فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (30):

{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}
قوله تعالى: {ذَلِكَ..} [لقمان: 30] إشارة إلى ما تقدم ذِكْره من دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر، ذلك كله {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق..} [لقمان: 30] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير؛ لأن الذي خلقه وأبدعه حق {بِأَنَّ الله هُوَ الحق..} [لقمان: 30].
وما دام الله تعالى هو(الحق) فما يدَّعونه من الشركاء هم الباطل {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل..} [لقمان: 30]، فلا يوجد في الشيء الواحد حَقَّان، فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل، فالحق واحد ومقابله الباطل. وأيُّ باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عز وجل؟
كيف وهي حجارة صوَّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون الله، والحجارة جماد من جمادات الأرض، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات، عبد للنبات، وعبد للحيوان، وعبد للإنسان؛ لأنه مُسخّر لخدمة هؤلاء جميعاً.
فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرَّمك ربك وجعل لك عقلاً مفكراً تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ تعبد أدنى أجناس الوجود، وتتخذها شريكاً مع الله، وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللات أو بالعزى، وألقتْه على الأرض، وربما كُسرت ذراعه، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله، إذن {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل..} [لقمان: 30].
لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس: إنها لا تنشب بين حقين؛ لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقَّان، إنما هو حق واحد، والآخر لابد أن يكون باطلاً، أو تنشأ بين باطلين، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول؛ لأن الباطل زهوق.
والعاقبة لابد أنْ تكون للحق ولو بعد حين، أما الباطل فإنه زَهُوق، إنما تطول المعركة إنْ نشبت بين باطلين، فليس أحد الطرفين فيها أهلاً لنصرة الله، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما، ولا يردهما إلا مذلَّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء.
لذلك نرى هذه الظاهرة أيضاً في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءاً كبيراً من هذه التركة، حتى إذا ما صَفَتْ مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسم ما بقي.
واقرأ إنْ شئت حديث رسول الله صلى الله عليهم وسلم: (مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر) ومعنى: مهاوش يعني التهويش أو كما نقول(بيهبش) من هنا ومن هنا، وطبيعي أن يُذهِب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه.
وسبق أن أعطينا مثلاً لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته، فيجد ابنه مريضاً حرارته مرتفعة، فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب، ويتراءى له شبح المرض، فينفق على ابنه المئات، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون، فالأول أصاب ماله من مهاوش، والآخر أصابه من الحلال.
فقول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق..} [لقمان: 30] يعني: أن الحق هو الظاهر وهو الغالب، فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول: نعم، قد يعلو الباطل لكن إلى حين، وهو في هذه الحالة يكون جندياً من جنود الحق، كيف؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صَوْلَة لابد أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه.
إذن: لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض، ويظهر لها علتها، فتطلب الدواء، فالألم جندي من جنود الشفاء، وقلنا سابقاً: إن الكفر جندي من جنود الإيمان.
لذلك لا تحزن إنْ رأيتَ الباطل عالياً، فذلك في صالح الحق، واقرأ قول ربك عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا...} [الرعد: 17] يعني: يأخذ كل وادٍ على قدره وسِعَته من الماء {فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً...} [الرعد: 17] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل...} [الرعد: 17] أي: مثلاً لكل منهما. {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً...} [الرعد: 17] يعني: مطروداً مُبْعداً من الجفوة {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى أنه {الحق..} [لقمان: 30] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين {وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير} [لقمان: 30] العلي الكبير يقولها الله تعالى، ويقولها رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقولها نحن؛ لأن الله قالها؛ ولأن النبي الصادق أخبرنا بها، لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بالله.
لذلك يعلمنا ربنا تبارك وتعالى أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به، كما ورد في الآيات السابقة: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25].
فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول: الحمد لله؛ لأنها شهادة ممَّنْ كفر بالله وكذَّب رسوله وحاربه، وأيضاً تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبَّى على منهج الله وكذَّب رسوله حين يصيبه مرض مثلاً، أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبَّى على الله؟ هذا الذي أَلِف التمرد على الله: أيتمرد إنْ جاءه الموت.
واقرأ قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ...} [الإسراء: 76] أي: لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، بالله أرأيتم إنساناً أحاطتْ به الأمواج، وأشرف على الهلاك يدعو يقول: يا هبل؟ إذن: الله هو العلي وهو الكبير، وغيره شرك وباطل.
وسبق أن ضربنا مثلاً للإنسان، وأنه لا يغشُّ نفسه، ولا يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما يطلقون عليه، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة الصحية، ويتهمه بعدم الخبره لكن حين مرض ولده وأحسَّ بالخطر أخذ الولد وتسلَّل به في ظلام الليل، وذهب إلى الطبيب.
فلله وحده العلو، ولله وحده الكبرياء، بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتُلجئه إلى ضرورة لا مخرجَ منها لا يقول إلا: يالله يا رب.
فالله هو العليُّ بشهادة مَنْ كفر به، ثم أردف صفة(العلى) بصفة(الكبير)؛ لأن العلى يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو، لكن الحق سبحانه هو العلي، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو.
ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك...}.

