فصل: تفسير الآيات رقم (26- 27)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير السمرقندي، المسمى «بحر العلوم» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏26‏)‏ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ اللهم مالك الملك‏}‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ نزلت في شأن المنافقين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين‏:‏ إن محمداً يتمنى أن ينال ملك فارس والروم وأنَّى له ذلك‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال بعضهم سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله بأن يدعو بهذا الدعاء، وهو قول مقاتل وقال بعضهم‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بحفر الخندق، فظهر في الخندق صخرة عجزوا عن حفرها، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول، وضرب ضربة، فظهر من تلك الصخرة نور فقال له سلمان‏:‏ رأيت شيئاً عجيباً‏.‏ فقال له النبي‏:‏ «هَلْ رَأَيْتَ ذلك»‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ رأيت في ذلك النور قصور أهل الشام، ثم ضرب ضربة أخرى، فظهر أيضاً كذلك‏.‏ فقال‏:‏ رأيت قصور أهل فارس‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «سَيَظْهَرُ لأُمَّتِي مُلْكُ الشَّامِ، وَمُلْكُ فَارِسَ» فقال المنافقون‏:‏ إن محمداً لا يأمن على نفسه، واضطر إلى حفر الخندق، فكيف يتمنى ملك الشام وفارس، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال بعضهم إن مشركي مكة قالوا‏:‏ إن فارس والروم يبيتان في الحرير والديباج، فلو كان هو نبياً، كيف ينام على الحصير‏؟‏ فنزلت هذه الآية ‏{‏قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء‏}‏ وأصل اللهم في اللغة يا الله أمنا بخير، أي اقْصِدْنا بالرحمة، ولكن لما كثر استعمال هذا اللفظ في الناس صارت الكلمتان ككلمة واحدة‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏اللهم‏}‏، يعني اللهم يا مالك الملك، ‏{‏تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء‏}‏ يعني تؤتي محمداً صلى الله عليه وسلم ومن تبعه ‏{‏وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء‏}‏ من فارس والروم ‏{‏وَتُعِزُّ مَن تَشَاء‏}‏ يعني أهل الإسلام ‏{‏وَتُذِلُّ مَن تَشَاء‏}‏ يعني أهل الشرك والطغيان ‏{‏بِيَدِكَ الخير‏}‏ يعني النصرة والغنيمة والعز ‏{‏إِنَّكَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ من الذل والعز وقال الضحاك‏:‏ تؤتي الملك من تشاء، يعني الإسلام، وتعز من تشاء بالإسلام، وتذل من تشاء بالشرك، بيدك الخير، يعني الهداية والسعادة، إنك على كل شيء قدير‏.‏

وقال الزَّجَّاج‏:‏ تؤتي الملك من تشاء، معناه تولي الملك من تشاء أن تؤتيه، وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه، إلا أنه حذف الهاء، لأن في الكلام دليلاً عليه‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وقد قيل في الملك قولان‏:‏ أحدهما هو المال والعبيد، والآخر من جهة الغلبة بالدين ثم قال تعالى ‏{‏تُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ يعني ما نقص من الليل دخل في النهار، حتى يبلغ خمسة عشرة ساعة هو أطول ما يكون، والليل تسع ساعات، وهو أقصر ما يكون ‏{‏وَتُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ يعني أن ما نقص من النهار دخل في الليل، حتى يصير الليل خمس عشرة ساعة، والنهار تسع ساعات‏.‏

وهو قول الكلبي‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏تُولِجُ اليل فِى النهار‏}‏ أي تذهب بالليل، وتجيء بالنهار، وتذهب بالنهار، وتجيء بالليل، هكذا إلى أن تقوم الساعة‏.‏ ثم قال ‏{‏وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى‏}‏ فقرأ نافع وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص المَيِّت بالتشديد، والباقون المَيْت بالتخفيف، وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏

قال الكلبي‏:‏ يعني تخرج البيضة، وهي ميتة من الطير، وهو حي، وتخرج الطير الحي من البيضة الميتة، وتخرج النطفة، وهي ميتة من الإنسان الحي، وتخرج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وتخرج الحبة من السنبلة إلى آخره‏.‏ وقال الحسن البصري‏:‏ يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن‏.‏ ويقال‏:‏ يخرج الجاهل من العالم، ويخرج العالم من الجاهل‏.‏ وروى معمر عن الزهري؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة الهيئة فقال‏:‏ «مَنْ هذه‏؟‏» قالوا إحدى خالاتك‏.‏ قال‏:‏ «وَمَنْ هِيَ‏؟‏» قالوا هي خالدة بنت الأَسْوَد بن عَبْد يغوث‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ ‏"‏، وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ يعني من غير أن تحاسب في الإعطاء، فكأنه يقول‏:‏ ليس فوقه من يحاسبه في الإعطاء‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْألُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ ويقال‏:‏ من غير أن يحاسبه في الإعطاء‏.‏ ويقال‏:‏ بغير تقتير‏.‏ ويقال‏:‏ بغير حساب كما قال ويرزقه من حيث لا يحتسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء‏}‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ نزلت في شأن المنافقين عبد الله بن أَبيّ ابن سلول وأصحابه من أهل النفاق، وكانوا قد أظهروا الإيمان، وكانوا يتولون اليهود في العون والنصرة، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم ظفر على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال مقاتل‏:‏ نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وغيره، ممن كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء‏}‏، فهذا نهي بلفظ المغايبة، يعني لا يتخذونهم أولياء في العون والنصرة ‏{‏مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَئ‏}‏ يعني ليس في ولاية الله من شيء‏.‏ ويقال‏:‏ ليس في دين الله من شيء، لأن ولي الكافر يكون راضياً بكفره، ومن كان راضياً بكفره، فهو كافر مثله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ ‏[‏امائدة‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ثم استثنى لما علم أن بعض المسلمين، ربما يُبْتَلون في أيدي الكفار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة‏}‏‏.‏ قرأ يعقوب الحضرمي تقية، وقراءة العامة تقاة، ومعناهما واحد، يعني يرضيهم بلسانه، وقلبه مطمئن الإيمان، فلا إثم عليه كما قال الله تعالى في آية أخرى ‏{‏مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 106‏]‏ قرأ حمزة والكسائي ‏{‏تقاة‏}‏ بالإمالة‏.‏ وقرأ الباقون بتفخيم الألف ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ يعني يخوّفكم الله بعقوبته، أي الذي يتخذ الكافر وليّاً بغير ضرورة، وهذا وعيد لهم‏.‏ ويقال‏:‏ إذا كان الوعيد مبهماً، فهو أشد ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ أي مرجعكم في الآخرة، فيجازيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ يقول‏:‏ إن تسروا ما في قلوبكم من النكوث، وولاية الكفار ‏{‏أَوْ تُبْدُوهُ‏}‏ يعني تعلنوه للمؤمنين ‏{‏يَعْلَمْهُ الله‏}‏ لأن الله عليم ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ من عمل، فليس يخفى عليه شيء ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ من السر والعلانية، والعذاب والمغفرة قدير ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا‏}‏ يعني تجد ثوابه حاضراً، ولا ينقص من ثواب عمله شيء ‏{‏وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء‏}‏ يعني من شر في الدنيا ‏{‏تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا‏}‏ يعني تتمنى النفس أن تكون بينها، وبين ذلك العمل أجلاً بعيداً، كما بين المشرق والمغرب، ولم تعمل ذلك العمل قط ثم قال‏:‏ ‏{‏وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ أي عقوبته في عمل السوء ‏{‏والله رَءوفٌ بالعباد‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني بالمؤمنين خاصة، وهو رحيم بهم‏.‏

ويقال‏:‏ رؤوف بالذين يعملون السوء، حيث لم يعجّل بعقوبتهم‏.‏ ويقال‏:‏ ذكر في أول هذه الآية عدله عز وجل في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا‏}‏، وفي وسطها تخويف وتهديد وهو قوله ‏{‏وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ وفي آخرها ذكر رأفته ورحمته وهو قوله ‏{‏والله رَءوفٌ بالعباد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله‏}‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا كعب بن الأشرف وأصحابه إلى الإسلام، قالوا‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه، يعني نحن في المنزلة بمنزلة الأبناء، ولنحن أشدّ حباً لله‏.‏ فقال الله لنبيه‏:‏ قل إن كنتم تحبون الله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتبعونى‏}‏ على ديني، فإني رسول الله أؤدي رسالته ‏{‏يُحْبِبْكُمُ الله‏}‏‏.‏

قال الزجاج‏:‏ تحبون الله، أي تقصدون طاعته، فافعلوا ما أمركم الله عز وجل، لأن محبة الإنسان لله وللرسول طاعته له، ورضاه بما أمر، والمحبة من الله عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته‏.‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ويقال‏:‏ الحب من الله عصمته وتوفيقه، والحب من العباد طاعة كما قال القائل‏:‏

تَعْصي الإله وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه *** هَذَا لَعَمْرِي في القِيَاسِ بديعُ

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَه *** إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطيعُ

فلما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ إن محمداً يريد أن نتخذه حناناً، كما اتخذت النصارى عيسى حناناً فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول‏}‏ فقرن طاعته بطاعة رسوله رغماً لهم، ويقال‏:‏ أطيعوا الله فيما أنزل، والرسول فيما بَيّن ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يعني إن أعرضوا عن طاعتهما ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين‏}‏ أي لا يغفر لهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم‏}‏ يعني اختاره ويقال‏:‏ اختار دينه، وهو دين الإسلام‏.‏

