فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (6):

{ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}
قوله تعالى: {ذلك..} [السجدة: 6] إشارة إلى تدبير الأمر من السماء إلى الأرض، ثم متابعة الأمر ونتائجه، هذا كله لأنه سبحانه {عَالِمُ الغيب والشهادة..} [السجدة: 6] وأنه سبحانه {العزيز الرحيم} [السجدة: 6] فالحق سبحانه يُعلِّمنا أن الآمر لابد أنْ يتابع المأمور.
وقلنا: إن عالم الغيب تعني أنه بالأوْلى يعلم الشهادة، لكن ذكر الحق سبحانه علمه بالشهادة حتى لا يظن أحد أن الله غَيْب، فلا يعلم إلا الغيب، وقد بيَّنّا معنى الشهادة هنا حينما تكلَّمنا عن قوْل الله تعالى: {يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} [الأنبياء: 110].
والجهر أو الشهادة يعني الجهر المختلط حين تتداخل الأصوات، فلا تستطيع أنْ تُميِّزها، مع أنها جهر أمامك وشهادة، أما الحق سبحانه فيعلم كل صوت، ويردُّه إلى صاحبه، فعِلْم الجهر هنا أقوى من علم الغيب.
ومعنى {العزيز..} [السجدة: 6] أي: الذي لا يُغلَب ولايُقهر، فلا يلويه أحد من علمه، ولا عن مراداته في كَوْنه، ومع عِزَّته فهو سبحانه(الرحيم).

.تفسير الآية رقم (7):

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)}
الخَلْق إيجاد من عدم بحكمة، ولغاية ومهمة مرسومة، وليس عَبَثاً هكذا يخلق الأشياء كما اتفق، فالخالق- عز وجل- قبل أنْ يخلق يعلم ما يخلق، ويعلم المهمة التي سيؤديها؛ لذلك يخلق سبحانه على مواصفات تحقق هذه الغاية، وتؤدي هذه المهمة.
وقد يُخيَّل لك أن بعض المخلوقات لا مهمةَ لها في الحياة، أو أن بعضها كان من الممكن أنْ يُخلَق على هيئة أفضل مما هي عليها.
ونذكر هنا الرجل الذي تأمل في كون الله فقال: ليس في الإمكان أبدعُ مما كان. والولد الذي رأى الحداد يأخذ عيدان الحديد المستقيمة، فيلويها ويُعْوِجها، فقال الولد لأبيه: لماذا لا يترك الحداد عيدان الحديد على استقامتها؟ فعلَّمه الوالد أن هذه العيدان لا تؤدي مهمتها إلا باعوجاجها، وتأمل مثلاً الخطَّاف وآلة جمع الثمار من على الأشجار، إنها لو كانت مستقيمة لما أدَّتْ مهمتها.
وفي ضوء هذه المسألة نفهم الحديث النبوي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم- عن النساء: (إنهن خُلِقْنَ من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمه كسرته، وإنْ تركته لم يَزَلْ أعوج، فاستوصوا بالنساء).
وحين تتأمل الضلوع في قفصك الصدري تجد أنها لا تؤدي مهمتها في حماية القلب والرئتين إلا بهذه الهيئة المعْوَجة التي تحنو على أهم عضوين في جسمك، فكأن هذا الاعوجاج رأفة وحُنُو وحماية، وهكذا مهمة المرأة في الحياة، ألاَ تراها في أثناء الحمل مثلاً تترفق بحملها وتحافظ عليه، وتحميه حتى إذا وضعتْه كانت أشدَّ رفقاً، وأكثر حناناً عليه؟
إذن: هذا الوصف من رسول الله ليس سُبَّة في حق النساء، ولا إنقاصاً من شأنهن؛ لأن هذا الاعوجاج في طبيعة المرأة هو المتمم لمهمتها؛ لذلك نجد أن حنان المرأة أغلب من استواء عقلها، ومهمة المرأة تقتضي هذه الطبيعة، أما الرجل فعقله أغلب ليناسب مهمته في الحياة، حيث يُنَاط به العمل وترتيب الأمور فيما وُلِّي عليه.
إذن: خلق الله كلاً لمهمة، وفي كل مِنَّا مهما كان فيه من نقص ظاهر- مَيْزة يمتاز بها، فالرجل الذي تَراه لا عقلَ له ولا ذكاءَ عنده تقول: ولماذا خلق الله مثل هذا؟ لكن تراه قويَّ البنية، يحمل من الأثقال والمشاقّ ما لا تتحمله أنت، والرجل القصير مثلاً، ترى أنت عيبه في قِصَر قامته، لكن يراها غيرك ميزة من مزاياه، وربما استدعاه للعمل عنده لهذه الصفة فيه.
