فصل: سورة الإنسان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


سورة الإنسان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ‏(‏1‏)‏ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏2‏)‏ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ‏(‏5‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ‏(‏6‏)‏ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ‏(‏7‏)‏ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ‏(‏8‏)‏ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ‏(‏9‏)‏ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ‏(‏11‏)‏ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ‏(‏12‏)‏ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ أتى عَلَى الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ قد أتى على أدم ‏{‏حِينٌ مّنَ الدهر‏}‏ يعني‏:‏ أربعين سنة ‏{‏لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏ يعني‏:‏ لم يدر ما اسمه، ولا ما يراد به إلا الله تعالى‏.‏ وذلك أن الله تعالى، لما أراد أن يخلق آدم، أمر جبريل عليه السلام، أن يجمع التراب فلم يقدر‏.‏ ثم أمر إسرافيل فلم يقدر، ثم أمر عزرائيل عليهم السلام، فجمع التراب من وجه الأرض، فصار التراب طيناً، ثم صار صلصالاً، وكان على حاله أربعين سنة، قبل أن ينفخ فيه الروح‏.‏ وروى معمر، عن قتادة قال‏:‏ كان آدم آخر ما خلق من الخلق، خلق كل شيء قبل آدم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ مختلطاً ماء الرجل وماء المرأة، لا يكون الولد إلا منهما جميعاً‏.‏ ماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق ‏{‏نَّبْتَلِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ لكي نبتليه بالخير والشر ‏{‏فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً‏}‏ يعني‏:‏ جعلنا له سمعاً يسمع به الهدى، وبصراً يبصر به الهدى‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ في الآية تقديم، يعني‏:‏ جعلناه سميعاً بصيراً، يعني‏:‏ جعلنا له سمعاً لنبتليه، يعني‏:‏ لنختبره‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا هديناه السبيل‏}‏ يعني‏:‏ بينا له، وعرفناه طريق الخير وطريق الكفر‏.‏ ويقال‏:‏ سبيل السعادة والشقاوة ‏{‏إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ يعني‏:‏ إما أن يكون موحداً، وإما أن يكون جاحداً لوحدانية الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ إما شاكراً لنعمه، وإما كفوراً لنعمه‏.‏ ثم بين ما أعد للكافرين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين‏}‏ يعني‏:‏ في الآخرة ‏{‏سلاسل وأغلالا‏}‏ يعني‏:‏ هيئنا لهم أغلالاً، تغل بها أيمانهم إلى أعناقهم ‏{‏وَسَعِيراً‏}‏ يعني‏:‏ وقوداً‏.‏

ثم بيّن ما أعد للشاكرين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الابرار‏}‏ يعني‏:‏ الصادقين في إيمانهم ‏{‏يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ‏}‏ يعني‏:‏ من خمر ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا كافورا‏}‏ يعني‏:‏ على برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل ليس ككافور الدنيا ولا كمسكها ولكنه وصف بها حتى يهتدى به القلوب أو يقال‏:‏ الكافور اسم عين في الجنة يمزج بها الخمر ‏{‏عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ يعني‏:‏ عين الكافور يشرب بها أولياء الله تعالى في الجنة ‏{‏يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً‏}‏ يعني‏:‏ يمزجونها تمزيجاً‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً‏}‏ في قصورهم وديارهم، وذلك، أن عين الكافور، يشرب بها المقروبون صرفاً غير ممزوج، ولغيرهم ممزوجاً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً‏}‏ يعني‏:‏ يفجرون تلك العين في الجنة كيف أحبوا، كما يفجر الرجل النهر الذي يكون له في الدنيا هاهنا، وهاهنا حيث شاء‏.‏

ثم بين أفعالهم في الدنيا فقال‏:‏ ‏{‏يُوفُونَ بالنذر‏}‏ يعني‏:‏ يتمون الفرائض‏.‏ ويقال‏:‏ أوفوا بالنذر ‏{‏ويخافون يَوْماً‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً‏}‏ يعني‏:‏ عذابه فاشياً ظاهراً، وهو أن السموات قد انشقت، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وفارت المياه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ على قلته وشهوته وحاجته ‏{‏مِسْكِيناً‏}‏ وهو الطائف بالأبواب ‏{‏وَيَتِيماً وَأَسِيراً‏}‏ يعني‏:‏ من أسر من دار الشرك‏.‏

ويقال‏:‏ أهل اليمن‏.‏ وذكر أن الآية نزلت في شأن علي بن أبي طالب، وفاطمة رضي الله عنهما وكانا صائمين فجاءهما سائل وكان عندهما قوت يومهما فأعطيا السائل بعض ذلك الطعام ثم جاءهما يتيم فأعطياه من ذلك الطعام ثم جاءهما أسير فأعطياه الباقي فمدحهما الله تعالى لذلك، ويقال‏:‏ نزلت في شأن رجل من الأنصار ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله‏}‏ يعني‏:‏ ينوون بأدائهم، ويضمرون في قلوبهم وجه الله تعالى‏.‏ ويقولون‏:‏ ‏{‏لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً‏}‏ يعني‏:‏ لا نريد منكم مكافأة في الدنيا، ولا ثواب في الآخرة ‏{‏إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً‏}‏ يعني‏:‏ العبوس الذي تعبس فيه الوجوه، من هول ذلك اليوم، والقمطرير الشديد العبوس‏.‏ ويقال‏:‏ عبوساً، أي‏:‏ يوم يعبس فيه الوجوه، فجعل عبوساً من صفة اليوم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَئ ذلك هُوَ الضلال البعيد‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 18‏]‏ أراد عاصف الريح والقمطرير الشديد‏.‏ يعني‏:‏ ينقبض الجبين وما بين الأعين، من شدة الأهوال‏.‏ ويقال‏:‏ قمطريراً نعت ليوم‏.‏ ويقال‏:‏ يوم قمطرير، إذا كان شديداً‏.‏ يعني‏:‏ يوماً شديداً صعباً‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم‏}‏ يعني‏:‏ دفع الله عنهم عذاب ذلك اليوم ‏{‏ولقاهم‏}‏ يعني‏:‏ أعطاهم ‏{‏نَضْرَةَ‏}‏ حسن الوجوه ‏{‏وَسُرُوراً‏}‏ يعني‏:‏ فرحاً في قلوبهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أعطاهم الثواب بما صبروا في الدنيا ‏{‏جَنَّةً وَحَرِيراً‏}‏ يعني‏:‏ لباسهم فيها حرير‏.‏ ويقال‏:‏ بما صبروا على الطاعات‏.‏ ويقال‏:‏ على المصائب‏.‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مُّتَّكِئِينَ فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ ناعمين في الجنة ‏{‏على الارائك‏}‏ يعني‏:‏ على السرر، وفي الجمال واحدها أريكة ‏{‏لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً‏}‏ يعني‏:‏ لا يصيبهم فيها حر الشمس ‏{‏وَلاَ زَمْهَرِيراً‏}‏ يعني‏:‏ ولا برد الشتاء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها‏}‏ يعني‏:‏ قريبة عليهم ظلال الشجر‏.‏ ‏{‏وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ قربت ثمارها ويقال سخرت قطوفها يعني‏:‏ مجنى ثمرها تذليلاً يعني‏:‏ قريباً ينالها القاعد والقائم‏.‏ وروى بن أبي نجيح، عن مجاهد قال‏:‏ أرض الجنة من فضة، وترابها مسك، وأصول شجرها ذهب وفضة، وأغصانها لؤلؤ وزبرجد، والورق والثمر تحت ذلك، فمن أكل قائماً لم يؤذه، ومن أكل جالساً لم يؤذه، ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه‏.‏ ثم قرأ ‏{‏وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً‏}‏ وقال أهل اللغة‏.‏ ذللت أي‏:‏ أدنيت منهم، من قولك‏:‏ حائط ذليل إذا كان قصير السمك‏.‏ والقطوف والثمرة واحدها قطف، وهو نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 31‏]‏

‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ ‏(‏15‏)‏ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ‏(‏16‏)‏ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا ‏(‏17‏)‏ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ‏(‏18‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ‏(‏19‏)‏ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ‏(‏20‏)‏ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ‏(‏21‏)‏ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ‏(‏22‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا ‏(‏23‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ‏(‏24‏)‏ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏25‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا ‏(‏27‏)‏ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ‏(‏28‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ‏(‏29‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏30‏)‏ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏31‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ‏}‏ وهي كيزان مدققة الرأس، لا عرى لها ‏{‏كَانَتْ قَوَارِيرَاْمِن فِضَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ في صفاء القارورة، وبياض الفضة‏.‏ وروي عن عكرمة، عن ابن عباس قال‏:‏ لو أخذت فضة من فضة الدنيا، فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائه، ولكن قوارير الجنة من فضة في صفاء القوارير، كبياض الفضة‏.‏ قرأ نافع، وعاصم، والكسائي سلاسلاً وقواريراً، كلهن بإثبات الألف والتنوين‏.‏ وقرأ حمزة بإسقاط الألف كلها، وكان أبو عمرو يثبت الألف في الأولى من قوارير، ولا يثبتها في الثانية‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ رأيت في مصحف عثمان، رضي الله عنه الذي قال له مصحف الإمام قوارير بالألف، والثانية كان بالألف، فحكت ورأيت أثرها بيناً هناك، وأما السلاسل فرأيتها قد رست‏.‏ وقال بعض أهل اللغة‏:‏ الأجود في العربية، أن لا ينصر فيه سلاسل وقوارير، لأن كل جمع يأتي بعد ألفه حرفان أو ثلاثة، أوسطها ساكن، فإنه لا ينصرف، فأما من صرفه ونون، فإنه رده إلى الأصل في الازدواج إذا وقعت الألف بغير تنوين ثم قال‏:‏ ‏{‏قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً‏}‏ يعني‏:‏ على قدر كف الخدم، ويقال‏:‏ على قدر كف المخدوم ولا يحجز، ويقال‏:‏ على قدر ما يحتاجون إليه ويريدونه‏.‏ ويقال‏:‏ على مقدار الذي لا يزيد ولا ينقص ليكون الري لشربهم ‏{‏وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً‏}‏ يعني‏:‏ خمراً وشراباً ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا‏}‏ يعني‏:‏ خلطها ‏{‏زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً‏}‏ وقال القتبي‏:‏ والزنجبيل اسم العين، وكذلك السلسبيل ويقال‏:‏ إن السلسبيل اللبن والزنجبيل طعمه، والعرب تضرب به المثل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إنما سمي السلسبيل، لأنها تسيل عليهم في الطريق وفي منازلهم، وقال أبو صالح‏:‏ بلغني أن السلسبيل شديد الجرية‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه ‏{‏كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً‏}‏ عيناً فيها تسمى سلسبيلاً يعني‏:‏ عيناً تسمى الزنجبيل وتم الكلام ثم قال‏:‏ سلسبيلاً يعني‏:‏ سل الله تعالى السبيل إليها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يكبرون، ويكونون على سن واحدة ‏{‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً‏}‏ قال قتادة‏:‏ كثرتهم وحسنهم، كاللؤلؤ المنثور ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً‏}‏ يعني‏:‏ إذا رأيت هناك ما في الجنة، رأيت نعيماً ‏{‏وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏ يعني‏:‏ على رؤوسهم التيجان، كما يكون على رأس ملك من الملوك‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏وَمُلْكاً كَبِيراً‏}‏ يعني‏:‏ لا يدخل رسول رب العزة، إلا بإذنهم‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏عاليهم ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ على ظهورهم ثياب سندس‏.‏ قرأ نافع، وحمزة بجزم الياء وكسر الهاء‏.‏ والباقون بنصب الياء وضم الهاء‏.‏ فمن قرأ بالجزم، فمعناه الذي يعلوهم، وهو اسم فاعل، من علا يعلو‏.‏

