فصل: سورة الحديد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


سورة الحديد

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات‏}‏ يعني‏:‏ صلى لله ما في السموات من الملائكة ‏{‏والارض‏}‏ من المؤمنين، فسمى الصلاة تسبيحاً، لأنه يجري فيها التسبيح‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ‏}‏، يعني‏:‏ ذكر الله ما في السموات‏.‏ يعني‏:‏ جميع ما في السَّموات من الشمس، والقمر والنجوم والأرض، يعني‏:‏ جميع ما في الأرض من الإنس، والأشجار، والأنهار، والجبال، وغير ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ خضع لله جميع ما في السَّموات، والأرض، وقال بعضهم‏:‏ التسبيح آثار صنعه، يعني‏:‏ في كل شيء دليل لربوبيته، ووحدانيته‏.‏ ويقال‏:‏ هو التسبيح بعينه‏.‏ يعني‏:‏ يسبح جميع الأشياء كقوله‏:‏ ‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والارض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَئ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ وقال الحسن البصري ‏(‏لولا ما يخفى عليكم من تسبيح من معكم في البيوت ما تقادرتم‏)‏‏.‏ وروى سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أفْضَلُ الكَلامِ أرْبَعَةٌ‏:‏ سُبْحَانَ الله، وَالحَمْدُ لله، وَلاَ إله إلاَّ الله، وَالله أَكْبَرُ» وَلا يَضُرُّكَ بِأيِّهِنَّ بَدَأْتَ‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ يعني‏:‏ العزيز بالنقمة لمن لا يوحّده، ‏{‏والعزيز‏}‏ في اللغة‏:‏ الذي لا يعجزه عما أراد‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏القوى العزيز‏}‏ الذي لا يوجد مثله ‏{‏الحكيم‏}‏ في أمره، وقضائه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 6‏]‏

‏{‏لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏2‏)‏ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏4‏)‏ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏5‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ له خزائن السَّموات والأرض‏.‏ يعني‏:‏ خزائن السَّموات المطر، وخزائن الأرض النبات‏.‏ ويقال‏:‏ معناه له نفاذ الأمر في السَّموات والأرض‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ إله‏}‏ يعني‏:‏ يحيي للبعث، ويميت في الدنيا ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ من الإحياء والإماتة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول‏}‏ يعني‏:‏ الأول قبل كل أحد ‏{‏والاخر‏}‏ بعد كل أحد ‏{‏والظاهر‏}‏ يعني‏:‏ الغالب على كل شيء ‏{‏والباطن‏}‏ يعني‏:‏ العالم بكل شيء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول‏}‏ يعني‏:‏ مؤول كل شيء ‏{‏والاخر‏}‏ يعني‏:‏ مؤخر كل شيء ‏{‏والظاهر‏}‏ يعني‏:‏ المظهر ‏{‏والباطن‏}‏ يعني‏:‏ المبطن‏.‏ ويقال‏:‏ هو ‏{‏الاول‏}‏ يعني‏:‏ خالق الأولين ‏{‏والاخر‏}‏ يعني‏:‏ خالق الآخرين ‏{‏والظاهر‏}‏ يعني‏:‏ خالق الآدميين، وهم ظاهرون‏.‏ ‏{‏والباطن‏}‏ يعني‏:‏ خالق الجن، والشياطين الذين لا يظهرون‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول‏}‏ يعني‏:‏ خالق الدنيا ‏{‏والاخر‏}‏ يعني‏:‏ خالق الآخرة‏.‏ ‏{‏والظاهر والباطن‏}‏ يعني‏:‏ عالم بالظاهر والباطن‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول‏}‏ بلا ابتداء ‏{‏والاخر‏}‏ بلا انتهاء‏.‏ ‏{‏والظاهر والباطن‏}‏ يعني‏:‏ منه نعمة ظاهرة‏.‏ ويقال‏:‏ هو ‏{‏الاول والاخر والظاهر والباطن‏}‏ يعني‏:‏ هو الرب الواحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ من أمر الدنيا والآخرة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَ السموات والارض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ ما يدخل في الأرض من الماء، والكنوز، والأموات، ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات، والكنوز، والأموات، ‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء‏}‏ وهو المطر، والثلج، والرزق، والملائكة، ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ ما يصعد فيها من الملائكة، وأعمال العباد، والأرواح، ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عالم بكم، وبأعمالكم، أينما كنتم في الأرض ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم بالخير خيراً، وبالشر شراً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والارض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ يعني‏:‏ يُدخل الليل في النهار، إذا جاء الليل ذهب النهار‏.‏ ‏{‏وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ يعني‏:‏ يُدخل النهار في الليل، إذا جاء النهار ذهب الليل‏.‏ ومعنى آخر‏:‏ يعني‏:‏ يدخل زيادة الليل في النهار‏.‏ يعني‏:‏ يصير الليل أطول ما يكون خمس عشرة ساعة، والنهار أقصر ما يكون تسع ساعات‏.‏ والليل والنهار أربع عشرون ساعة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ يعني‏:‏ بما في القلوب من الخير والشر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏8‏)‏ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏10‏)‏ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسوله، ‏{‏وَأَنْفِقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ تصدقوا في طاعة الله تعالى ‏{‏مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ مما جعلكم مالكين من المال‏.‏ ويقال‏:‏ معناه إن الأموال والدنيا كلها لله تعالى، فيجعل العباد مستخلفين على أمواله، وأمرهم بالنفقة، مما جعلهم خليفة فيها‏.‏

ثم بيّن ثواب الذين آمنوا فقال‏:‏ ‏{‏فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ صدقوا بوحدانية الله تعالى، وتصدقوا، ‏{‏لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ عظيم وهو الثواب الحسن في الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ إن هذه الآية نسخت بآية الزكاة‏.‏ ويقال‏:‏ إنها ليست بمنسوخة، ولكنها حث على الصدقة، والنفقة في طاعة الله تعالى‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ يعني‏:‏ ما لكم لا تصدقون بوحدانية الله تعالى ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ‏}‏ قرأ بعضهم‏:‏ ‏{‏والرسول‏}‏ بضم اللام‏.‏ يعني‏:‏ ما لكم لا تؤمنون بالله، وتم الكلام‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ‏}‏ إلى توحيد الله تعالى‏.‏ وقراءة العامة ‏{‏والرسول‏}‏ بكسر اللام‏.‏ يعني‏:‏ ما لكم لا تصدقون بالله، وبرسوله حين يدعوكم، ‏{‏لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لتصدقوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم‏}‏ يعني‏:‏ أخذ الله تعالى إقراركم، والميثاق حين أخرجكم من صلب آدم ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ مصدقين قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏{‏وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم‏}‏ بضم القاف، وكسر الخاء، على معنى فعل ما لم يسم فاعله، والباقون‏:‏ يعني‏:‏ أخذ الله ميثاقكم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ‏}‏ هو الذي ينزل جبريل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، يقرأ عليه ‏{‏بَيّنَاتٍ فاسأل‏}‏ يعني‏:‏ آيات القرآن، واضحات بيّن فيها الحلال، والحرام، والأمر، والنهي‏.‏ ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ يعني‏:‏ يدعوكم من الشرك إلى الإيمان‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏بَيّنَاتٍ فاسأل‏}‏ يعني‏:‏ واضحات‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ءايات‏}‏ يعني‏:‏ علامات النبوة ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور‏}‏ يعني‏:‏ ليوفقكم الله تعالى للهدى، ويخرجكم من الكفر‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ هداكم لدينه، وأنزل عليكم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ما لكم ألا تصدقوا، أو ألا تنفقوا أموالكم في طاعة الله‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ إلى الله يرجع ميراث السموات والأرض، أي‏:‏ شيء ينفعكم ترك الإنفاق، ميتون، تاركون أموالكم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ‏}‏ والأموال كلها لله تعالى وهو يأمركم بالنفقة‏.‏ ويقال‏:‏ أنفقوا ما دمتم في الحياة، فإنكم إن بخلتم، فإن الله هو يرثكم، ويرث أهل السموات‏.‏ يعني‏:‏ أنفقوا قبل أن تفنوا، وتصير كلها ميراثاً لله تعالى بعد فنائكم، وإنما ذكر لفظ الميراث، لأن العرب تعرف ما ترك الإنسان ميراثاً، فخاطبهم بما يعرفون فيما بينهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم‏}‏ يعني‏:‏ لا يستوي منكم في الفضل، والثواب عند الله تعالى ‏{‏مَّنْ أَنفَقَ‏}‏ مَاله في طاعة الله ‏{‏مِن قَبْلِ الفتح‏}‏ يعني‏:‏ قاتل العدو‏.‏ وفي الآية‏:‏ تقديم يعني‏:‏ من أنفق وقاتل ‏{‏مِن قَبْلِ الفتح‏}‏ يعني‏:‏ فتح مكة‏.‏ ونزلت الآية في شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار‏.‏ يعني‏:‏ الذين أنفقوا أموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاتلوا الكفار، لا يستوي حالهم وحال غيرهم‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت الآية في شأن أبي بكر رضي الله عنه كان جالساً مع نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعت بينهم منازعة في شيء، فنزل في تفضيل أبي بكر رضي الله عنه ‏{‏لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ‏}‏ ماله ‏{‏مِن قَبْلِ الفتح‏}‏ يعني‏:‏ من قبل ظهور الإسلام ‏{‏وقاتل‏}‏ يعني‏:‏ وجاهد ‏{‏أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ يعني‏:‏ أبا بكر رضي الله عنه ‏{‏مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا‏}‏ العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال‏:‏ هذا التفضيل لجميع أصحابه رضي الله عنهم أجمعين‏.‏ وروى سفيان عن زيد بن أسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَيَأْتِي قَوْمٌ بَعْدَكُمْ يَحْقِرُونَ أعْمَالَكُمْ مَعَ أعْمَالِهِمْ»‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله نحن أفضل أم هم‏؟‏ فقال‏:‏ «لَوْ أنَّ أحَدَهُمْ أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا أدْرَكَ فَضْلَ أحَدِكُمْ ولا نِصْفَهُ»‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ قال الفقيه‏:‏ حدثني الخليل بن أحمد‏.‏ ثنا الدبيلي‏.‏ ثنا عبيد الله عن سفيان، عن زيد بن أسلم ‏{‏مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا‏}‏ ‏{‏وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى‏}‏ بضم اللام‏.‏ والباقون‏:‏ بالنصب‏.‏ فمن قرأ بالضم، صار ضمّاً لمضمر فيه، فكأنه قال‏:‏ أولئك وعد الله الحسنى‏.‏ ومن نصب‏:‏ معناه وعد الله كلّاً الحسنى يعني‏:‏ الجنة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ ما أنفقتم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ يعني‏:‏ من ذا الذي يعطي من أموال الله قرضاً حسناً‏.‏ يعني‏:‏ وفقاً بالإخلاص، وطلب ثواب الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيُضَاعِفَهُ لَهُ‏}‏ في الحسنات، ويعطي من الثواب ما لا يحصى ‏{‏وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً حسناً في الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ نزلت الآية في شأن أبي الدحداح‏.‏ ويقال‏:‏ هو حث لجميع المسلمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ‏(‏13‏)‏ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏14‏)‏ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ يعني‏:‏ في يوم القيامة على الصراط ‏{‏يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ يعني‏:‏ بتصديقهم في الدنيا، وبأعمالهم الصالحة، فيعطى لهم النور، يمضون به على الصراط، فيكون النور بين أيديهم، وأيمانهم، وعن شمائلهم، إلا أن ذكر الشمائل مضمر‏.‏ وتقول لهم الملائكة‏:‏ ‏{‏بُشْرَاكُمُ اليوم‏}‏ يعني‏:‏ أبشروا هذا اليوم بكرامة الله تعالى‏.‏ ‏{‏جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ مقيمين في الجنة، ونجوا من العذاب ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ نُصِبْ من نوركم، فتضيء معكم‏.‏ وروي عن أبي أمامة الباهلي أنه قال‏:‏ «بينما العباد يوم القيامة عند الصراط، إذ غشيتهم ظلمة‏.‏ ثم يقسم الله تعالى النور بين عباده، فيعطي الله المؤمن نوراً، ويبقى الكافر والمنافق لا يعطيان نوراً، فكما لا يستضيء الأعمى بنور البصر، كذلك لا يستضيء الكافر والمنافق بنور الإيمان، فيقولان‏:‏ انظرونا نقتبس من نوركم، فيقال لهم‏:‏ ‏{‏قِيلَ ارجعوا‏}‏ حيث قسم النور فيرجعون، فلا يجدون شيئاً، فيرجعون، وقد ضرب بينهم بسور‏.‏ وعن الحسن البصري قال‏:‏ إن المنافقين يخادعون الله، وهو خادعهم، لأنه يعطي المؤمن والمنافق نوراً، فإذا بلغوا الصِّراط، اطفئ نور المنافق، فيقول‏:‏ المنافقون ‏{‏انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ‏}‏ قال‏:‏ فيشفق المؤمنون حين طفئ نور المنافقين، فيقولون‏:‏ عند ذلك ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا‏}‏‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏انظرونا‏}‏ بنصب الألف، وكسر الظاء المعجمة‏.‏ والباقون‏:‏ بالضم‏.‏ فمن قرأ‏:‏ بالنصب، فمعناه‏:‏ أمهلونا‏.‏ ومن قرأ بالضم، فمعناه‏:‏ انتظرونا‏.‏ فقال لهم المؤمنون‏:‏ ارجعوا ‏{‏وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُوراً‏}‏ يعني‏:‏ ارجعوا إلى الدنيا، فإنا جعلنا النور في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ ارجعوا إلى المحشر حيث أعطينا النور، واطلبوا نوراً، فيرجعون في طلب النور، فلم يجدوا شيئاً، ‏{‏فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ ظهر لهم‏.‏ ويقال‏:‏ بين أيديهم بسور‏.‏ يعني‏:‏ بحائط بين أهل الجنة، وأهل النار، ‏{‏لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ‏}‏ يعني‏:‏ باطن السور ‏{‏فِيهِ الرحمة‏}‏ يعني‏:‏ الجنة ‏{‏وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب‏}‏ يعني‏:‏ النار‏.‏ ويقال‏:‏ هو السور الذي عليه أصحاب الأعراف، فيظهر بين الجنة، والنار‏.‏ باب يعني‏:‏ عليه‏:‏ باب فيجاوز فيه المؤمنون، ويبقى المنافقون على الصراط في الظلمة ‏{‏ينادونهم‏}‏ من وراء السور ‏{‏أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ألم نكن معكم في الدنيا على دينكم، وكنا معكم في الجماعات، والصلوات، فيجيبهم المؤمنون‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بلى‏}‏ يعني‏:‏ قد كنتم معنا في الدنيا، أو في الظاهر‏.‏ ‏{‏ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قد أصبتم أنفسكم حيث كفرتم في السر‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ثبتم على الكفر الأول في السر ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ انتظرتم موت نبيكم‏.‏

