فصل: تفسير الآية رقم (283):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (283):

{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن، ورتابة الحياة في الموطن تجعل الإنسان يعلم تمام العلم مقومات حياته، لكن السفر يخرج الإنسان عن رتابة الحياة فلا يتمكن من كثير من الأشياء التي يتمكن بها في الإقامة. فهب أنك مسافر، واضطررت إلى أن تستدين، ولا يوجد كاتب ولا يوجد شهيد، فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ}. إذن فلم يترك الله مسألة الديْن حتى في السفر فلم يشرِّع فقط للإقامة ولكن الحق قد شرَّع أيضا للسفر {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} وهكذا الكتابة، والشهادة في الإقامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها حماية الإنسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية الإيثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ لا. إنه الحق سبحانه يقول: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إنه الطموح الإيماني، لم يَسُدّ الله مسألة المروءة والإيثار في التعامل. إن كتابة الديْن والإشهاد والرهن ليس إلزاماً لأن الله قال: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ}. وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين، وهنا نقول: لا، إن الأمر مختلف، فهنا رهان، وذلك معناه وجود مسألتين، المسألة الأولى هي (الديْن)، والمسألة الثانية هي (الرهان المقبوضة) وهي مقابل الديْن. فواحد مأمون على الرهن في يده. والآخر مأمون على الديْن. ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن، ومن بيده الدَّيْن ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته، وأن يؤدي الآخر ديْنه. وحين نرتقي إلى هذا المستوى في التعامل فإن وازع الإنسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس، ولكنه التوثيق الإيماني بالنفس، ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق الإيماني عند كل الناس؟.
أنضمن الظروف؟. نحن لا نضمن الظروف، فقد توجد الأمانة الإيمانية وقت التحمل والأخذ، ولا نضمن أن توجد الأمانة الإيمانية وقت الأداء فقد يأتي واحد ويقول لك: إن عندي مائة جنيه وخذها أمانة عندك.
ومعنى (أمانة) أنه لا يوجد صك، ولا شهود، وتكون الذمة هي الحكم، فإن شئت أقررت بهذه الجنيهات المائة، وإن شئت أنكرتها. إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة جنيه في الذمة الإيمانية، ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك: نعم سأحتفظ لك بالمائة جنيه بمنتهى الأمانة. وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها، ولكنك لا تضمن ظروف الحياة بالنسبة لك، وأنت كإنسان من الأغيار. ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل معه في أداء الأمانة، أو يجعلك تنكرها، فتقول لمن ائتمنك: ابعد عني؛ أنا لا أملك نفسي في وقت الأداء، وإن ملكت نفسي وقت التحمل.
والأمانة هي القضية العامة في الكون، وإن كانت خاصة الآن بالنسبة للآية الكريمة التي نحن بصددها والحق سبحانه يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول جل شأنه: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل الأمانة وهذا يعني أن الأمانة سوف تكون عرضة للتصرف والاختيار، ولا كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الأداء. لقد أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمُّل الأمانة وكأنها قالت: إنّا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين مقهورين لا اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها الله، ما عدا الإنسان، أي أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الاختيار، وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال: إنني قادر على تحمل الأمانة؛ لأني أستطيع الاختيار بين البدائل.
وهنا نُذَكِّر الإنسان: إنك قد تكون قوياً لحظة التحمل، ولكن ماذا عن حالك وقت الأداء؟ لذلك قال الله عن الإنسان: {وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} لقد ظلم الإنسان نفسه حيث حمل الأمانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم. وهو جهول لأنه قدّرَ وقت التحمل، ولم يقدّر وقت الأداء، أو ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها.
إذن فالإنسان وإن كان واثقاً أنه سيؤدي الأمانة إلاّ أنه عرضة للأغيار، لذلك قال الحق سبحانه: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله} فالكتابة فرصة ليحمي الإنسان نفسه من الضعف وقت الأداء، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يوثق الأمر توثيقاً لا يجعلك أيها العبد خاضعاً لذمتك الإيمانية فقط، ولكنّك تكون خاضعاً للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضاً، وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
ويقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وهذه الكلمة {وَلاَ تَكْتُمُواْ} إنما هي أداء معبر، لأن كلمة (شهادة) تعني الشيء الذي شهدته، فما دمت قد شهدت شيئاً فهو واقع، والواقع لا يتغير أبداً، ولذلك فالإنسان الذي يحكي لك حكاية صدق لا يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها ألف مرة؛ لأنه يستوحي واقعاً.