ومن قرأ بالنصب نصبه على الظرف، كما قال‏:‏ فوقهم ثياب‏.‏ وروي عن ابن مسعود، أنه قرأ عاليتهم ثياب، يعني‏:‏ الوجه الأعلى‏.‏ ثم قال‏:‏ ثياب سندس، خضر بالكسر ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ قرأ نافع، وعاصم في رواية حفص، خضر واستبرق كلاهما بالضم‏.‏ والباقون كلاهما بالكسر، فمن قرأ بالضم، لأنه نعت الثياب‏.‏ يعني‏:‏ ثياباً خضراً‏.‏ ومن قرأ بالكسر، فهو نعت للسندس، ومن قرأ واستبرق بالضم، فهو نسق على الثياب‏.‏ ومعناه‏:‏ عليهم سندس واستبرق، ومن قرأ بالكسر، يكون عليهم ثياب من هذين النوعين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ‏}‏ وهو جمع السوار ‏{‏وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً‏}‏ يعني‏:‏ الذي سقاهم خدمهم‏.‏ ويقال‏:‏ الذين يشربون من قبل أن يدخلوا الجنة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاء‏}‏ يعني‏:‏ الذي وصف لكم في الجنة، ثواباً لأعمالكم ‏{‏وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً‏}‏ يعني‏:‏ عملكم مقبولاً‏.‏ يعني‏:‏ يبشرون بهذا إذا أرادوا أن يدخلوا الجنة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرءان تَنزِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ أنزلنا عليك القرآن تنزيلاً، يعني‏:‏ إنزالاً فالمصدر للتأكيد‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ استقم على أمر الله تعالى ونهيه‏.‏ ويقال‏:‏ اصبر على أذى الكفار‏.‏ وقال‏:‏ على تبليغ الرسالة ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً‏}‏ آثماً يعني‏:‏ فاجراً وهو الوليد بن المغيرة، أو كفوراً يعني‏:‏ ولا كفوراً، وهو عتبة بن ربيعة‏.‏ قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن فعلت هذا لأجل المال، فارجع حتى أدفع إليك من المال، ما تصير به أكثر مالاً من أهل مكة‏.‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً وَلا كَفُورًا‏}‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واذكر اسم رَبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ صلِ باسم ربك ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ بكرة وعشياً يعني‏:‏ صلاة الفجر، وصلاة الظهر والعصر ‏{‏وَمِنَ اليل فاسجد لَهُ‏}‏ يعني‏:‏ فصلِّ لله المغرب والعشاء ‏{‏وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ بعد المكتوبة، فهذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ ويقال له ولأصحابه‏:‏ وهذا أمر استحباب، لا أمر وجوب‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة‏}‏ يعني‏:‏ يختارون الدنيا ‏{‏وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يتركون العمل لما هو أمامهم ‏{‏يَوْماً ثَقِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ ليوم ثقيل وقال مجاهد‏:‏ وراءهم يعني‏:‏ خلفهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَّحْنُ خلقناهم وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قوينا خلقهم ليطيعوني، فلم يطيعوني‏.‏ ويقال‏:‏ شددنا مفاصلهم بالعصب، والعروق والجلد، لكي لا ينقطع المفاصل وقت تحريكها‏.‏ ويقال‏:‏ شددنا أسرهم، أي‏:‏ قبلهم ودبرهم، لكي لا يسيل البول والغائط، إلا عند الحاجة ‏{‏وَإِذَا شِئْنَا‏}‏ يعني‏:‏ إذا أردنا ‏{‏بَدَّلْنَا أمثالهم تَبْدِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ أي نخلق خلقاً أمثل منهم، وأطوع لله ‏{‏إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذه السورة عظة لكم‏.‏ ويقال‏:‏ هذه الآيات ‏{‏فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ فمن شاء أن يتعظ فليتعظ، فقد بينا له الطريق‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ يعني‏:‏ إلا أن يشاء لكم فيوفقكم‏.‏ يعني‏:‏ إن جاهدتم فيوفقكم كقوله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ الآية‏.‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ‏{‏وَمَا يَشَآءونَ‏}‏ بالياء على معنى الخبر عنهم‏.‏ والباقون بالتاء على معنى المخاطبة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ يعني‏:‏ كان عليماً قبل خلقكم، من يتخذ السبيل، ولم يشرك ويوحد ‏{‏حَكِيماً‏}‏ حكم بالبداية لمن كان أهلاً لذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ‏}‏ يعني‏:‏ يكرم بالإسلام من كان أهلاً لذلك‏.‏ ويقال‏:‏ يدخل من يشاء في رحمته، يعني‏:‏ في نعمته وهي الجنة، في رحمته وفضله ‏{‏والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ يعني‏:‏ يدخل الظالمين في عذاب أليم‏.‏ ويقال‏:‏ يعذب الظالمين‏.‏ وقرئ في الشاذ والظالمون، وقراءة العامة والظالمين بالنصب‏.‏ ومعناه‏:‏ ويعذب الظالمين، ويكون لهم عذاباً أليماً، تفسيراً لهذا المضمر‏.‏ والله أعلم‏.‏

سورة المرسلات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا ‏(‏1‏)‏ فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ‏(‏2‏)‏ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏5‏)‏ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ‏(‏6‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ‏(‏8‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ ‏(‏11‏)‏ لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ‏(‏12‏)‏ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ‏(‏13‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ‏(‏14‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال الكلبي، ومقاتل يعني‏:‏ الملائكة أرسلوا بالمعروف‏.‏ ويقال‏:‏ كثرتها لها عرف كعرف الفرس‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ ويحتمل وجهين، أحدهما‏:‏ أنها متتابعة بعضها في إثر بعض، وهو مشتق من عرف الفرس‏.‏ ووجه آخر‏:‏ أنه يرسل بالعرف، أي‏:‏ بالمعروف‏.‏ وروى سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي عبيدة الساعدي قال‏:‏ سألت عبد الله بن مسعود، رضي الله عنهما عن قوله‏:‏ ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏فالعاصفات عَصْفاً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏والناشرات نَشْراً‏}‏ قال‏:‏ الريح ‏{‏فالفارقات فَرْقاً‏}‏ قال‏:‏ حسبك معناه ‏{‏والمرسلات عُرْفاً‏}‏ يعني‏:‏ أرسل الرياح متتابعة كعرف الفرس ‏{‏فالعاصفات عَصْفاً‏}‏ يعني‏:‏ الريح الشديدة التي تدر التراب بالبراري، وسمي ريح عاصف ‏{‏والناشرات نَشْراً‏}‏ يعني‏:‏ الريح التي تنشر السحاب‏.‏

ويقال ‏{‏والناشرات نَشْراً‏}‏ يعني‏:‏ البعث يوم القيامة، ويقال‏:‏ الملائكة الذين ينشرون من الكتاب‏.‏ ‏{‏فالفارقات فَرْقاً‏}‏ يعني‏:‏ القرآن فرق بين الحق والباطل‏.‏ ويقال‏:‏ هو القبر فرق بين الدنيا والآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ آيات القرآن، التي فيها بيان عقوبة الكفار‏.‏

‏{‏فالملقيات ذِكْراً‏}‏ يعني‏:‏ فالمنزلات وحياً، وهم الملائكة ‏{‏عُذْراً أَوْ نُذْراً‏}‏ يعني‏:‏ أنزل الوحي عذراً من الله تعالى من الظلم، أو نذراً لخلقه من عذابه‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص، بضم العين وجزم الذال، أو نذراً بضم النون وجزم الذال‏.‏ والباقون بضم الحرفين في كليهما، فمعناهما إنذار، وهو جمع نذر يعني‏:‏ لإنذار‏.‏ ومن قرأ بالجزم فمعناه كذلك، وهو للتخفيف، وإنما نصب عذراً أو نذراً، لأنهما مفعولاً لهما فمعناه ‏{‏فالملقيات ذِكْراً‏}‏ للإعذار والإنذار‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع‏}‏ وهو جواب قسم‏.‏ أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، إن ما توعدون من أمر الساعة والبعث لواقع‏.‏ يعني‏:‏ لكائن ولنازل‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ‏}‏ يعني‏:‏ الموعد الذي يوعدون، في اليوم الذي فيه طمست النجوم، يعني‏:‏ ذهب ضوءها ‏{‏وَإِذَا السماء فُرِجَتْ‏}‏ يعني‏:‏ انشقت من خوف الرحمن ‏{‏وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ‏}‏ يعني‏:‏ قلعت من أصولها، حتى سويت بالأرض ‏{‏وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ‏}‏ يعني‏:‏ جمعت وروى منصور، عن إبراهيم ‏{‏وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ‏}‏ قال‏:‏ وعدت‏.‏ وقال مجاهد أي‏:‏ أجلت‏.‏ قرأ أبو عمرو وقتت بغير همزة، والعرب تقول صلى القوم إحداناً ووحداناً، ومعناهما واحد، يعني‏:‏ يجعل لها وقتاً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ جمعت لوقتها‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ‏}‏ على وجه التعظيم، يعني‏:‏ لأي يوم أجلت الرسل، ليشهدوا على قومهم‏.‏ ثم بين فقال‏:‏ ‏{‏لِيَوْمِ الفصل‏}‏ يعني‏:‏ أجلها ليوم الفصل وهو يوم القضاء، ويقال‏:‏ يوم الفصل يعني‏:‏ يوم يفصل بين الحبيب والحبيبة وبين الرجل وأمه وأبيه وأخيه ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل‏}‏ يعني‏:‏ ما تدري أي يوم القضاء تعظيماً لذلك اليوم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الشدة من العذاب في ذلك اليوم، للذين أنكروا، وجحدوا بيوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 31‏]‏

‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ ‏(‏17‏)‏ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏19‏)‏ أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ‏(‏20‏)‏ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ‏(‏21‏)‏ إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ‏(‏22‏)‏ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ‏(‏23‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏24‏)‏ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا ‏(‏25‏)‏ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا ‏(‏26‏)‏ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ‏(‏27‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏28‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏29‏)‏ انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ‏(‏30‏)‏ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نُهْلِكِ الاولين‏}‏ يعني‏:‏ ألم يهلك الله تعالى من كان قبلهم بتكذيبهم لأنبيائهم ‏{‏ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاخرين‏}‏ يعني‏:‏ نهلك الآخرين يعني‏:‏ إن كذبوا رسلهم ‏{‏كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين‏}‏ يعني‏:‏ هكذا يفعل الله بالكفار ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الذين كذبوا رسلهم ثم قال‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ من نطفة، وهو ماء ضعيف ‏{‏فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ في رحم الأم‏.‏ ‏{‏إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ يعني‏:‏ إلى وقت معروف، وهو وقت الخروج من البطن‏.‏

‏{‏فَقَدَرْنَا‏}‏ يعني‏:‏ فخلقنا ‏{‏فَنِعْمَ القادرون‏}‏ يعني‏:‏ نعم الخالق، وهو أحسن الخالقين‏.‏ قرأ نافع، والكسائي ‏{‏فَقَدَرْنَا‏}‏ بتشديد الدال المهملة، والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد‏.‏ يقال‏:‏ قدرت كذا وكذا، وقد يعني‏:‏ خلقه في بطن الأم نطفة، ثم علقة ثم مضغة‏.‏ يعني‏:‏ قدرنا خلقه قصيراً وطويلاً، فنعم القادرون‏.‏ يعني‏:‏ فنعم ما قدر الله تعالى خلقهم، ثم أخبرهم بصنعه ليعتبروا، فيؤمنوا بالبعث، وعرفوا الخلق الأول فقال‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الشدة من العذاب لمن رأى الخلق الأول، فأنكر الخلق الثاني‏.‏ ويقال‏:‏ فنعم القادرون، يعني‏:‏ نعم المقدرون‏.‏ ويقال‏:‏ نعم المالكون‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الارض كِفَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ أوعية للخلق‏.‏ ويقال‏:‏ موضع القرار، ويقال‏:‏ بيوتاً ومنزلاً ‏{‏أَحْيَاء وأمواتا‏}‏ يعني‏:‏ ظهرها منازل الأحياء، وبطنها منازل الأموات‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يعني‏:‏ أوعية للأحياء والأموات‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحياءكم‏.‏ ويقال‏:‏ يعني نظمكم فيها، والكفت الضم ‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ يعني‏:‏ الجبال الثقال‏:‏ ‏{‏شامخات‏}‏ يعني‏:‏ عاليات طوالاً ‏{‏وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ ماءً عذباً من السماء، ومن الأرض ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ويل لمن عاين هذه الأشياء، وأنكر وحدانية الله تعالى والبعث‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم الفصل‏.‏ يقال لهؤلاء الذين أنكروا البعث، انطلقوا إلى ما كنتم تكذبون، يعني‏:‏ انطلقوا إلى العذاب‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب‏}‏ وذلك أنه يخرج عنق من النار، فيحيط الكفار مثل السرادق، ثم يخرج من دخان جهنم ظل أسود، فيفرق فيهم ثلاث فرق رؤوسهم، فإذا فرغ من عرضهم قيل لهم ‏{‏انطلقوا إلى ظِلّ ذِى ثلاث شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ‏}‏ ينفعهم ‏{‏وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب‏}‏ يعني‏:‏ السرادق من لهب النار‏.‏ وقال القتبي‏:‏ وذلك أن الشمس تدنو من رؤوسهم، يعني‏:‏ رؤوس الخلق أجمع، وليس عليهم يومئذ لباس، ولا لهم أكنان‏.‏ ينجي الله تعالى برحمته من يشاء إلى ظل من ظله‏.‏