ويقال‏:‏ قد اختاره لخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه خلقه بأحسن صورة بقدرته‏.‏ والثاني أنه علّمه الأسماء كلها‏.‏ والثالث أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له‏.‏ والرابع أسكنه الجنة‏.‏ والخامس جعله أباً للبشر، واختار نوحاً عليه السلام بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أباً للبشر، لأن الناس كلهم غرقوا، فصارت ذريته هم الباقين‏.‏ والثاني أنه أطال عمره‏.‏ ويقال‏:‏ طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمرهُ، وحَسُن عَمَلُهُ‏.‏ والثالث أنه استجاب دعاءه على الكفار والمؤمنين‏.‏ والرابع أنه حمله على السفينة‏.‏ والخامس أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يحرم تزوج الخالات والأخوات والعمات، واختار آل إبراهيم عليه السلام بخمسة أشياء‏:‏ أولها أنه جعله أبا الأنبياء، لأنه روي أنه خرج من صلبه ألف نبي من زمانه إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والثاني أنه اتخذه خليلاً، والثالث أنه أنجاه من النار والرابع أنه جعله للناس إماماً، والخامس أنه ابتلاه الله بخمس كلمات، بكلمات، فوفقه حتى أتمَّهن ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني به أبا موسى وهارون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو عمران أبو مريم، وهو من ولد سليمان النبي عليه السلام فإنه أراد به آل موسى وهارون، إنما كان اختارهما على العالمين، حيث بعث على قومه المن والسلوى، ولم يكن ذلك لأحد من الأنبياء في العالم، وإن أراد به أبا مريم، فإنه اصطفى آله، يعني مريم بولادة عيسى عليه السلام بغير أب، ولم يكن ذلك لأحد في العالم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني اختار هؤلاء الذين ذكروا في هذه الآية ‏{‏عَلَى العالمين‏}‏ يعني عالمي زمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏34‏)‏ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏35‏)‏ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ‏(‏36‏)‏ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ‏}‏ أي بعضهم على إثر بعض‏.‏ ويقال‏:‏ بعضهم على دين بعض‏.‏ ‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لقولهم عليم بهم وبدينهم‏.‏ ويقال‏:‏ قوله ‏{‏والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، انصرف إلى ما بعده، أي سميع بقول امرأة عمران ‏{‏إِذْ قَالَتِ امرأت عمران‏}‏ وهي حنة أم مريم امرأة عمران بن ماثان، وذلك أنها لما حبلت، قالت‏:‏ لئن نجَّانِي الله ووضعت ما في بطني لأجعلنه محرَّراً، والمحرر من لا يعمل للدنيا، ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة، ويلزم المحراب، فيعبد الله تعالى فيه، وهذا قول مقاتل‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ محرراً، أي خادماً لبيت المقدس، ولم يكن محرراً إلا الغلمان‏.‏ فقال لها زوجها‏:‏ إن كان الذي في بطنك أنثى، والأنثى عورة، فكيف تصنعين‏؟‏ فاهتمت بذلك وقالت‏:‏ يا ‏{‏رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ‏}‏ وأنت تعلم ‏{‏مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم‏}‏ السميع لدعائي العليم بنيتي، وما في بطني ‏{‏فَلَمَّا وَضَعَتْهَا‏}‏ أي ولدت فإذا هي أنثى ‏{‏قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى‏}‏ يعني ولدتها جارية ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، والله أعلم بما وَضَعْتُ، بجزم العين، وضم التاء، يعني أن المرأة قالت‏:‏ والله أعلم بما وَضَعْتُ، والباقون بنصب العين وسكون التاء، فيكون هذا قول الله إنه يعلم بما وضعت تلك المرأة‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الذكر كالانثى‏}‏ في الخدمة‏.‏

قال بعضهم‏:‏ هذا قول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم، وليس الذكر كالأنثى يا محمد‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هي كلمة المرأة، أنها قالت‏:‏ وليس الذكر كالأنثى في الخدمة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فيها تقديم، فكأنه يقول‏:‏ قالت رب إني وَضعَتُهَا أُنْثى، وليس الذكر كالأنثى، والله أعلم بما وضعت، ثم قالت‏:‏ ‏{‏وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ‏}‏ يعني خادم الرب بلغتهم ‏{‏وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ‏}‏ يعني أعصمها وأمنعها بك ‏{‏وَذُرّيَّتَهَا‏}‏ إن كان لها ذرية ‏{‏مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ يعني الملعون‏.‏ ويقال‏:‏ المطرود من رحمة الله‏.‏ ويقال‏:‏ الرجيم بمعنى المرجوم كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير‏}‏ ر ز س ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

حدثنا أبو الليث، قال‏:‏ حدثنا الخليل بن أحمد القاضي‏.‏ قال‏:‏ حدثنا أبو العباس قال‏:‏ حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «مَا مِنْ مَوُلُودٍ يُولَدُ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَنْخَسُهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخَاً مِنْ الشَّيْطَانِ، إلاَّ مَرْيَمَ وَاْبْنَها عِيسَى عَلَيْهِما السَّلامُ»، قال أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى قوله ‏{‏إِذْ‏}‏ يعني إن الله اختار آل عمران، ‏{‏إِذْ قَالَتِ امرأت عمران‏}‏‏:‏ واصطفاهم، إذ قالت الملائكة‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه قالت امرأة عمران، وقالت الملائكة و«إذ» زيادة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ معناه واذكر إذ قالت امرأة عمران، واذكر إذ قالت الملائكة، وقال أهل اللغة‏:‏ المحرر والعتيق في اللغة بمعنى واحد، ثم إن حنة لفتها في خرق، ثم وضعتها في بيت المقدس عند المحراب، فاجتمعت القراء، أي الزهاد فقال زكريا‏:‏ أنا أحق بها، لأن خالتها عندي‏.‏ فقال القُرّاء‏:‏ إن هذه محررة، فلو تركت لخالتها، فكانت أمها أحق بها، ولكن نتساهم، فخرجوا إلى عين سلوان، فأَلْقَوْا أقلامهم في النهر‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كانت أقلامهم من الشَّبَّة، فغابت أقلامهم في الماء، وبقي قلم زكريا على وجه الماء‏.‏ وقال بعضهم كانت أقلامهم من قَصَب، فبقيت أقلامهم على وجه الماء، وغاب قلم زكريا في الماء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أَلْقَوْا أَقلامهم في النهر، فسال الماء بأقلامهم إلا قلم زكريا، فإنه جرى من الجانب الأعلى، فعلموا أن الحق له، فضمّها إلى نفسه فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ‏}‏ أي تقبل منها نَذْرها ‏{‏وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا‏}‏ وقال مجاهد غذاها غذاء حسناً، ورباها تربية حسنة ‏{‏وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا‏}‏ قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتشديد، أي كفلها الله إلى زكريا‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف، أي ضمها زكريا إلى نفسه، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي في رواية حفص زكريا بغير إعراب، وجزم الألف‏.‏ وقرأ الباقون بالإعراب والمد، وهما لغتان معروفتان عند العرب، فمن قرأ كفلها بالتشديد، قرأ زكريا بنصب الألف، لأنه يصير مفعولاً، ومن قرأ كفلها بالتخفيف قرأ زكريا برفع الألف على معنى الفاعل‏.‏

