فصل: تفسير الآية رقم (269):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (269):

{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع. فكأن الحق يقول: كل ما أمرتكم به هو عين الحكمة؛ لأني أريد أن أُؤَمِّنَ حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء، وأُؤَمِّنَ لكم سعادة الآخرة. فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به الله فهذا وضع الأشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة.
وقد أراد الحق أن يعلم الإنسان من خلال عاطفته على أولاده، لأن الإنسان قد تمر عليه فترة يهون فيها عنده أمر نفسه، ولا ينشغل إلا بأمر أولاده، فقد يجوع من أجل أن يشبع الأولاد، وقد يعرى من أجل أن يكسوهم. ولنا المثل الواضح في سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، لقد ابتلاه ربه في بداية حياته بالإحراق في النار، ولأن إبراهيم قوى الإيمان فقد جعل الله النار برداً وسلاماً. وابتلاه الله في آخر حياته برؤيا ذبح ابنه، ولأن إبراهيم عظيم الإيمان فقد امتثل لأمر الرحمن الذي افتدى إسماعيل بكبش عظيم. والإنسان في العمر المتأخر يكون تعلقه بأبنائه أكبر من تعلقه بنفسه. وهكذا كان الترقي في ابتلاء الله لسيدنا إبراهيم عليه السلام، ولذلك أراد الله أن يضرب للبشر على هذا الوتر وقال: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} [النساء: 9].
إن الحق سبحانه يريد من عباده أن يؤمّنوا على أولادهم بالعمل الصالح والقول السديد.
ومثال آخر حين أراد الحق أن يحمي مال اليتامى، وأعلمنا بدخول موسى عليه السلام مع العبد الصالح الذي أوتى العلم من الله، يقول سبحانه: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77].
كان موسى عليه السلام لا يعلم علم العبد الصالح من أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين، كان أبوهما رجلاً صالحا، وأهل هذه القرية لئام، فقد رفضوا أن يطعموا العبد الصالح وموسى عليه السلام، لذلك كان من الضروري إقامة الجدار حتى لا ينكشف الكنز في قرية من اللئام ويستولوا عليه ولا يأخذ الغلامان كنز أبيهما الذي كان رجلاً صالحاً.
إذن فالحق سبحانه يعلمنا أن نُؤَمِنَ على أبنائنا بالعمل الصالح، وهذه هي الحكمة عينها التي لا يصل إليها أصحاب العقول القادرة على الوصول إلى عمق التفكير السديد.
وسيدنا الحسن البصري يعطينا المثل في العمل الصالح عندما يقول لمن يدخل عليه طالبا حاجة: مرحباً بمن جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة. إن سيدنا الحسن البصري قد أوتي من الحكمة ما يجعله لا ينظر إلى الخير بمقدار زمنه، ولكن بمقدار ما يعود عليه بعد الزمن.
وقد ضربت من قبل المثل بالتلميذ الذي يَجِدُّ ويتعب في دروسه ليحصل على النجاح، بينما أخوه يحب لنفسه الراحة والكسل. ثم نجد التلميذ الذي يتعب هو الذي يرتقي في المجتمع، بينما الذي ارتضى لنفسه الكسل يصير صعلوكاً في المجتمع. وبعد ذلك يقول سبحانه: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}

.تفسير الآية رقم (270):

{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}
وقد عرفنا النفقة من قبل، فما هي مسألة النذر؟. إن النذر هو أن تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله فوق ما أوجب الله. فإذا نذرت أن تصلي لله كل ليلة عددا من الركعات فهذا نذر من جنس ما شرع الله؛ لأن الله قد شرع الصلاة وفرضها خمسة فروض، فإن نذرت فوق ما فرضه الله فهذا هو النذر. ويقال في الذي ينذر شيئا من جنس ما شرع الله فوق ما فرضه الله: إن هذا دليل على أن العبادة قد حَلَتَ له، فأحبها وعشقها، ودليل على أنه قارب أن يعرف قدر ربه؛ وأن ربه يستحق منه فوق ما افترضه عليه، فكأن الله في افتراضه كان رحيماً بنا، لأنه لو فرض ما يستحقه منا لما استطاع واحد أن يفي بحق الله.
إذن فعندما تنذر أيها العبد المؤمن نذراً، فإنك تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع الله لك فوق ما فرض الله عليك. وأنت مخير أن تقبل على نذر ما، أو لا تقبل. لكن إن نطقت بنذر فقد لزم. لماذا؟ لأنك ألزمت نفسك به. ولذلك فمن التعقل ألا يورط الإنسان نفسه ويسرف في النذر، لأنه في ساعة الأداء قد لا يقدر عليه.
وأهل القرب من الله يقولون لمن يخل بالنذر بعد أن نذر: هل جربت ربك فلم تجده أهلاً لاستمرار الود. وليس فينا من يجرؤ على ذلك؛ لأن الله أهل لعميق الود. ولهذا فمن الأفضل أن يتريث الإنسان قبل أن ينذر شيئا.
ونقف الآن عند تذييل الآية: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}. إن الظالمين هم من ظلموا أنفسهم؛ لأن الحق عرفنا أن ظلم الإنسان إنما يكون لنفسه، وقال لنا: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44].
ومن أشد الظلم للنفس الإنفاق رياءً، أو الإنفاق في المعاصي، أو عدم الوفاء بالنذر، فليس لمن يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه عذاب الله في الآخرة. ويقول الحق من بعد ذلك: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء...}.