ثم قال للمكذبين‏:‏ انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الله وعقابه، انطلقوا إلى ظل، أي‏:‏ دخان من نار جهنم قد يسطع‏.‏ ثم افترق ثلاث فرق، فيكونون فيه، إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أوليائه في ظله‏.‏ ثم يؤمر لكل فريق إلى مستقره الجنة، أو إلى النار‏.‏ ثم وصف الظل فقال ‏{‏لاَّ ظَلِيلٍ‏}‏ يعني‏:‏ لا يظلكم من حر هذا اليوم، بل يزيدكم من لهب النار، إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس ‏{‏وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب‏}‏ وهذا مثل قوله ‏{‏وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 43‏]‏ وهو الدخان وهو سرادق أهل النار، كما ذكر المفسرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 50‏]‏

‏{‏إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ‏(‏32‏)‏ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏34‏)‏ هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ ‏(‏35‏)‏ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ‏(‏36‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏37‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ‏(‏39‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏40‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ‏(‏41‏)‏ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏42‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏44‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏45‏)‏ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ ‏(‏46‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ ‏(‏48‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏49‏)‏ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر‏}‏ يعني‏:‏ النار ترمي بشرر القصر‏.‏ قال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ يشبه القصر، وهو القصور الأعاريب التي على الماء‏.‏ واحدهما عربة، وهي الأرحية التي تكون على الماء، تطحن الحنطة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ القصور أصول الشجر العظام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إنها ترمي بشرر كالقصر‏.‏ أراد القصور من قصور أحياء العرب‏.‏ وقرأ بعضهم كالقصر بنصب الصاد شبه بأعناق النخل، ثم شبه في لونه بالجمالات الصفر‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُ جمالة صُفْرٌ‏}‏ وهو أسود‏.‏ والعرب تسمي السود من الإبل الصفرُ، لأنه يشوبه صفرة، كما قال الأعشى

تِلْكَ خَيْلِي وَتِلْكَ منها رِكَابِي *** هُنَّ صَفْرٌ أوْلادُهَا كالزَّبِيبِ

يعني‏:‏ أسود، قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص‏:‏ ‏{‏جمالة صُفْرٌ‏}‏ وهي جمع جمل يقال‏:‏ جمل وجمال وجمالة وقرأ الباقون‏:‏ ‏{‏جمالات‏}‏ وهو جمع الجمع وقال ابن عباس رضي الله عنه جمالات حيال السفينة يجمع بعضها إلى بعض حتى يكون مثل أوساط الرجال ‏{‏الفصل وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ويل لمن جحد هذا اليوم بعدما سمعه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يتكلمون وهذا في بعض أحوال يوم القيامة ومواضعها ‏{‏وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يؤذن لهم في الكلام يعني‏:‏ الكفار ليعتذروا ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ويل لمن جحد يوم القيامة وهو يقدر على الكلام في هذا اليوم يعني‏:‏ كان في الدنيا يقدر على المعذرة فتركها ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏هذا يَوْمُ الفصل‏}‏ يعني‏:‏ يوم القضاء ويقال‏:‏ يوم الفصل يعني‏:‏ بين أهل الجنة وبين أهل النار ‏{‏جمعناكم والاولين‏}‏ يعني‏:‏ جمعناكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع من مضى قبلكم ‏{‏فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ‏}‏ يعني‏:‏ إن كان لكم حيلة فاحتالوا لأنفسكم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ويل لمن أنكر قدرة الله والبعث والجمع يوم القيامة ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين فِى ظلال وَعُيُونٍ‏}‏ يعني‏:‏ إن الذين يتقون الشرك والفواحش‏.‏

قال الكلبي‏:‏ في ظلال الأشجار‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ في الجنان والقصور يعني‏:‏ قصور الجنة وعيون يعني‏:‏ أنهار جارية ‏{‏وفواكه‏}‏ يعني‏:‏ وألوان الفواكه ‏{‏مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يتمنون ويقال لهم‏:‏ ‏{‏كُلُواْ‏}‏ يعني‏:‏ من الطعام ‏{‏واشربوا‏}‏ من الشراب ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏ يعني‏:‏ سائغاً مريئاً لا يؤذيهم ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً لكم بما عملتم في الدنيا ‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ يعني‏:‏ هكذا يثبت الله الموحدين المحسنين المؤمنين في أعمالهم وأفعالهم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ ويل لمن أنكر هذا الثواب ثم قال للمجرمين عز وجل‏:‏ ‏{‏كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً‏}‏ يعني‏:‏ كلوا في الدنيا كما تأكل البهائم وعيشوا مدة قليلة إلى منتهى آجالكم ‏{‏إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مشركين، وهذا وعيد وتهديد ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لمن رضي بالدنيا ولا يقر بالبعث ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ‏}‏ يعني‏:‏ اخضعوا لله تعالى بالتوحيد لا يخضعون، ويقال‏:‏ وإذا قيل لهم صلوا وأقروا بالصلاة لا يركعون يعني‏:‏ لا يقرون بها ولا يصلون‏.‏

يعني‏:‏ ويل طويل لمن لا يقر بالصلاة ولا يؤديها وقال مقاتل‏:‏ نزلت في ثقيف قالوا‏:‏ أنحني في الصلاة لأنه مذلة علينا ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إن لم يصدقوا به فبأي كلام يصدقون يعني‏:‏ إن لم يصدقوا بالقرآن ولم يقروا به فبأي حديث يصدقون يعني‏:‏ هذا الكلام لا باطل فيه يعني‏:‏ لا حديث أصدق منه ولا دعوة أبلغ من دعوى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بالصواب‏.‏

سورة النبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏1‏)‏ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ‏(‏3‏)‏ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث، جعلوا يتساءلون فيما بينهما، ويقولون ما الذي جاء به هذا الرجل‏.‏ فنزل ‏{‏عَمَّ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ عماذا يتساءلون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ يعني‏:‏ يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو القرآن كقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 68‏]‏ ويقال‏:‏ معناه عن ماذا يتحدثون، وعن أي شيء يتحدثون‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ يعني‏:‏ خبراً عظيماً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أصله ‏{‏عَمَّا يَتَسَاءلُونَ‏}‏ ثم بين فقال‏:‏ ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ يعني‏:‏ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ عن القرآن‏.‏ وقيل ‏{‏عَنِ النبإ العظيم‏}‏ يعني‏:‏ عن البعث والدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 17‏]‏ ثم بين لهم الأمر الذي كانوا يتساءلون، وهو البعث‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ مصدقاً ومكذباً‏.‏ يعني‏:‏ بالبعث بعضهم مصدق، وبعضهم مكذب‏.‏ ويقال‏:‏ بالقرآن، ويقال‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ سيعرفون ‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ سيعرفون ذلك الوعيد، على أثر الوعيد، يعني‏:‏ سيعلمون عند الموت وفي الآخرة، ويتبين لهم بالمعاينة‏.‏ قرأ ابن عامر ستعلمون، بالتاء على وجه المخاطبة‏.‏ وقرأ الباقون بالياء، على معنى الخبر عنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 23‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ‏(‏6‏)‏ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ‏(‏7‏)‏ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ‏(‏8‏)‏ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ‏(‏10‏)‏ وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ‏(‏11‏)‏ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ‏(‏12‏)‏ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ‏(‏14‏)‏ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ‏(‏15‏)‏ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ‏(‏16‏)‏ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا ‏(‏17‏)‏ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ‏(‏18‏)‏ وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا ‏(‏19‏)‏ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ‏(‏20‏)‏ إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ‏(‏21‏)‏ لِلطَّاغِينَ مَآَبًا ‏(‏22‏)‏ لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم ذكر صنعه، ليستدلوا بصنعه على توحيده‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَجْعَلِ الارض مهادا‏}‏ يعني‏:‏ فراشاً ومقاماً‏.‏ ويقال‏:‏ موضع القرار، ويقال‏:‏ معناه ذللنا لهم الأرض، ليسكنوها ويسيروا فيها‏.‏ ‏{‏والجبال أَوْتَاداً‏}‏ يعني‏:‏ أوتدها وأثبتها‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وخلقناكم أزواجا‏}‏ يعني‏:‏ أصنافاً وأضداداً، ذكراً وأنثى‏.‏ ويقال‏:‏ ألواناً بيضاً، وسوداً، وحمراً ‏{‏وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ راحة لأبدانكم وأصله التمدد، فلذلك سمي السبت، لأنه قيل لبني إسرائيل‏:‏ استريحوا فيه‏.‏ ويقال‏:‏ سباتاً يعني‏:‏ سكوناً وانقطاعاً عن الحركات‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً‏}‏ يعني‏:‏ سكوناً يسكنون فيه‏.‏ ويقال‏:‏ ستراً يستر كل شيء ‏{‏وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً‏}‏ يعني‏:‏ مطلباً للمعيشة ‏{‏وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً‏}‏ يعني‏:‏ سبع سموات غلاظاً، كل سماء مسيرة خمسمائة عام ‏{‏وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً‏}‏ يعني‏:‏ وقاداً مضيئة ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات‏}‏ يعني‏:‏ من السحاب، سمي معصرات لأنها تعصر الماء‏.‏ ويقال‏:‏ المعصرات هي الرياح‏.‏ يعني‏:‏ ذوات الأعاصير‏.‏ كقوله‏:‏ إعصاراً فيه نار‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏مَاء ثَجَّاجاً‏}‏ يعني‏:‏ سيالاً ويقال‏:‏ منصباً كبيراً ‏{‏لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً‏}‏ يعني‏:‏ بالماء حبوباً كثيرة للناس، ونباتاً للدواب من العشب والكلأ ‏{‏وجنات أَلْفَافاً‏}‏ يعني‏:‏ شجرها ملتفاً بعضها في بعض، فأعلم الله تعالى قدرته، أنه قادر على البعث‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة ميقاتاً، وميعاداً للأولين والآخرين ‏{‏يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً‏}‏ يعني‏:‏ جماعة جماعة‏.‏ وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ يبعث الله تعالى الناس صوراً مختلفة، بعضهم على صورة الخنزير، وبعضهم على صورة القردة، وبعضهم وجوههم كالقمر ليلة البدر‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتِ السماء‏}‏ يعني‏:‏ أبواب السماء ‏{‏فَكَانَتْ أبوابا‏}‏ يعني‏:‏ صارت طرقاً‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم ‏{‏وَفُتِحَتْ‏}‏ بالتخفيف، والباقون بالتشديد، وهو لتكثير الفعل، والتخفيف بفتح مرة واحدة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَسُيّرَتِ الجبال‏}‏ يعني‏:‏ قلعت من أماكنها ‏{‏فَكَانَتْ سَرَاباً‏}‏ يعني‏:‏ فصارت كالسراب، تسير في الهواء كالسراب في الدنيا ‏{‏إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً‏}‏ أي‏:‏ رصداً لكل كافر ويقال‏:‏ سجناً ومحبساً ‏{‏للطاغين مَئَاباً‏}‏ أي‏:‏ للكافرين مرجعاً، يرجعون إليها‏.‏