وحين تتأمل مثلاً عملية التعليم، وتقارن بين أعداد التلاميذ في المرحلة الابتدائية، وكم منهم يصل إلى مرحلة التعليم العالي. وكم منهم يتساقطون في الطريق؟ ولو أنهم جميعاً أخذوا شهادات عليا لما استقام الحال، وإلاَّ فمَر للمهن المتواضعة والحرف وغيرها.
إذن: لابد أنْ يوجد هذا التفاوت؛ لأن العقل الواحد يحتاج إلى آلاف ينفذون خطته، وقيمة كل امرئ ما يُحسنه مهما كان عمله.
لذلك قلنا: إنه لا ينبغي لأحد أنْ يتعالى على أحد؛ لأنه يمتاز عنه في شيء ما، إنما ينظر فيما يمتاز به غيره؛ لأن الخالق عز وجل وزّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ويكفي أن تقرأ قول الحق سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ...} [الحجرات: 11].
فالله تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ..} [السجدة: 7] لأن لكل مخلوق مهمة مُهيّأ لها، وتعجب من تصاريف القدر في هذه المسألة فتجد أخوين، يعمل أحدهما في العطور، ويعمل الآخر في الصرف الصحي، وتجد هذا راضياً بعمله، وهذا راضٍ بعمله.
حتى أنك تجد الناس الذين خلقهم الله على شيء من النقص أو الشذوذ حين يرضى الواحد منهم بقسمة الله له وقدره فيه يسود بهذا النقص، أو بهذا الشذوذ، وبعضنا لاحظ مثلاً الأكتع إذا ضرب شخصاً بهذه اليد الكتعاء، كم هي قوية! وكم يخافه الناس لأجل قوته! وربما يجيد من الأعمال ما لا يجيده الشخص السوَّي.
فإنْ قلتَ: إذا كان الخالق سبحانه أحسن كل شيء خلقه، فما بال الكفر، خلقه الله وما يزال موجوداً، فأيُّ إحسان فيه؟
نقول: والله لولا طغيان الكافرين ما عشق الناسُ الإيمانَ، كما أنه لولا وجود الظلم والظالمين لما شعر الناس بطَعْم العدل. إذن: فالحق سبحانه يخلق الشيء، ويخلق من ضده دافعاً له.
ثم يقول سبحانه: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} [السجدة: 7] فالإنسان الذي كرّمه الله على سائر المخلوقات بدأه الله من الطين، وهو أدنى أجناس الوجود، وقلنا: إن جميع الأجناس تنتهي إلى خدمة الإنسان. الحيوان وهو أقربها للإنسان، ثم النبات، ثم الجماد، ومن الجماد خُلِق الإنسان.
وقد عوَّض الله عز وجل الجماد الخادم لباقي الأجناس حين أمر الإنسان المكرَّم بأن يُقبِّله في فريضة كُتبت عليه مرة واحدة في العمر، وهي فريضة الحج، فأمره أن يُقبِّل الحجر الأسود، وأنْ يتعبد لله تعالى بهذا التقبيل؛ لذلك يتزاحم الناس على الحجر، ويتقاتلون عليه، وهو حجر، وهم بشر كرَّمهم الله، وما ذلك إلا ليكسر التعالي في النفس الإنسانية، فلا يتعالى أحد على أحد.
وسبق أنْ بيّنا أن المغرضين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله قالوا: إن الله تعالى قال في مسألة الخَلْق مرة {مِّن مَّآءٍ...} [المرسلات: 20] ومرة {مِن تُرَابٍ...} [الكهف: 37] ومرة {مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ومرة {مِن صَلْصَالٍ...} [الحجر: 33] ومرة {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26].. إلخ، فأيُّ هذه العناصر أصل للإنسان؟
وقلنا: إن هذه مراحل مختلفة للشيء الواحد، والمراحل لا تقتضي النية الأولية، فالماء والتراب يُكوِّنان الطين، فإذا تُرك الطين حتى تتغير رائحته فهو الحمأ المسنون، فإذا تُرك حتى يجفَّ ويتجمد فهو الصلصال، فهذه العناصر لا تعارض بينها، ويجوز لك أنْ تقول: إن الإنسان خُلِق من ماء، أو من تراب، أو من طين... إلخ.