.تفسير الآية رقم (271):

{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغيركم، ولتردوا الضغن عن المجتمع. وإن أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن الله يكفر عنكم بذلك من سيئاتكم، والله خبير بالنية وراء إعلان الصدقة ووراء إخفاء الصدقة. والتذييل في هذه الآية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة وقضية إخفاء الصدقة، فالحق خبير بنية من أبدى الصدقة، فإن كان غنياً فعليه أن يبدي الصدقة حتى يحمي عرضه من وقوع الناس فيه؛ لأن الناس حين يعلمون بالغني فلابد أن يعلموا بإنفاق الغني، وإلا فقد يحسب الناس على الغني عطاء الله له، ولا يحسبون له النفقة في سبيل الله. لماذا؟ لأن الله يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس.
أما إن كان الإنسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة. وإن ظهرت الصدقة كما قلت ليتأسى الناس بك، وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضا مطلوب. والحق يقول: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي أن الله يجازي على قدر نية العبد في الإبداء أو في الإخفاء.
إنه باستقراء الآيات التي تعرضت للإنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل منافذة الشُح، ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها الله، والخالق الذي وهب للمخلوق ما وهبه يطلب منه الإنفاق، وإذا نظرنا إلى الأمر في عرف المنطق وجدناه أمراً طبيعيا؛ لأن الله لا يسأل خلقه النفقة مما خَلَقُوا ولكنه يسألهم النفقة مما خلقه لهم.
إن الإنسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانياً منه أن ينفق فلازم ذلك أن يكون عنده ما ينفقه، ولا يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إلا إذا كان مالكاً لشيء زاد على حاجته وحاجة من يعوله، وذلك لا يتأتى إلا بحصيلة العمل. إذن فأمر الله للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره أولاً بأن يعمل على قدر طاقته لا على قدر حاجته، فلو عمل كل إنسان من القادرين على قدر حاجته، فكيف توجد مقومات الحياة لمن لا يقدر على العمل؟.
إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في ولايتنا، فإذا ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن لا يقدر على العمل.
ولقائل أن يقول: إذا كان الله قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا لم يجعل العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضاً؟
نقول لصاحب هذا القول: إن الحق حين يخلق.. يخلق كوناً متكاملاً منسجماً دانت له الأسباب، فربما أطغاه أن الأسباب تخضع له، فقد يظن أنه أصبح خالقاً لكل شيء، فحين تستجيب له الأرض إن حرث وزرع، وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه، وحين تستجيب له كل الأسباب، ربما ظن نفسه أصيلاً في الكون.
فيشاء الله أن يجعل القوة التي تفعل في الأسباب لتنتج، يشاء سبحانه أن يجعلها عرضاً من أعراض هذا الكون، ولا يجعلها لازمة من لوازم الإنسان، فمرة تجده قادراً، ومرة تجده عاجزاً.
فلو أنه كان بذاتيته قادراً لما وُجَدَ عَاجزٌ. إذن فوجود العاجزين عن الحركة في الحياة لفت للناس على أنهم ليسوا أصلاء في الكون، وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن يسلبهم إياها ليعيدها إلى سواهم، فيصبح العاجز بالأمس قادراً اليوم، ويصبح القادر بالأمس عاجزاً اليوم وبذلك يظل الإنسان منتبهاً إلى القوة الواهبة التي استخلفته في الأرض.
ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء، ثم ينفرد المؤمن في شيء، يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في أسباب الحياة لينتج ما يقوته ويقوت من يعول، ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر. والكافر يقتصر على هذا السبب في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول.
ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو: أن يفيض عنه شيء يمكن أن يتوجه به إلى غير القادر على العمل. محتسبا ذلك عند الله.
ولذلك قلنا سابقا: إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة أداء، وتكلم عنها مرة أخرى مطلوبة غاية فقال: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}. ولم يقل للزكاة مؤدون، فالمؤمنون لا يعلمون لقصد الزكاة إلا إن عملوا عملا على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم، ثم يفيض منهم شيء يؤدون عنه الزكاة.
والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].
إذن فحصيلة الأمر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل. لقد صارت الزكاة بذلك الأمر الإلهي مطلوبة غاية، فهي أحد أركان الإسلام وبذلك يتميز المؤمن على الكافر.
والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح: أن أول شيء تتعرض له النفس البشرية أن الإنسان يخاف من النفقة لأنها تنقص ما عنده، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشح في قوله: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم). هي كذلك، ولكن الحق سبحانه أوضح لكل مؤمن: أنها تنقص ما عندك، ولكنها تزيدك مما عند الله؛ فهي إن أنقصت ثمرة فعلك فقد أكملتك بفعل الله لك. وحين تكملك بفعل الله لك، يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة وقوة خالقة قادرة.