‏{‏لابثين فِيهَا أَحْقَاباً‏}‏ يعني‏:‏ ماكثين فيها أبداً دائماً‏.‏ والأحقاب وأحدها حقب، والحقب ثمانون سنة، واثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم منها مقدار ألف سنة مما تعدون بأهل الدنيا، فهذا حقب واحد، والأحقاب هو التأييد كلما مضى حقب، دخل حقب آخر‏.‏ وإنما ذكر أحقاباً، لأن ذلك كان أبعد شيء عندهم‏.‏ فذكر وتكلم بما تذهب إليه أوهامهم ويعرفونه، وهو كناية عن التأبيد، أي‏:‏ يمكثون فيها أبداً‏.‏ قرأ حمزة لبثين بغير ألف‏.‏ والباقون لابثين بالألف، ومعناهما واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 40‏]‏

‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا ‏(‏24‏)‏ إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا ‏(‏25‏)‏ جَزَاءً وِفَاقًا ‏(‏26‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ‏(‏27‏)‏ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا ‏(‏28‏)‏ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ‏(‏29‏)‏ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا ‏(‏30‏)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ‏(‏31‏)‏ حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ‏(‏32‏)‏ وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ‏(‏33‏)‏ وَكَأْسًا دِهَاقًا ‏(‏34‏)‏ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا ‏(‏35‏)‏ جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا ‏(‏36‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ‏(‏37‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ‏(‏38‏)‏ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا ‏(‏39‏)‏ إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً‏}‏ يعني‏:‏ لا يكون فيها برد يمنعهم من حرها‏.‏ وقال القتبي‏:‏ البرد النوم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون البرد نوماً، ويجوز أن يكون معناه‏:‏ لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل ‏{‏وَلاَ شَرَاباً‏}‏ يعني‏:‏ شراباً ينفعهم ‏{‏إِلاَّ حَمِيماً‏}‏ يعني‏:‏ ماءً حاراً قد انتهى حره ‏{‏وَغَسَّاقاً‏}‏ يعني‏:‏ زمهريراً‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الغساق ما يغسق من جلودهم، أي‏:‏ ما يسيل وقد قيل الشديد البرد‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية حفص، وغساقاً بالتشديد‏.‏ والباقون بالتخفيف، ومعناهما واحد‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏جَزَاء وفاقا‏}‏ يعني‏:‏ العقوبة موافقة لأعمالهم، لأن أعظم الذنوب الشرك نعوذ بالله، وأعظم العذاب النار، ووافق الجزاء العمل‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً‏}‏ يعني‏:‏ لا يخافون البعث بعد الموت‏.‏ ويقال‏:‏ كانوا لا يرجون ثواب الآخرة، أنهم كانوا ينكرون البعث‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَّبُواْ بآياتنا كِذَّاباً‏}‏ يعني‏:‏ جحدوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن كذاباً يعني‏:‏ تكذيباً وجحوداً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ شَئ أحصيناه كتابا‏}‏ يعني‏:‏ أثبتناه في اللوح المحفوظ ‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ يعني‏:‏ يقال لهم‏:‏ فذوقوا العذاب ‏{‏فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً‏}‏‏.‏

ثم بين حال المؤمنين فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً‏}‏ يعني‏:‏ نجاة من النار إلى الجنة‏.‏ ويقال‏:‏ المفاز بمعنى الفوز‏.‏ يعني‏:‏ موضع النجاة ‏{‏حَدَائِقَ وأعنابا‏}‏ يعني‏:‏ لهم حدائق في الجنة، والحدائق ما أحيط بالجدار، وفيه من النخيل والثمار، وأعناباً يعني‏:‏ كروماً ‏{‏وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً‏}‏ والكواعب، الجواري مفلكات الثديين ‏{‏أَتْرَاباً‏}‏ مستويات في الميلاد والسن‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ الكواعب النساء، قد كعب ثديهن ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ كل إناء فيه شراب فهو كأس، فإذا لم يكن فيه شراب فليس بكأس، كما يقال للمائدة إذا كان عليها طعام مائدة، وإذا لم يكن فيها طعام خوان يقال ‏{‏دِهَاقاً‏}‏ يعني‏:‏ سائغاً‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَكَأْساً دِهَاقاً‏}‏ يعني‏:‏ إناء فيه خمر ملآن متتابعاً‏.‏ وهذا قول عطية وسعيد، والعباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم، ومجاهد، وإبراهيم النخعي‏.‏

‏{‏لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً‏}‏ يعني‏:‏ حلفاً وباطلاً‏.‏ ويقال‏:‏ ولا يسمعون في مشربها فحشاً خبثاً ‏{‏وَلاَ كِذباً‏}‏ يعني‏:‏ تكذيباً في شربها‏.‏ يعني‏:‏ لا يكذبون فيها‏.‏ قرأ الكسائي كذاباً بالتخفيف، يعني‏:‏ لا يكذب بعضهم بعضاً‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد فهو من التكذيب ثم قال‏:‏ ‏{‏جَزَاء مّن رَّبّكَ‏}‏ يعني‏:‏ ثواباً من ربك ‏{‏عَطَاء حِسَاباً‏}‏ يعني‏:‏ كثيراً وقال مجاهد‏:‏ عطاء من الله، حساباً بما عملوا‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ حساباً أي‏:‏ كثيراً‏.‏ كما يقال‏:‏ أعطينا فلاناً عطاء حساباً، أي‏:‏ كثيراً‏.‏ وأصله أن يعطيه حتى يقول حسبي‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ حساباً‏.‏ أي‏:‏ ما يكفيهم، يعني‏:‏ فيه ما يشتهون‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏رَبّ السموات والارض‏}‏ يعني‏:‏ خالق السموات والأرض‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، رب السموات والأرض بضم الباء والباقون بالكسر فمن قرأ بالضم فمعناه هو رب السموات والأرض ومن قرأ بالكسر فهو على معنى الصفة أي‏:‏ جزاء من ربك رب السموات والأرض ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن‏}‏ يعني‏:‏ الرحمن هو رب السموات والأرض ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً‏}‏ يعني‏:‏ لا يملكون الكلام بالشفاعة، إلا بإذنه ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الروح‏}‏ قال الضحاك‏:‏ هو جبريل‏.‏ وقال قتادة عن ابن عباس، وخلق على صورة بني آدم‏.‏ ويقال‏:‏ هو خلق واحد، يقوم صفاً واحداً ‏{‏والملائكة صَفّاً‏}‏ يعني‏:‏ صفوفاً‏.‏ ويقال‏:‏ الروح لا يعلمه إلا الله، كما قال ‏{‏وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن‏}‏ يعني‏:‏ لا يتكلمون بالشفاعة، إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة ‏{‏وَقَالَ صَوَاباً‏}‏ يعني‏:‏ لا إله إلا الله يعني‏:‏ من كان معه من التوحيد، وهو من أهل الشفاعة‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ اليوم الحق‏}‏ يعني‏:‏ القيامة كائنة ‏{‏فَمَن شَاء اتخذ‏}‏ يعني‏:‏ من شاء وجد واتخذ بذلك التوحيد ‏{‏ذَلِكَ اليوم الحق‏}‏ يعني‏:‏ مرجعاً‏.‏ ويقال‏:‏ من شاء اتخذ بالطاعة إلى ربه مرجعاً‏.‏

ثم خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ يعني‏:‏ خوفناكم بعذاب قريب، وهو يوم القيامة‏.‏ ثم خوف المؤمنين، ووصف ذلك اليوم ‏{‏يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ يعني‏:‏ ما عملوا من الخير والشر يعني‏:‏ ينظر المؤمن إلى عمله، وينظر الكافر إلى عمله ‏{‏وَيَقُولُ الكافر الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏ يعني‏:‏ لو كنت بهماً منها فأكون تراباً، أستوي بالأرض‏.‏ وذلك، أن الله تعالى يقول للسباع والبهائم، كوني تراباً فعند ذلك، يتمنى الكافر ‏{‏الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏‏.‏

وروى عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ إن الله يحشر البهائم والدواب والناس، ثم يقتص لبعضهم من بعض، حتى يقتص للشاة‏.‏ الجماء من الشاة القرناء‏.‏ ثم إن الله تعالى يقول لها‏:‏ كوني تراباً، فيراها الكافر ويتمنى أن يكون مثلها تراباً‏.‏ ويقول‏:‏ ‏{‏الكافر ياليتنى كُنتُ ترابا‏}‏ يعني‏:‏ يا ليتني لم أبعث كقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 25‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ياليتها كَانَتِ القاضية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 27‏]‏ والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وسلم‏.‏

سورة النازعات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ‏(‏1‏)‏ وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ‏(‏2‏)‏ وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ‏(‏4‏)‏ فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ ‏(‏6‏)‏ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ‏(‏7‏)‏ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ‏(‏8‏)‏ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ‏(‏9‏)‏ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ‏(‏10‏)‏ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً ‏(‏11‏)‏ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ‏(‏12‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ‏(‏13‏)‏ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً‏}‏ قال مقاتل يعني‏:‏ ملك الموت ينزع روح الكافر من صدره، كما ينزع السفود الكثير الشعب من الصوف‏.‏ فيخرج نفسه من حلقه منها العروق، كالغريق في الماء ‏{‏والناشطات نَشْطاً‏}‏ ملك الموت، ينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏والنازعات‏}‏ يعني‏:‏ ملك الموت وأعوانه ‏{‏غَرْقاً‏}‏ كرهاً‏.‏ يقال‏:‏ غرقت نفسه في صدره وذلك، أنه ليس من كافر يحضره الموت، إلا عرضت عليه جهنم، فيراها قبل أن يخرج نفسه، فيرى فيها أقواماً، مرة ينغمسون، ومرة يرتفعون‏.‏ فعند ذلك، تغرق روحه في جسده‏.‏ ‏{‏والناشطات نَشْطاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين يقبضون أرواح المؤمنين بالتيسير، وذلك أنه ما من مؤمن يحضره الموت، إلا ويرى منزلته في الجنة‏.‏ ويرى فيها أقواماً من أهل معرفته، وهم يدعون إلى أنفسهم، فعند ذلك ينشط إلى الخروج‏.‏ ويقال ‏{‏النازعات‏}‏ الملائكة تنزع النفس أغراقاً، كما يغرق النازع في القوس ‏{‏غَرْقاً والناشطات‏}‏ الملائكة تقبض نفس المؤمن، كما ينشط العقال‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ‏{‏والنازعات غَرْقاً‏}‏ يعني‏:‏ ألقى ‏{‏والناشطات نَشْطاً‏}‏ يعني‏:‏ الأوهاق‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين يقبضون أرواح الصالحين، يسلونها سلاً رقيقاً، ويتركونها حتى تستريح رويداً‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ يعني‏:‏ السفن تجري في الماء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة جعل نزولها في السماء كالسباحة‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏والسابحات سَبْحاً‏}‏ يعني‏:‏ النجوم الدوارة‏.‏ كما قال‏:‏ و‏{‏وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل والنهار والشمس والقمر كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 33‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏فالسابقات سَبْقاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين يسبقون إلى الخير والدعاء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فالسابقات سَبْقاً‏}‏ بالخير يعني‏:‏ أرواح المؤمنين يعرج بها إلى السماء، سراعاً يفتح لها أبواب السماء‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏فالسابقات سَبْقاً‏}‏ يعني‏:‏ خيول الغزاة‏.‏

‏{‏فالمدبرات أَمْراً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة الذين جعل إليهم تدبير الخلق، وهم جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، عليهم السلام‏.‏ أما جبريل فعلى الوحي، وإنزال الرحمة، والعذاب على الخلائق بأمر الله وأما ميكائيل فعلى الأمطار والنبات، يقسم على البلاد والعباد بإذن الله‏.‏ وأما عزرائيل، وهو ملك الموت، فعلى قبض الأرواح عند انقضاء أجلهم بإذن الله تعالى‏.‏ وإما إسرافيل، فعلى النفح في الصور متى أمره الله تعالى، فهذا كله قسم، وجواب القسم مضمر، فكأنه أقسم بهذه الأشياء، أنهم يبعثون يوم القيامة، لأن في الكلام دليلاً عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ يعني‏:‏ لتبعثن يوم القيامة في ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة‏}‏ يعني‏:‏ الصيحة الأولى‏.‏