ويقال‏:‏ ‏{‏تربصتم‏}‏ يعني‏:‏ أخرتم التوبة، وسوّفْتُمْ فيها‏.‏ ‏{‏وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم‏}‏ يعني‏:‏ شككتم في الدين، وشككتم في البعث ‏{‏وَغرَّتْكُمُ الامانى‏}‏ يعني‏:‏ أباطيل الدنيا ‏{‏حتى جَاء أَمْرُ الله‏}‏ يعني‏:‏ القيامة ‏{‏وَغَرَّكُم بالله الغرور‏}‏ يعني‏:‏ الشياطين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الغرور‏}‏ على ميزان فعول، وهو من أسماء المبالغة، وكذلك الشياطين ‏{‏الغرور‏}‏ لأنه يغري ابن آدم كثيراً‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ في هذا اليوم وهو يوم القيامة‏.‏ وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏فاليوم لاَ‏}‏ بالتاء لأن الفدية مؤنثة‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بالياء‏.‏ وجمع على المعنى، لأن معنى الفدية فداء، ومعناه‏:‏ ‏{‏فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ‏}‏ الفداء يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ الذين جحدوا بتوحيد الله تعالى، ‏{‏مَأْوَاكُمُ النار‏}‏ يعني‏:‏ مصيركم إلى النار يعني‏:‏ المنافقين، والكافرين ‏{‏هِىَ مولاكم‏}‏ يعني‏:‏ هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ يعني‏:‏ بئس المرجع النار للكافرين، والمنافقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏16‏)‏ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ألم يجئ وقت تخاف قلوبهم، فترق قلوبهم‏.‏ يقال‏:‏ إناءً يأني إناءً إذا حان وجاء وقته وأوانه‏.‏ قال الفقيه‏:‏ حدّثنا الخليل بن أحمد‏.‏ ثنا‏:‏ أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدبيلي‏.‏ قال‏:‏ حدّثنا أبو عبيد الله‏.‏ قال‏:‏ ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم قال‏:‏ ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة، فقالوا‏:‏ حدّثنا يا رسول الله، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها‏}‏ ثم ملوا ملَّة أخرى فقالوا‏:‏ حدّثنا يا رسول الله‏.‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله‏}‏ ويقال‏:‏ إن المسلمين قالوا لسلمان الفارسي‏:‏ حدّثنا عن التوراة، فإن فيها عجائب‏.‏ فنزل ‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص‏}‏ فكفوا عن السؤال، ثم سألوه عن ذلك، فنزلت هذه الآية ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ترق قلوبهم لذكر الله ‏{‏وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق‏}‏ يعني‏:‏ القرآن بذكر الحلال والحرام‏.‏ قرأ نافع، وعاصم، في رواية حفص ‏{‏وَمَا نَزَلَ‏}‏ بالتخفيف‏.‏ والباقون‏:‏ بالتشديد على معنى التكثير، والمبالغة‏.‏

ثم وعظهم فقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ ولا تكونوا في القسوة كاليهود، والنصارى، من قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَطَالَ عَلَيْهِمُ الامد‏}‏ يعني‏:‏ الأجل‏.‏ ويقال‏:‏ خروج النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ جفّت، ويبست قلوبهم عن الإيمان، فلم يؤمنوا بالقرآن إلا قليل منهم ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ يعني‏:‏ عاصون‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين الذين آمنوا بلسانهم دون قلوبهم‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ استعيذوا بالله من خشوع النفاق‏.‏ قيل‏:‏ وما خشوع النفاق‏؟‏ قال‏:‏ أن ترى الجسد خاشعاً، والقلب ليس بخاشع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض‏}‏ يعني‏:‏ يصلح الأرض، فاعتبروا بذلك ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ يعني‏:‏ بعد يبسها، وقحطها، فكذلك يحيي القلوب بالقرآن، ويصلح بعد قساوتها حتى تلين، كما أحيا الأرض كذلك بعد موتها بالمطر‏.‏

‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات‏}‏ يعني‏:‏ العلامات في القرآن ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لكي تعقلوا أمر البعث كذلك إنكم أيضاً تبعثون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ قرأ ابن كثير، وعاصم، في رواية أبي بكر ‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ كليهما بالتخفيف، والباقون‏:‏ بالتشديد‏.‏ فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه‏:‏ إن المؤمنين من الرجال، والمؤمنات من النساء، فمن صدق الله ورسوله ورضي بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن قرأ‏:‏ بالتشديد‏.‏ يعني‏:‏ المتصدقين من الرجال، والمتصدقات من النساء، فأدغمت التاء في الصاد، وشددت‏.‏

‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ يعني‏:‏ يتصدقون، محتسبين بطبيعة أنفسهم، صادقين من قلوبهم ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ‏}‏ الحسنات، والثواب بكل واحد عشرة إلى سبعمائة، إلى ما لا يحصى، ‏{‏وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً حسناً في الجنة‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ يعني‏:‏ صدّقوا بتوحيد الله، وصدقوا بجميع الرسل، ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون‏}‏ والصدِّيق‏:‏ اسم المبالغة في الفعل‏.‏ يقال‏:‏ رجل صدِّيق، كثير الصدق‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ فمن آمن بالله ورسله فهو من الصدِّيقين‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ هذا استئناف فقال‏:‏ ‏{‏الشهداء‏}‏ يعني‏:‏ من استشهد عند ربهم‏.‏ يعني‏:‏ يطلب شهادة على الأمم ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ثوابهم ‏{‏وَنُورُهُمْ‏}‏ ويقال‏:‏ هذا بناء على الأول‏.‏ يعني‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة‏.‏ ويقال‏:‏ معناه ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون‏}‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الشهداء‏}‏ عند ربهم، ويكون لهم أجرهم، ونورهم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كل مؤمن صديق، شهيد‏.‏