وذكر في الخبر أن زكريا بنى لها محراباً في غرفة، وجعل باب الغرفة في وسط الحائط، لا يصعد إليها إلا بسلم، واستأجر ظئراً، فكان يغلق عليها الباب، وكان لا يدخل عليها أحد إلا زكريا حتى كبرت، فإذا حاضت أخرجها إلى منزله، فتكون عند خالتها، وكانت خالتها امرأة زكريا‏.‏ وهذا قول الكلبي‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ كانت أختها امرأة زكريا، وكانت إذا طهرت من حيضها، واغتسلت ردها إلى المحراب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ كانت لا تحيض، وكانت مطهرة من الحيض، وكان زكريا إذا دخل عليها في أيام الشتاء، رأى عندها فاكهة الصيف، وإذا دخل عليها في أيام الصيف، وجد عندها فاكهة الشتاء، وكانت الحكمة في ذلك أن لا يدخل في قلب زكريا شيء من الريبة، إذا رأى الفاكهة في غير أوانها، وعلم أنه لم يدخل عليها أحد من الآدميين، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا‏}‏ ويقال‏:‏ المحراب في اللغة أشرف المجالس، وهو المكان العالي، وقد قيل‏:‏ إن مساجدهم كانت تسمى المحاريب ف ‏{‏قَالَ‏}‏ لها زكريا ‏{‏قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا‏}‏ يعني‏:‏ من أين لك هذا‏؟‏ فإنه لا يدخل عليك أحد غيري ‏{‏فَقَالَتْ‏}‏ مريم ‏{‏هُوَ‏}‏ أي هذا الرزق ‏{‏مِنْ عِندِ الله‏}‏ أي من فضل الله ‏{‏إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ في غير حينه‏.‏ ويقال‏:‏ من حيث لا يحتسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ‏}‏ يقول عند ذلك طمع في الولد، وكان آيساً من ذلك، وكان مفاتيح بيت القربان عند آبائه، وقد صار ذلك بيده، وكان يخشى أن يخرج من أهل بيته إذا مات‏.‏ فقال عند ذلك‏:‏ إن الله قادر على أن يأتيها برزق الشتاء في الصيف، وبرزق الصيف في الشتاء، فهو قادر أن يرزق لي الولد بعد الكبر فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ‏}‏ ‏{‏قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ‏}‏ أي من عندك ‏{‏ذُرّيَّةً طَيّبَةً‏}‏ أي من عندك تقية مهذبة‏.‏ ويقال‏:‏ مستوي الخلق‏.‏ ويقال‏:‏ مسلمة مطيعة‏.‏ ويقال‏:‏ تقية ‏{‏إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء‏}‏ أي مجيب له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏39‏)‏ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فَنَادَتْهُ الملئكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى المحراب‏}‏ قرأ حمزة والكسائي بالياء، أي جبريل عليه السلام وإنما صار مذكراً على معنى الجنس، كما يقال‏:‏ فلان ركب السفن، وإنما ركب سفينة واحدة، وقرأ الباقون، فنادته على معنى التأنيث، لأن اللفظ لفظ الجماعة، والمراد به أيضاً جبريل ‏{‏أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى‏}‏ قرأ حمزة وابن عامر‏:‏ إن الله يبشرك، بكسر الألف، ومعناه‏:‏ فنادته الملائكة‏.‏ وقالوا له‏:‏ إن الله يبشرك‏.‏ وقرأ الباقون بالنصب، ومعناه‏:‏ فنادته الملائكة، بأن الله يبشرك بيحيى قال مقاتل‏:‏ اشتق اسمه من اسم الله تعالى، والله تعالى حي، فسماه الله تعالى يحيى، ويقال‏:‏ لأنه أحيا به رحم أمه‏.‏ ويقال‏:‏ لأنه حي به المجالس‏.‏ ويقال غير ذلك ‏{‏بيحيى‏}‏، بأن الله يحييه، فيكون حياً عند الله أبداً، لأنه شهيد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله‏}‏ يعني بعيسى عليه السلام وكان يحيى أول من صدق بعيسى عليهما السلام، وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه، فلما شهد بذلك يحيى، عجب بنو إسرائيل لصغره، فلما شهد سمع زكريا شهادته، فقام إلى عيسى، فضمه إليه، وهو في خرقه، وكان يحيى أكبر من عيسى بثلاث سنين‏.‏ وقال بعضهم صدقه وهو في بطن أمه، كانت أم يحيى عند مريم، إذ سجد يحيى بالتحية لعيسى، وكل واحد منهما كان في بطن أمه، وذلك قوله مصدقاً بكلمة من الله ‏{‏وَسَيّدًا‏}‏ يعني حكيماً ‏{‏وَحَصُورًا‏}‏ يعني لا يأتي النساء، وهو قول الكلبي‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ السيد الذي يملك غضبه، والحصور الذي لا يأتي النساء‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يعني لا ماء له، يعني أن يحيى لم يكن له ماء في الصلب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هذا لا يصح، لأن العنة عيب بالرجال، والنبي لا يكن معيباً، ولكن معناه أنه كان مانعاً نفسه من الشهوات، لأن الذي يمنع نفسه من الشهوات مع قدرته، كانت فضيلته أكثر من الذي لا قدرة له، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَبِيّا مّنَ الصالحين‏}‏ يعني أن يحيى كان نبياً من الصالحين، فلما بشره جبريل بذلك ‏{‏قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام‏}‏ قال ذلك على وجه التعجب، لا على وجه الشك، قال لجبريل‏:‏ رب أي يا سيِّدي من أين يكون لي غلام‏؟‏ يعني ولد، وهذا قول الكلبي‏.‏

وقال بعضهم قوله رب، يعني قال‏:‏ يا الله على وجه الدعاء، يا رب من أين يكون لي ولد‏؟‏ ‏{‏وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر‏}‏ قال القتبي‏:‏ هذا من المقلوب، يعني بلغت الكبر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان يوم بشر ابن تسعين سنة، وامرأته قريبة في السن منه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كان ابن مائة وعشرين سنة، فذلك قوله، ‏{‏وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر‏}‏ أي الهرم ‏{‏وامرأتى عَاقِرٌ‏}‏ لا تلد ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ قال بعضهم‏:‏ تم الكلام عند قوله كذلك، يعني هكذا كما قلت‏:‏ إنه قد بلغك الكبر، وامرأتك عاقر ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء‏}‏ وقال بعضهم‏:‏ معناه‏.‏ قال‏:‏ كذلك يعني الله تعالى هكذا قال‏:‏ أنه يكون لك ولد، والله يفعل ما يشاء، إن شاء أعطاك الولد في حال الصغر، وإن شاء في حال الكبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ‏(‏41‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً‏}‏ يعني اجعل لي علامة حين حملت امرأتي أعرف ‏{‏قَالَ رَبّ‏}‏ يعني علامة الحبل ‏{‏أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ يعني أنك تصبح، فلا تطيق الكلام ثلاثة أيام ‏{‏إِلاَّ رَمْزًا‏}‏ أي كلاماً خَفِيّاً‏.‏ ويقال‏:‏ الرمز بالشفتين والحاجبين، والإيماء باليد والرأس‏.‏

قال بعضهم‏:‏ كان منع الكلام عقوبة له، لأنه بُشِّر بالولد، فسأل آية فحبس الله لسانه عن الناس ثلاثة أيام، ولم يحبسه عن ذكر الله، وعن الصلاة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لم يكن عقوبة، ولكن كانت كرامة له، حين جعلت له علامة لظهور الحبل، ومعجزة له‏.‏ وروى أسباط عن السدي أنه قال‏:‏ لما بُشِّر بيحيى قال له الشيطان‏:‏ إن النداء الذي سمعت بالبشارة من الشيطان، ولو كان من الله، لأوحى إليك، كما أوحى إلى سائر الأنبياء‏.‏ فقال عند ذلك‏:‏ اجْعَل لي آية، حتى أعلم أن هذه البشارة منك‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ‏}‏‏.‏

وقال في آية أخرى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَبِّ اجعل لِى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 10‏]‏، يعني أنك مستوي الخَلْق، ولا علة بك، ثم أمره بذكر ربه، لأن لسانه لم يمنع عن ذكر الله تعالى فقال‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بالعشى والإبكار‏}‏ يعني بالغداة والعَشِيِّ ويقال بالليل والنهار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ‏(‏42‏)‏ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الملئكة‏}‏ يعني جبريل ‏{‏الملئكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك‏}‏ يعني اختارك بالإسلام ‏{‏وَطَهَّرَكِ‏}‏ من الذنوب والفواحش‏.‏ ويقال‏:‏ من دم الحيض والنفاس ‏{‏واصطفاك على نِسَاء العالمين‏}‏ يعني بولادة عيسى بغير أب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ اصطفاك أي فضلك على نساء العالمين يعني عالمي زمانها ‏{‏العالمين يامريم اقنتى لِرَبّكِ‏}‏ يعني أطيعي‏.‏ ويقال‏:‏ أطيلي القيام في الصلاة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قامت في الصلاة حتى تورَّمَتْ قدماها، ونحل جسمها‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واسجدى واركعى مَعَ الركعين‏}‏ أي مع المسلمين، يعني مع قراء بيت المقدس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 51‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏44‏)‏ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏45‏)‏ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏47‏)‏ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ‏(‏48‏)‏ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏49‏)‏ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏50‏)‏ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب‏}‏ يعني الذي ذكر في هذه الآية من قصة زكريا ومريم من أخبار الغيب، مما غاب عنك خبره، ولم تكن حاضراً، وفي الآية دليل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر عن قصة زكريا ومريم، ولم يكن قرأ الكتب، وأخبر عن ذلك، وصدقه أهل الكتاب بذلك، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك مِنْ أَنبَاء الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ‏}‏ يعني لم تكن عندهم، وإنما تخبر عن الوحي‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ‏}‏ يعني يطرحون أقلامهم في النهر بالقرعة ‏{‏وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ‏}‏ في أمر مريم ‏{‏إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم‏}‏ يعني جبريل عليه السلام وحده ‏{‏إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ‏}‏ قرأ نافع وعاصم وابن عامر ‏{‏يُبَشّرُكِ‏}‏ بالتشديد في جميع القرآن‏.‏

وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالتشديد في جميع القرآن إلا في حم، عسق ‏{‏ذَلِكَ الذى يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏ بالتخفيف، وقرأ حمزة بالتخفيف إلا في قوله ‏{‏قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى على أَن مَّسَّنِىَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏ ووافقه الكسائي في بعضها، فمن قرأ بالتشديد، فهو من المباشرة، ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه يفرحك، وكانت قصة البشارة أن مريم لما طهرت من الحيض، ودخلت المغتسل كما قال في سورة مريم، ‏{‏واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 16‏]‏، يعني أرادت أن تغتسل في جنب المشرفة، فلما دخلت المغتسل، رأت بشراً كهيئة الإنسان كما قال ‏{‏فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏، فخافت مريم، ثم قالت‏:‏ ‏{‏قَالَتْ إنى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18‏]‏، لأن التقي يخاف الرحمن‏.‏ فقال لها جبريل‏:‏ ‏{‏قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 19‏]‏، وذكرها هنا بلفظ آخر‏.‏ ومعناه واحد قال‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة وَمِنَ المقربين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 45‏]‏، أي بولد بغير أب يصير مخلوقاً بكلمة من الله، وهو قوله كن فكان ‏{‏اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ ويقال إنما سمي المسيح، لأنه يسيح في الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ المسيح بمعنى الماسح، كان يمسح وجه الأعمى فيبصر‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ المسيح الملك‏.‏ ثم قال ‏{‏وَجِيهاً‏}‏ أي ذا جاه ‏{‏فِى الدنيا والاخرة‏}‏ له منزلة ‏{‏فِى الاخرة‏}‏ وقال مقاتل‏:‏ فيها تقديم يعني وجيهاً في الدنيا ‏{‏وَمِنَ المقربين‏}‏ في الآخرة عند ربه‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏{‏وَجِيهًا فِي الدنيا‏}‏ يعني في أهل الدنيا بالمنزلة، ‏{‏وَفِي الاخرة مِنَ المقربين‏}‏ في جنة عدن ‏{‏وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً‏}‏ أي في حال صغره، وهو طفل في حجر أمه طفلاً وكهلاً، يعني إذا اجتمع عقله وكبر، فإن قيل‏:‏ ما معنى قوله كهلاً‏؟‏ والكلام من الكهل لا يكون عجباً‏.‏