‏{‏تَتْبَعُهَا الرادفة‏}‏ يعني‏:‏ الصيحة الثانية، يعني‏:‏ النفخة الأولى للصعق، والنفخة الأخرى للبعث‏.‏ وروي عن يزيد بن ربيعة، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة‏}‏ قال‏:‏ هما النفختان، فأما الأولى‏:‏ فيميت الأحياء، وأما الثانية‏:‏ فتحيي الموتى‏.‏

ثم تلا ‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض إِلاَّ مَن شَاء الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، وأصل الرجفة الحركة يعني‏:‏ تزلزلت الأرض زلزلة شديدة عند النفخة الأولى، والرادفة كل شيء تجيء بعد شيء، فهو يردفه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ خائفة خاشعة من هول ذلك اليوم‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ ذليلة‏.‏ ويقال‏:‏ زائلة عن مكانها‏.‏ ‏{‏أبصارها خاشعة‏}‏ يعني‏:‏ أبصار الخلائق ذليلة‏.‏ ويقال‏:‏ أبصار القلوب خاشعة‏.‏ ثم ذكر قول الكفار، وإنكارهم البعث فقال‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الحافرة‏}‏ تعجباً منهم، وفي الآية تقديم ومعناه‏:‏ أئنا لمردودون في الحياة بعد الموت‏.‏ ويقال‏:‏ أئنا لمردودون في الحافرة، أي‏:‏ إلى أول أمرنا‏.‏ يقال‏:‏ رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته أي‏:‏ رجع من حيث جاء‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏أَءذَا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً‏}‏ يعني‏:‏ بعد ما كنا عظاماً بالية‏.‏ قرأ حمزة، والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر ‏{‏إِذَا كُنَّا عظاما‏}‏ بالألف، والباقون بغير ألف‏.‏ قال بعضهم‏:‏ معناهما واحد هما لغتان‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ الناخرة التي أكلت أطرافها، وبقيت أوساطها، والنخرة التي قد فسدت كلها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عظاماً نخرة، أو مرفوتة كما قال في قوله‏:‏ ‏{‏كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ ‏{‏قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة‏}‏ يعني‏:‏ إن كانوا كما يقولون، فنحن بخسران قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة‏}‏ يعني‏:‏ يبعثهم صيحة واحدة، وهو نفخ إسرافيل في الصور ‏{‏فَإِذَا هُم بالساهرة‏}‏ يعني‏:‏ على وجه الأرض يعني‏:‏ هم قيام على ظهر الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ سميت الأرض ساهرة، لقيام الخلق، وسهرهم عليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 26‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ‏(‏16‏)‏ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ‏(‏17‏)‏ فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ‏(‏19‏)‏ فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى ‏(‏20‏)‏ فَكَذَّبَ وَعَصَى ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ‏(‏22‏)‏ فَحَشَرَ فَنَادَى ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ‏(‏24‏)‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

ثم وعظهم بما أصاب فرعون في النكال في الدنيا فقال‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى‏}‏ يعني‏:‏ قد أتاك خبر موسى ‏{‏إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس‏}‏ يعني‏:‏ بالوادي المطهر ‏{‏طُوًى‏}‏ اسم الوادي ‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى‏}‏ يعني‏:‏ علا وتكبر وكفر فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى‏}‏ يعني‏:‏ ألم يأن لك أن تسلم‏.‏ ويقال‏:‏ معناه هل ترغب في توحيد ربك، وتشهد أن لا إله إلا الله، وتزكي نفسك من الكفر، والشرك‏.‏ قرأ ابن كثير، ونافع إلى أن تزكى بتشديد الزاء، لأن أصله تتزكى، وأدغمت التاء في الزاء، وشددت‏.‏ والباقون بالتخفيف، لأنه حذف إحدى التائين، وتركت مخففة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى‏}‏ يعني‏:‏ أدعوك إلى توحيد ربك فتخشى‏.‏ يعني‏:‏ تخاف عذابه فتسلم ‏{‏فَأَرَاهُ الاية الكبرى‏}‏ يعني‏:‏ العصا، واليد، وسائر الآيات‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبَ وعصى‏}‏ يعني‏:‏ كذب الآيات، ولم يقبل قول موسى عليه السلام ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى‏}‏ يعني‏:‏ أدبر عن التوحيد، وسعى في هلاك موسى ‏{‏فَحَشَرَ‏}‏ يعني‏:‏ فجمع أهل المدينة ‏{‏فنادى‏}‏ يعني‏:‏ فخاطب ‏{‏فَقَالَ‏}‏ لهم اعبدوا أصنامكم التي كنتم تعبدون، فإن هؤلاء أربابكم الصغار‏.‏

‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى * فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الاخرة والاولى‏}‏ يعني‏:‏ فعاقبه بعقوبة الدنيا والآخرة، وهي الغرق وعقوبة الآخرة وهي النار‏.‏ ويقال‏:‏ الآخرة والأولى‏.‏ يعني‏:‏ العقوبة بالكلمة الأولى، والكلمة الأخرى، فأما الأولى قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ والأخرى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ * الاعلى‏}‏ وكان بين الكلمتين أربعون سنة‏.‏ ويقال‏:‏ قوله ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ * الاعلى‏}‏ كان في الابتداء، حيث أمرهم بعبادة الأصنام، ثم نهاهم عن ذلك، وأمرهم بأن لا يعبدوا غيره‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ في هلاك فرعون وقومه ‏{‏لَعِبْرَةً لّمَن يخشى‏}‏ يعني‏:‏ لعظة لمن يريد أن يعتبر، ويسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 41‏]‏

‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ‏(‏27‏)‏ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ‏(‏28‏)‏ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ‏(‏29‏)‏ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ‏(‏30‏)‏ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ‏(‏31‏)‏ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ‏(‏32‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏33‏)‏ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ‏(‏34‏)‏ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ‏(‏35‏)‏ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى ‏(‏36‏)‏ فَأَمَّا مَنْ طَغَى ‏(‏37‏)‏ وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏38‏)‏ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏39‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ‏(‏40‏)‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

ثم وعظ أهل مكة فقال‏:‏ ‏{‏أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها‏}‏ يعني‏:‏ أبعثكم بعد الموت أشد، أم خلق السماء في المشاهدة عند الناس، خلق السماء أشد‏.‏ فالذي هو قادر على خلق السماء، قادر على البعث‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏بناها‏}‏ يعني‏:‏ خلق السماء مرتفعة ‏{‏رَفَعَ سَمْكَهَا‏}‏ أي‏:‏ سقفها بغير عمد ‏{‏فَسَوَّاهَا‏}‏ يعني‏:‏ سوى خلقها‏.‏ ويقال‏:‏ خلقها مستوية، بلا صدع ولا شق ‏{‏وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا‏}‏ يعني‏:‏ أظلم ليلها ‏{‏وَأَخْرَجَ ضحاها‏}‏ يعني‏:‏ أنوار ضحاها، وشمسها ونهارها، فإنها راجعة إلى السماء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ يعني‏:‏ بعد خلق الأرض السماء، وبسط الأرض ومدها ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا‏}‏ يعني‏:‏ من الأرض ماءها‏.‏ يعني‏:‏ عيونها للناس ‏{‏ومرعاها‏}‏ للدواب والأنعام‏.‏ قال القتبي‏:‏ هذا من جوامع الكلم، حيث ذكر شيئين على جميع ما يخرج من الأرض قوتاً، ومتاعاً للأنعام من العنب، والشجر، والحب، والتمر، والملح والنار، لأن النار من العيدان، والملح من الماء‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والجبال أرساها‏}‏ يعني‏:‏ أوتدها وأثبتها ‏{‏متاعا لَّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ منفعة لكم ‏{‏ولانعامكم فَإِذَا جَاءتِ الطامة الكبرى‏}‏ يعني‏:‏ الصيحة العظمى، وإنما سميت الطامة، لأنها طمت وعلت فوق كل شيء ‏{‏يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى‏}‏ يعني‏:‏ يعلم بكل شيء عمله في الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ يوم ينظر الإنسان في كتابه، بما عمل في الخير والشر ‏{‏وَبُرّزَتِ الجحيم‏}‏ يعني‏:‏ أظهرت الجحيم ‏{‏لِمَن يرى‏}‏ يعني‏:‏ لمن وجب له ‏{‏فَأَمَّا مَن طغى‏}‏ يعني‏:‏ كفر وعلا وتكبر‏.‏ ‏{‏وَءاثَرَ الحياة الدنيا‏}‏ يعني‏:‏ اختار ما في الدنيا على الآخرة‏.‏ ويقال‏:‏ اختار العمل للدنيا على الآخرة ‏{‏فَإِنَّ الجحيم هِىَ المأوى‏}‏ يعني‏:‏ مأوى من كان هكذا‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‏}‏ يعني‏:‏ خاف المقام بين يدي ربه ‏{‏وَنَهَى النفس عَنِ الهوى‏}‏ يعني‏:‏ منع نفسه عن معاصي الله تعالى، وعمل بخلاف ما تهوى في الحرام ‏{‏فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى‏}‏ يعني‏:‏ مأوى من كان هكذا‏.‏ قال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه أخوف ما أخاف عليكم اثنان‏:‏ طول الأمل، واتباع الهوى‏.‏ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ‏(‏42‏)‏ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ‏(‏43‏)‏ إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ‏(‏44‏)‏ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا ‏(‏45‏)‏ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ‏(‏46‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة‏}‏ يعني‏:‏ يسألونك عن قيام الساعة ‏{‏أَيَّانَ مرساها‏}‏ أي‏:‏ وقت قيامها‏.‏ وأصله أي‏:‏ أوان ظهورها ووقتها‏.‏ قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا‏}‏ يعني‏:‏ دع ما أنت وذاك دع ذلك إلى الله، ثم قال‏:‏ ‏{‏إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ يعني‏:‏ عند ربك علم قيامها‏.‏ وروى سفيان، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها‏.‏ قالت‏:‏ لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم، يسأل عن الساعة، حتى نزل ‏{‏فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبّكَ منتهاها‏}‏ يعني‏:‏ عند ربك علم قيامها، وانتهى عند ذلك‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها‏}‏ يعني‏:‏ أنت مخوف بالقرآن، من يخاف قيام الساعة، وليس عليك أن تعرف متى وقتها‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا‏}‏ يعني‏:‏ قيام الساعة ‏{‏لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها‏}‏ يعني‏:‏ كأنهم لبثوا في قبورهم مقدار عشية، وهو قدر آخر النهار، أو ضحاها وهو قدر أول النهار‏.‏ ويقال‏:‏ كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، إلا مقدار العشية، أو مقدار الضحى‏.‏ قرأ أبو عمرو في إحدى الروايتين ‏{‏إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ‏}‏ بالتنوين، والباقون بغير تنوين‏.‏ فمن قرأ بالتنوين، جعل من في موضع النصب‏.‏ يعني‏:‏ منذر الذي يخشاها‏.‏ ومن قرأ بغير تنوين، جعل من في موضع خفض‏.‏ بالإضافة‏.‏ والله الموفق بمنه وكرمه، وصلى الله على سيدنا محمد‏.‏

