فصل: تفسير الآية رقم (18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (18):

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)}
أولاً: نلحظ في اللفظ أن مؤمناً وفاسقاً جاءت بصيغة المفرد، فكان القياس أنْ نقول: لا يستويان، إنما سياق القرآن {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] وسبق أنْ قُلْنا: إن(من وما) الموصولتين تأتي للمفرد أو للمثنى أو للجمع، وللمذكر وللمؤنث، فمرة يراعي السياق لفظها، ومرة يراعى معناها.
والمعنى هنا {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] الحق سبحانه لا يتكلم عن المفرد، إنما عن الجمع، أو أنها قيلت رداً لحالة مخصوصة بين مؤمن وكافر وأراد الحق سبحانه أن يعطيها العموم لا خصوص السبب، فراعى السياق خصوص السبب في مؤمن وكافر، وراعى عموم الموضوع فقال {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] والقاعدة الفقهية تقول: إن العبرة في القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل: إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين جادل علياً رضي الله عنه. فقال له: أنا أشبُّ منك شباباًً، وأجلد منك جَلَداً، وأذرب منك لساناً، وأحدُّ منك سناناً، وأشجع منك وجداناً، وأكثر منك مَرَقاً، فردَّ عليه عليٌّ- كرَّم الله وجهه- بما يدحض هذا كله ويبطله، فقال له: اسكت يا فاسق، ولا موهبة لفاسق.
والمعنى: إنْ كنت كما تقول فقد ضيعتَ هذا كله بفسقك، حيث استعملتَ قوة شبابك وجَلَدك وذَرَب لسانك وشجاعة وجدانك في الباطل وفي المعصية، وفي الصدِّ عن سبيل الله.
وهكذا جمعتْ الآية بين خصوصية هذا السبب في {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً..} [السجدة: 18] وبين عموم الموضوع في {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، فهذا الحكم ينسحب على الجمع أيضاً.
وجاء قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] كأنه جواب للسؤال {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً..} [السجدة: 18] لكن، لماذا لم يأت الجواب مثلاً: لا يستوي المؤمن والفاسق؟ قالوا: لأن هذا الأسلوب يسمى أسلوب الإقناع التأكيدي، وهو أن تجعل الخصم هو الذي ينطق بالحكم.
كما لو قال لك صديق: لقد مررتُ بأزمة ولم تقف بجانبي. فتستطيع أنْ تقول له: وقفتُ بجانبك يوم كذا ويوم كذا- على سبيل الخبر منك، لكن الإخبار منك يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، فتلجأ إلى أسلوب آخر لا يستطيع معه الإنكار، ولا يملك إلا الاعتراف لك بالجميل فتقول بصيغة السؤال: ألم أقدم لك كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وأنت لا تسأله إلا إذا وثقتَ بأن جوابه لابد أنْ يأتي وَفْق مرادك وعندها يكون كلامه حجة عليه.
لذلك طرح الحق سبحانه هذه المسألة في صورة سؤال: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً..} [السجدة: 18] ولابد أن نقول نحن في جواب هذا السؤال: لا يستوي مؤمن وفاسق، ومَنْ يقُلْ بهذا فقد وافق مراد ربه.
وما دام أن المؤمن لا يستوي والفاسق، فلكل منهما جزاء يناسبه: {أَمَّا الذين آمَنُواْ...}.

.تفسير الآية رقم (19):