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع، فيقول كلمة، وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لأنه لا يستوحي واقعاً. فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع، وما دام الأمر مشهوداً وواقعاً، فإنه يلح على نفس من يراه أن يخرج، فإياك أن تكبته بالكتم؛ لأن كلمة (الكتم) تعني أن شيئاً يحاول أن يخرج وأنت تحاول كتمانه، لذلك يقول الحق: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} فكأن الطبيعة الإيمانية الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهوداً له لأنه واقع.
لذلك يأتي الأمر من الحق؛ {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه}. وقد يسأل الإنسان: هل الكتم هنا صفة للقلب أو للإنسان الذي لم يقل الشهادة؟.
إن الشاعر يقول:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ** جعل اللسان على الفؤاد دليلاً

وساعة يؤكد الله شيئاً فهو يأتي بالجارحة التي لها علاقة بهذا الصدد، فتقول: أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني، وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي. إنّك تذْكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة.
وعندما يقول الحق: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُه} إنّ كل الجوارح تخضع للقلب: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم الله شيئاً، وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها وظروفها سواء كانت في الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن الله يضمن للإنسان المتحرك في الحياة حركة شريفة وطاهرة.
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف، ويصيبها العطل، فالذي لا يقدر على الحركة فماذا يصنع في الحياة؟. إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد، وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة عنده، وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد، فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره النعمة عند أخيه. إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الآخر.
إن النعمة تحب المُنعم عليه بضم الميم وفتح العين أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب إلى من أنعم الله عليه بها بعشق، فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى كأنها تقول له: لن تنال مني خيراً. وليجربها كل إنسان.
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك، إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي إليك لتخدمك. وأيضاً فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد، قد تكون النعمة مجرد فضل من الله، يفضل به بعض خلقه، فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد اعترضت على قدر الله في النعمة. وحين تعترض على قدر الله في النعمة فإن الحق سبحانه لا يجعلك تنتفع منها بشيء.
فإن رأيت قريباً حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده. ولو أحبوها لسعت النعمة إليهم. إن المنهج الإلهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة بحيث إذا رأيت أنا النعمة عندك ونلت منها، أحببتها عندك، وحين أحب النعمة عندك فإن العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ، ولا تجد فارقاً بين واجد ومعدم. إنك لا تجد فارقاً بين واجد ومعدم إلا في مجتمع لا يؤدي حكم الله في شيء.
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار الإنسان إلى الربا لأنه لم يجد من يقرضه قرضاً حسناً، ولم يجد من يؤدي فرض الله له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا، وبذلك يدخل المجتمع الربوي في حرب مع الله، وهل لأحد جلد على أن يدخل في حرب مع الله؟ لا.
والمجتمع الربوي يدخل في حرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الربا وقال في حجة الوداع: (إن كل ربا موضوع ولكن رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله).
وتلك سمة سمو التشريع السماوي، إن التشريع البشري يحمي به صاحبه أقاربه من التقنين، لكن التشريع السماوي يفرض تطبيقاته أولا على الأقارب. وكان الأسوة في ذلك سيدنا عمر بن الخطاب، فساعة يريد عمر أن يضع التشريع فإنه يجمع أهله وأقاربه ويقول: سأقوم بعمل كذا وكذا فوالذي نفسي بيده من خالفني في شيء من هذا لأجعلنه نكالاً للمسلمين. ويعلنها عمر أمام الناس، ولماذا أعلن عمر ذلك؟؛ لأن كثيرا من الناس يجاملون أولياء الأمور، وقد لا يكون أولياء الأمور على دراية بذلك؛ فقد نجد واحداً يدخل على قوم على أساس أنه فلان بن فلان، وبالرعب يقضي هذا الإنسان مصالحه عند الناس برغم أنف الناس. وقد يكون ولي الأمر لا يعرف عن مثل هذا التصرف شيئاً.