ثم وصف حال الكفار فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ بوحدانية الله تعالى ‏{‏وَكَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ يعني‏:‏ جحدوا بالقرآن ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ يعني‏:‏ باطلاً، ولهواً‏.‏ يعني‏:‏ فرحاً يلهون فيها ‏{‏وَزِينَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ زينة الدنيا ‏{‏وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ‏}‏ عن الحسب ‏{‏وَتَكَاثُرٌ فِى الاموال والاولاد‏}‏ تفتخرون بذلك‏.‏ وروى إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَامَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا»‏.‏

ثم ضرب للدنيا مثلاً آخر فقال‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ‏}‏ يعني‏:‏ كمثل مطر نزل من السماء فينبت به الزرع، والنبات، ‏{‏أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ‏}‏ يعني‏:‏ فرح الزارع بنباته، ويقال‏:‏ ‏{‏أَعْجَبَ الكفار‏}‏ يعني‏:‏ الكفار بالله، لأنهم أشد إعْجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏الكفار‏}‏ كناية عن الزراع، لأن الكَفْر في اللغة هو التغطية، ولهذا سمي الكافر كافراً لأنه يغطي الحق بالباطل‏.‏ فسمي الزراع كفاراً لأنهم يغطون الحب تحت الأرض، وليس ذلك الكفر الذي هو ضد الإيمان، والطريقة الأولى أحسن إن أراد به الكفار، لأن ميلهم إلى الدنيا أشد ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ يعني‏:‏ ييبس فيتغير ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ بعد خضرته ‏{‏ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً‏}‏ يعني‏:‏ يابساً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏حطاما‏}‏ يعني‏:‏ هالكاً، فشبّه الدنيا بذلك، لأنه لا يبقى ما فيها، كما لا يبقى هذا النبت ‏{‏فِى الاخرة عَذَابُ شَدِيدٍ‏}‏ لمن افتخر بالدنيا، واختارها ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان‏}‏ لمن ترك الدنيا، واختار الآخرة على الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ عذاب شديد لأعدائه، ومغفرة من الله لأوليائه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ يعني‏:‏ كمتاع الغرور، يعني‏:‏ كالمتاع الذي يتخذ من الزجاج، والخزف، يسرع إلى الفناء ولا يبقى‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ سارعوا بالأعمال الصالحة‏.‏ ويقال‏:‏ بادروا بالتوبة‏.‏ وقال مكحول‏:‏ سابقوا إلى تكبيرة الافتتاح ‏{‏وَجَنَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى جنة ‏{‏عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والارض‏}‏ يعني‏:‏ لو ألصقت بعضها على بعض‏.‏ يعني‏:‏ سبع سموات، وسبع أرضين، ومدت مد الأديم، لكان عرض الجنة أوسع من ذلك؛ وإنما بين عرضها، ولم يبين طولها‏.‏ ويقال‏:‏ لو جعلت السموات والأرض لكانت الجنة بعد ذلك‏.‏ هذا مثل يعني‏:‏ إنها أوسع شيء رأيتموه ‏{‏سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ خلقت، وهيئت للذين صدقوا بوحدانية الله تعالى، وصدقوا برسله، ‏{‏ذلك فَضْلُ الله‏}‏ يعني‏:‏ ذلك الثواب فضل الله على العباد ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ يعني‏:‏ يعطيه من يشاء من عباده، وهم المؤمنون، ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ يعني‏:‏ ذو العطاء العظيم، وذو المَنّ الجسيم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من قحط المطر، وغلاء السعر، وقلة النبات، ونقص الثمار، ‏{‏وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ من البلايا، والأمراض، والأوجاع‏.‏

‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ يعني‏:‏ إلا في اللوح المحفوظ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن نخلق تلك النسمة‏.‏ وذكر الربيع بن أبي صالح الأسلمي قال‏:‏ دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحَجَّاج أراد قتله، فبكى رجل من قومه فقال سعيد‏:‏ ما يبكيك‏؟‏ قال‏:‏ لما أصابك من مصيبة‏.‏ قال‏:‏ فلا تبك، قد كان في علم الله تعالى أن يكون هذا‏.‏ ألم تسمع قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن نخلقها‏.‏ ويقال‏:‏ قبل أن نخلق تلك النفس ‏{‏إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ هيناً، ‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لكيلا تحزنوا ‏{‏على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من الرزق والعافية، إذا علمتم أنها مكتوبة عليكم قبل خلقكم، ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ يعني‏:‏ بما أعطاكم في الدنيا، ولا تفتخروا بذلك ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ يعني‏:‏ متكبراً، فخوراً، بنعم الله تعالى، ولا يشكروه‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏بِمَا ءاتاكم‏}‏ بغير مدّ‏.‏ والباقون‏:‏ بالمد‏.‏ فمن قرأ‏:‏ بغير مد، فمعناه‏:‏ لكيلا تفرحوا بما جاءكم من حطام الدنيا، فإنه إلى نفاد‏.‏ ومن قرأ‏:‏ بالمد بما أعطاكم‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ ليس أحد إلا وهو يحزن، ويفرح‏.‏ ولكن المؤمن من جعل الفرح والمصيبة صَبْراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يَبْخَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يحب الذين يبخلون‏.‏ يعني‏:‏ يمسكون أموالهم، ولا يخرجون منها حق الله تعالى ‏{‏وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ ويقال‏:‏ الذين يبخلون‏.‏ يعني‏:‏ يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرون الناس بالبخل‏.‏ يعني‏:‏ يكتمون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته‏.‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ‏}‏ يعني‏:‏ يعرض عن النفقة‏.‏ ويقال‏:‏ يعرض عن الإيمان ‏{‏فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ يعني‏:‏ غنيٌّ عن نفقتهم، وعن إيمانهم، ‏{‏الحميد‏}‏ في فعاله‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، ‏{‏وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ بنصب الخاء، والباء‏.‏ وقرأ الباقون‏:‏ بضم الباء، وإسكان الخاء، ومعناهما واحد‏.‏ قرأ نافع، وابن عامر‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله * الغنى الحميد‏}‏ الذي لا غني مثله‏.‏ والباقون‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ بإثبات هو‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات‏}‏ يعني‏:‏ بالأمر، والنهي، والحلال، والحرام، ‏{‏وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا عليهم الكتاب ليعلموا أمتهم ‏{‏والميزان‏}‏ يعني‏:‏ العدل‏.‏ ويقال‏:‏ هو الميزان بعينه، أنزل على عهد نوح عليه السلام ‏{‏لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏ يعني‏:‏ لكي يقوم الناس ‏{‏بالقسط‏}‏ يعني‏:‏ بالعدل ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ يعني‏:‏ وجعلنا الحديد ‏{‏فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ فيه قوة شديدة في الحرب‏.‏ وعن عكرمة أنه قال‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ يعني‏:‏ أنزل الله تعالى الحديد لآدم عليه السلام، العلاة، والمطرقة، والكلبتين فيه بأس شديد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ يعني‏:‏ في الحديد ‏{‏منافع * لِلنَّاسِ‏}‏ مثل السكين، والفأس، والإبرة‏.‏ يعني‏:‏ من معايشهم‏.‏ ‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ‏}‏ يعني‏:‏ ولكن يعلم الله من ينصره على عدوه ‏{‏وَرُسُلَهُ بالغيب‏}‏ بقتل أعدائه كقوله‏:‏ ‏{‏إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ‏}‏ ويقال‏:‏ لكي يرى الله من استعمل هذا السلام في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بالغيب‏.‏ يعني‏:‏ يصدق بالقلب ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ‏}‏ في أمره ‏{‏عَزِيزٌ‏}‏ في ملكه‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم‏}‏ يعني‏:‏ بعثناهما إلى قومهما، ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا‏}‏ يعني‏:‏ في نسليهما ‏{‏النبوة والكتاب‏}‏ وكان فيهم الأنبياء مثل موسى، وهارون، وداود، ويونس، وسليمان، وصالح، ونوح، وإبراهيم عليهم السلام ‏{‏فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ يعني‏:‏ كثير من ذريتهم تاركون للكتاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم‏}‏ يعني‏:‏ وصلنا، وأَتْبَعْنَا على آثارهم ‏{‏بِرُسُلِنَا‏}‏ واحداً بعد واحد ‏{‏وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ يعني‏:‏ وأرسلنا على آثارهم بعيسى ابن مريم ‏{‏وَقَفَّيْنَا على‏}‏ يعني‏:‏ أعطيناه الإنجيل ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه‏}‏ يعني‏:‏ الذين آمنوا به، وصدقوه، واتبعوا دينه، ‏{‏رَأْفَةً وَرَحْمَةً‏}‏ يعني‏:‏ المودة‏.‏ والمتوادين الذين يود بعضهم بعضاً‏.‏

ويقال‏:‏ الرأفة على أهل دينهم، يرحم بعضهم بعضاً، وهم الذين كانوا على دين عيسى، لم يتهوَّدوا، ولم يتنصروا‏.‏