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)}
وإنْ كانت لفظة(مؤمن) جاءت مفردة، فقد أوضحتْ هذه الآية أن المراد الجمع {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات..} [السجدة: 19] أي: العموم؛ لأنه أُخِذ مما كان مفرداً جمعاً، وهذا دليل على أن هذا المفرد في جنسه جمع كثير، كما في قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1-2] فالإنسان مفرد يُستثنى منه الجمع {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...} [العصر: 3] لأن لفظة الإنسان هنا تدل على الجماعة، و(ال) فيها ال الاستغراقية.
فالحق سبحانه ينقلنا من المؤمن إلى العموم {أَمَّا الذين آمَنُواْ..} [السجدة: 19] ومن الفاسق إلى {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ...} [السجدة: 20] فهما جماعتان متقابلتان لكل منهما جزاؤه الذي يناسبه: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى..} [السجدة: 19] والمأوى هو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ويلجأ إليه ليحفظه من كل مكروه، كما قال تعالى في شأن عيسى وأمه مريم عليهما السلام: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50] يعني: يمكنهما الاستقرار فيها؛ لأن بها مُقوِّمات الحياة(ومعين) يعني: عيْن ماء.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة ابن نوح حين قال لأبيه: {سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء...} [هود: 43] فنبَّهه أبوه وحذره، فقال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ...} [هود: 43].
ونلحظ في هذه القصة حنان الأبوة من سيدنا نوح حين قال {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي...} [هود: 45] لكن ربه عز وجل لا يتركه على هذه القضية، إنما يُصحِّحها له {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ...} [هود: 46].
إذن: فالبنوة هنا ليست بنوة نسب، إنما بنوة إيمان وعمل، أَلاَ ترى أن سيدنا رسول الله قال لسلمان الفارسي وهو من غير العرب بالمرة: (سلمان منا آل البيت).
وإنْ كان النسب ينفع من الآباء إلى الأبناء، فهذه ليست خصوصية للأنبياء، إنما لكل الناس، كما قال سبحانه: {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ...} [الطور: 21].
وإلحاق الأبناء بالآباء في الحقيقة كرامة للآباء أنْ يجدوا أولادهم معهم في الجنة جزاء إيمان الآباء وعملهم الصالح، فإنْ كان الأولاد دون سِنِّ التكليف فطبيعي أنْ يلحقوا بالآباء، بل وتكون منزلتهم أعظم من منزلة آبائهم؛ لأن الأطفال الذين يموتون قبل الرُّشْد ليس لهم أماكن محددة، إنما ينطلقون في الجنة يمرحون فيها كما يشاؤون.
وقد مثَّلنا لذلك بالولد الصغير تأخذه معك في زيارة أحد الأصدقاء، فتجلس أنت في حجرة الجلوس، بينما الولد الصغير يجري في أنحاء البيت، ويدخل أي مكان فيه لا يمنعه أحد، لذلك يسمون الأطفال(دعاميص) الجنة.
والبعض هنا يثير مسألة أن الإنسان مرتهن بعمله، ولا ينتفع بعمل غيره، فكلٌّ مُعلَّق من(عرقوبه) كما نقول، فالبعض يسأل: لماذا إذاً نصلى على الميت، والصلاة عليه ليست من عمله؟ فإنْ كانت الصلاة عليه لها فائدة تعود عليه فقد انتفع بغير عمله، وإن لم تكُنْ لها فائدة فهي عبث، وحاشَ لله أنْ يضع تشريعاً عبثاً.
ونقول: هل صليت على كل ميت مؤمناً كان أو كافراً؟ لا إنما نصلي على المؤمن، إذن: صلاتك أنت عليه نتيجة إيمانه، وجزء من عمله، ولولا إيمانه ما صلَّينا عليه.
نعود إلى معنى كلمة(المأوى)، فالجنة مأوى المؤمن، تحفظه من النار وأهوالها {نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] أي: جزاء عملهم الصالح، والنزُل هو المكان المعَدّ لينزل فيه الضيف الطارئ عليك؛ لذلك يسمون الفندق(نُزُل)، فإذا كانت الفنادق الفاخرة التي نراها الآن ما أعَدَّه البشر للبشر، فما بالك بما أعدَّهُ ربُّ البشر لعباده الصالحين؟

.تفسير الآية رقم (20):

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
{فَسَقُواْ..} [السجدة: 20] من الفسوق أي الخروج، نقول: فسقتْ البلحة يعني خرجن عن قشرتها، والمراد هنا الذين خرجوا عن طاعة الله وعن مطلوبات الحق سبحانه {فَمَأْوَاهُمُ النار..} [السجدة: 20] قلنا: إن المأوى هو المكان الذي تأوي إليه، فيحميك من كل مكروه، فكيف تُوصف به النار هنا؟
قالوا: المأوى المكان الذي ينزل فيه الإنسان على هواه وعلى(كيفه)، أما هؤلاء فينزلون هنا رغماً عنهم، أو أن الكلام هنا على سَبْق التهكم والسخرية، كما قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].
ومعلوم أن البشرى لا تكوم إلا بالشيء السَّار، ومثل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]، وهذا كثير في أسلوب القرآن؛ لأنه أسلوب يؤلم الكافرين، ويحطّ من شأنهم.
ثم يُصوِّر لنا الحق سبحانه ما فيه أهل النار من اليأس: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَ..} [السجدة: 20] وفي موضع آخر قال عنهم {وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] إذن: لا أمل لهم في الخروج، ولا حتى في الموت الذي يريحهم مما هم فيه، بل تردهم الملائكة في العذاب، ويقولون لهم: {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20].
فالإذاقة تعدَّتْ اللسان واستولتْ على كل الأعضاء، فكل ذرة فيه تذوق عذاب النار جزاء ما كانوا يكذبون بها في الدنيا، حيث كذِّبوا بالأصل، وهو الرجوع إلى الله يوم القيامة.
ثم إن عذاب الفاسقين لا يقتصر على عذاب الآخرة، إنما سيكون لهم عذاب آخر يذوقونه في الدنيا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى...}.

.تفسير الآية رقم (21):

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
{العذاب الأدنى..} [السجدة: 21] أي: القريب والمراد في الدنيا {دُونَ العذاب الأكبر..} [السجدة: 21] أي: عذاب الآخرة، وهذا العذاب الذي سيصيبهم في الدنيا مظهر من مظاهر رحمة الله حتى بالكافرين والفاسقين؛ لأن الله تعالى علَّله بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
إذن: المراد ما يلحقهم من عذاب في دار التكليف كالأَسْر والذلَّة والهوان من كثرة المؤمنين وقوتهم، ألم يركب عبد الله بن مسعود مع ما عُرِف عنه من ضآلة الجسم على أبي جهل في إحدى الغزوات، وقد طرحه في الأرض وداسه بقدمه، ويُرْوى أن أبا جهل نظر إليه وهو على هذه الحال وقال: لقد ارتقيتَ مُرْتقىً صعباً يا رُويعي الغنم.
ووصف العذاب في الآخرة بأنه العذاب الأكبر؛ لأنه العذاب المحيط الذي لا مهرب منه ولا ملجأ.
وقوله سبحانه: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] أي: رجاء أنْ يعودوا إلى ساحة الإيمان. وقلنا: إن لعلَّ تفيد الرجاء المحقق إنْ كان الفعل من الله عز وجل، أما الرجاء هنا فرجاء في العبد الذي يملك الاختيار؛ لذلك رجع منهم البعض، ولم يرجع الآخرون.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن...}.