سورة عبس

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 16‏]‏

‏{‏عَبَسَ وَتَوَلَّى ‏(‏1‏)‏ أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ‏(‏3‏)‏ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ‏(‏4‏)‏ أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ‏(‏5‏)‏ فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى ‏(‏6‏)‏ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ‏(‏8‏)‏ وَهُوَ يَخْشَى ‏(‏9‏)‏ فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ‏(‏10‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ ‏(‏11‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏12‏)‏ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ‏(‏13‏)‏ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ‏(‏14‏)‏ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ‏(‏15‏)‏ كِرَامٍ بَرَرَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَبَسَ وتولى‏}‏ أي‏:‏ كلح وأعرض بوجهه‏.‏ يعني‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم وروى هشام بن عروة قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، ومعه عتبة بن ربيعة، في ناس من وجوه قريش، وهو يحدثهم بحديث‏.‏ فجاء ابن أم مكتوم على تلك الحال، فسأله عن بعض ما ينفع به، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع كلامه، وقال في رواية مقاتل، كان اسم ابن أم مكتوم عمر بن قيس‏.‏ وقال في رواية الكلبي، كان اسمه عبد الله بن شريح‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، علمني مما علمك الله تعالى‏.‏ فأعرض عنه شغلاً بأولئك القوم، لحرصه على إسلامهم فنزل ‏{‏عَبَسَ وتولى‏}‏‏.‏ وهو بلفظ المغايبة، تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏عَبَسَ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم وجهه ‏{‏وتولى‏}‏ يعني‏:‏ وأعرض ‏{‏أَن جَاءهُ الاعمى‏}‏ يعني‏:‏ إن جاءه الأعمى‏.‏ ويقال‏:‏ حين جاء الأعمى، وهو ابن أم مكتوم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى‏}‏ يعني‏:‏ وما يدريك يا محمد، لعله يصلي أو يفلح، فيعمل خيراً فيتعظ بالقرآن‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ يزداد خيراً‏.‏ ‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ‏}‏ يعني‏:‏ يتعظ بالقرآن ‏{‏فَتَنفَعَهُ الذكرى‏}‏ يعني‏:‏ العظة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أَمَّا مَنِ استغنى‏}‏ يعني‏:‏ استغنى بنفسه عن ثواب الله‏.‏ ويقال‏:‏ استغنى بماله ونفسه، عن دينك وعظمتك ‏{‏فَأَنتَ لَهُ تصدى‏}‏ يعني‏:‏ تقبل بوجهك عليه‏.‏ ويقال تصدى يعني‏:‏ تعرض‏.‏ يقال‏:‏ فلان تصدى لفلان، إذا تعرض له ليراه‏.‏ قرأ عاصم ‏{‏أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى‏}‏ بنصب العين، جعله جواباً لعله يتذكر فتنفعه الذكرى‏.‏ وقرأ الباقون بالضم، جعلوه جواباً للفعل‏.‏ قرأ نافع، وابن كثير تصدى بتشديد الصاد، لأن الأصل تتصدى، فأدغمت وشددت‏.‏ والباقون بحذف التاء للتخفيف، فهذا كقوله ‏{‏فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى‏}‏ يعني‏:‏ أي شيء عليك إن لم يوجد عتبة وأصحابه‏.‏ ويقال‏:‏ لا يضرك إن لم يؤمن، ولم يصلح‏.‏ ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى‏}‏ يعني‏:‏ يسرع إلى الخير، ويعمل به، وهو ابن أم مكتوم‏.‏ ويقال‏:‏ يعني‏:‏ يمشي برجليه ‏{‏وَهُوَ يخشى‏}‏ ربه ‏{‏فَأَنتَ عَنْهُ تلهى‏}‏ يعني‏:‏ تشتغل، وتتلاهى وتتغافل‏.‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكرم ابن أم مكتوم بعد نزول هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ لا تفعل، ولا تقبل على من استغنى عن الله تعالى بنفسه، وتعرض عمن يخشى الله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ هذه الموعظة تذكرة‏.‏ ويقال‏:‏ هذه السورة تذكرة، يعني‏:‏ موعظة ‏{‏فَمَن شَاء ذَكَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ ذكر المواعظ وذكره يلفظ التذكير، ولم يقل ذكرها، لأنه ينصرف إلى المعنى، لأن الموعظة إنما هي بالقرآن‏.‏

يعني‏:‏ فمن شاء أن يتعظ بالقرآن فليتعظ ‏{‏فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أن هذا القرآن في صحف مكرمة‏.‏ يعني‏:‏ مطهرة مبجلة معظمة، وهو اللوح المحفوظ ‏{‏مَّرْفُوعَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ مرتفعة ‏{‏مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ منزهة عن التناقض، والكذب والعيب‏.‏ ‏{‏بِأَيْدِى سَفَرَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ الكتبة الذين يكتبون في اللوح المحفوظ‏.‏ ثم أثنى على الكتبة فقال‏:‏ ‏{‏كِرَامٍ‏}‏ على الله ‏{‏بَرَرَةٍ‏}‏ أي‏:‏ مطيعين لله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ بررة من الذنوب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ السفرة الكتبة‏.‏ وأحدهما سافر، وإنما يقال للكاتب سافر، لأنه يبين الشيء ويوضحه‏.‏ ويقال‏:‏ أسفر الصبح، إذا أضاء البررة جمع بار، مثل‏:‏ كفرة وكافر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 32‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ‏(‏17‏)‏ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏ وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏ وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏ وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ لعن الكافر بالله تعالى‏.‏ يعني‏:‏ عتبة وأصحابه، ومن كان مثل حاله إلى يوم القيامة‏.‏ ما أكفره يعني‏:‏ ما الذي أكفره، وهذا قول مقاتل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني‏:‏ أي شيء أكفره‏.‏ قال نزلت في عتبة حيث قال‏:‏ إني كفرت بالنجم إذا هوى‏.‏ ويقال‏:‏ ما أكفره، يعني‏:‏ ما أشده في كفره‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مِنْ أَىّ شَئ خَلَقَهُ‏}‏ يعني‏:‏ هل يعلم من أي شيء خلقه الله تعالى‏.‏ ويقال‏:‏ أفلا يعتبر من أي شيء خلقه، ثم أعلمه ليعتبر في خلقه، فقال‏:‏ ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ خلقه في بطن أمه طوراً بعد طور‏.‏

‏{‏ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يسره للخروج من بطن أمه‏.‏ ويقال‏:‏ يسره طريق الخير والشر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو مثل قوله ‏{‏إِنَّا هديناه السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً‏}‏ ‏[‏الدهر‏:‏ 3‏]‏ ‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ جعل له قبراً يوارى فيه‏.‏ ويقال‏:‏ أمر به ليعتبر، ويقال‏:‏ فأقبره أي‏:‏ جعله ممن يقبر، ولم يجعله ممن يلقى على وجه الأرض، كالبهائم ‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ يبعثه في القبر إذا جاء وقته‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏}‏ يعني‏:‏ لم يؤد ما أمره من التوحيد، وما هنا صلة كقوله ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لما يقضي ما أمره، يعني‏:‏ لا يقضي أحداً أبداً، كما افترض عليه‏.‏ ثم أمرهم بأن يعتبروا بخلقه فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ‏}‏ يعني‏:‏ إلى رزقه ومن أي شيء يرزقه، وليعتبروا به ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً‏}‏ يعني‏:‏ المطر‏.‏ قرأ أهل الكوفة أنا صببنا، بنصب الألف‏.‏ والباقون بالكسر فمن قرأ بالنصب جعله بدلاً عن الطعام، يعني‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً‏}‏ ومن قرأ بالكسر، فهو على الاستئناف ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً‏}‏ يعني‏:‏ المطر على الأرض المطر بعد المطر‏.‏

‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الارض شَقّاً‏}‏ يعني‏:‏ شققناها بالنبات والشجر ‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ في الأرض ومعناه‏:‏ أخرجنا من الأرض ‏{‏حَبّاً‏}‏ يعني‏:‏ الحبوب كلها ‏{‏وَعِنَباً‏}‏ يعني‏:‏ الكروم ‏{‏وَقَضْباً‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ القضبة وهو القت الرطب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ القضب القت، سمي قضباً لأنه يقضب مرة بعد مرة، أي‏:‏ يقطع‏.‏ وكذلك الفصيل، لأنه يفصل أي‏:‏ يقطع‏.‏ ويقال‏:‏ وقضبتا يعني‏:‏ جميع ما يقضب مثل القت‏.‏ والكرات، وسائر البقول التي تقطع، فينبت من أصله ‏{‏وَزَيْتُوناً‏}‏ وهي شجرة الزيتون ‏{‏وَنَخْلاً‏}‏ يعني‏:‏ النخيل ‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْباً‏}‏ قال عكرمة‏:‏ غلاظ الرقاب‏.‏

ألا ترى أن الرجل إذا كان غليظ الرقبة، يقال أغلب‏.‏ والحدائق واحدها حديقة غلباً أي‏:‏ نخلاً غلاظاً طوالاً‏.‏ ويقال‏:‏ حدائق غلباً يعني‏:‏ حيطان النخيل والشجر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كل شيء أحبط عليه من نخيل أو شجر، فهو حديقة، وما لم يحط به فليس بحديقة‏.‏ ويقال‏:‏ الشجر الملتف بعضه في بعض‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وفاكهة‏}‏ ويعني الثمر كلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ خُلِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ وَرُزِقْتُمْ مِنْ سَبْعٍ فَاسْجُدُوا لله عَلَى سَبْعٍ ‏"‏ وإنما أراد بقوله خلقتم من سبع يعني من نطفة ثم من علقه، الآية والرزق من سبع وهو قوله‏:‏ «فأنبتنا فيها حباً وعنباً» إلى قوله‏:‏ «وفاكهة وأباً» ثم قال‏:‏ ‏{‏وَأَبّاً‏}‏ يعني العنب وقال مجاهد‏:‏ ما يأكل الدواب والأنعام وقال الضحاك هو التبن‏.‏ ‏{‏متاعا لَّكُمْ ولانعامكم‏}‏ يعني الحبوب والفواكه منفعة لكم والكلأ والعشب منفعة لكم ولأنعامكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 42‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

ثم ذكر القيامة فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الصاخة‏}‏ يعني‏:‏ الصيحة تصخ الأسماع أي تصمها فلا يسمع إلا ما يدعا به ويقال الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة وكذلك الطامة والقارعة والحاقة ثم وصف ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ‏}‏ وفراره أنه يعرض عنه بنفسه وقال شهر بن حوشب يوم يفر المرء من أخيه يعني‏:‏ هو هابيل يفر من أخيه قابيل ‏{‏وَأُمّهِ وَأَبِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ محمداً صلى الله عليه وسلم من أمه وأبيه وإبراهيم من أبيه ‏{‏وصاحبته‏}‏ يعني‏:‏ لوط عليه السلام من امرأته ‏{‏وَبَنِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ نوح عليه السلام من ابنه، ويقال هذا في بعض أحوال يوم القيامة أن كل واحد منهم يشتغل بنفسه يعني‏:‏ فلا ينظر المرء إلى أخيه وإلى أبيه وإلى ابنه ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ يعني؛ لكل إنسان شغل يشغله عن هؤلاء، وروي في الخبر أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله كيف يحشر الناس قال‏:‏ «حُفَاة عُرَاة» فقالت عائشة رضي الله عنها واسوأتاه النساء مع الرجال حفاة عراة فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏لِكُلّ امرئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ لكل واحد منهم عمل يشغله بنفسه عن غيره ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ من الوجوه ما يكون في ذلك اليوم مشرقة مضيئة ‏{‏ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ مفرحة بالثواب وهم المؤمنون المطيعون ‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ من الوجوه ما يعلوها السواد كالدخان وأصل الغبرة يعني الغبار ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ تلحقها قترة يعني يغشاها الكسوف والسواد ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ الكفرة الفجرة‏}‏ يعني‏:‏ أن أهل هذه الصفة هم الكفرة بالله تعالى الكذبة على الله تعالى ويقال ترهقها قترة يعني المذلة والكآبة والفجرة يعني‏:‏ الظلمة‏.‏ والله الموفق بمنه وصلى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة التكوير