والمراد هنا الإنسان الأول، وهو سيدنا آدم- عليه السلام- ثم أخذ الله سلالته من ماء مهين، والسلالة هي خلاصة الشيء، فالخالق سبحانه خلقنا أولاً من الطين، ثم جعل لنا الأزواج والتناسل الذي نتج عنه رجال ونساء.
ثم يحتفظ الخالق سبحانه لنفسه بطلاقة القدرة في هذه المسألة، وكأنه يقول لك: إياك أنْ تفهم أنني لا أخلق إلا بالزوجية، إنما أنا أستطيع أنْ أخلق بلا زوجية كما خلقْتُ آدم، وأخلق من رجل بلا امرأة كما خلقتُ حواء، وأخلق من امرأة بلا رجل كما خلقتُ عيسى عليه السلام.

وقد تتوفر علاقة الزوجية ويجعلها الله عقيماً لا ثمرةَ لها، وهكذا تناولت طلاقة القدرة كل ألوان القسمة العقلية في هذه المسألة، واقرأ إنْ شئتَ: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
إذن: هذه مسألة طلاقة قدرة للخالق سبحانه، وليست عملية(ميكانيكية)، لأنها هِبَة من الله {يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً...} [الشورى: 49] ولاحظ أن الله قدَّم هنا الإناث، وهم الجنس الذي لا يفضِّله الناس أن يُولد لهم، ولكن تجد الذي يرزقه الله بالبنت فيفرح بها، ويعلم أنها هِبَة من الله يُعوِّضه الله بزوج لها يكون أطوعَ له من ولده.
كما أنه لو رضي صاحب العُقْم بعُقْمه، وعلم أنه هِبَة من الله لَعَّوضه الله في أبناء الآخرين، وشعر أنهم جميعاً أبناؤه، ولماذا نقبل هبة الله في الذكور وفي الإناث، ولا نقبل العقم، وهو أيضاً هبة الله؟
ثم ألستَ ترى من الأولاد مَنْ يقتل أباه، ومَنْ يقتل أمه؟ إذن: المسألة تحتاج منّا إلى الرضا والتسليم والإيمان بأن العُقْم هبة، كما أن الإنجاب هبة.
ثم إن خَلْق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين جاء من البداية على صورته التامة الكاملة، فخلقه الله رجلاً مستوياً، فلم يكُنْ مثلاً طفلاً ثم كبر وجرتْ عليه سنة التطور، لا إنما خلقه الله على صورته، أي: على صورة آدم.
والبعض يقول: خلق الله آدم على صورته أي على صورة الحق، فالضمير يعود إلى الله تعالى، والمراد: على صورة الحق لا على حقيقة الحق، فالله تعالى حيٌّ يَهَب من حياته حياة، والله قوي يهب من قوته قوة، والله غنيٌّ يهب من غِنَاه غِنَي، والله عليم يَهبُ من علمه علماً.
لذلك قيل: (تخلَّقوا بأخلاق الله)؛ لأنه سبحانه وهبكم صفات من صفات تجلِّيه، وقد وهبكم هذه الصفات، فاجعلوا للصفة فيكم مزية وتخلَّقوا بها، فمثلاً كُنْ قوياً على الظالم، ضعيفاً متواضعاً للمظلوم، على حَدِّ قول الله تعالى في صفات المؤمنين: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ...} [الفتح: 29].
وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين...} [المائدة: 54].
وهذه الصفات المتناقصة تجتمع في المؤمن؛ لأنه ليس له طبع واحد، إنما الموقف والتكليف هو الذي يصبغه ويلويه إلى الصفة المناسبة.
وقلنا: إن علماء التحالليل في معاملهم أثبتوا صِدْق القرآن في هذه الحقيقة، وهي خَلْق الإنسان من طين حينما وجدوا أن العناصر المكوِّنه لجسم الإنسان هي ذاتها العناصر الموجودة في التربة، وعددها 16 عنصراً، أقواها الأكسوجين، ثم الكربون، ثم الهيدروجين، ثم النيتروجين، ثم الصوديوم، ثم الماغنسيوم، ثم البوتاسيوم.. إلخ.