لكن حين يعلن ولي الأمر على الناس ولأقاربه أنه لا تفرقة أبداً فيما يقنن وأن القانون سائر على نفسه وعلى أهله فمن استغل اسماً لولي الأمر أو اصطنع شيئاً فالتبعة على من فعل له وعليه، وبذلك تستقيم الأمور. لكن أن تظهر الحقائق في استغلال أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم الحكام، فهنا نقول: ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟. وأين كانت الحقائق في وقتها؟.
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولاً وعلى من يعول. هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (وربَا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبَانا، رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله).
وفي معركة بدر، أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم أهل بيته ليحاربوا؛ لأنه لو لم يخرج أحداً من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار: إنه يحمي أهل بيته، ولو أن أجر الاستشهاد هو الجنة فلماذا يقدم الأباعد ولا يقدم أحبابه للقتال؟
لكن هاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه، فهو العارف من ربه بأمر الشهادة وكيف أنها تقصر على الإنسان متاعب الحياة وتدخل الجنة. هكذا كانت المحاباة في صدر الإسلام، إنها محاباة في الباقي، ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني.
وحين يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي يجب أن تقوم، حرب من الله المالك القادر على المحاربة، أما الضعاف الذين لا يستطيعون القتال فهم لا يحاربون؛ لأنهم أمام خالقهم وقاهرهم فلا يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة إلى مثل هذه الأمور وتقنن تقنينا إسلامياً وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين.
والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح الأمر عقيدة في قوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم}، وتقنيناً للعقيدة في قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين}، وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا، وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة الاقتصاد في الإنفاق أولاً في سبيل الله، والإنفاق على المحتاجين. يقول سبحانه بعد ذلك: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ...}.

.تفسير الآية رقم (284):

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
استهلت الآية بتقديم {لله} على ما في السماوات والأرض، والحق سبحانه يقول: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات، السماوات والأرض لم يدع أحد أنها له، لكن قد يوجد في السماوات أو في الأرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون، فإذا ما نظرنا إلى خيرات الأرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الأحيان لأناس بما ملكهم الله، والبشر الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه الأقمار وتلك المراكب.
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهو يوضح لنا: إنه إن كان في ظاهر الأمر أن الله قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إلا عَرَضَاً يؤخذ منهم، فإما أن يزولوا عنه فيموتوا، وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو نهب.
وكلمة (لله) تفيد الاختصاص، وتفيد القصر، فكل ما في الوجود أمره إلى الله، ولا يدعي أحد بسببية ما آتاه الله أنه يملك شيئا لماذا؟ لأن المالك من البشر لا يملك نفسه أن يدوم.
نحن لم نر واحداً لم تنله الأغيار، وما دامت الأغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن الله يريد من خلقه أن يتعاطفوا، وأن يتكاملوا، ويريد الله من خلقه أن يتعاونوا، والحق لا يفعل ذلك لأن الأمر خرج من يده والعياذ بالله لا، إن الله يبلغنا: أنا لي ما في السماوات وما في الأرض، وأستطيع أن أجعل دولاً بين الناس.
ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى، أو الجاه، أو أي مجال، لهؤلاء نقول: احذر حين تتم لك النعمة، لماذا؟ لأن النعمة إن تمت لك علواً وغنىً وعافيةً وأولاداً، أنت من الأغيار، وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لاشك من الأغيار، فإن النعمة تتغير إلى الأقل. فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فلابد له أن ينزل عن هذه القمة، ولذا يقول الشاعر:
إذا تم شيء بدا نقصه ** ترقب زوالاً إذا قيل تم

والتاريخ يحمل لنا قصة المرأة العربية التي دخلت على الخليفة وقالت له: أتم الله عليك نعمته. وسمعها الجالسون حول الخليفة ففرحوا، وأعلنوا سرورهم، لكن الخليفة قال لهم: والله ما فهمتم ما تقول، إنها تقول: أتم الله عليك نعمته، فإنها إن تمت تزول؛ لأن الأغيار تلاحق الخلق. وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة.