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 14‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ قال أبو الليث رحمه الله حدثنا الحاكم أبو الفضل قال حدثنا محمد بن أحمد الكاتب المروزي حدثنا محمد بن حموية النيسابوري قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن موسى قال‏:‏ حدثنا هشام عن عبد الله عن يحيى بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ فَلْيَقْرَأْ إذَا الشَّمْسُ كُوِّرتْ» وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ ذهب ضوؤها وكذلك قال الضحاك وعكرمة يعني‏:‏ اضمحلت وذهبت ويقال تكور كما تكور العمامة يعني‏:‏ جُمِع ضوؤها ولُفَّ كما تُلف العمامة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ يعني‏:‏ تناثرت وتساقطت ‏{‏وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ قُلعت عن الأرض وسُيِّرت في الهواء كقوله‏:‏ ‏{‏قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 47‏]‏ يعني‏:‏ خالية ليس عليها شيء من الماء والشجر وغيرها ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا العشار عُطّلَتْ‏}‏ يعني‏:‏ النوق الحوامل عطّلها أربابها اشتغالاً بأنفسهم وواحدها‏:‏ عشراء وهي الناقة التي أتت على حملها عشرة أشهر وهي في الحمل فلا يعطلها أهلها إلا في يوم القيامة وهذا على وجه المثل لأن في يوم القيامة لا يكون ناقة عشراء، ولكن أراد به المثل يعني‏:‏ أن هول يوم القيامة بحال لو كان عند الرجل عشراء يعطلها واشتغل بنفسه ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ جُمِعَتْ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ ضجرت بعضها إلى بعض فصارت بحراً واحداً فملئت وكثر ماؤها كقوله‏:‏ ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 6‏]‏ يعني‏:‏ الممتلئ ويقال‏:‏ سجرت أي أحميت بالكواكب إذا تساقطت وفيها قال ابن عباس إذا كان يوم القيامة كوَّر الله تعالى الشمس والقمر والنجوم في البحر ثم بعث الله تعالى ريحاً دبوراً فتنفخها فتصير ناراً وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ أي‏:‏ أحميت‏.‏ وقال قتادة‏:‏ سجرت أي‏:‏ غار ماؤها، وقال الزجاج وقد قيل إنه جعل مياهها ناراً يعذب بها الكفار فهذه الأشياء الست التي ذكرها قبل النفخة الأخيرة والتي ذكرها بعدها تكون بعد النفخة الأخيرة وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ يعني‏:‏ نفوس المؤمنين قرنت بالحور العين ونفوس الكفار بالشياطين‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ قال الفاجر مع الفاجر والصالح مع الصالح وقال أبو العالية الرياحي قرنت الأجساد بالأرواح وقال القتبي الزوج القرين كقوله‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏

‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ يعني‏:‏ قرناءهم ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ أي‏:‏ قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض والعرب تقول زوجت إبلي إذا قرنت بعضها ببعض ويقال‏:‏ وإذا النفوس زوجت يعني الأبرار مع الأبرار في زمرة والأشرار مع الأشرار في زمرة ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏‏.‏ وكان العرب إذا ولد لأحدهم ابنة دفنها حية وهي الموءودة فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلك أبوك وإنما يكون السؤال على وجه التوبيخ لقائلها يوم القيامة لأن جوابها قتلت بغير ذنب وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمِّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سبحانك مَا يَكُونُ لى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وإنما سؤاله وجوابه تبكيت على من ادعى هذا عليه وقال عكرمة الموؤودة المدفونة، كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت فكانت أوان ولادتها حفرت حفرة فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة وإن ولدت غلاماً حبسته وقرئ في الشاذ ‏{‏وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ يعني‏:‏ المقتولة سئلت لأبويها بأي ذنب قتلتماني ولا ذنب لي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ‏}‏ يعني؛ تطايرت الصحف وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت وسعرت مخففتين، ونشرت مشددة وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم سجرت وسعرت مشددتين ونشرت مخففة وقرأ حمزة والكسائي سجرت ونشرت مخففتين وسعرت مشددة فمن شددها فلتكثير ومن خففها فعلى غير التكثير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا السماء كُشِطَتْ‏}‏ يعني‏:‏ نزعت من أماكنها كما يكشف الغطاء عن الشيء يعني‏:‏ كشفت عما فيها ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ للكافرين ‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ يعني‏:‏ قربت للمتقين فجواب هذه الأشياء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ‏}‏ يعني؛ عند ذلك تعلم كل نفس ما عملت من خير أو شر وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءُوفُ بالعباد‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 30‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 25‏]‏

‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ‏(‏15‏)‏ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ‏(‏16‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ‏(‏17‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ‏(‏18‏)‏ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ‏(‏19‏)‏ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ‏(‏20‏)‏ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ‏(‏21‏)‏ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ‏(‏23‏)‏ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ‏(‏24‏)‏ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ‏(‏25‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس‏}‏ يعني‏:‏ الذي خنس بالنهار وظهر بالليل، ويقال الخنس النجوم التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل ‏{‏الجوار الكنس‏}‏ الجوار التي تجري والكنس التي ترتفع وتغيب، وقال أهل التفسير الخنس يعني‏:‏ خمسة من الكواكب فهران، وزحل، ومشتري، وعطارد، وزهرة التي تخنس بالنهار وتظهر بالليل، الجواري لأنهن تجري بالليل في السماء ‏{‏الكنس‏}‏ يعني‏:‏ تستتر كما تكنس الظباء وقال أهل اللغة الخنس واحدها خانس كراكع وركَّع وقال بعضهم‏:‏ الخنس أرادها هنا الوحوش والظباء وظباء الوحوش والجواري الكنس التي تدخل الكنائس وهذا غصن من أغصان الشجر ويكون معناه‏:‏ أقسم برب هذه الأشياء وروى عكرمة عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏الخنس‏}‏ المعز، والكنس‏:‏ الظباء ألم ترى إذا كانت في الظل كيف تكنس بأعناقها ومدت ببصرها‏؟‏ وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ ‏{‏بالخنس الجوار الكنس‏}‏ هي بقر الوحش وقال علي بن أبي طالب‏:‏ هي النجوم، وقال القتبي هي النجوم الخمسة الكبار لأنها تخنس أي ترجع في مجراها وتكنس أي تستتر كما تكنس الظباء ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا أدبر وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏عَسْعَسَ‏}‏ إذا أقبل‏.‏ وعسعس‏:‏ إذا أدبر والمعنيان يرجع إلى شيء واحد وهذا اتبداء الظلام في أوله وإدباره في آخره وقال مجاهد ‏{‏إِذَا عَسْعَسَ‏}‏ أي إذا أظلم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ يعني‏:‏ إذا استضاء وارتفع، ويقال إذا امتد حتى يصير النهار بيناً، فأقسم بهذه الأشياء، ويقال يخالف هذه الأشياء ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ على ربه يقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جبريل عليه السلام ثم أثنى على جبريل وبيَّن فضله فقال‏:‏ ‏{‏ذِى قُوَّةٍ‏}‏ يعني‏:‏ ذا شدة ويقال‏:‏ أعطاه الله تعالى القوة ومن قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بجناحه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ‏}‏ يعني‏:‏ عند رب العرش له منزلة ‏{‏مطاع‏}‏ يعني‏:‏ يطيعه أهل السماوات ‏{‏ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ فيما استودعه الله من الرسالات ويقال‏:‏ ‏{‏مطاع‏}‏ يعني‏:‏ طاعته على أهل السموات واجبه كطاعة محمد صلى الله عليه وسلم على أهل الأرض ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ على الرسالة والوحي، ويقال‏:‏ ‏{‏أَمِينٌ‏}‏ في السماء كما أن محمد صلى الله عليه وسلم أمين في الأرض ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا صاحبكم‏}‏ الذي يدعوكم إلى التوحيد لله تعالى ‏{‏بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءاهُ‏}‏ يعني‏:‏ رأى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ‏{‏بالافق المبين‏}‏ عند مطلع الشمس ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ‏}‏ أي‏:‏ ليس فيما يوحَى إليه من القرآن ببخيل وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه بظنين بظاء وهكذا قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ‏{‏***بظنين‏}‏ يعني‏:‏ بمتَّهم أنه يزيد فيه أو ينقص والباقون بالضاد يعني‏:‏ البخيل ثم قال‏:‏ ‏{‏بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ليس بمنزلة قول الكهان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 29‏]‏

‏{‏فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ‏(‏26‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏27‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ‏(‏28‏)‏ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تذهبون عن طاعتي وكتابي ويقال‏:‏ أنى تذهبون يعني‏:‏ تعدلون عن أمري وقال الزجاج معناه فبأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين‏}‏ يعني‏:‏ ما هذا القرآن إلا عظة للجن والإنس‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ‏}‏ يعني‏:‏ لمن شاء أن يستقيم على التوحيد فليستقم ‏{‏وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين‏}‏ فأعلمهم أن المشيئة والتوفيق والخذلان إليه وأن الأمور كلها بمشيئة الله تبارك وتعالى وإرادته والله الموفق وصلى الله على سيدنا محمد‏.‏

سورة الانفطار

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ‏(‏1‏)‏ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ‏(‏3‏)‏ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ‏(‏4‏)‏ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا السماء انفطرت‏}‏ يعني‏:‏ انفجرت لهيبة الرب تبارك وتعالى ويقال‏:‏ انفجرت لنزول الملائكة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملئكة تَنزِيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏ ‏{‏وَإِذَا الكواكب انتثرت‏}‏ يعني‏:‏ تساقطت ‏{‏وَإِذَا البحار فُجّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ فتحت بعضها في بعض وصارت بحراً واحداً ‏{‏وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ بعثرت وأخرج ما فيها، ويقال‏:‏ بعثرت المتاع وبعثرته إذا جعلت أسفله أعلاه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ‏}‏ يعني‏:‏ ما عملت من خير وشر يعني ما عملت من سنة صالحة أو سيئة، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إلَى الْهُدَى فَاتُّبِعَ فَلَهُ أَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً وأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إلَى الضَّلاَلَةِ فَاتُّبِعَ فَلَهُ وزرُ مَنْ اتَّبَعَهُ إلاَّ أنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئَاً» ويقال‏:‏ ‏{‏مَّا قَدَّمَتْ‏}‏ أي‏:‏ ما عملت وما ‏{‏أخرت‏}‏ يعني‏:‏ أضاعت العمل فلم تعمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ‏(‏7‏)‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ‏(‏8‏)‏ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ‏(‏9‏)‏ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ‏(‏10‏)‏ كِرَامًا كَاتِبِينَ ‏(‏11‏)‏ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏القرءان خَلَقَ الإنسان‏}‏ يعني‏:‏ يا أيها الكافر ‏{‏مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم‏}‏ يعني‏:‏ لم يعجل بالعقوبة، وقال مقاتل‏:‏ نزلت في كلدة بن أسيد حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بقوسه فلم يعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك حمزة فأسلم حمية لذلك ثم أراد أن يعود كلدة لضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية فأسلم حمزة يومئذٍ»‏.‏