قيل له‏:‏ المراد منه كلام الحكمة والعبرة‏.‏ ويقال‏:‏ كهلاً بعد نزوله من السماء، وهو قول الكلبي ‏{‏وَمِنَ الصالحين‏}‏ مع آبائه في الجنة ‏{‏قَالَتْ‏}‏ مريم ‏{‏رَبّ أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ‏}‏ يعني من أين يكون لي ولد ‏{‏وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ‏}‏ وهو كناية عن الجماع ف ‏{‏قَالَ‏}‏ جبريل ‏{‏كذلك‏}‏ يعني هكذا كما قلت أنه لم يمسسك بشر ولكن ‏{‏الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏ يعني إذا أراد أن يخلق خَلْقاً ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ فنفخ جبريل في جيبها، يعني في نفسها قال بعضهم‏:‏ وقع نفخ جبريل في رحمها، فعلقت بذلك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يجوز أن يكون الخلق من نفخ جبريل، لأنه يصير الولد بعضه من الملائكة، وبعضه من الإنس، ولكن سبب ذلك أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام وأخذ الميثاق من ذريته، فجعل بعضهم في أصلاب الآباء، وبعضهم في أرحام الأمهات، فإذا اجتمع الماءان صار ولداً، وإن الله تعالى جعل المَاءَيْن جميعاً في مريم، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ فيها جبريل لتهيج شهوتها، لأن المرأة ما لم تهج شهوتها، لا تحبل، فلما هاجت شهوتها بنفخة جبريل، وقع الماء الذي كان في صلبها في رحمها، فاختلط الماءان فعلقت بذلك، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قَضَى أَمْرًا‏}‏، يعني إذا أراد أن يخلق خلقاً سبحانه، ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ بغير أب، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُعَلّمُهُ الكتاب‏}‏ قرأ نافع وعاصم ‏{‏وَيُعَلّمُهُ‏}‏ بالياء يعني أن الله يعلمه، وقرأ الباقون بالنون، ومعناه أن الله يقول ونعلمه ‏{‏الكتاب‏}‏ يعني كتب الأنبياء‏.‏ وهذا قول الكلبي‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يعني الخط والكتابة، فعلّمه الله بالوحي والإلهام ‏{‏والحكمة‏}‏ يعني الفقه ‏{‏والتوراة والإنجيل‏}‏ يعني يحفظ التوراة عن ظهر قلبه‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ وهو عالم بالتوراة‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ ألهمه الله بعدما كبر حتى تعلم في مدة يسيرة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل‏}‏ نصب رسولاً لمعنيين‏:‏ أحدهما يجعله رسولاً إلى بني إسرائيل، والثاني ويكلم الناس ورسولاً‏.‏ أي في حال رسالته إلى بني إسرائيل دليله أنه قال‏:‏ ‏{‏أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ وذكر الزجاج فالمعنى والله أعلم ويكلمهم رسولاً بأني قد جئتكم بآية من ربكم‏.‏ ثم أخبر عن أداء رسالته بعدما أوحى إليه في حال الكبر، حيث قال لقومه‏:‏ إني قد جئتكم بآية من ربكم، يعني علامة لنبوتي، ثم بيّن العلامة فقال‏:‏ ‏{‏أَنِى أَخْلُقُ‏}‏ أي أقدر ‏{‏لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ الله‏}‏ ويقال‏:‏ إن الناس سألوه عنه على وجه التعنت فقالوا له‏:‏ اخلق لنا خفَّاشاً، واجعل فيه روحاً إن كنت صادقاً في مقالتك، فأخذ طيناً، وجعل منه خفاشاً، ونفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض، فكأن تسوية الطين، والنفخ من عيسى عليه السلام والخلق من الله عز وجل كما أن النفخ من جبريل عليه السلام والخلق من الله عز وجل ويقال‏:‏ إنما طلبوا منه خلق خفاش، لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان، ولا يبيض كما تبيض سائر الطيور، ويكون له ضرع يخرج منه لبن، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة، فلما أن رأوا ذلك منه ضحكوا‏.‏

وقالوا‏:‏ هذا سِحْر‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُبْرِئ الاكمه والابرص‏}‏ الأكمه الذي ولد أعمى فقالوا‏:‏ إن لنا أطباء يفعلون مثل هذا، فذهبوا إلى جالينوس، وأخبروه بذلك فقال جالينوس‏:‏ إذا ولد أعمى، لا يبصر بالعلاج، والأبرص إذا كان بحال إذا غرزت الإبرة فيه لا يخرج الدم منه لا يبرأ بالعلاج، فرجعوا إلى عيسى عليه السلام وجاؤوا بالأكمه والأبرص، فمسح يده عليهما، فأبصر الأعمى، وبرأ الأبرص، فآمن به بعضهم، وجَحَد بعضهم‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا سِحْر‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَسُولاً إلى بَنِى إسراءيل‏}‏ فأَخْبَروا بذلك جالينوس‏.‏ فقال‏:‏ الميت لا يعيش، ولا يحيى بالعلاج، فإن كان هو يحيي الموتى، فهو نبي، وليس بطبيب، فطلبوا منه أن يحيي الموتى، فأحيا أربعة نفر، أحدهم عازر، وكان صديقاً له، فبلغه أنه مات، فذهب مع أصحابه، وقد دفن، وأتى عليه أيام، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى وَوَدَكُه يقطر، فعاش وَوُلد له‏.‏ والثاني ابن العجوز، مَرّ به وهو يحمل على سرير، فدعا الله، فقام بإذن الله تعالى، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله‏.‏ والثالث ابنة من بنات العاشر ماتت، وأتى عليها ليلة، فدعا الله تعالى، فعاشت بعد ذلك، وولد لها‏.‏ والرابع سام بن نوح، لأن القوم قالوا له‏:‏ إنك تحيي من كان موته قريباً، فلعلهم لم يموتوا، وأصابتهم سكتة، فأحيي لنا سام بن نوح‏.‏ فقال‏:‏ دلوني على قبره، فخرج وخرج القوم معه حتى انتهوا إلى قبره، فدعا الله تعالى، فأحياه وخرج من قبره قد شابت رأسه‏.‏ فقال له عيسى‏:‏ كيف شابت رأسك ولم يكن في زمانكم شيب‏؟‏ فقال‏:‏ يا روح الله إنك لما دعوتني، سمعت صوتاً يقول أَجِبْ روحَ الله، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن ذلك الهول شابت رأسي، فسأله عن النَّزْع‏.‏

فقال له‏:‏ يا روح الله إن مرارة النزع لم تذهب عن حنجرتي، وقد كان من وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنة، ثم قال للقوم‏:‏ صدقوه فإنه نبي الله، فآمن به بعضهم، وكذب به بعضهم‏.‏ وقالوا‏:‏ هذا ساحر، فأرنا آية نعلم أنك صادق، فأخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وما نَدَّخر للغد، فأخبرهم‏.‏ فقال‏:‏ يا فلان أنت أكلت كذا وكذا، وأنت أكلت كذا وكذا، وادّخرت كذا وكذا، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ‏}‏ فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر‏.‏