والشاعر يقول:
نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة ** فكيف آسى على شيء لها ذهبا

إن النفس المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟
والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي: أن الكون كله لله، والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن لا يخفر على الله، والحق سبحانه لا يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب، بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا.
إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه.. فسبحانه يقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 13-14].
والحساب معناه أن للإنسان رصيدا، وعليه أيضا رصيد. والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا (له وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الأشياء عندنا وهو سبحانه يقول: {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9].
إن حساب الحق دقيق عادل، فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس، والذين باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة، فصاروا من أصحاب النار.
إذن نحن أمام نوعين من البشر، هؤلاء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب، وهؤلاء الذين ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب. فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم. استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب الأعراف، الذين ينالون المغفرة من الله؛ لأن مغفرة الله وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعلا. ولو لم يجيء أمر أصحاب الأعراف في القرآن لقال واحد: لقد قال الله لنا خبر الذين ثقلت موازينهم، وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم، ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم.
لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده، لذلك فالحساب لا يكتفي الحق فيه بالعلم فقط، ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق، لذلك يطمئننا الحق سبحانه فيقول: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70].
إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان، ويطمئننا أيضا على أنه سبحانه سيجازينا على ما أصابنا من شر الأشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم لتضاف إلى ميزاننا، إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين: طمأننا الحق على ما فعلناه من خير، فلا يُنسى أنه يدخل في حسابنا، وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الأشرار وسيأخذ الحق من حسناتهم ليضيفها لنا.
ونحن نجد في الكون كثيراً من الناس قد يحبهم الله لخصلة من خصال الخير فيهم، وقد تكون هذه الخصلة الخيّرة خفية فلا يراها أحد، لكن الله الذي لا تخفى عليه خافية يرى هذه الخصلة في الإنسان، ويحبه الله من أجلها، ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل قليلة، فيجعل بعض الخلق يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات هؤلاء ليزيد في حسنات هذا الرجل.
ومعنى {تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} أي تصيروا الوجدانيات إلى نزوعيات عملية، ولكن هل معنى {أَوْ تُخْفُوهُ} هو ألا تصيروا الوجدانيات النفسية إلى نزوعيات عملية؟ لا، فليس لكل شيء نزوع عملي، ومثال ذلك الحب؛ إن الإنسان قد يحب، ولا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه محترق في حبه، وكذلك الذي يحقد قد لا يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده، إذن فهناك أعمال تستقر في القلوب، فهل يؤاخذ الله بما استقر في النفوس؟
إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لأننا وجدنا بعضا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حينما سمع هذه الآية قال: لئن آخذنا الله على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن. وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء. وبلغ ذلك الأمر ابن عباس فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من هذه الآية. فأنزل الله بعدها {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى آخر السورة. ولنعلم أن نوازع النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه (هاجس) وهناك شيء آخر اسمه (خاطر) وهناك ما يسمى (حديث نفس)، وهناك (هم) وهناك (عزم)، إنها خمس حالات، والأربع الأولى من هذه الحالات ليس فيها شيء، إنما الأخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول كل حالة بالتفصيل.
إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة، أما الخاطر فهو يخطر.. أي يسير في النفس قليلا، وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه، وأما الهم فهو استجماع الوسائل، وسؤال النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها الإنسان رغباته، أما العزم (القصد) فهو الوصول إلى النهاية والبدء في تنفيذ الأمر.
والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} وقد وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند هذا القول وتساءل بعض من العلماء: هل الآية التي جاءت بعد ذلك والتي يقول فيها: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} هل هي نسخ للآية السابقة عليها؟
ولكن نحن نعرف أن الآية هي خبر، والأخبار لا تنسخ إنما الأحكام هي التي يتم نسخها، وعلى ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ الأمر هو المعنى بقوله الحق: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} فهذا هو الذي يحاسبنا الله عليه.
وعندما يقول الحق سبحانه: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} فمن هم؟ لقد بين الله من يشاء المغفرة لهم، إنهم الذين تابوا، وهم الذين أنابوا إلى الله، هم الذين قال فيهم الحق: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70].
وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها الإنسان المكلف من الله وقفة ليرى فضل الله، لأن الذي صنع سيئة ثم آلمته، فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها، فإن الله يكتب له حسنة. ولكن الذي لم يصنع سيئة لا تفزعه هذه، وبعض العارفين يقول: رُبّ معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة. أورثت عزا واستكبارا.
إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب الإسراف على أنفسهم في شيء ما قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه لا يزال يؤرقهم.
يكون الواحد منهم قويا في كل شيء، إلا أنه ضعيف أمام مسألة واحدة، وضعفه أمام هذه المسألة الواحدة جعله يعصي الله بها وهو يحاول جاهداً في النواحي التي ليس ضعيفاً فيها أن يزيد كثيراً في حسناته، حتى يمحو ويذهب الله هذه بهذه. فالخير الشائع في الوجود ربما كان من أصحاب السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي، فيشاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين: ربما هذه تحمل تلك.
لكن الذي يظل رتيباً هكذا لا تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه. ولذلك يجب أن ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم لا في زاوية واحدة، ولكن في زوايا متعددة، ونتأدب أمامهم وندعو الله أن يعفيهم مما نعرفه عنهم، وأن يبارك لهم فيما قدموه؛ ليزيل الله عنهم أوزار ما فعلوا.
وبعض العلماء يرى في قوله الحق: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} أن الله قد جعل المغفرة أمراً متعلقاً بالعابد لله، فإن شئت أن يغفر الله لك فاكثر من الحسنات حتى يبدل الله سيئاتك إلى حسنات. وإن شئت أن تعذب وهذا أمر لا يشاؤه أحد فلا تصنع الحسنات.
وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا الإيمان به فإنه يُملكنا الزمام. وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الاختيار، والدليل واضح في الحديث القدسي: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأهم خيرٌ منهم وان تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلىّ ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هَرْوَلَةً).
إذن فبمجرد إيمانك ملكك الله الزمام، فإن أردت أن يتقرب الله إليك ذراعا، فتقرب أنت إليه شبرا، فالزمام في يدك.
وإن شئت أن يتقرب الله منك باعا، فتقرب أنت ذراعا. وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك مهرولاً جرياً فأت إليه مشيا. فبمجرد أن يراك الله وأنت تقبل وتتجه إليه، كأنه يقول لك: لا.. استرح أنت، أنا الذي آتي إليك.
ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلاة حين تؤمن أيها العبد بالله وبعد ذلك ينادي المؤذن للصلاة، فتذهب أنت إلى الصلاة، صحيح أنت تذهب إلى الصلاة المفروضة، لكن هل منعك الله أن تقف بين يديه في أية لحظة؟. لقد طلب الله منك أن تحضر بين يديه خمس مرات في اليوم، وبعد ذلك ترك الباب مفتوحاً لك أيها المؤمن فالله لا يمل حتى يمل العبد.
والإنسان في حياته العادية ولله المثل الأعلى إذا أراد أن يقابل عظيماً من العظماء فإن الإنسان يطلب الميعاد، فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد أو يرفض. وإذا قبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد، فإن العظيم من البشر يحدد الزمن، ويحدد المكان، وربما طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع المقابلة. لكن الله يترك الباب مفتوحاً أمام العبد المؤمن، يلقى الله عبده في أي شيء، وفي أي وقت، وفي أي مكان، وفي أي زمان.
حسب نفسي عزاً بأنَّيَ عبد ** يحتفي بي بلا مواعيد ربُّ

هو في قدسه الأعز ولكن ** أنا ألقى متى وأين أحبُّ

الزمام إذن في يد من؟. إن الزمام في يد العبد المؤمن. لذلك فالذين قالوا في فهم {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} إن البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم، فإن شاء البشر أن يغفر الله لهم فإنهم يفعلون أسباب المغفرة، ويتوبون إلى الله، ويكثرون من الحسنات، ومن يريد أن يتعذب فليظل سادراً في غيه في فعل السيئات. ثم بعد ذلك يقول الله عز وجل: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون...}.