ثم استأنف الكلام فقال‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها‏}‏ يعني‏:‏ ابتدعوا رهبانية ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ لم تكتب عليهم الرهبانية ‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ وذلك أنه لما كثر المشركون، خرج المسلمون منهم، فهربوا، واعتزلوا في الغيران، واتبعوا الصوامع، فطال عليهم الأمد، ورجع بعضهم عن دين عيسى ابن مريم، وابتدعوا النصرانية‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ابتدعوها‏}‏ يعني‏:‏ الرهبانية، والخروج إلى الصوامع، والتبتل للعبادة ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما أوجبنا عليهم، ولم نأمرهم إلا ابتغاء رضوان الله‏.‏ يعني‏:‏ أمرناهم بما يرضي الله تعالى لا غير ذلك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏ابتدعوها‏}‏ لطلب رضى الله تعالى ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ يعني‏:‏ لم يحافظوا على ما أوجبوا على أنفسهم‏.‏ ويقال‏:‏ فما أطاعوا الله حين تهودوا، وتنصَّروا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا‏}‏ في الآخرة ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ يعني‏:‏ عاصين‏.‏ وهم الذين تهودوا‏.‏ وفي هذه الآية دليل وتنبيه للمؤمنين أن من أوجب على نفسه شيئاً، لم يكن واجباً عليه أن يتبعه، ولا يتركه، فيستحق اسم الفسق‏.‏ وروي عن بعض الصحابة أنه قال‏:‏ عليكم بإتمام هذه التراويح، لأنها لم تكن واجبة عليكم‏.‏ فقد أوجبتموها على أنفسكم فإنكم إن تركتموها صرتم فاسقين ثم قرأ هذه الآية ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ يعني‏:‏ أطيعوه فيما يأمركم به، وفيما ينهاكم عنه، ‏{‏ياأيها الذين‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، يعني‏:‏ اثبتوا على الإسلام بعد نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ويقال يا أيها الذين آمنوا بعيسى ابن مريم‏:‏ آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ يعني‏:‏ أجرين من فضله، ويقال‏:‏ لما نزلت في أهل مكة ‏{‏أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54‏]‏، حزن المسلمون، فنزل فيهم ‏{‏يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ وأصل الكِفْل النصيب، يعني‏:‏ نصيبين من رحمته، أحدهما‏:‏ بإيمانه بنبيه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يجعل لكم سبيلاً واضحاً تهتدون به، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يغفر لكم ذنوبكم، ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ يغفر الذنوب للمؤمنين ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم، ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَئ مّن فَضْلِ الله‏}‏ ولا مؤكدة في الكلام، ومعناه لأن يعلموا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله ورحمته، يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب، يعلمون أنهم لا يقدرون من فضل الله إلا برحمته لا برحمته، ‏{‏وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ يعني‏:‏ الثواب من الله تعالى ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ من كان أهلاً لذلك من العبادة ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ يعني‏:‏ هو المعطي وهو المانع والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة المجادلة

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ‏}‏ يعني‏:‏ تخاصمك، ‏{‏فِى زَوْجِهَا‏}‏ يعني‏:‏ من قبل زوجها‏.‏ وروى أبو العالية الرياحي‏:‏ أن الآية نزلت في شأن أوس بن الصامت وفي امرأته خويلة بنت دعلج، وعن عكرمة أنه قال‏:‏ نزلت في امرأة اسمها خويلة بنت ثعلبة وفي زوجها أوس بن الصامت، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَا أرَاكِ إلاَّ وَقَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ»‏.‏ قالت‏:‏ انظر يا نبي الله، جعلني الله فداك يا نبي الله في شأني، وجعلت تجادله، وعائشة رضي الله عنها تغسل رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ اقصري حديثك ومجادلتك يا خويلة، أما ترين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تربّد ليوحى إليه، فأنزل الله تعالى ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ‏}‏‏.‏

وروى سفيان، عن خالد، عن أبي قلابة، قال‏:‏ كان طلاقهم في الجاهلية الظهار والإيلاء، فلما جاء الإسلام جعل الله تعالى في الظهار ما جعل، وجعل في الإيلاء ما جعل‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ يعني‏:‏ تتضرع المرأة إلى الله مخافة الفرقة ‏{‏والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما‏}‏ يعني‏:‏ محاورتكما ومراجعتكما ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ يعني‏:‏ سميعاً لمقالة خويلة بصير بأمرها، وقال مقاتل فهي خويلة بنت ثعلبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ‏}‏ قرأ عاصم ‏{‏يظاهرون‏}‏ بضم الياء وكسر الهاء، والتخفيف من ظاهر يظاهر، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، ‏{‏يَظْهَرُونَ‏}‏ بنصب الياء، مع التشديد، وهو في الأصل يتظهرون، فأدغمت التاء في الظاء، والمعنى في هذا كله واحد، يقال‏:‏ ظاهر من امرأته، وتظهَّر منها، وأظهر منها،، إذا قال لها‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّا هُنَّ أمهاتهم‏}‏ وروى الفضل عن عاصم، أمهاتُهم بضم التاء، لأنه خبر ما، كقولك ما زيد عالم، وقرأ الباقون بالكسر، لأن التاء في موضع النصب، فصار خفضاً لأنها تاء الجماعة، وهي لغة أهل الحجاز، فينصبون خبر «ما»، كقوله ما هذا بشراً، ما هن كأمهاتهم في الحرمة ‏{‏أمهاتهم إِنْ‏}‏ يعني‏:‏ ما أمهاتهم ‏{‏إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ الأم التي ولدته، والأم التي أرضعته، لأنه قال في موضع آخر ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مِّنَ الرضاعة وأمهات نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحلائل أَبْنَآئِكُمُ الذين مِنْ أصلابكم وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً‏}‏ يعني‏:‏ قولاً منكراً وكذباً ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ يعني‏:‏ ذو تجاوز ‏{‏غَفُورٌ‏}‏، حيث جعل الكفارة لرفع الحرمة، ولم يجعل فرقة بينهما‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يعودون لنقض ما قالوا، ولرفع ما قالوا في الجاهلية ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ فعليه تحرير رقبة، ويقال ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ فيه تقديم وتأخير، يعني‏:‏ ثم يعودون فتحرير رقبة لما قالوا ويقال‏:‏ معناه ثم يعودون لما قالوا في الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يتكلمون بهذا القول فيرجعون إلى ذلك القول بعد الإسلام، وقال بعضهم‏:‏ لا تجب الكفارة حتى يقول مرتين، لأنه قال‏:‏ ثم يعودون لما قالوا، يعني‏:‏ يعودون مرة أخرى ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ هذا القول خلاف جميع أهل العلم، وإنما تجب الكفارة إذا قال مرة واحدة‏.‏ والكفارة ما قال الله تعالى ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 92‏]‏ يعني‏:‏ عتق رقبة ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن يجامعها‏.‏

ويقال من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه ‏{‏ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ هذا الحكم الذي تؤمرون به ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ من الوفاء وغيره‏.‏ وقوله تعالى ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ يعني‏:‏ من لم يجد الرقبة ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ فعليه صيام شهرين متتابعين، لا يفصل بينهما ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ يعني‏:‏ من قبل أن يمس كل واحد منهما صاحبه‏.‏ وفي الآية دليل أن المرأة لا يسعها أن تدع الزوج يقربها قبل الكفارة، لأنه نهاهما جميعاً عن المسيس قبل الكفارة، واتفقوا على أنه إذا أفطر في شهرين يوماً بغير عذر عليه أن يستقبل، واختلفوا فيمن أفطر لمرض، أو عذر، أو غيره‏.‏

قال عطاء إذا أفطر من مرض، فالله أعذره بالعذر يبدله، ولا يستأنف، وقال طاوس‏:‏ يقضي ولا يستأنف، وهكذا قال سعيد بن المسيب‏:‏ فهؤلاء كلهم قالوا‏:‏ لا يستقبل، وقال إبراهيم النخعي والزهري والشعبي‏:‏ يستقبل، وهكذا قال عطاء الخراساني، والحكم بن كيسان، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ‏}‏ الصيام ‏{‏فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً‏}‏ يعني‏:‏ فعليه في قول أهل المدينة لكل مسكين صاع من الحنطة‏.‏ أو التمر‏.‏

وفي قول أهل العراق منوان من حنطة، أو صاع من تمر، بدليل ما روى سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر البياض، قال‏:‏ كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من أهلي، فتظاهرت من أهلي حتى ينسلخ الشهر، فبينما هي تخدمني ذات ليلة، إذ انكشف لي منها شيء، فواقعتها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت‏:‏ اذهبوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ ما نذهب وما نأمن أن ينزل فيك قرآن، فأتيته فأخبرته، فقال‏:‏ «حَرِّرْ رَقَبَةً» فقلت ما أملك إلا رقبتي، قال‏:‏ «فَصُمْ شَهْرَيْنِ» قلت‏:‏ وهل أصابني إلا من قبل الصيام، قال‏:‏ «فأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ سِتِّينَ مِسْكِيناً» قلت‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً لقريش ما لنا طعام‏.‏ ثم قال‏:‏ «انْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ، فَلْيَدْفَعْهَا إلَيْكَ» فرجعت إلى قومي فقلت‏:‏ وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم، فقد بين في هذا الخبر أنه يجب وسقاً من تمر، والوسق ستون صاعاً، بالاتفاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله‏}‏ يعني‏:‏ لتصدقوا بوحدانية الله تعالى ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ يعني‏:‏ وتصدقوا برسوله ‏{‏وَتِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ يعني‏:‏ هذه فرائض الله، وأحكامه ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ يعني‏:‏ الذين لا يؤمنون بالله وبرسوله، وروي عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ تبارك الذي وسع سمعه الأصوات كلها، إن المرأة لتناجي النبي صلى الله عليه وسلم يسمع بعض كلامها، ويخفى عليه بعضه، إذ أنزل الله تعالى ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ وهكذا قال الأعمش‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏6‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏7‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏9‏)‏ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يعادون، ويشاقون الله ورسوله، ويقال يشاقون أولياء الله ورسوله، يعني‏:‏ الذين يشاقون أولياء الله، لأن أحداً لا يعادي الله، ولكن من عادى أولياء الله فقد عادى الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أخذوا كما أخذ الذين من قبلهم من الأمر ويقال‏:‏ عذبوا كما عذب الذين من قبلهم، وقال أبو عبيد‏:‏ أهلكوا ويقال‏:‏ غيظوا كما غيظ الذين من قبلهم والكبت هو الغيظ، ويقال‏:‏ أحزنوا، وقال الزجاج‏:‏ أذلوا وغلبوا ‏{‏وَقَدْ أَنزَلْنَا ءايات بينات‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فيه بيان أمره ونهيه ويقال‏:‏ آيات واضحات ‏{‏وللكافرين عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يهانون فيه، ثم قال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً‏}‏ الأولين والآخرين يبعثهم الله من قبورهم ‏{‏فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ من خير أو شر ليعلموا وجوب الحجة عليهم ‏{‏أحصاه الله وَنَسُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ حفظ الله عليهم أعمالهم وهم نسوا أعمالهم ويقال‏:‏ ‏{‏وَنَسُوهُ‏}‏ يعني‏:‏ وتركوا العمل في الدنيا ‏{‏والله على كُلّ شَئ شَهِيدٌ‏}‏ يعني‏:‏ شاهداً بأعمالهم ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ‏}‏ يعني‏:‏ ألم تعلم، اللفظ لفظ الاستفهام والمراد به التقرير يعني‏:‏ أنك تعلم، ويقال‏:‏ معناه إني أعلمتك أن الله يعلم‏.‏ ‏{‏مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ سر أهل السَّموات وسر أهل الأرض ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا يتناجى ثلاثة فيما بينهم، ولا يتكلمون فيما بينهم بكلام الشر إلا هو رابعهم، لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كان هو سادسهم، لأنه يعلم ما يقولون فيما بينهم‏.‏ ‏{‏وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عالم بهم وبأحوالهم ‏{‏أَيْنَمَا *** كَانُواْ‏}‏ في الأرض‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يخبرهم بما عملوا يوم القيامة من خير أو شر‏.‏ وذلك أن نفراً كانوا يتناجون عند الكعبة قال بعضهم لبعض‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم حتى لا يسمع رب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويقال إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين، فامتنعوا من ذلك ثم عادوا إلى النجوى‏.‏