.تفسير الآية رقم (8):

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)}
النسل هو الأنجال والذرية، والسلالة: خلاصة الشيء تُسلُّ منه كما يُسلُّ السيف من غمده، فالسلالة هي أجود ما في الشيء، ولذلك نقول: فلان من سلالة كذا، وفلان سليل المجد. يعني: في مقام المدح. حتى في الخيل يحتفظون لها بسلالات معروفة أصيلة ويُسجلون لها شهادات ميلاد تثبت أصالة سلالتها.
هذا النسل وهذه السلالة خلقها الله من ماء، وهو منيٌّ الرجل وبويضة المرأة.
هذا الماء وصفه الله بأنه {مَّهِينٍ} [السجدة: 8] لأنه يجري في مجرى البول، ويذهب مذهبه إذا لم يصل إلى الرحم، وفي هذا الماء المهين عجائب، ويرحم الله العقاد حين قال: إن أصول ذرات العالم كله يمكن أن تُوضع في نصف كستبان الخياطة، وتأمل كم يقذف الرجل في المرة الواحدة من هذا المقدار؟ إذن: المسألة دقة تكوين وعظمة خالق، ففي هذه الذرة البسيطة خصائص إنسان كامل، فهي تحمل: لونه، وجنسه، وصفاته.. إلخ.
وسبق أن قلنا في عالم الذر: إن في كل منا ذرة وجزيئاً حياً من لَدُنْ أبيه آدم عليه السلام.
ثم يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ...}.

.تفسير الآية رقم (9):

{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}
وهذه التسوية كانت أولاً للإنسان الأول الذي خلقه الله من الطين، كما قال سبحانه: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 29] وقد مَرَّ آدم- عليه السلام- في هذه التسوية بالمراحل التي ذكرت، كذلك الأمر في سلالته يُسوِّيها الخالق- عز وجل- وتمر بمثل هذه المراحل: من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة.. إلخ، ثم تُنفخ فيه الروح.
وإذا كان الإنسان لم يشهد كيفية خَلْقه، فإن الله تعالى يجعل من المشَاهد لنا دليلاً على ما غاب عَنَّا، فإنْ كنَّا لم نشهد الخَلْق فقد شاهدنا الموت، والموت تَقْضٌ للحياة وللخَلْق، ومعلوم أن نَقْض الشيء يأتي على عكس بنائه، فإذا أردنا مثلاً هدم عمارة من عدة أدوار فإن آخر الأدوار بناءً هو أول الأدوار هدماً.
كذلك الحال في الموت، أول شيء فيه خروج الروح، وهي آخر شيء في الخَلْق، فإذا خرجت الروح تصلَّب الجسد، أو كما يقولون(شضَّب)، وهذه المرحلة أشبه بمرحلة الصلصالية، ثم يُنتن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم يتحلل هذا الجسد ويتبخر ما فيه من مائية، وتبقى بعض العناصر التي تتحول إلى تراب ليعود إلى أصله الأول.
إذن: خُذْ من رؤيتك للموت دليلاً على صِدْق ربك- عز وجل- فيما أخبرك به من أمر الخَلْق الذي لم تشهده.
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة..} [السجدة: 9] سبق أن تكلمنا عن هذه الأعضاء، وقد قرر علماء وظائف الأعضاء مهمة كل عضو وجارحة، ومتى تبدأ هذه الجارحة في أداء مهمتها، وأثبتوا أن الأذن هي الجارحة الأولى التي تؤدي مهمتها في الطفل، بدليل أنك إذا وضعتَ أصبعك أمام عين الطفل بعد ولادته لا(يرمش)، في حين يفزع إنْ أحدثت َ بجواره صوتاً: ذلك لأنه يسمع بعد ولادته مباشرة، أما الرؤية فتتأخر من ثلاثة إلى عشرة أيام.
لذلك كانت حاسة السمع هي المصاحبة للإنسان، ولا تنتهي مهمتها حتى في النوم، وبها يتم الاستدعاء، أما العين فلا تعمل أثناء النوم.
وهذه المسألة أوضحها الحق سبحانه في قصة أهل الكهف، فلما أراد الحق سبحانه أنْ يُنيم أهل الكهف هذه المدة الطويلة، والكهف في صحراء بها أصوات الرياح والعواصف والحيوانات المتوحشة؛ لذلك ضرب الله على آذانهم وعطَّل عندهم هذه الحاسة كما قال سبحانه: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11].
إذن: الأذن هي أول الأعضاء أداءً لمهمتها، ثم العين، ثم باقي الأعضاء، وآخرها عملاً الأعصاب، بدليل أن الطفل تصل حرارته مثلاً إلى الأربعين درجة، ونراه يجري ويلعب دون أن يشعر بشيء، لماذا؟ لأن جهازه العصبي لم ينضج بَعْد، فلا يشعر بهذه الحرارة.