.تفسير الآية رقم (22):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
هنا أيضاً يعرض علينا ربنا تبارك وتعالى هذه القضية في صورة هذا السؤال التقريري، كأنه سبحانه يقول لنا: أنا رضيت ذمتكم يا عبادي، فقولوا لي: هل يوجد أحد أظلم ممَّنْ ذُكِّر بآيات ربه، ثم أعرض عنها. والمنطق الطبيعي أن نقول: لا أحدَ أظلم من هذا. وهذا إقرار مِنّا بهذه الحقيقة؛ لذلك عرضها الحق سبحانه في صورة سؤال بدل الإخبار بها.
ومعنى {ذُكِّرَ..} [السجدة: 20] أي: أن رسالات الله إلى خَلْقه ما هي إلا تذكير بعهد الإيمان القديم الذي أخذه الله على عباده حين قال سبحانه: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ...} [الأعراف: 172] وسبق أنْ قُلْنا إن في كل منّا ذرةً شهدتْ هذا العهد، وعلى كل منا أنْ يحفظ إشراقات هذه الذرة في نفسه بأنْ يُغذِّيها بالحلال، ويُعوِّدها الطاعة لتبقى فيه إشراقات الإيمان.
كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10].
ثم يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ ءَآتَيْنَا مُوسَى...}.

.تفسير الآية رقم (23):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)}
والإيتاء يختلف، فهناك مَنْ يُؤْتَى بمنهج أو بمعجزة أو بهما معاً، وهناك إيتاء لكتاب موقوت، لزمن موقوت، لقوم موقوتين، وإيتاء آخر لكل الأزمان لكل الأمكنة.
و{الكتاب} [السجدة: 23] أي: التوراة {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ} [السجدة: 23] أي: في شك {مِّن لِّقَآئِهِ..} [السجدة: 23] لقاء موسى عليه السلام أم لقاء الكتاب؟ إنْ كان لقاء موسى فهو تبشير بأن الله سيجمع بين سيدنا رسول الله وهو حَيٌّ بقانون الأحياء وموسى عليه السلام الميت بقانون الأموات، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان حديث الإسراء والمعراج في أنهما التقيا فيه صادقاً.
لذلك في القرآن آية ينبغي أن نقف عندها، وأن نتأملها بيقظة، وهي قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
هذا تكليف من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أنْ يسأل الرسل، فمتى يسألهم؟ فهذه الآية تنبئ بأنهم لابد أنْ يلتقوا. فهذه الآية في لقاء موسى والأخرى في لقاء كل الرسل. إذن: علينا أن نصدق بحديث الإسراء والمعراج، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع بإخوانه من الأنبياء وصلى بهم ودار بينهم حوار.
أما إذا كان المعنى {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ..} [السجدة: 23] أي: لقاء الكتاب، فالتوراة كما قلنا أصابها التحريف والتبديل، وزِيدَ عليها وكُذِب فيها، لكن سيأتيك يا محمد من أهل التوارة أمثال عبد الله بن سلام مَنْ يعرفون التوراة بلا تحريف ويُسرُّون إليك بها، هؤلاء الذين قال الله فيهم: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
ألم يواجه عبد الله بن سلام قومه من اليهود، فيقول لهم: كيف تُكذَّبون بمحمد، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، فتقولون لهم: لقد أطلَّ زمان نبي يأتي فنتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، لقد تجمعتم من شتى البلاد التي اضطهدتكم، وجئتم إلى يثرب تنتظرون مَقْدِم هذا النبي، فما بالكم تكذَّبونه؟
وقال القرآن عنهم: {وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ...} [البقرة: 89].
ومن لقاء الكتاب الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم ما رُوي عن عبد الله بن سلام أنه لما أراد أنْ يؤمن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ- يعني: يتبجحون بالكذب- فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فاسألهم عني يا رسول الله قبل أنْ أعلن إسلامي، فلَما اجتمع اليهود سألهم رسول الله: ما تقولون في ابن سلام؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وابن حبرنا... فقال عبد الله: أما وقد قالوا ما قالوا يا رسول الله فأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا: شرُّنا وابن شرنِّا.
فقال عبد الله: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْتٌ؟
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ} [السجدة: 23] أي: جعلنا الكتاب هدى، وهذا دليل على أن منهم مهتدين بدليل شهادة القرآن لهم: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].
وقوله تعالى في الآية بعدها: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً...}.