ويلفتنا سبحانه: أن ننظر جيداً إلى بعض خلقه وهي الأرض، الأرض التي نضع فيها البذرة الواحدة أي الحبة الواحدة فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فلو نظر الإنسان أول الأمر إلى أن ما يضعه في الأرض حين يحرث ويزرع يقلل من مخازنه لما زرع ولما غرس، ولكنه عندما نظر لما تعطيه الأرض من سبعمائة ضعف أقبل على البذر، وأقبل على الحرث غير هياب؛ لأنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى.
وإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي هذا العطاء، فكيف يكون عطاء خالق الأرض؟ {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].
إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح. وشيء آخر تتعرض له الآيات، وهو أن الإنسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله لا يحب أن ينفق، ولحرصه على مكانته في الناس لا يحب أن يمنع، فهو يعطي ولكن بتأفف، وربما تعدى تأففه إلى نهر الذي سأله وزجره، فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقف: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
وقول الله: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال السائل وأغضبه الإحراج، ويطلب الحق من مثل هذا الإنسان أن يغفر لمن يسأله هذه الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله له ذنباً: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى والله غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة: 263].
وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى (المن) الذي يفسد العطاء؛ لأنه يجعل الآخذ في ذلة وانكسار، ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلاء المنفق، فهو يقول: إنك إن فعلت ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد، ولكنك أنت الخاسر؛ لأنك لن تفيد بذلك شيئا، وإن كان قد استفاد السائل. إذن فحرصا على نفسك لا تتبع الصدقة بالمن ولا بالأذى.
ثم يأتي الحق ليعالج منفذا من منافذ الشح في النفس البشرية هو: أن الإنسان قد يحب أن يعطي، ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن، فيستبقيه لنفسه ثم يعزل الأشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا سبحانه عن ذلك فيقول: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 267].
أي إن مثل هذا لو أُعطى لك لما قبلته إلا أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك لا تبصر عيبه لتأخذه، فما لم تقبله لنفسك فلا يصح أن تقبله لسواك. ثم بعد أن تكلم القرآن عن منافذ الشُح في النفس الإنسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو الشيطان: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فإن سوّيتم بين عِدَةِ الشيطان ووعد الله لكم بالرضوان كان الخسران والضياع. فراجعوا إيمانكم، وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد الله لكم بالفضل والمغفرة.
ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها ظاهرة أو باطنة وتكون النية عندك هي المرجحة لعمل على عمل، فإذا كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك من أن يتناوله الناس وتصدق صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم، وأن أردت أن تتصدق تطوعا فلا مانع أن تُسر بها حتى لا تعلم شمالك ما أنفقت يمينك.. فعن ابن عباس رضي الله عنهما: صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا.
وكأن الله فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح. انظروا بعد ذلك إلى الحق سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين. اعلم أيها العبد المؤمن أنك حين تتلقى حكم الله لا تتلقاه على أنه مطلوب منك دائما، ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه قد يَصير بتصرفات الأغيار مطلوبا لك، فإن كنت غنيا فلا تعتقد أن الله يطالبك دائما، ولكن قَدّرْ أنك إن أصبحت بعرض الأغيار في الحياة فقيراً سيكون الحكم مطلوباً لك. فقدر حال كونه مطلوباً منك الآن؛ لأنك غني أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار، فصرت بها فقيراً.
إذن فالتشريع لك وعليك، فلا تعتبره عليك دائما لأنك إن اعتبرته عليك دائما عزلت نفسك عن أغيار الحياة، وأغيار الحياة قائمة لا يمكن أن يبرأ منها أحد أبدا لذلك أمر سبحانه المؤمنَ أن يكفل أخاه المؤمن.
انظروا إلى طموحات الإيمان في النفس الإنسانية، حتى الذين لا يشتركون معك في الإيمان. إن طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لأخيك المؤمن فقد طلب منك أيضا أن تتطوع بالعطاء لمن ليس مؤمنا. وتلك ميزة في الإسلام لا توجد أبدا في غيره من الأديان، إنه يحمي حتى غير المؤمن. ولذلك يقول الحق: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ...}.