ويقال إن الله بعث كل نبي إلى قومه، وأظهر لهم نوع ما كانوا يعرفونه، فكان في زمن موسى عليه السلام الغالب عليهم السحر، فبيَّن لهم من جنس ذلك، ليعرفوا أن ذلك ليس بِسِحْر، وأنه من الله تعالى، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام علم الطب، فجاءهم عيسى بما عجز الأطباء عنه، فعرف الأطباء أن ذلك ليس من الطب، وكان في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والشعر، فجاءهم بقرآن عجز الفصحاء والشعراء عن إتيان مثله‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذلك لأَيَةً لَّكُمْ‏}‏ يعني فيما صنع عيسى عليه السلام علامة لنبوته ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ أي مصدقين أنه نبي، قرأ نافع‏:‏ فيكون طائراً، وكذلك في سورة المائدة‏.‏ وقرأ الباقون بغير ألف، ومعناهما واحد‏.‏ ويقال‏:‏ الطائر واحد، والطير جماعة‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة‏}‏ ومعناه جئتكم مصدقاً، يعني الكتاب الذي أنزل عليّ، وهو الإنجيل مُصَدِّقاً، أي موافقاً لما بين يدي من التوراة ‏{‏وَلاِحِلَّ لَكُم‏}‏ يعني أرخص لكم ‏{‏بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ مثل الشحوم، ولحوم الإبل، ولحم كل ذي ظفر، وأما الميت، ولحم الخنزير، فهو حرام أبداً‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ يعني أني لم أحل لكم شيئاً بغير برهان، فحقيق عليكم اتباعي، لأني أتيتكم ببرهان، وأتيتكم بتحليل الطيبات ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ فيما أمركم ونهاكم ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما آمركم وأنهاكم، وأنصح لكم ‏{‏إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ‏}‏ هذا تكذيب لقول النصارى حيث قالوا‏:‏ إن الله هو المسيح‏.‏ وقالوا‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، فاعترف عيسى أنه عبد الله، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ‏}‏ أي خالقي وخالقكم، ورازقي ورازقكم، فاعبدوه، أي وحدوه ولا تشركوا به شيئاً ‏{‏هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ يعني هذا التوحيد الذي أدعوكم إليه طريق مستقيم، لا عوج فيه، وهو طريق الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏52‏)‏ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر‏}‏ قال الكلبي‏:‏ فلما عرف منهم الكفر بالله‏.‏ ويقال‏:‏ فلما سمع منهم كلمة الكفر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أحس في اللغة علم، ووجد‏.‏ ويقال هل أحسست الخبر‏؟‏ أي هل عرفته وعلمته‏؟‏‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ فلما رأى من بني إسرائيل الكفر‏.‏ كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 98‏]‏ يعني هل ترى‏؟‏ ويقال‏:‏ إنه لما علم عيسى أنهم أرادوا قتله ‏{‏قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏ يقول‏:‏ من أعواني مع الله‏؟‏ قال القتبي‏:‏ إلى هاهنا بمعنى مع مثل قوله، ‏{‏وَءَاتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 2‏]‏، أي مع أموالكم، كما يقال‏:‏ الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏‏؟‏ أي مع الله ‏{‏قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ قال الكلبي‏:‏ الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام وكانوا اثني عشر رجلاً‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا قَصَّارين، فمر بهم عيسى عليه السلام وقال‏:‏ من أنصاري إلى الله‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن أنصار الله‏.‏ ويقال‏:‏ إنه مر بهم، وهم يغسلون الثياب‏.‏ فقال لهم‏:‏ إيش تصنعون قالوا‏:‏ نطهر الثياب‏.‏ فقال‏:‏ ألا أدلكم بطهارة أنفع من هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ تَعَالَوْا حتى نطهرَ أنفسنا من الذنوب، فبايعوه‏.‏ ويقال‏:‏ إنهم كانوا صيادين، فمرَّ بهم‏.‏ وقال‏:‏ ألا أدلُّكم على اصطياد أنفعَ لكم من هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ تَعَالَوْا حتى نصطاد أنفسنا من شر إبليس، فبايعوه‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنما سُمُّوا حواريين لبياض ثيابهم، وكانوا صيّادين‏.‏

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي وَحَوارِيَّ من أُمَّتِي»، يعني به الخالص، فهذا يكون دليلاً لقول الكلبي‏:‏ إنهم خواصه وأصفياؤه، ومعنى آخر نحن أنصار الله، يعني أنصار دين الله ‏{‏بالله فَإِذَا‏}‏ أي صدقنا بتوحيد الله ‏{‏واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ يعني أشهدنا، على ذلك، فاشهد يا عيسى بأنا مسلمون ثم قالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ‏}‏ من الإنجيل على عيسى ‏{‏واتبعنا الرسول‏}‏ أي عيسى عليه السلام على دينه ‏{‏فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ يعني اجعلنا مع من أسلم قبلنا، وشهدوا بوحدانيتك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى حكاية عن كفار قومه‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ‏}‏ يعني أرادوا قتل عيسى عليه السلام ‏{‏وَمَكَرَ الله‏}‏ تعالى، أي جازاهم جزاء المكر ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ لأن مكرهم جَوْرٌ ومكر الله عَدْل‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وذلك أن اليهود اجتمعوا على قتل عيسى، فدخل عيسى عليه السلام البيت هارباً منهم، فرفعه جبريل من الكوَّة إلى السماء‏.‏ كما قال في آية أخرى، ‏{‏وأيدناه بِرُوحِ القدس‏}‏ فقال ملكهم لرجل خبيث يقال له يهوذا‏:‏ ادخل عليه، فاقتله، فدخل الرجل الخوخة، فلم يجد هناك عيسى، وألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج رأوه على شبه عيسى، فأخذوه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا‏:‏ وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى، فوقع بينهم قتال، فقتل بعضهم بعضاً، فلما خرجوا رأوه على بيت، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ قال الضحاك‏:‏ وكانت القصة أن اليهود خذلهم الله تعالى لما أرادوا قتل عيسى عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة، وهم اثنا عشر رجلاً، فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر إبليس جميع اليهود، فركب منهم أربعة آلاف رجل، فأحدقوا بالغرفة‏.‏ فقال المسيح للحواريين‏:‏ أيكم يخرج فَيُقْتَلُ وهو معي في الجنة‏؟‏ فقال رجل منهم‏:‏ أنا يا نبي الله، فألقى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوف، وناوله عكازه، فألقي عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه، وأما المسيح، فكساه الله الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فطار في الملائكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 57‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ‏}‏ ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال‏:‏ إنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال، وتلد له ابنة، فتموت ابنته، ثم يموت هو بعدما يعيش سنين، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة، فاستجاب الله دعاه‏.‏ وروي عن أبي هريرة أنه جاء إلى الكتاب، وقال للمعلم‏:‏ قل للصبيان حتى يسكتوا، فلما سكتوا قال لهم‏:‏ أيها الصبيان من عاش منكم إلى وقت نزول عيسى عليه السلام فليقرئه مني السلام، وإني كنت أرجو أن لا أخرج من الدنيا حتى أراه هذا كناية عن قرب الساعة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمُطَهّرُكَ‏}‏ أي منجيك ‏{‏مِنَ الذين كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك‏}‏ على دينك ‏{‏فَوْقَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالحجة والغلبة ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏‏.‏ وروي عن عبد الله بن عباس أنه قال‏:‏ الذين اتبعوه هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم هم الذين صدّقوه‏.‏

ثم قال ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ يعني الذين اتبعوك، والذين كفروا كلهم مرجعهم إلي‏.‏ ‏{‏فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ يعني بين المؤمنين والكفار ‏{‏فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من الدين، ثم أخبر عن حال الفريقين في الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والاخرة‏}‏ في الدنيا بالقتل والجزية، وفي الآخرة بالنار ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ يعني مانع يمنعهم من عذاب الله ‏{‏وَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ قال مقاتل هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فَيوفيهم أجورهم ‏"‏

قرأ عاصم في رواية حفص، فيوفيهم بالياء، يعني يوفيهم أجورهم، وأما الباقون بالنون، يعني أن الله قال ‏{‏فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ وهذا لفظ الملوك، إنهم يتكلمون بلفظ الجماعة، ويقولون‏:‏ نحن نفعل كذا وكذا، ونكتب إلى فلان، ونأمر بكذا، فالله تعالى خاطب العرب بما يفهمون فيما بينهم كما قال في سائر المواضع ‏{‏إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 19‏]‏ ‏{‏إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 105‏]‏ وكذلك ها هنا قال‏:‏ «فنوفيهم أجورهم» أي نعطيهم ثواب عملهم ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ أي لا يرضى دين الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيات والذكر الحكيم‏}‏ يقول هذه الآيات، وهذه القصص بينات في القرآن‏.‏ وأنزلنا عليك جبريل، ليقرأ عليك من الآيات يعني من البيان ‏{‏والذكر الحكيم‏}‏ يعني القرآن كله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الذكر الحكيم الذي عند رب العالمين في درة بيضاء، وهو اللوح المحفوظ‏.‏ ويقال هو القرآن، لأنه محكم ليس فيه تناقض، ولا يقدر أحد أن يأتي بمثله‏.‏ ويقال‏:‏ هو الشرف كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْألُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله‏}‏ نزلت في وفد نجران، السيد والعاقب، والأسقف، وجماعة من علمائهم وأحبارهم، قدموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وناظروه في أمر عيسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ»، فقالوا‏:‏ أرنا خلقاً من خلق الله تعالى بغير أب، وَكَانَ يُحيي الموتى، وكان فيه دليل على ما قلنا، وكانوا يقولون‏:‏ إنه اتخذه ابناً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أسْلِمُوا» فقالوا‏:‏ قد أسلمنا قبلك، فقال لهم‏:‏ «كَذَبْتُمْ، إنَّمَا يَمْنَعُكُمْ مِنَ الإسْلامِ ثَلاثٌ، أَكْلُ لَحْمِ الخَنْزِيرِ، وَعِبَادَةُ الصَّلِيبِ، وَقَوْلُكُمْ‏:‏ لله وَلَدٌ»، فقالوا له‏:‏ من أبو عيسى‏؟‏ فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ‏}‏ يعني‏:‏ شبه خلق عيسى عند الله كشبه خلق آدم ‏{‏خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ صوّره من غير أب ولا أم ‏{‏ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ فكان بشراً بغير أب، كذلك عيسى كان بشراً بغير أب، وفي هذه الآية دليل علمي أن الشيء يشبه بالشيء، وإن كان بينهما فرق كبير، بعد أن يجتمعا في وصف واحد، كما أن هاهنا خلق آدم من تراب، ولم يخلق عيسى من تراب، وكان بينهما فرق من هذا الوجه، ولكن الشبه بينهما أنه خلقهما من غير أب، ولأن أصل خلقهما جميعاً كان من تراب، لأن آدم لم يخلق من نفس التراب، ولكنه جعل التراب طيناً، ثم جعله صلصالاً، ثم خلقه منه، فكذلك عيسى عليه السلام حوله من حال إلى حال، ثم خلقه بشراً من غير أب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 61‏]‏