‏{‏يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلّ شَئ عَلِيمٌ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى‏}‏ يعني‏:‏ عن قول السر فيما بينهم، ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ويتناجون بالإثم‏}‏ يعني‏:‏ بالكذب ‏{‏والعدوان‏}‏ يعني‏:‏ بالجَوْرِ والظلم، ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ يعني‏:‏ خلاف أمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ قرأ حمزة ‏{‏***وينتجون‏}‏، والباقون ‏{‏عَنْهُ ويتناجون‏}‏ وهما لغتان، يقال‏:‏ تناجى القوم وانتجوا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا *** جَاءوكَ حَيَّوْكَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا جاءك اليهود حيوك ‏{‏بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله‏}‏، وذلك أنهم كانوا يقولون إذا دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ السام عليكم‏.‏

فيقول‏:‏ وعليكم‏.‏ فقالت عائشة رضي الله عنها وعليكم السام، لَعَنَكُم الله وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَهْلاً يا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بالرِّفْقِ‏.‏ وَإيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ»‏.‏ قالت‏:‏ أو لم تسمع ما قالوا‏؟‏ قال‏:‏ «أَوَ لَمْ تَسْمَعِي ما رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ‏؟‏ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ»‏.‏ فقالت اليهود فيما بينهم‏:‏ لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول، لاستجيب دعاؤه علينا حيث قال‏:‏ عليكم، فنزل ‏{‏وَإِذَا *** جَاءوكَ حَيَّوْكَ‏}‏ يعني‏:‏ سلموا عليك بما لم يُحَيِّكَ به الله يعني‏:‏ بما لم يأمرك به الله أن تحيي به، ويقال‏:‏ بما لم يسلم عليك به الله‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ فيما بينهم‏.‏ ‏{‏لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله‏}‏ يعني‏:‏ هلا يعذبنا الله ‏{‏بِمَا نَقُولُ‏}‏ لنبيه، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏ يعني‏:‏ مصيرهم إلى جهنم، ‏{‏يَصْلَوْنَهَا‏}‏ يعني‏:‏ يدخلونها، ‏{‏فَبِئْسَ المصير‏}‏ ما صاروا إليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المصير ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ باللسان دون القلب ‏{‏إِذَا تَنَاجَيْتُمْ‏}‏ فيما بينكم، ‏{‏فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان‏}‏؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية، كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ليحزنوا المؤمنين‏.‏ وهذا الخطاب للمخلصين في قول بعضهم، لأن الله تعالى أمرهم أن لا يتناجوا بالإثم والعدوان، كفعل المنافقين يعني‏:‏ بالعداوة والظلم ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ يعني‏:‏ خلاف أمر الرسول أي‏:‏ لا تخالفوا أمره ‏{‏وتناجوا بالبر والتقوى‏}‏ يعني‏:‏ بالذي أمركم الله تعالى به، بالطاعة والتقى يعني‏:‏ ترك المعصية‏.‏

ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ يعني‏:‏ اخشوا الله، فلا تتناجوا بمثل ما تتناجى اليهود والمنافقون‏.‏ ‏{‏الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ نجوى المنافقين من تزيين الشيطان‏.‏ قال قتادة‏:‏ إذا رأى المسلمون المنافقين جاؤوا متناجين، فشق عليهم، فنزل ‏{‏إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ نجوى المنافقين في المعصية من الشيطان‏.‏ ‏{‏لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏؛ قرأ نافع ‏{‏لِيَحْزُنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بضم الياء، والباقون بالنصب، ومعناهما واحد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ ليس نجوى المنافقين يضر شيئاً للمؤمنين، أي‏:‏ لا يضرهم ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏، إلا أن يشاء‏.‏ الله ثم أمر المؤمنين بأن يتوكلوا على الله، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 13‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏12‏)‏ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏المؤمنون ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏‏.‏ قرأ عاصم ‏{‏فِى المجالس‏}‏ بلفظ الجمع، والباقون ‏{‏فِى المجالس‏}‏ يعني‏:‏ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ نزلت في ثابت بن قيس، وكان في أذنيه شيء من الثقل، فحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذوا مجالسهم، فبقي قائماً فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «رَحِمَ الله مَنْ وَسَّعَ لأَخِيهِ» فنزلت الآية‏.‏ وروى معمر، عن قتادة أنه قال‏:‏ كان الناس يتنافسون في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم‏:‏ إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس، ‏{‏فافسحوا‏}‏ يعني‏:‏ وسعوا المجلس‏.‏ ‏{‏يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ‏}‏ يعني‏:‏ إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا‏.‏

وروى معمر، عن الحسن قال‏:‏ هذا في الغزاة؛ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏تَفَسَّحُواْ فِى المجالس‏}‏ يعني‏:‏ مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشزوا‏}‏ إلى كل خير وقتال عدو وأمر بالمعروف‏.‏ وروي عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، ولكن تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا»‏.‏ قرأ نافع وابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين ‏{‏انشزوا‏}‏ بالضم للشين، والباقون بالكسر وهما لغتان‏.‏ يقال‏:‏ نشز ينشز يعني‏:‏ إذ قيل لكم انهضوا يعني‏:‏ قوموا لا تتثاقلوا، ويقال‏:‏ ‏{‏انشزوا‏}‏ يعني‏:‏ قوموا للصلاة وقضاء حق أو شهادة فانشزوا يعني‏:‏ انهضوا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم درجات‏}‏ يعني‏:‏ من كان له إيمان وعلم، وكان له فضائل على الذين يقومون وليس بعالم‏.‏ قال الضحاك‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ‏}‏ وقد تم الكلام‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والذين أُوتُواْ العلم درجات‏}‏ يعني‏:‏ لأهل العلم درجات، أي‏:‏ الذين أوتوا العلم في الدنيا ولهم درجات في العقبى‏.‏ قال‏:‏ وللعلماء مثل درجة الشهداء، وقال مقاتل‏:‏ إذا انتهى المؤمن إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم‏:‏ ادخل الجنة بعملك، ويقال للعالم‏:‏ أقم على باب الجنة واشفع للناس‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ ‏{‏يَرْفَعِ الله الذين ءامَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم‏}‏ على الذين آمنوا منكم ولم يؤتوا العلم درجات‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ من التفسح في المجلس وغيره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَبِيرٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول‏}‏ يعني‏:‏ إذا كلمتم الرسول سراً، ‏{‏فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً‏}‏ يعني‏:‏ تصدقوا قبل كلامكم بصدقة‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ التصدق خير لكم من إمساكه، ‏{‏وَأَطْهَرُ‏}‏ لقلوبكم وأزكى من المعصية‏.‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ‏}‏ ما تتصدقون، ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لِمَنْ لم يجد الصدقة‏.‏

وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يمكنوا الفقراء من سماع كلامه، وكان يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم، فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند المناجاة، فانتهوا عن ذلك، فقدرت الفقراء على سماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نُهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا، فلم يناجه إِلاَّ عَليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه قدم ديناراً تصدق به وكلم النبي صلى الله عليه وسلم في عشر كلمات، ثم أنزلت الرخصة بالآية التي بعدها وهو قوله‏:‏ ‏{‏ءَأَشْفَقْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أبخلتم يا أهل الميسرة ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات‏}‏‏؟‏ فلو فعلتم كان خيراً لكم، ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ وتكرهوا ذلك، فإن الله تعالى غني عن صدقاتكم‏.‏ ‏{‏وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ تجاوز عنكم‏.‏ ‏{‏أَءشْفَقْتُمْ أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ‏}‏، فَنَسَخَت الزكاةُ الصدقة التي عند المناجاة‏.‏ ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيما يأمركم به وينهاكم عنه‏.‏ ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الخير والشر والتصدق والنجوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏14‏)‏ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏15‏)‏ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏16‏)‏ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ‏(‏18‏)‏ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين اتخذوا اليهود أولياء وتولَّوهم وناصحوهم، وهم اليهود، وغضب الله عليهم ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليسوا منكم في الحقيقة ولا من اليهود في العلانية، وهذا كقوله‏:‏ لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏.‏ وكانوا إذا سألهم المسلمون‏:‏ إنكم تتولون اليهود، كانوا يحلفون بالله إنهم من المؤمنين، كما قال الله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏يَحْلِفُونَ بالله أَنَّهُمْ مِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ‏}‏ فأخبر الله تعالى إنهم لكاذبون في أيمانهم، فقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحلفون أنهم مصدقون في السر وهم يعلمون أنهم مكذبون‏.‏