لذلك نجد دائماً القرآن يُقدِّم السمع على البصر، ويتقدم البصرَ إلا في آية واحدة هي قوله تعالى: {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا...} [السجدة: 12] لأنها تصور مشهداً من مشاهد القيامة وفيه يفاجأ الكفار بأهوال القيامة، ويأخذهم المنظر قبل أنْ يسمعوا الصوت حين ينادي المنادي.
ومن عجائب الأداء البياني في القرآن أن كلمة أسماع يقابلها أبصار، لكن المذكور هنا: {السمع والأبصار..} [السجدة: 9] فالسمع مفرد، والأبصار جمع، فلماذا أفرد السمع وجمع البصر؟
قالوا: لأن الأذن ليس لها غطاء يحجب عنها الأصوات، كما أن للعين غطاءً يُسْدل عليه ويمنع عنها المرئيات، فإن فهو سمع واحد لي ولك وللجميع، الكل يسمع صوتاً واحداً، أما المرئيات فمتعددة، فما تراه أنت قد لا أراه أنا.
ولم يأْتِ البصر مفرداً- في هذا السياق- إلا في موضع واحد هو قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] ذلك لأن الآية تتكلم عن المسئولية، والمسئولية واحدة ذاتية لا تتعدى، فلابد أنْ يكون واحداً.
ومن المناسب أن يذكر الحق سبحانه السمع والأبصار والأفئدة بعد الحديث عن مسألة الخَلْق؛ لأن الإنسان يُولَد من بطن أمه لا يعلم شيئاً، وبهذه الأعضاء والحواس يتعلّم ويكتسب المعلومات والخبرات كما قال سبحانه: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الإسراء: 78].
إذن: فهذه الأعضاء ضرورية لوجود الإنسان الخليفة في الأرض، وبها يتعايش مع غيره، ولابد له من اكتساب المعلومات، وإلاَّ فكيف سيتعايش مع بيئته؟
وقلنا: إن الإنسان لكي يتعلم لابد له من استعمال هذه الحواس المدركة، كل منها في مناطه، فاللسان في الكلام، والعين في الرؤية، والأذن في السمع، والأنف في الشم، والأنامل في اللمس.
وقلنا: إن هذه الحواس هي أمهات الحواس المعروفة، حيث عرفنا فيما بعد حواسَّ أخرى؛ لذلك احتاط العلماء لهذا التطور، فأطلقوا على هذه الحواس المعروفة اسم (الحواس الظاهرة)، وبعد ذلك عرفنا حاسة البَيْن التي نعرف بها رقَّة القماش وسُمْكه، وحاسة العضل التي نعرف بها الثقل.
إذن: حينما يُولَد الإنسان يحتاج إلى هذه الحواس ليتعايش بها ويدرك ويتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه، ولو أن الإنسان يعيش وحده ما احتاج مثلاً لأنْ يتكلم، لكنه يعيش بطبيعته مع الجماعة، فلابد له أن يتكلم ليتفاهم معهم، وقبل ذلك لابد له أنْ يسمع ليتعلم الكلام.
وعرفنا سابقاً أن اللغة وليدة السماع، فالطفل الذي يُولَد في بيئة عربية ينطق بالعربية، والذي يعيش في بيئة إنجليزية ينطق الإنجليزية وهكذا، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، فإذا لم تسمع الأذن لا ينطق اللسان.
لذلك سبق أن قلنا في سورة البقرة في قول الله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ...} [البقرة: 18] أن البَكَم وهو عدم الكلام نتيجة الصمم، وهو عدم السماع، فالسمع- إذن- هو أول مهمة في الإنسان، وهو الذي يعطيني الأرضية الأولى في حياتي مع المجتمع من حولي.
ومعلوم أن تعلُّم القراءة مثلاً يحتاج إلى معلم أسمع منه النطق، فهذه ألف، وهذه باء، هذه فتحة، وهذه ضمة.. إلخ، فإذا لم أسمع لا أستطيع النطق الصحيح، ولا أستطيع الكتابة.
وبالسماع يتم البلاغ عن الله من السماء إلى الأرض؛ لذلك تقدَّم ذِكْر السمع على ذِكْر البصر.