‏{‏الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏الحق مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني خبر عيسى، كما أخبرتك وأنبأتك في القرآن ‏{‏فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين‏}‏ أي من الشاكين‏.‏ ويقال‏:‏ المثل الذي ذكر في عيسى، هو الحق من ربك، وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمراد منه جميع من اتبعه، ومعناه فلا تكونوا من الممترين، أي من المشركين، يعني إن مثله كمثل آدم عليهما السلام ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ‏}‏ وذلك أن النصارى لما أخبرهم بالمثل في حق عيسى عليه السلام قالوا ليس كما تقول، وهذا ليس بمثل، فنزلت هذه الآية ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ‏}‏ يعني خاصمك في أمر عيسى عليه السلام ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم‏}‏ أي من البيان في أمره ‏{‏فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ‏}‏ أي نخرج أبناءنا وأبناءكم ‏{‏و‏}‏ نخرج ‏{‏وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ‏}‏ يعني نحن بأنفسنا، ويقال‏:‏ إخواننا ونجتمع في موضع ‏{‏ثُمَّ نَبْتَهِلْ‏}‏ أي نلتعن‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني نخلص في الدعاء‏.‏ ويقال‏:‏ هي المبالغة في الدعاء والتضرع ‏{‏فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين‏}‏ فواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرجوا للملاعنة، فجعلوا وقتاً للخروج، وتفرقوا على ذلك، ثم ندموا، فلما كان ذلك اليوم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد الحسن والحسين، وخرج معه علي بن أبي طالب، وفاطمة، فلما اجتمعوا في الموضع الذي واعدهم، طلب منهم الملاعنة، فقالوا نعوذ بالله، فقال لهم‏:‏ «إِمَّا أَنْ تُلْعَنُوا، وَإِمَّا أَنْ تُسْلِمُوا، وَإِمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الجِزْيَةَ»، فقبلوا الجزية، وصالحوه بأن يؤدوا كل سنة ألفي حلة، ألف حلة في المُحَرَّم، وألف حلة في رجب، وأَمَّرَ عليهم أبا عبيدة بن الجراح، ورجعوا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لَوْ أَنَّهُمُ الْتَعَنُوا لَهَلَكُوا كُلُّهُمْ حَتَّى العَصَافِيرُ فِي سُقُوفِ الحِيطَانِ»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 66‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق‏}‏ يعني ما أُخْبِرُوا من أمر عيسى عليه السلام هو الخبر الحق يعني أنه كان عبد الله ورسوله‏.‏ ويقال‏:‏ هذا القرآن هو الحق ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله‏}‏ لا شريك له ‏{‏وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم‏}‏ العزيز في ملكه، الحكيم في أمره حكم بخلق عيسى في بطن أمه من غير أب‏.‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يقول‏:‏ أَبَوْا، ولم يسْلموا ‏{‏فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين‏}‏ يجازيهم بذلك، وهذه كلمة تهديد ‏{‏قُلْ ياأهل * أَهْلِ الكتاب **تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ يعني كلمة عدل بيننا وبينكم‏.‏ ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود‏:‏ إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، يعني لا إله إِلاَّ الله، وهي كلمة الإخلاص ويقال إلى كلمة تسوي بيننا وبينكم، فتصير دماؤكم كدمائنا، وأموالكم كأموالنا ‏{‏أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله‏}‏ يعني ألا نُوَحِّد إِلا الله ‏{‏وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً‏}‏ من خلقه ‏{‏وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ الله‏}‏ لأنهم اتخذوا عيسى رباً من دون الله‏.‏

ويقال‏:‏ لا يطيع بعضنا بعضاً في المعصية‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها واحدا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏سورة التوبة‏:‏ 31‏]‏ أي أطاعوهم في المعصية‏.‏ ويقال‏:‏ لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً‏.‏ كما قالت النصارى‏:‏ إن الله ثالثُ ثلاثة ‏{‏فَإِن تَوَلَّوْاْ‏}‏ يعني أبوا عن التوحيد ‏{‏فَقُولُواْ‏}‏ لهم يا معشر المسلمين ‏{‏اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ أي مخلصون لله بالعبادة والتوحيد ‏{‏مُسْلِمُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم‏}‏ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا اجتمعوا في بيت مدرسة اليهود، وكل فريق يقول كان إبراهيم منا، وكان على ديننا فنزل ‏{‏مُسْلِمُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم‏}‏ أي لِمَ تخاصمون في دين إبراهيم ‏{‏وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ‏}‏ يعني من بعد إبراهيم عليه السلام ولكن اليهودية والنصرانية إنما سميت بهذا الاسم بعد نزول التوراة والإنجيل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت في شأن النفر الذين كانوا بالحبشة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهم جعفر الطيار وغيره‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً‏}‏ أي أطاعوهم في المعصية، وكانت بينهم، وبين أحبار الحبشة مناظرة في ذلك الوقت، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هذه الآية أبين الحجج على اليهود والنصارى، بأن التوراة والإنجيل أنزلا من بعده، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب، وهو قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ‏}‏، ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ يقول‏:‏ أليس لكم ذهن الإنسانية أن تنظروا فيما تقولون ‏{‏تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم‏}‏ يقول أنتم يا هؤلاء خاصمتم ‏{‏فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ‏}‏ في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فتجدونه في كتبكم ‏{‏فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يقول‏:‏ ما ليس في كتابكم، وهو أمر إبراهيم عليه السلام ‏{‏الله يَعْلَمُ‏}‏ أن إبراهيم كان على دين الإسلام ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَان إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا‏}‏ يقول‏:‏ لم يكن إبراهيم عليه السلام على دين اليهودية ولا النصرانية ‏{‏وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا‏}‏ أي مخلصاً ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ يعني ما كان أي لم يكن على دينهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الحنف في اللغة إقبال صدر القدمين إقبالاً لا رجوع فيها أبداً، فمعنى الحنيفية في الإسلام، الإقبال والميل إليه، والإقامة على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم‏}‏ يقول‏:‏ أحق الناس بدين إبراهيم ‏{‏لَلَّذِينَ اتبعوه‏}‏ واقتدوا به وآمنوا به ‏{‏وهذا النبى‏}‏ يعني هو على دينه ومنهاجه ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على دينه، ‏{‏والله وَلِىُّ المؤمنين‏}‏ في العَوْن والنُّصرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب‏}‏ يعني أرادت، وتمنت جماعة من أهل الكتاب ‏{‏لَوْ يُضِلُّونَكُمْ‏}‏ أي يصرفونكم عن دين الإسلام ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ‏}‏ أي وَبَالُ ذلك يرجع إلى أنفسهم‏.‏ ويقال‏:‏ وما يضلون إلا أنفسهم، أمثالهم كقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 54‏]‏ أي بعضكم بعضاً ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أي وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ وما يشعرون أن الله يَدُلُّ نبيَّه عليه السلام على ضلالتهم أي يُطْلِعُه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله‏}‏ يقول لم تجحدون بالقرآن ‏{‏وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ أنه نبيّ الله، لأنهم كانوا يخبرون بأمره قبل مبعثه ويقال‏:‏ بآيات الله، يعني بعجائبه ودلائله‏.‏ ويقال‏:‏ بآية الرجم ثم قال‏:‏ ‏{‏تَشْهَدُونَ ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل‏}‏ يقول لِمَ تخلطون الكفر بالإيمان‏؟‏ لأنهم آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه ‏{‏وَتَكْتُمُونَ الحق‏}‏ يعني بعث محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنه حق، وأنه في التوراة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏‏}‏

وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بالَّذِي أُنْزِلَ على الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قَدِمَ المدينة، صلى نحو بيت المقدس سبعة عشر شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، فلما صرف الله نبيّه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، وقد كان صلى صلاة الصبح إلى بيت المقدس، وصلّى صلاة الظهر والعصر إلى الكعبة‏.‏ فقال رؤساء اليهود منهم‏:‏ كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وغيرهما للسفلة منهم، آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، صدقوه بالقبلة التي صلّى صلاة الصبح في أول النهار وآمنوا به، وإنه الحق، ‏{‏واكفروا ءاخِرَهُ‏}‏ يعني اكفروا بالقبلة التي صلى إليها آخر النهار ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى قبلتكم ودينكم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ معناه أنهم جاؤوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم أول النهار، ورجعوا من عنده، وقالوا للسفلة‏:‏ هو حق فاتبعوه، ثم قالوا‏:‏ حتى ننظر في التوراة، ثم رجعوا في آخر النهار‏.‏ فقالوا‏:‏ قد نظرنا في التوراة، فليس هو إياه، يعنون أنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة، وأن يشككوا فيه فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذي أُنزِلَ‏}‏ يعني قالوا‏:‏ لهم في أول النهار آمنوا به ‏{‏واكفروا ءاخِرَهُ‏}‏ يعني قالوا‏:‏ في آخر النهار، واكفروا به ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ أي يشكون فيه فيرجعون‏.‏