‏{‏أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ بئس ما كانوا يعملون بولايتهم اليهود وكذبهم وحلفهم، ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏اتخذوا أيمانهم جُنَّةً‏}‏ يعني‏:‏ جعلوا حلفهم بدلاً عن القتل، ليأمنوا بها عن القتل والسبي؛ ‏{‏فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ يعني‏:‏ صَدُّوا وصرفوا الناس عن دين الله تعالى في السر‏.‏ ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ يهانون فيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا‏}‏ يعني‏:‏ لم تنفعهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئاً‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ يعني‏:‏ دائمين‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين واليهود، ‏{‏فَيَحْلِفُونَ لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يحلفون لله تعالى في الآخرة، ‏{‏كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ‏}‏ في الدنيا؛ وحَلفهم في الآخرة ما قال الله تعالى في سورة الأنعام ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، وروى معمر، عن قتادة قال‏:‏ المنافق يحلف لله تعالى يوم القيامة، كما كان حلف لأوليائه في الدنيا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ‏}‏ يعني‏:‏ يحسبون أن يمينهم تنفعهم شيئاً، ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ في قولهم، ويقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَئ‏}‏ من الدين، ويقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْسَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يحسب المؤمنون أنهم على شيء، يعني‏:‏ إن المنافقين على شيء من الدين، يعني‏:‏ إذا سمعوا حلفهم‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ من الدين يعني‏:‏ إذا سمعوا حلفهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ في حلفهم وهم كافرون في السر‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏استحوذ‏}‏ يعني‏:‏ غلب ‏{‏عَلَيْهِمُ الشيطان‏}‏، ويقال‏:‏ استولى عليهم الشيطان‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشيطان‏}‏ يعني‏:‏ جند الشيطان ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون‏}‏ يعني‏:‏ خسروا أنفسهم وأموالهم في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 22‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ‏(‏20‏)‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏21‏)‏ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يعادون الله ويخالفون الله ورسوله ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى الاذلين‏}‏ يعني‏:‏ في الأسفلين في الدرك الأسفل من النار، وهم المنافقون ويقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ فِى الاذلين‏}‏ يعني‏:‏ في الهالكين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ يعني‏:‏ قضى الله ‏{‏لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ يعني‏:‏ لأغلبن في الدنيا بالحجة والدلائل في الآخرة، ويقال‏:‏ ‏{‏لاَغْلِبَنَّ‏}‏ يعني‏:‏ لأقهرن أنا ورسلي، فتكون العاقبة للمؤمنين‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏، ويقال‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ يعني‏:‏ قضى الله ذلك قضاء ثابتاً ‏{‏لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏، وغلبة الرسل تكون على نوعين‏:‏ من بعث منهم في الحرب، فغلب في الحرب ومن بعث منهم بغير حرب فهو غالب بالحجة ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏ أي‏:‏ مانع حزبه من أن يذل والعزيز الذي لا يغلب ولا يقهر‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ يعني‏:‏ البعث بعد الموت‏.‏ ‏{‏يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يتخذون خلة وصداقة مع الكافرين‏.‏ نزلت في «حاطب بن أبي بلتعة» وفيه نزل ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة‏}‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ لا تتخذوا مع الكافرين صداقة، وإن كانوا من أقربائه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ يعني‏:‏ الذين لا يتخذون مع الكافرين صداقة‏.‏ هم الذين جعل في قلوبهم الإيمان يعني‏:‏ التصديق ‏{‏وَأَيَّدَهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ أعانهم ‏{‏بِرُوحٍ مّنْهُ‏}‏ أي‏:‏ قَوَّاهم بنور الإيمان وبإِحياء الإيمان، وذلك يوصلهم إلى الجنة، ‏{‏وَيُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏، يعني‏:‏ في الآخرة ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏، يعني‏:‏ في الجنة‏.‏ ‏{‏رَّضِىَ الله عَنْهُمْ‏}‏ بإيمانهم وطاعتهم، ‏{‏وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ بالثواب والجنة‏.‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله‏}‏ يعني‏:‏ جند الله‏.‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون‏}‏، يعني‏:‏ جند الله هم الناجون، الذين فازوا بالجنة وبنعمة الله تعالى وفضله؛ والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة الحشر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏1‏)‏ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات‏}‏، يعني‏:‏ صلى لله، ويقال‏:‏ خضع لله، ويقال‏:‏ هو التسبيح بعينه ‏{‏مَا فِي السموات‏}‏ من الملائكة‏.‏ ‏{‏وَمَا فِى الارض‏}‏ يعني‏:‏ من الخلق‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ في ملكه، ‏{‏الحكيم‏}‏ في أمره‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ‏}‏، يعني‏:‏ يهود بني النضير‏.‏ ‏{‏مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم‏}‏‏.‏ وكان بدأ أمر بني النضير، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث، أحد البعوث مرشد بن أبي مرشد الغنوي، وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي، فساروا حتى جاؤوا بطن الرجيع، فنزلوا عند شجرة، فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم، فسقطت نوايات بالأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار، فكمنوا بالجبل‏.‏

فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم، فرأت النوايات التي سقطت في الأرض، فأنكرت صفرهن فعرفت أنها تمر المدينة، فصاحت في قومها‏:‏ أنتم أتيتم‏.‏ فجاؤوا يطلبونها، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، فقالوا لهم‏:‏ انزلوا ولكم الأمان‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نعطي بأيدينا‏.‏ فقاتلوهم، فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق، فجرحوه وحسبوا أنه قد مات، فتركوه فنجا من بينهم‏.‏

وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح، ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز، ويقاتلهم حتى فنيت سبله؛ ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف‏.‏ ثم قال‏:‏ اللهم إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم جسدي في آخره‏.‏ وكانوا يجردون من قتل أصحابه، فلما قتلوا عاصماً، حمته الدبر وهي الذنابير، حتى جاء السيل من الليل، فذهب به الدبر‏.‏

وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الدثنة، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش قتل لهم قتيل يوم بدر فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه، فقال لهم‏:‏ اتركوني أصلي ركعتين، فصلاهما‏.‏ ثم قال‏:‏ لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت، لازددت‏.‏ فقال‏:‏ اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام، فبلغ أنت عني السلام‏.‏ ثم التفت إلى وجوههم، وقال‏:‏ اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدناً يعني‏:‏ متفرقين، ولا تبقي منهم أحداً‏.‏ ثم صلبوه‏.‏ وأما صاحبه، الذي أسر معه، اشتراه صفوان بن أمية‏.‏

وأما البعث الثاني، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق، وارتث هو من وسط القتلى فنجا‏.‏

وأما البعث الثالث، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن، ويفقهوننا في الدين، فهم في ذمتي وجواري‏.‏

فبعث النبي صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار، فساروا نحو بئر معونة‏.‏ فلما ساروا ليلة من المدينة، بلغهم أن عمرو بن مالك مات، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فأمده صلى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، ورجل آخر؛ فساروا حتى بلغوا بئر معونة، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك‏:‏ نحن في ذمتك وذمة أبيك، أفنقدم إليك أم لا‏؟‏ فقال‏:‏ أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا‏.‏

فخرج إليهم عامر بن الطفيل، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين فقاتلوهم، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، كانوا تخلفوا‏.‏ فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير، فرمى عليهم بعلقة دم، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ قد قتل أصحابنا‏.‏ فصعدوا أعلى الجبل، فنظروا فإذا القوم صرعى، وقد اعتكفت عليهم الطير، فقال الحارث بن الصمة‏:‏ أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي‏.‏

فخرج إليهم فقاتل القوم، فقتل منهم رجلين‏.‏ ثم أخذوه فقالوا له‏:‏ ما تحب أن نصنع بك‏؟‏ فقال لهم‏:‏ ابلغوا بي مصارع قومي‏.‏ فلما بلغ مصارع أصحابه، أرسلوه فقاتلهم، فقتل منهم اثنين‏.‏ ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رجلان من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مستأمنين، قد كساهما وحملهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ من أنتما‏؟‏ قال‏:‏ كلابيان‏.‏ فقتلهما عمرو بن أمية الضمري، وأخذ سلبهما، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال‏:‏ بئس ما صنعت حين قتلتهما‏.‏

فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة، صلى الصبح في ذلك اليوم، وقال في الركعة الثانية‏:‏ اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان، اللهم غفار، غفر الله لها وسالم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله‏.‏

فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكلابيين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه؛ فاستعان النبي صلى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار؛ فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال‏:‏ أعينوني في عقل أصابني، فقال‏:‏ هؤلاء حلفائي‏.‏ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم إلى بني النضير، فقال حيي بن أخطب‏:‏ اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا‏.‏

فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في صفه، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي رضي الله عنهم فقال حيي بن أخطب لأصحابه‏:‏ إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن، فاقتلوه لا تروا شراً أبداً‏.‏

فنزل جبريل عليه السلام وأخبره، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة، حتى دخل المدينة فجاء إنسان، فسألوه عنه فقال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم دخل أول البيوت‏.‏ فقاموا من هناك، فقال حيي بن أخطب‏:‏ عجل أبو القاسم عليه، فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأله‏.‏ فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، جمع الناس وجاء بالجيش، واختلفوا في قتل كعب بن الأشرف، فقال بعضهم لبعض‏:‏ قد كان قتل قبل ذلك، وقال بعضهم‏:‏ قتل في هذا الوقت‏.‏ فبعث محمد بن سلمة، فخرج محمد بن سلمة، وأبو نائلة، ورجلان آخران، فأتوه بالليل، وقالوا‏:‏ أتيناك نستقرض منك شيئاً من التمر‏.‏ فخرج إليهم فقتلوه، ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير، فقال لهم‏:‏ اخرجوا منها‏.‏ فإذا جاء وقت الجذاذ، فجذوا ثماركم‏.‏ فقالوا‏:‏ لا نفعل‏.‏

فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا أبا القاسم، نحن نعطيك الذي سألتنا‏.‏ قال‏:‏ «لاَ ولكن اخْرُجُوا مِنْهَا، وَلَكُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاّ الحَلَقَةُ» يعني‏:‏ السلاح، قالوا‏:‏ لا‏.‏ فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، وأمر بقطع نخيلهم، ونقب بيوتهم‏.‏ فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم، فكلما نقب المسلمون بيت فروا إلى بيت، آخر ينتظرون المنافقين‏.‏ وقد قال المنافقون لهم‏:‏ لئن أخرجتم لنخرجن معكم، وإن قوتلتم لننصرنكم‏.‏ فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم، قال بعضهم لبعض‏:‏ ليس لنا مقام بعد النخيل، فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة‏.‏