والحق سبحانه لما تكلَّم عن السمع بهذه الصورة قال: أنا سأُسْمع أسماء الأشياء، فهذه أرض، وهذه سماء.. إلخ، لذلك حينما نُعلِّم التلميذ نقول له: هذه عين، وهذه أذن.
وبعد أنْ يتعلم التلميذ من مُعلِّمه القراءة يستطيع بعد ذلك أنْ يقرأ بذاته، فيحتاج إلى حاسّة البصر في مهمة القراءة، فإذا أتم تعليمه واستطاع أن يصحح قراءته بنفسه، واختمرت عنده المعلومات التي اكتسبها بسمعه وبصره استطاع أنْ يقرأ أشياء أخرى غير التي قرأها له معلمه، واستطاع أن يربي نفسه ويُعلِّمها حتى تتكون عنده خلية علمية يستحدث من خلالها أشياء جديدة، ربما لا يعرفها معلمه، وهذه مهمة الفؤاد {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة..} [السجدة: 9].
فالمعاني تتجمع بهذه الحواس، حتى يصير الإنسان سَوياً لديه الملَكة التي يتعلم بها، ثم يُعلِّم هو غيره.
واللغة المنطوقة لا تُتعلَّم إلابالسماع، فأنا سمعت من أبي، وأبي سمع من أبيه، وتستطيع أنْ تسلسل هذه المسألة لتصل إلى آدم عليه السلام أبي البشر جميعاً، فإنْ قلتَ: فممَّنْ سمع آدم؟ نقول: سمع الله حينما علَّمه الأسماء كلها: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31].
وهذا أمر منطقي؛ لأن اللغة المسموعة بالأذن لا يمكن لأحد اختراعها، ومع ذلك يوجد مَنْ يعترض على هذه المسألة، يقول: هذا يعني أن اللغة توقيفية، لا دخْلَ لنا فيها. بمعنى: أننا لا نستحدث فيها جديداً.
ونقول: نعم، اللغة أمر توقيفي، لكن أعطى الله آدم الأسماء وعلَّمه إياها، وبهذه الأسماء يستطيع أنْ يتفاهم على وضع غيرها من الأسماء في المعلومات التي تستجد في حياته.
وإلا، فكيف سمَّينْا(الراديو والتليفزيون.. الخ) وهذه كلها مُستجدات لابد لها من أسماء، والاسم لا يوجد إلا بعد أنْ يوجد مُسمَّاة، وهذه مهمة المجامع اللغوية التي تقرر هذه الأسماء، وتوافق على استخدامها، وقد اصطلح المَجْمع على تسمية الهاتف: مسرة. والتليفزيون: تلفاز.. إلخ.
إذن: أتينا بهذه الألفاظ واتفقنا عليها؛ لأنها تعبر عن المعاني التي نريدها، وهذه الألفاظ وليدة الأسماء التي تعلمها آدم عليه السلام، فاللغة بدأت توقيفية، وانتهت وضعية.
وقوله تعالى بعد هذه النعم: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9] دليل على أن هذه النعم تستوجب الشكر، لكن قليل منَّا مَنْ يشكر، وكان ينبغي أن نشكر المنعم كلما سمعنا، وكلما أبصرنا، وكلما عملتْ عقولنا وتوصلتْ إلى جديد.
لذلك، كان شكر المؤمن لربه لا ينتهي، كما أن أعياده وفرحته لا تنتهي، فنحن مثلاً نفرح يوم عيد الفطر بفطرنا وبأدائنا للعبادة التي فرضها الله علينا، وفي عيد الأضحى نفرح؛ لأن سيدنا إبراهيم- عليه السلام- تحمَّل عنَّا الفداء بولده، لكي يعفينا جميعاً من أنْ يفدي كل منَّا، ويتقرب إلى الله بذبح ولده، وإلا لكانت المسألة شاقة علينا؛ لذلك نفرح في عيد الأضحى، ونذبح الأضاحي، ونؤدي النُّسُك في الحج.
وما دام المؤمن ينبغي له أن يفرح بأداء الفرائض وعمل الطاعات، فلماذا لا نفرح كلما صلَّينا أو صُمْنا أو زكَّيْنا؟ لماذا لا نفرح عندما نطيع الله بعمل المأمورات، وترْك المنهيات؟ لماذا لا نفرح في الدنيا حتى يأتي يوم الفرح الأكبر، يوم تتجمع حصيلة هذه الأعمال، وننال ثوابها الجنة ونعيمها؟
واقرأ إن شئت قول ربك: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 9-10].