ثم قال للسفلة‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ في الآية تقديم وتأخير، ومعناه ولا تؤمنوا، أي لا تصدقوا، إلا لمن تبع دينكم، فإنه لن يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أُوتيتُمْ من التوراة، والمَنّ والسَّلوى، ولا تخبروهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، فيحاجوكم عند ربكم، أي يخاصموكم، ويجعلوه حجة عليكم‏.‏ فقالوا ذلك حسداً حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم من غيرهم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ وإن الفضل بيد الله، وهو قول مقاتل‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ بغير تقديم وتأخير، يقول‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ‏}‏، أي ولا تصدقوا إلا لمن تبع دينكم اليهودية، وصلى إلى قبلتكم، ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله‏}‏ يقول‏:‏ دين الله هو الإسلام‏.‏ ‏{‏أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ يقول لن يعطى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام، والقرآن الذي فيه الحلال والحرام ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لن يخاصمكم اليهود عند ربكم يوم القيامة، ثم قال ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏إِنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ يعني النبوة، والكتاب والهدى، بيد الله، أي‏:‏ بتوفيق الله، ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ يعني يوفق من يشاء، ‏{‏والله واسع عَلِيمٌ‏}‏‏.‏ يقول‏:‏ واسع الفضل ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بمن يؤتيه الفضل ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء‏}‏ يعني بدينه يعطيه من يشاء من عباده ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ أي ذو المن العظيم، لمن اختصه بالإسلام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ‏}‏ قرأ أبو عمرو وحمزة يُؤَدِّهْ بجزم الهاء، وهي لغة لبعض العرب، واللغة المعروفة هي بإظهار الكسرة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعني عبد الله بن سلام وأصحابه‏.‏ وقال ابن عباس في رواية أبي صالح إن الله تعالى ذكر أن أهل الكتاب فيهم أمانة، وفيهم خيانة وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ‏}‏ يعني به عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقيّة من الذهب، فأداها إليه، فمدحه الله تعالى ويقال‏:‏ إن نعت محمد صلى الله عليه وسلم أمانة، فمن كتمه، دخل تحت قوله ‏{‏لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏، ومن لم يكتمه دخل تحت قوله ‏{‏يُؤَدّهِ‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ وهو فنْخاص بن عازورا اليهودي، أودعه رجل ديناراً، فخانه‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏يُؤَدّهِ إِلَيْكَ‏}‏، يعني النصارى كانوا أَلْيَنَ قُلوباً، يؤدون الأمانة، واليهود لا يؤدون الأمانة، فكانوا إذا أخذوا أمانات الناس، أو مال اليتامى، فكانوا يغتنمون ذلك، كما يفعل بعض أهل الإسلام إذا وقع في يده شيء من أموال المسلمين جعله كالغنيمة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ أي مُلِحّاً متقاضياً و‏{‏ذلك‏}‏ يعني الاستحلال ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ‏}‏ يعني يقولون ليس علينا في مال العرب مأثم‏.‏ ويقال‏:‏ من لم يكن على ديننا، فَمَالُه لنا حلال، بمنزلة مذهب الخوارج أنهم يستحلون مال من كان على خلاف مذهبهم ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب‏}‏ وهم يعلمون، لأنهم كانوا يقولون إن ذلك حلال في التوراة، فأخبر الله تعالى أنهم كاذبون على الله ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن الله أمرهم بأداء الأمانة، وأخذ على ذلك ميثاقهم، فهذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ‏}‏ أي بعهد الله الذي أخذ عليهم بأداء الأمانة، وهي نعت محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏واتقى‏}‏ محارمه، هذا قول مقاتل وقال الكلبي‏:‏ واتقى ظلم الناس ‏{‏فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ عن نقض العهد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله‏}‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح‏:‏ نزلت في شأن عبدان بن الأشوع، وامرئ القيس بن عابس، ادّعى أحدهما على صاحبه حقاً، فأراد المدَّعى عليه أن يحلف بالكذب، فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في شأن رؤساء اليهود، كتموا نعت محمد صلى الله عليه وسلم، لأجل منافع الدنيا‏.‏ ويقال‏:‏ إن جماعة من علماء اليهود، قَدِموا المدينة من الشام ليُسلموا، فلقيهم كَعْب بن الأشرف فقال لهم‏:‏ تعلمون أنه نبي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ فقال لهم كعب‏:‏ حَرَّمْتُمْ على أنفسكم خيراً كثيراً، لأني كنت أردت أن أَبْعث لكم الهدايا‏.‏ فقالوا‏:‏ حتى ننظر في ذلك، فنظروا ثم رجعوا‏.‏ فقالوا‏:‏ ليس هو الذي وجدنا صفته، فأخذ منهم إقرارهم وخطوطهم وأَيْمَانهم على ذلك، ثم بعث إلى كل واحد منهم ثمانية أذرع من الكرباس، وخمسة أصوع من الشعير، فنزل في شأنهم ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ أي عرضاً يسيراً ‏{‏أُوْلَئِكَ لاَ خلاق لَهُمْ فِى الاخرة‏}‏ أي لا نصيب لهم في الآخرة ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ قوله ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله‏}‏، يحتمل معنيين؛ أحدهما إسماع كلام الله تعالى أولياءه، خصوصاً لهم، كما كلم موسى خصوصية له دون البشر، ويجوز أن يكون تأويله للغضب عليهم، كما يقال‏:‏ فلان لا يكلم فلاناً، ولا ينظر إليه، أي هو غضبان عليه، وإن كان هو يكلمه بكلام السوء، فذلك معنى قوله لا يكلمهم، أي بكلام الرحمة ‏{‏وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ بالرحمة ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

ثم قال ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا‏}‏ يعني طائفة من اليهود، وهذه اللام لزيادة تأكيد على تأكيد ‏{‏يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب‏}‏ أي يحرفون ألسنتهم بالكتاب، يعني بنعت محمد صلى الله عليه وسلم ويغيرونه، ويقال‏:‏ يغيرونه في التلاوة فيقرؤونه على خلاف ما في التوراة‏.‏ ويقال‏:‏ يحرفون تأويله على خلاف ما فيه ‏{‏لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب‏}‏ أي من التوراة ‏{‏وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب‏}‏ أي من التوراة، بل هم كتبوا وهم تأوَّلوا ‏{‏وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله‏}‏ أي ليس هو من عند الله ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنه كذب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الكِتاب‏}‏ أي التوراة والإنجيل ‏{‏والحكم‏}‏ يعني الفهم ‏{‏والنبوة‏}‏ وهو عيسى ابن مريم عليهما السلام ‏{‏ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ‏}‏ ما جاز له أن يقول للناس‏:‏ ‏{‏كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله‏}‏ ويقال‏:‏ إن اليهودَ والنصارى اختلفوا فيما بينهم، فجاء الفريقان جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال كل فريق‏:‏ نحن أولى بإبراهيم عليه السلام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كُلُّكُمْ عَلَى الخَطَأ ‏"‏ فغضبوا‏.‏ وقالوا‏:‏ والله ما تريد إلا أن نتخذك حَنَّاناً، أي معبوداً، فأنزل الله تعالى ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب‏}‏، يعني القرآن والحكم، يعني الحلال والحرام والنبوة، ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ‏{‏ولكن‏}‏ يقول لهم ‏{‏كُونُواْ ربانيين‏}‏ أي متعبدين ويقال كونوا علماء فقهاء‏.‏

قال الزجاج‏:‏ الربانيون أرباب العلم، والبيان، أي كانوا علماء ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب‏}‏ أي كونوا عاملين بما كنتم تعلمون، لأن العالم إنما يقال له عالم إذا عمل بما علم، وإن لم يعمل بعلمه، فليس بعالم، لأن من ليس له من علمه منفعة، فهو والجاهل سواء ثم قال‏:‏ ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ يقول بما كنتم تقرؤون يعني كونوا علماء بذلك عاملين به‏.‏ قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو «بما كنتم تَعْلَمُون» بنصب التاء والتخفيف، يعني يُعَلِّمكم الكتاب ودراستكم والباقون بضم التاء والتشديد يعني تُعَلِّمُون غيركم فإنما يأمركم بذلك ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ يعني عيسى وعُزَيراً والملائكة صلوات الله عليهم، ولو أمركم بذلك لَكَفَر، وتنزع النبوة منه ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بالكفر‏}‏ يعني بعبادة الملائكة ‏{‏بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي مخلصون بالتوحيد لله‏.‏ قرأ عاصم وحمزة وابن عامر‏:‏ ولا يَأْمُرَ بنصب الراء ينصرف إلى قوله ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله‏}‏، فيصير نصباً بأن، والباقون ولا يأمرُكم بضم الراء على معنى الابتداء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ يعني الميثاق حيث أخرجهم من صُلْبِ آدم عليه السلام وَأَخَذَ عليهم الميثاق العهد أن يبلغ الأول الآخر، وأن يصدق الآخر الأول، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ يعني إقرار النَّبِيِّين ‏{‏لَمَا ءاتَيْتُكُم‏}‏ قرأ حمزة لِمَا آتيتكم بكسر اللام والتخفيف، يعني بما آتيتكم، والباقون بنصب اللام، ومعناه فما آتيتكم يعني، أي كتاب آتيتكم لتؤمنوا به‏.‏ وقرأ بعضهم بنصب اللام والتشديد، أي حين آتيتكم ‏{‏مّن كتاب وَحِكْمَةٍ‏}‏ يعني بيان الحلال والحرام‏.‏ وقرأ نافع آتيناكم بلفظ الجماعة، وهو لفظ الملوك، والباقون آتيتكم بلفظ الوحدان‏.‏ ويقال‏:‏ أخذ الميثاق بالوحي، فلم يبعث نبيّاً، إلا ذكر له محمداً صلى الله عليه وسلم ونعته، وأخذ عليه ميثاقه أن يبينه لقومه، وأن يأخذ منهم ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم، ولا يكتمونه ‏{‏ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ يعني به أهل الكتاب، الذين كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ‏{‏مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ في التوحيد وبعض الشرائع، وذلك أن الله تعالى لما أخذ ميثاق الأنبياء، وأخذ الأنبياء الميثاق من قومهم بأن يبينوه، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فكذبوه فذكرهم الله تعالى ما أتاهم به أنبياؤهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ‏}‏ يعني محمد صلى الله عليه وسلم مصدق لما معكم من التوراة ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ‏}‏ يعني قال لهم في الميثاق‏:‏ لتؤمنن به أي لتصدقنه إذا بُعث ‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ‏}‏ إذا خرج ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم ‏{‏ءأَقْرَرْتُمْ‏}‏ بتصديقه، يعني‏:‏ هل أقررتم بما أخذ عليكم من الميثاق بتصديقه ونصره‏؟‏ ‏{‏وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى‏}‏ يعني‏:‏ هل قبلتم على ذلك عهدي الذي أخذت عليكم على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ ‏{‏قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ‏}‏ الله تعالى ‏{‏فَأَشْهِدُواْ‏}‏ بعضكم على بعض بأني قد أخذت عليكم العهد ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏ على إقراركم‏.‏