فأخذ أموالهم، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعطها أحداً من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين، وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم‏}‏ يعني‏:‏ بني النضير ‏{‏لاِوَّلِ الحشر‏}‏، يعني‏:‏ أول الإجلاء من المدينة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ من شك بأن الحشر هو الشام، فليقرأ هذه الآية ‏{‏هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم لاِوَّلِ الحشر‏}‏‏.‏ فلما قال لهم‏:‏ اخرجوا من المدينة، قالوا‏:‏ إلى أين‏؟‏ قال‏:‏ إلى أرض المحشر‏.‏

فقال لهم‏:‏ إنهم أول من يحشر، وأخرج من ديارهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ‏}‏، يعني‏:‏ ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم‏.‏ وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة، وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتم لا يخرجون‏.‏ ‏{‏وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ‏}‏، يعني‏:‏ وحسبوا بني النضير أنهم ‏{‏مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله‏}‏ يعني‏:‏ أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله‏.‏ ‏{‏فاتاهم الله‏}‏، يعني‏:‏ أتاهم أمر الله، ويقال‏:‏ ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ بما وعد لهم‏.‏ ‏{‏مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ‏}‏، يعني‏:‏ لم يظنوا أنه ينزل بهم، وهو قتل كعب بن الأشرف، ويقال‏:‏ خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم‏.‏ ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏، يعني‏:‏ جعل في قلوبهم الخوف‏.‏

‏{‏يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى المؤمنين‏}‏‏.‏ وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب، وكان المسلمون ينقبون بيوتهم، ويدخلونها، وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها‏.‏ ويقال‏:‏ كان اليهود ينقبون بيوتهم، ليرموا بها على المسلمين؛ وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم، ليتمكنوا من الحرب‏.‏ ويقال‏:‏ كان اليهود أنفقوا في بيوتهم، فلما علموا أنهم يخرجون منها، جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المسلمون؛ وكان المؤمنون يخربونها، ليدخلوا عليهم‏.‏ قرأ أبو عمرو ‏{‏يُخْرِبُونَ‏}‏ بالتشديد‏.‏ والباقون بالتخفيف‏.‏ قال بعضهم‏:‏ هما لغتان‏:‏ خرب وأخرب‏.‏ وروي عن الفراء أنه قال‏:‏ من قرأ بالتشديد، فمعناه يهدمون؛ ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه يعطلون‏.‏ ثم قال ‏{‏فاعتبروا ياأولى الابصار‏}‏، يعني‏:‏ من له البصارة في أمر الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ‏(‏3‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏4‏)‏ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء‏}‏، يعني‏:‏ لولا أن قضى الله عليهم الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام، ‏{‏لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا‏}‏؛ يعني‏:‏ لعذبهم بالقتل والسبي‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابُ النار‏}‏، يعني‏:‏ ذلك الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقّ الله‏}‏، يعني‏:‏ خالفوا الله ورسوله في الدين، ويقال‏:‏ عادوا الله ورسوله‏.‏ ‏{‏وَمَن يُشَاقّ الله‏}‏ وأصله من يشاقق الله، إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت، يعني‏:‏ من يخالف الله ورسوله في الدين، ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏، يعني‏:‏ إذا عاقب، فعقوبته شديدة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ من نخلة ‏{‏أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا‏}‏ فلم تقطعوها، ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ يعني‏:‏ بأمر الله‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لما دخل المسلمون على بني النضير، أخذوا يقطعون النخل، فنهاهم بعضهم، وتأولوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا تولى سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 205‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ يقطع ويتأول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الاعراب أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 120‏]‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله‏}‏‏.‏ وقال الزهري في قوله‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ اللينة‏:‏ ألوان النخل كلها إلا العجوة، وقال الضحاك‏:‏ اللينة‏:‏ النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة، وقال مجاهد‏:‏ اللينة‏:‏ الشجرة المثمرة‏.‏

وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال‏:‏ نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقالوا‏:‏ إنما هي مغانم المسلمين‏.‏ فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها، وبتحليل من قطعها، وإنما قطعها وتركها بإذن الله تعالى‏.‏ وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة، فقالوا للمؤمنين‏:‏ تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض، فدعوها قائمة؛ فإنما هي لمن غلب، فنزل‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ‏}‏ واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة ‏{‏أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا‏}‏ وهي العجوة ‏{‏فَبِإِذْنِ الله‏}‏ يعني‏:‏ القطع والترك بإذن الله‏.‏

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن سلام، وأبا ليلى المازني بقطع النخل، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون، فقيل لأبي ليلى‏:‏ لِمَ تقطع العجوة‏؟‏ قال‏:‏ لأن فيه كبت العدو‏.‏ وقيل لابن سلام‏:‏ لِمَ تقطع اللون، قال‏:‏ لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين‏.‏ فأنزل الله تعالى رضاً بما فعل الفريقان، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله‏}‏‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِيُخْزِىَ الفاسقين‏}‏ يعني‏:‏ وليذل العاصين الناقضين العهد‏.‏

ثم قال عز وجل ‏{‏وما أفاء الله على رسوله‏}‏ يعني ما أعطى الله رسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقسم بين فقراء المهاجرين فنزل ‏{‏وما أفاء الله على رسوله منهم‏}‏ يعني ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير ‏{‏فما أوجفتم‏}‏ يعني ما أجريتم ‏{‏عليه من خيل ولا ركاب‏}‏ يعني لا على خيل ولا على إبل أتيتم بل إنكم‏}‏ مشيتم مشيا حتى فتحتموها

ويقال أوجف الفرس والبعير إذا أسرعا يعني لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا

‏{‏ولكن الله يسلط رسله‏}‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ‏{‏على من يشاء‏}‏ من بني النضير

والله على كل شيء قدير من النصرة والغنيمة

ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم فقال ‏{‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏}‏ يعني من بني النضير وفدك ويقال بني قريظة والنضير وخيبر

‏{‏فلله وللرسول‏}‏ يعني لله أن يأمركم فيه بما أحب

وروى عبد الرازق عن معمر عن الزهري قال كانت بنو النضير للنبي صلى الله عليه وسلم خالصا لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح فقسمها بين المهاجرين

ثم قال ‏{‏ولذي القربى‏}‏ يعني قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم

‏{‏واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏

وروى مالك بن أنس عن عمر قال كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا بني النضير وخيبر وفدك

فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه وأما فدك فكانت لابن السبيل وأما خيبر فجزأها ثلاثة أجزاء فقسم جزأين بين المسلمين وحبس جزءا للنفقة

فما فضل عن أهله رده إلى فقراء المسلمين

ثم قال ‏{‏كي لا يكون‏}‏ المال ‏{‏دولة‏}‏

قرأ أبو جعفر المدني ‏{‏دولة‏}‏ بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب يعني لكي لا يكون دولة

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ‏{‏دولة‏}‏ بنصب الدال والباقون بالضم ‏{‏دولة‏}‏ فمن قرأ بالضم فهو اسم المال الذي يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لهذا

وأما النصب فهو النقل والانتقال من حال إلى حال ‏{‏بين الأغنياء منكم‏}‏ يعني لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء ليقسموه بينهم

ثم قال ‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏}‏ يعني ما أعطاكم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة فخذوه ويقال وما أمركم الرسول فاعملوا به ‏{‏وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏ يعني فامتنعوا عنه

‏{‏واتقوا الله إن الله شديد العقاب‏}‏ لمن عصاه

ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين يعني الغنائم ‏{‏للفقراء المهاجرين‏}‏ ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم‏}‏ يعني تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم

ويقال هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين يعني اعرفوا حقهم وصلوهم ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم‏}‏ يعني أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم

يبتغون فضلا من الله ورضوانا ‏{‏يعني يطلبون رزقا في الجنة ورضوان الله تعالى ‏{‏وينصرون الله ورسوله‏}‏ بالسيف يعني يطيعون الله فيما أمرهم بطاعته

‏{‏أولئك هم الصادقون‏}‏ يعني الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار في ذلك فقالوا هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم

فأثنى الله تعالى على الأنصار فقال عز وجل والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يعني استوطنوا الدار يعني دار المدينة من قبل هجرتهم يعني نزلوا دار الهجرة في المدينة ‏{‏والإيمان‏}‏ يعني تبوءوا الإيمان أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

قال الله تعالى ‏{‏يحبون من هاجر إليهم‏}‏

يعني يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين ‏{‏ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا‏}‏ يعني لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا يعني المهاجرين

ويقال حاجة يعني حزازة وهو الحزن ويقال ‏{‏ولا يجدون في صدورهم‏}‏ بخلا وكراهة بما أعطوا

‏{‏ويؤثرون على أنفسهم‏}‏ في القسمة من الغنيمة يعني تركوها للمهاجرين

‏{‏ولو كان بهم خصاصة‏}‏ يعني حاجة

وروى وكيع عن فضيل بن عمران عن رجل عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي إلى الضيف ما عندك فنزل ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏

ويقال إن رجلا من الأنصار أهدي له برأس مشوي فقال لعل جاري أحوج مني فبعث إليه

ثم إن جاره بعثه إلى جار آخر فطاف سبعة أبيات ثم عاد إلى الأول فنزل ‏{‏ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة‏}‏

قال الله تعالى ‏{‏ومن يوق شح نفسه‏}‏ يعني ومن يمنع بخل نفسه ‏{‏فأولئك هم المفلحون‏}‏ يعني الناجين

وروى وكيع بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏}‏ بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة ‏{‏

وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم فقال ‏{‏والذين جاؤوا من بعدهم‏}‏ يعني التابعين ويقال يعني الذين هاجروا من بعد الأولين

‏{‏يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان‏}‏ يعني أظهروا الإيمان قبلنا يعني المهاجرين والأنصار

‏{‏ولا تجعل في قلوبنا غلا‏}‏ يعني غشا وحسدا وعداوة ‏{‏للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‏}‏ يعني رحيما بعبادك المؤمنين

وفي الآية دليل أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ في المسلمين وله أجر مثل أجر الصحابة

ومن شتمهم أو لم يترحم عليهم أو كان في قلبه غل لهم ليس له حظ في المسلمين لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ ثم ذكر الأنصار ثم ذكر الذين جاؤوا من بعدهم وقد وصفهم الله بصفة الأولين إذ دعا لهم