.تفسير الآية رقم (31):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)}
بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض الآيات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً آخر للآيات التي بيْن أيدينا في الأرض فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله..} [لقمان: 31] ألم تر: يعني ألم تعلم {أَنَّ الفلك..} [لقمان: 31] أي: السفن.
وربما أن سيدنا رسول الله لم يَرَ هذه السفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السفن العملاقة التي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله سبحانه: {وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24].
ومتى وُجِدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوَّنة من عدة أدوار. لم توجد إلا حديثاً، إذن: فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه الآيات التي تثبت صِدْق القرآن وصِدْق رسول الله في البلاغ عن الله.
وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ الإسلامي، وقرأت في سيرة رسول الله أن المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله هؤلاء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل الله عليَّ {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس...} [المائدة: 67] فوقفت المرأة عند هذه الآية وقالت: والله لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته.
وقلنا في معنى {أَلَمْ تَرَ..} [لقمان: 31] أنها بمعنى ألم تعلم، لأن إعلام الله لك أوثق من رؤية عينيك.
وكلمة {تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله..} [لقمان: 31] الجري: حركة تودع فيها مكاناً إلى مكان آخر، هذا التوديع إما أن تمشي الهُوَيْنَا أو تجري. لكن ما هي نعمة الله في جريها؟ أولاً كانت أول سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدُّسُر، وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلاً فإنها تغطس بمقدار هذا الثقل، حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.
وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات، فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء. والآن نرى السفن العملاقة والتي تُصنع من الحديد، والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء السائل الليِّن ويجري به، ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد، حتى وإنْ كانت تسير عكس جريان الماء، ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه الريح، ويسمون هذه الحركة(تسفيح).
لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن: {إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ...} [الشورى: 33].
وكأن الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا أن أقل الأشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الأشياء كثافة، وانظر إنْ شئتَ إلى جرارات النقل الثقيل، هذه الجرارات العملاقة التي تحمل عدة أطنان من الحديد مثلاً على أي شيء تسير وتتحرك؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والذي يأخذ قوته من هذا الضغط، بحيث إذا زدتَ في ضغط هذه العجلات تقوي على نفسها فتنفجر.
وقوله تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ..} [لقمان: 31] أي: من عجائبه في كونه في البحار، ففي الماضي كنا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلا السمك الذي يصطاده الصيادون، أما الآن ومع تطور علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر مما نراه على اليابسة.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] قوله تعالى: {لِّكُلِّ صَبَّارٍ..} [لقمان: 31] توحي بأن آيات الله في كونه كثيرة، لكن على الإنسان أنْ يبذل جهداً في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبَّاراً على مشقة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله فقد وجب علينا الشكر {لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان: 31] والشكر لا يكون إلا عن نعمة جدَّت لم تكُنْ موجودة من قبل.
إذن: الحق تبارك وتعالى يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
وتقديم صبَّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يُؤتى نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ...}.

.تفسير الآية رقم (32):

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
معنى {غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ..} [لقمان: 32] يعني: غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال: {كالظلل..} [لقمان: 32] جمع ظُلَّة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ...} [الأعراف: 171].
وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتماً ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهراً من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.
فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين..} [لقمان: 32] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لابد أن يُخلصوا لله؛ لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.
فإنْ قُلْتَ: ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام.
قلنا: إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...} [الأعراف: 172] فشهدوا.
فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه- عز وجل- فيكون كمَنْ قال الله فيه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى} [طه: 124].
النبي صلى الله عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصرِّانه أو، يُمجِّسانه).
فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدتْ أن الله هو الرب، لكن إذا تضبَّبت فلابد أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.
إذن: التديُّن طَبْع في النفس، لكن التديُّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتديناً، لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام.
لكن نقول لمن عبد الأصنام: لابد أنْ يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لابد أن تُلجئك الأحداث إلى أنْ تلوذ به؛ لذلك يقولون في المثل(اللي متحبش تشوف وجهه، يُحوجك الزمن لقفاه).
فأنتم أعرضتم عن الله وكفرتم به، فلما نزلت بكم الأحداث وأحاطت بكم الأمواج صِرْتم أرانب، فلماذا الآن تلجئون إلى الله؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبُّرهم حتى على الله؟
ثم يقول تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ..} [لقمان: 32] وكان ينبغي عليهم بعد أنْ نجاهم وأسعفهم، كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به، وأنْ يطيعوه، وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي زلزلتهم، إلا أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والإعراض عن الله، وطاوع نفسه وشهوته.
هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للابتلاء والتمحيص، فإنه ينتكس ولا يرعوى على خلاف المؤمن، فإنه إن تعرَّض لمثل هذا الاختبار يزداد إيماناً ويقيناً.
والمقتصد هو البين بين، تأخذه الأحداث والخطوب، فتردُّه إلى الله حال الكرب والشدة، لكنه إذا كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح، بدليل أن الله تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعاً آخر منهم غير مقتصد {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع الإيماني، لكنه لما نجا غرَّته الدنيا من جديد، ومنهم الجاحد الختَّار أي: الغادر.
ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبَّار وختَّار، وبين شكور وكفور.
ثم يخاطب الحق سبحانه الناس، فيقول: {ياأيها الناس اتقوا...}.