ويقال نزلت في جميع الكفار ما غرك يعني‏:‏ ما خدعك حين كفرت بربك الكريم المتجاوز لمن تاب ‏{‏الذى خَلَقَكَ‏}‏ من النطفة ‏{‏فَسَوَّاكَ‏}‏ يعني‏:‏ فسوى خلقك ‏{‏فَعَدَلَكَ‏}‏ يعني‏:‏ خلقك معتدل القامة ‏{‏مَا يجادل * صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ‏}‏ يعني‏:‏ شبهك بأي صورة شاء إن شاء بالوالد وإن شاء بالوالدة قرأ عاصم والكسائي وحمزة فعدلك بالتخفيف والباقون بالتشديد فمن قرأ بالتخفيف جعل في المعنى إلى فكأنه قال فعدلك إلى أي صورة شاء أن يركبك يعني صرفك إلى ما شاء من الصور من الحسن والقبح ومن قرأ بالتشديد فمعناه قومك ويكون ما صلة وقد تم الكلام عند قوله فعدلك ثم ابتدأ فقال‏:‏ في أي صورة شاء ركبك، ويقال‏:‏ في ما معنى الشرط والجزاء والمعنى أي صورة ما شاء أن يركبك فيها ركبك ويكون شاء بمعنى يشاء ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ لا يؤمن هذا الإنسان بما ذكره من أمره وصورته ‏{‏بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين‏}‏ يعني‏:‏ تكذبون بأنكم مبعوثون يوم القيامة ثم أعلم الله تعالى أن أعمالكم محفوظة عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين‏}‏ من الملائكة يحفظون أعمالكم ‏{‏كِرَاماً كاتبين‏}‏ يعني‏:‏ كراماً على الله تعالى كاتبين يعني يكتبون أعمال بني آدم عليه السلام ‏{‏يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ‏}‏ من الخير والشر، وروى مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أَكْرِمُوا الكِرَامَ الْكَاتِبِينَ الَّذِينَ لاَ يُفَارِقُونَكُمْ إلاَّ عِنْدَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ الجَنَابَةِ والْغَائِطِ ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 19‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏13‏)‏ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ‏(‏14‏)‏ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ‏(‏15‏)‏ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏17‏)‏ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏18‏)‏ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الابرار‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين المصدقين في أيمانهم ‏{‏لَفِى نَعِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم ومن كان مثل حالهم ‏{‏وَإِنَّ الفجار‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين‏}‏ يعني‏:‏ يدخلون فيها يوم القيامة ‏{‏وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يخرجون منها أبداً ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين‏}‏ تعظيماً لذلك اليوم ‏{‏ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين‏}‏ يعني‏:‏ كيف تعلم حقيقة ذلك اليوم ولم تعاينه ‏{‏يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً‏}‏ يعني‏:‏ لا تنفع نفس مؤمنة لنفس كافرة شيئاً بالشفاعة قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بالضم والباقون بالنصب فمن قرأ بالضم معناه يوم لا تملك ومن قرأ بالنصب فلنزع الخافض يعني في يوم ثم قال‏:‏ ‏{‏والامر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ الحكم والقضاء لله تعالى وهو يوم القيامة‏.‏

سورة المطففين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ‏(‏1‏)‏ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ‏(‏2‏)‏ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ‏(‏3‏)‏ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ‏(‏4‏)‏ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏5‏)‏ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏6‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ‏(‏7‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ‏(‏8‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏9‏)‏ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الشدة من العذاب للذين ينقصون المكيال والميزان وإنما سمي الذي يخون في المكيال والميزان مطففاً لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء الخفيف الطفيف ثم بيّن أمرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ‏}‏ يعني‏:‏ استوفوا من الناس لأنفسهم وعلى بمعنى عن بمعنى إذا اكتالوا عن الناس يستوفون يتمون الكيل والوزن ‏{‏وَإِذَا كَالُوهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إذا باعوا من غيرهم ينقصون الكيل ‏{‏أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ينقصون الكيل وقال بعضهم كالوهم حرفان يعني‏:‏ كالوا ثم قال‏:‏ هم وكذلك وزنوا ثم قال‏:‏ هم يخسرون وذكر عن حمزة الزيات أنه قال هكذا ومعناه هم إذا كالوا أو وزنوا ينقصون وكان الكسائي يجعلها حرفاً واحداً كالوهم أي‏:‏ كالوا لهم وكذلك وزنوا لهم وقال أبو عبيدة وهذه هي القراءة لأنهم كتبوها في المصاحف بغير ألف ولو كان مقطوعاً لكتبوا كالواهم بالألف ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏أَلا يَظُنُّ‏}‏ يعني‏:‏ ألا يعلم المطفف وألا يستيقن بالبعث قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يبعثون بعد الموت ‏{‏لِيَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة هولها شديد ‏{‏يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين‏}‏ يعني‏:‏ في يوم يقوم الخلائق بين يدي الله تعالى وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفَ يَوْمٍ يَعْنِي‏:‏ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَذَلِكَ الْمَقَامُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَوَلِّي الشَّمْسَ» وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يَقُومُ أَحَدُكُمْ ورشحه إلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» وقال ابن مسعود‏:‏ إن الكافر ليلجم بعرقه حتى يقول أرحني ولو إلى النار ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ لا يستيقنون البعث ثم استأنف، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ كتاب الفجار‏}‏ ويقال‏:‏ هذا موصول بكلا إن كتاب يعني حقاً إن كتاب الفجار ‏{‏لَفِى سِجّينٍ‏}‏ يعني‏:‏ أعمال الكفار لفي سجين قال مقاتل وقتادة‏:‏ السجين الأرض السفلى، وقال الزجاج‏:‏ السجين فعيل من السجن والمعنى‏:‏ كتابهم في حبس جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وقال مجاهد‏:‏ سجين صخرة تحت الأرض السفلى فيجعل كتاب الفجار تحتها، وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏لَفِى سِجّينٍ‏}‏ أي‏:‏ لفي خسارة وقال الكلبي‏:‏ السجين الصخرة التي عليها الأرضون وهي مسجونة فيها أعمال الكفار وأزواجهم فلا تفتح لهم أبواب السماء ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ‏}‏ ثم أخبر فقال‏:‏ ‏{‏كتاب مَّرْقُومٌ‏}‏ يعني‏:‏ مكتوباً ويقال‏:‏ مكتوب مختوم ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ‏}‏ يعني‏:‏ شدة العذاب ‏{‏لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ يعني‏:‏ شدة العذاب للمكذبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 21‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏13‏)‏ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ‏(‏15‏)‏ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏17‏)‏ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‏(‏18‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ‏(‏19‏)‏ كِتَابٌ مَرْقُومٌ ‏(‏20‏)‏ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ثم بيّن فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين‏}‏ يعني‏:‏ يجحدون بالبعث ‏{‏وَمَا يُكَذّبُ بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ بيوم القيامة ‏{‏إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ كل معتد بالظلم آثم عاص لربه ويقال‏:‏ كل مقيد للخلق أثيم يعني فاجر وهو الوليد بن المغيرة وأصحابه ومن كان في مثل حالهم ثم قال‏:‏ ‏{‏إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قَالَ أساطير الاولين‏}‏ يعني‏:‏ أحاديث الأولين وكذبهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ يعني‏:‏ لا يؤمن ‏{‏بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ختم، ويقال‏:‏ غطى على قلوبهم ‏{‏مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما عملوا من أعمالهم الخبيثة، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «إذَا أَذْنَبَ العَبْدُ ذَنْباً كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاء فِي قَلْبِهِ فَإِذَا تَابَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإنْ زَادَ زَادَتْ وَذَلِكَ قَوْلِهِ ‏{‏كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏» وقال قتادة‏:‏ الذنب على الذنب حتى مات القلب ‏(‏أسود‏)‏ ويقال‏:‏ غلف على قلوبهم ويقال‏:‏ غطا على قلوبهم وقال أهل اللغة الرين‏:‏ هو الصدأ والصدأ هو اسم البعد كما قال‏:‏ ويصدهم عن سبيل الله يغشى على القلب ثم قال‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لا يرونه يوم القيامة ويقال عن رحمته لممنوعون ‏{‏ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم‏}‏ يعني‏:‏ دخلوا النار ‏{‏ثُمَّ يُقَالُ‏}‏ يعني‏:‏ يقول لهم الخزنة ‏{‏هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ‏}‏ يعني‏:‏ تجحدون، وقلتم إنه غير كائن ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏كَلاَّ إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ‏}‏ يعني‏:‏ حقاً إن كتاب المصدقين لفي عليين وهو فوق السماء السابعة، فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ‏}‏ ثم وصفه فقال‏:‏ ‏{‏كتاب مَّرْقُومٌ‏}‏ يعني‏:‏ مكتوباً مختوماً في عليين ‏{‏يَشْهَدُهُ المقربون‏}‏ يعني‏:‏ يشهد على ذلك الكتاب سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء وقال بعضهم‏:‏ الكتاب أراد به الروح والأعمال يعني‏:‏ يرفع روحه وأعماله إلى عليين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 36‏]‏

‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ‏(‏22‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏23‏)‏ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ‏(‏24‏)‏ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ ‏(‏25‏)‏ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ‏(‏26‏)‏ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ‏(‏27‏)‏ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ‏(‏28‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ ‏(‏29‏)‏ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ‏(‏30‏)‏ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ‏(‏31‏)‏ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ‏(‏32‏)‏ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ‏(‏33‏)‏ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ‏(‏34‏)‏ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ‏(‏35‏)‏ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيم عَلَى الارائك يَنظُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين الصالحين لفي نعيم في الجنة على الأرائك ينظرون يعني على سرر في الحجال ينظرون إلى أهل النار، ويقال‏:‏ ينظرون إلى عدوهم حين يعذبون ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم‏}‏ يعني‏:‏ أثر النعمة وسرورهم في وجوههم ظاهر ‏{‏يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ‏}‏ يعني‏:‏ يسقون خمراً بيضاء، وقال الزجاج‏:‏ الرحيق الشراب الذي لا غش فيه، قال القتبي‏:‏ الرحيق الخمر العتيقة، ثم قال‏:‏ ‏{‏مَّخْتُومٍ ختامه مِسْكٌ‏}‏ يعني‏:‏ إذا شرب منه رجل وجد عند فراغه من الشراب ريح المسك قرأ الكسائي مسك، وروي عن الضحاك أنه قرأ مثله والباقون ختامه مسك ومعناهما واحد، والخاتم اسم والختام مصدر يعني‏:‏ يجد شاربه ريح المسك حين ينزع الإناء من فيه ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون‏}‏ يعني‏:‏ بمثل هذا الثواب فليتبادر المتبادرون، ويقال‏:‏ فليتحاسد المتحاسدون ويقال‏:‏ فليواظب المواظبون وليجتهد المجتهدون وهذا كما قال لمثل هذا فليعمل العاملون ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ‏}‏ يعني‏:‏ مزاج الخمر من ماء اسمه تسنيم وهو من أشرف الشراب في الجنة وإنما سمي تسنيماً لأنه يتسنم عليهم فينصب عليهم انصباباً، وقال عكرمة‏:‏ ألم تسمع إلى قول الرجل يقول إني لفي السنام من قومه فهو في السنام من الشراب، وقال القتبي أصله من سنام البعير يعني‏:‏ المرتفع ثم وصفه فقال عز وجل‏:‏ ‏{‏عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون‏}‏ يعني‏:‏ التسنيم عيناً يشرب بها المقربون صرفاً ويمزج لأصحاب اليمين ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ‏}‏ يعني‏:‏ أشركوا ‏{‏كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ من ضعفاء المؤمنين يضحكون ويسخرون ويستهزؤون بهم ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يطعنون ويغتابون وذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر بنفر من المنافقين ومعه نفر من المسلمين فسخر منهم المنافقون، ويقال حكاية عن كفار مكة أنهم كانوا يضحكون من ضعفاء المسلمين وإذا مروا بهم وهم جلوس يتغامزون يعني يتطاعنون بينهم ويقولون هؤلاء الكسالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ‏}‏ يعني‏:‏ رجعوا معجبين بما هم فيه ‏{‏وَإِذَا رَأَوْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ رأوا المؤمنين ‏{‏قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ‏}‏ يعني‏:‏ تركوا طريقهم ‏{‏وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين‏}‏ يعني‏:‏ ما أرسل هؤلاء حافظين على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليحفظوا عليهم أعمالهم، قال مقاتل‏:‏ هذا كله في المنافقين يعني‏:‏ ما وكل المنافقون بالمؤمنين يحفظون عليهم أعمالهم، قرأ عاصم في رواية حفص انقلبوا فكهين بغير ألف وفي رواية حفص والباقون بالألف ومعناهما واحد وقال بعضهم‏:‏ فاكهين ناعمين فكهين فرحين‏.‏

ثم قال عز وجل‏:‏ ‏{‏فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ‏}‏ يعني‏:‏ في الجنة يضحكون على أهل النار وهم على سرر في الحجال وأعداؤهم في النار ‏{‏عَلَى الارائك يَنظُرُونَ‏}‏ إلى أعدائهم يعذبون في النار ‏{‏هَلْ ثُوّبَ الكفار‏}‏ يعني‏:‏ جوزوا، ويقال‏:‏ هل جوزي الكفار وعوقبوا إلا ‏{‏مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ إلا بما عملوا في الدنيا من الاستهزاء، وقال مقاتل‏:‏ يعني‏:‏ قد جوزي الكفار بأعمالهم الخبيثة جزاءً شراً والله الموفق‏.‏