وفي الآية دليل أن الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين وفيه وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين

ثم نزل في شأن المنافقين فقال ‏{‏ألم تر إلى الذين نافقوا‏}‏ يعني منافقي المدينة

‏{‏يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب‏}‏ يعني بني النضير

‏{‏لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا‏}‏ يعني ولا نطيع محمدا صلى الله عليه وسلم في خذلانكم

‏{‏وإن قوتلتم لننصرنكم‏}‏ يعني لنعينكم

‏{‏والله يشهد إنهم لكاذبون‏}‏ في مقالتهم وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة في قلوبهم

فقال الله تعالى ‏{‏لئن أخرجوا لا يخرجون معهم‏}‏ يعني لئن أخرج بنو النضير لا يخرج المنافقون معهم

‏{‏ولئن قوتلوا لا ينصرونهم‏}‏ يعني لا يمنعونهم على ذلك

‏{‏ولئن نصروهم ليولن الأدبار‏}‏ يعني ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك ولن ينصروهم ‏{‏ليولن الأدبار‏}‏ يعني رجعوا منهزمين

‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ يعني لا يمنعون من الهزيمة

ثم قال عز وجل ‏{‏لأنتم أشد رهبة‏}‏ يعني أنتم يا معشر المسلمين ‏{‏أشد رهبة في صدورهم من الله‏}‏ يعني خوفهم منكم أشد من عذاب الله في الآخرة

‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يفقهون‏}‏ يعني لا يعقلون أمر الله تعالى

ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب فقال عز وجل ‏{‏لا يقاتلونكم جميعا‏}‏ يعني لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم

‏{‏إلا في قرى محصنة‏}‏ يعني حصينة أو من رواء جدر يعني يقاتلونكم من وراء الجدار فحذف الألف وهو جمع الجدار

قرأ ابن كثير وأبو عمرو من وراء جدار بالألف والباقون جدر بحذف الألف وهو جماعة

فمن قرأ ‏{‏جدار‏}‏ فهو واحد يريد به الجمع

ثم قال ‏{‏بأسهم بينهم شديد‏}‏ يعني قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد وأما مع المؤمنين فلا

ثم قال ‏{‏تحسبهم جميعا‏}‏ يعني تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم واحدة

‏{‏وقلوبهم شتى‏}‏ يعني قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة

‏{‏ذلك بأنهم‏}‏ يعني ذلك الاختلاف بأنهم ‏{‏قوم لا يعقلون‏}‏ يعني لا يعقلون أمر الله تعالى

ثم ضرب لهم مثلا فقال عز وجل ‏{‏كمثل الذين من قبلهم‏}‏ يعني مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم يعني أهل بدر

‏{‏قريبا‏}‏ يعني كان قتال بدر قبل ذلك بقريب وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك

‏{‏ذاقوا وبال أمرهم‏}‏ يعني عقوبة ذنبهم ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ يعني عذابا شديدا في الآخرة

ثم ضرب لهم مثلا آخر وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم

‏{‏كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر‏}‏ يعني برصيصا الراهب

وروى عدي بن ثابت عن ابن عباس قال كان في بني إسرائيل راهب عبد الله تعالى زمانا من الدهر حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم فيبرؤون على يديه

وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى وقع عليها فحملت

فلما استبان حملها لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له حتى قتلها ودفنها

ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل حتى لقي أحدا من أخوتها فأخبره بالذي فعل الراهب وأنه دفنها في مكان كذا

فبلغ ذلك إلى ملكهم فسار الملك مع الناس فأتوه فاستنزلوه فأقر لهم بالذي فعل فأمر به فصلب

فلما رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه فهل لك أن تطيعني فيما أقول لك وأخلصك مما أنت فيه فقال نعم

قال اسجد لي سجدة واحدة

فسجد له فذلك قوله كمثل الشيطان إذا قال للإنسان اكفر يعني اسجد ‏{‏فلما كفر‏}‏ يعني سجد

قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين قال ذلك على وجه الاستهزاء كذلك المنافقون خذلوا اليهود كما خذل الشطيان الراهب ‏{‏فكان عاقبتهما‏}‏ يعني عاقبة الشيطان والراهب ‏{‏أنهما في النار خالدين فيها‏}‏ يعني مقيمين فيها

وكان ابن مسعود يقرأ خالدان فيها وقراءة العامة ‏{‏خالدين فيها‏}‏ بالنصب

وإنما هو نصب على الحال

‏{‏وذلك جزاء الظالمين‏}‏ يعني الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين

قوله تعالى ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏ يعني اخشوا الله ويقال أطيعوا الله

‏{‏ولتنظر نفس ما قدمت لغد‏}‏ يعني ما عملت لغد وأسلفت لغد أي ليوم القيامة ومعناه تصدقوا واعملوا بالطاعة لتجدوا ثوابه يوم القيامة

ثم قال ‏{‏واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون‏}‏ من الخير والشر

ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود

ويوحدوه في السر والعلانية ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين فقال ‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله‏}‏ يعني تركوا أمر الله تعالى

‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ يعني خذلهم الله تعالى حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها

‏{‏أولئك هم الفاسقون‏}‏ يعني العاصين ويقال ‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله‏}‏ أي تركوا ذكر الله وما أمرهم به ‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ يعني فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق ويقال ‏{‏ولا تكونوا كالذين نسوا الله‏}‏ يعني تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم ‏{‏فأنساهم أنفسهم‏}‏ يعني أنساهم حالهم حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا

‏{‏أولئك هم الفاسقون‏}‏ يعني الناقضين للعهد

ثم ذكر مستقر الفريقين فقال ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ يعني لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معصومون وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة

وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة

ويقال ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة‏}‏ في الآخرة لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان

ثم قال ‏{‏أصحاب الجنة هم الفائزون‏}‏ يعني المستعدون الناجون وأصحاب النار الهالكون

ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن فقال عز وجل ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل‏}‏ يعني القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزل على جبل ‏{‏لرأيته خاشعا‏}‏ يعني خاضعا ‏{‏متصدعا من خشية الله‏}‏ يعني خاضعا متصدعا ويقال ويرق من خوف عذاب الله فكيف لا يرق هذا الإنسان ويخشع ويقال هذا على وجه المثل يعني لو كان الجبل له تميز لتصدع من الخشية من خشية الله ثم قال ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس‏}‏ أي نبينها للناس ‏{‏لعلهم يتفكرون‏}‏ أي لكي يتعظوا في أمثال الله يعني فيعتبرون ولا يعصون الله تعالى

ثم قال ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو‏}‏ يعني لا خالق ولا رازق غيره

‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ يعني عالم السر والعلانية ويقال الغيب ما غاب عن العباد

والشهادة ما شاهدوه وعاينوه ويقال ‏{‏عالم‏}‏ بما كان وبما يكون ويقال ‏{‏عالم‏}‏ بأمر الآخرة وبأمر الدنيا

ثم قال ‏{‏هو الرحمن الرحيم‏}‏ يعني العاطف على جميع الخلق بالرزق و‏{‏الرحيم‏}‏ بالمؤمنين

ثم قال تعالى ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك‏}‏ يعني مالك كل شيء وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا

ثم قال ‏{‏القدوس‏}‏ يعني الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب

ثم قال ‏{‏السلام‏}‏ يعني يسلم عباده من ظلمه ويقال سمى نفسه سلاما لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء

ثم قال ‏{‏المؤمن‏}‏ يعني يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال ‏{‏المؤمن‏}‏ أي يصدق في وعده ووعيده ويقال ‏{‏المؤمن‏}‏ يعني قابل إيمان المؤمنين

ثم قال ‏{‏المهيمن‏}‏ يعني الشهيد على عباده بأعمالهم ويقال ‏{‏المهيمن‏}‏ يعني المويمن فقلبت الواو هاء وهو بمعنى الأمين

ثم قال ‏{‏العزيز‏}‏ يعني الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال ‏{‏العزيز‏}‏ الذي لا يوجد مثله

ثم قال ‏{‏الجبار‏}‏ يعني القاهر لخلقه على ما أراده ويقال الغالب على خلقه ومعناهما واحد

ثم قال ‏{‏المتكبر‏}‏ يعني المتعظم على كل شيء ويقال ‏{‏المتكبر‏}‏ الذي تكبر عن ظلم عباده

ثم قال ‏{‏سبحان الله‏}‏ يعني تنزيها لله تعالى ‏{‏عما يشركون‏}‏ يعني عما وصفه الكفار من الشريك والولد ويقال ‏{‏سبحان الله‏}‏ بمعنى التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك

قوله تعالى‏}‏ هو الله الخالق ‏{‏يعني الخالق الخلق في أرحام النساء ويقال خالق النطف في أصلاب الآباء ‏{‏المصور‏}‏ للولد في أرحام الأمهات ويقال ‏{‏الخالق‏}‏ يعني المقدر

‏{‏البارئ‏}‏ الذي يجعل الروح في الجسد ويقال ‏{‏البارئ‏}‏ يعني خالق الأشياء ابتداء

ثم قال ‏{‏له الأسماء الحسنى‏}‏ يعني الصفات العلى ويقال ‏{‏له الأسماء الحسنى‏}‏ وهي تسعة وتسعون اسما وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة

ثم قال ‏{‏يسبح له ما في السماوات والأرض‏}‏ يعني يخضع له ما في السموات والأرض يعني جميع الأشياء كقوله وإن من شيء إلا يسبح بحمده الإسراء 44

ثم قال ‏{‏وهو العزيز‏}‏ يعني العزيز في ملكه ‏{‏الحكيم‏}‏ في أمره

فإن قال قائل قد قال الله تعالى ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ النجم 32 فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه قيل له عن هذا السؤال جوابان أحدهما أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه والله سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة فيستوجب به المدح فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه

وجواب آخر أن العبد وإن كان فيه خصال الخير فتلك الخصال أفضال من الله تعالى ولم يكن ذلك بقدرة العبد فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه

والله سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له ليس لغيره فيستوجب فيه المدح

ومثال هذا أن الله تعالى نهى عباده أن يمنوا على أحد بالمعروف وقد من الله تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح والله أعلم وصلى الله عليه وسلم على سيدنا محمد وآله وسلم