَ‏}‏ يعني‏:‏ هَوَّنَا قراءة القرآن على لسانك، لكي تقرأه وتخبرهم بذلك ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتعظون بالقرآن ‏{‏فارتقب‏}‏ يعني‏:‏ انتظر بهلاكهم ‏{‏إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ منتظرون بهلاكك‏.‏ روى يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن عبد الله بن عيسى قال‏:‏ أخبرت أنه‏:‏ من قرأ ليلة الجمعة سورة الدخان إيماناً، واحتساباً وتصديقاً، أصبح مغفوراً له، والله أعلم‏.‏ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي، وآله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً دائماً‏.‏