قال الزجاج‏:‏ قوله فاشهدوا، أي فاثبتوا، لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي، ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏، وشهادة الله للنبيين تبيينه أمر نبوتهم بالآيات المعجزات‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أصل الإصر الثقل، فسمي العهد إصراً، لأنه يمنع صاحبه عن مخالفة الأمر الذي أخذ عليه فثقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك‏}‏ أي أعرض عن الإيمان، وعن البيان بعد ذلك الإقرار والعهد قوله‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ أي الناقضون للعهد، ويقال‏:‏ هم العاصون، وأصل الفسق الخروج من الطاعة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ للظالمين بَدَلاً‏}‏ ‏[‏سورة الكهف‏:‏ 50‏]‏ أي خرج عن طاعة ربه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ وذلك أن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقالوا‏:‏ أينا أحق بدين إبراهيم‏؟‏ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كِلاَ الفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِ» فقالوا‏:‏ ما نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ‏}‏ أي يطلبون، قرأ عاصم في رواية حفص ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ كلاهما بالياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو يبغون بالياء، وإليه ترجعون بالتاء، وقرأ الباقون كلاهما بالتاء على معنى المخاطبة، فمن قرأ بالياء، يعني أفغير دين الله يطلبون من عندك، ومن قرأ بالتاء يعني أفغير دين الله تطلبون، ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ‏}‏، أي أخلص وخضع ‏{‏مَن فِى السموات والارض طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏‏.‏

قال الكلبي‏:‏ أما أهل السموات، فأسلموا لله طائعين، وأما أهل الأرض، فمن ولد في الإسلام أسلم طوعاً، ومن أبى قُوتِل حتى دخل في الإسلام كرهاً، وما أفاء الله عليهم مما يسبون، فيجاء بهم في السلاسل، فيكرهون على الإسلام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يسجد ظل المسلم ووجهه طائع، ويسجد ظل الكافر، وهو كاره‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وله أسلم من في السموات، يعني الملائكة والأرض، يعني المؤمنين طوعاً وكرهاً، يعني أهل الأديان يقولون الله ربكم وخالقكم، فذلك إسلامهم، وهم مشركون معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والارض‏}‏ يعني خضعوا من جهة ما فطرهم عليه ودبرهم، لا يمتنع ممتنع من جبلة ما جبل عليها، ولا يقدر على تغيير ما خلق عليها طوعاً وكرهاً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ كما خلقكم، أي كما بدأكم فلا تقدرون على الامتناع، كذلك يبعثكم كما بدأكم‏.‏ قرأ عاصم في رواية حفص يرجعون، وقرأ الباقون بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ ءامَنَّا بالله‏}‏ خاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأراد به أمته فقال‏:‏ قل للمؤمنين إن لم يؤمن أهل الكتاب فقولوا أنتم آمنا بالله ‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ‏}‏ وقد ذكرناه في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

قوله ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في شأن مرثد بن أبي مرثد، وطُعْمَة بن أَبَيْرق، ومقيس بن صبابة، والحارث بن سُوَيد، وكانوا عشرة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا اثني عشر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني لا يقبل من جميع الخلق من أهل الأديان ديناً غير دين الإسلام، ومن يتدين غير الإسلام ديناً ‏{‏فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ أي من المغبونين، لأنه ترك منزله في الجنة، واختار منزله في النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏86- 91‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات‏}‏ أي بعدما ظهر لهم العلامات ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ فإن قيل في ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه، لا يهديه الله، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين، أسلموا وهداهم الله، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظلم‏.‏ قيل له‏:‏ لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم، ولا يُقْبِلُون إلى الإسلام، فأما إذا جاهدوا، وقصدوا الرجوع، وفقهم الله لذلك لقوله‏:‏ ‏{‏والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 69‏]‏ وتأويل آخر‏:‏ ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله‏}‏ يقول‏:‏ كيف يرشدهم إلى الجنة‏؟‏ كما قال في آية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 168‏]‏ ويقال‏:‏ كيف يرحمهم الله وينجيهم من العقوبة‏؟‏ ويقال‏:‏ كيف يغفر الله لهم‏؟‏ وقالت المعتزلة‏:‏ كَيْفَ يَهْدِي الله‏؟‏ معناه‏:‏ كيف يكونون مهتدين، لأنهم لا يرون الهداية، والاهتداء في الابتداء إلا على سبيل الجزاء، ويرون ذلك من كسب العبد‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ‏}‏ يعني أهل هذه الصفة التي ذكر ‏{‏أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله‏}‏ أي سخط الله‏.‏ ويقال‏:‏ الطرد والتبعيد من رحمة الله والخذلان‏.‏ ويقال‏:‏ يلعنهم بالقول‏:‏ ‏{‏والملئكة‏}‏ يعني عليهم لعنة الله والملائكة ‏{‏والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ إذا لعن رجل رجلاً، فإن لم يكن أَهْلاً لذلك، رجعت اللعنة إلى الكفار، ويقال‏:‏ من لم يكن على دينهم، يلعنهم في الدنيا، ومن كان على دينهم، يلعنهم في الآخرة‏.‏ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن ناصرين‏}‏ ‏[‏سورة العنكبوت‏:‏ 25‏]‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والناس أَجْمَعِينَ‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ يعني في اللعنة فيما توجبه اللعنة، وهو عذاب النار خالدين فيها ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب‏}‏ أي لا يهون عليهم العذاب ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يؤجلون‏.‏ ثم استثنى التوبة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ‏}‏ يقول‏:‏ من بعد الكفر، وأصلحوا أعمالهم بالتوبة‏.‏ ويقال‏:‏ أصلحوا لمن أفسدوا من الناس ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لما كان منهم في الكفر رحيم بهم بعد التوبة‏.‏ قال الكلبي ومقاتل لما نزلت هذه الآية، أي الرخصة بالتوبة، كتب أخو الحارث بن سُوَيْد، إلى الحارث‏:‏ إن الله قد عرض عليكم التوبة، فرجع وتاب‏.‏ وبلغ ذلك إلى أصحابه الذين بمكة، فقالوا‏:‏ إن محمداً تتربص به ريب المنون‏.‏ فقالوا‏:‏ نقيم بمكة على الكفر، متى بدا لنا الرجعة رجعنا، فينزل فينا ما نزل في الحارث، فتقبل توبتنا فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا‏}‏ أي ثبتوا على كفرهم بقولهم‏:‏ نقيم بمكة ما بدا لنا ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ ما أقاموا على الكفر‏.‏

قال الزجاج‏:‏ كانوا كلما نزلت آية كفروا بها، فكان ذلك زيادة كفرهم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏، أي توبتهم الأولى، وحبط أجر عملهم‏.‏ ويقال‏:‏ ‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏، معناه أنهم لن يتوبوا‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 48‏]‏، أي لا يشفع لها أحد، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون‏}‏ عن الإسلام، وهم الذين لم يتوبوا ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ يعني وزن الأرض ذهباً‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ إن الكافر إذا عاين النار في الآخرة، يتمنى أن يكون له الأرض ذهباً، فيقدر على أن يفتدي به نفسه من العذاب، لافتدى به ولو افتدى به ما تقبل منه، ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏، ونظيرها في سورة المائدة ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 36‏]‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مّن ناصرين‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ قال ابن عباس في رواية أبي صالح أنه قال لن تنالوا ما عند الله من ثوابه في الجنة، حتى تنفقوا مما تحبون، أي حتى تخرجوا أموالكم طيبة بها أنفسكم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ يعني لن تنالوا التقوى، حتى تنفقوا مما تحبون من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ‏}‏ يعني الصدقة وصلة الرحم ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ أي لا يخفى عليه، فيثيبكم عليه‏.‏ ويقال‏:‏ لن تنالوا البر حتى تستكملوا التقوى‏.‏ ويقال‏:‏ لا تكونوا بارين، حتى تنفقوا مما تحبون، أي من الصدقة، أي بعض ما تحبون من الأموال‏.‏

وروي عن عمر بن عبد العزيز، أنه كان يشتري أعدالاً من السُّكَّر، ويتصدق بها‏.‏ فقيل له‏:‏ هلا تصدقت بثمنه‏؟‏ فقال‏:‏ لأنَّ السُّكَّر أَحبّ إِليَّ، فأردت أن أتصدق مما أحب‏.‏

وروي عن عبد الله بن عمر أنه اشترى جارية جميلة، وكان يحبها، فمكثت عنده أياماً، ثم أعتقها وزوجها من رجل، فَوُلِد لها ولد، فكان يأخذ ولدها، ويضمّه إلى نفسه‏.‏ ويقول‏:‏ أشم منك ريح أمك‏.‏ فقيل له‏:‏ قد رزقك الله من حلال، وأنت تحبها، فلم تركتها‏؟‏ فقال‏:‏ ألم تسمع هذه الآية‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏‏.‏ وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ في مصحف مذهب، فلما انتهت إلى هذه الآية باعته، وتصدقت بثمنه‏.‏